صلاة الاستسقاء 5

الدعاء يقع في باب المشيئة ولا يقع في باب الإرادة

خلصنا في المقالة السابقة إلى أن الله يجيب دعوة المضطر، وقدّمنا مثال دعوة نبي الله يوسف على ذلك، ولو تفقدنا بعض أدعية الخلق التي تمت الإجابة الربانية عليها لوجدنا عنصر الحاجة (المضطر) متوافرة، وهنا نعيد تلك المواقف لتمحيصها من هذا الجانب:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) آل عمران 38-39

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) آل عمران 40-41

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) مريم

قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36) طه

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) المؤمنون

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) المؤمنون

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) الشعراء

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)القصص 

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) القصص

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) العنكبوت

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) ص

ولكنّنا نود الإشارة إلى أنّه لا يجب أن يفهم من كلامنا هذا أن الله لا يتقبّل إلاّ دعاء المضطر، بل على العكس تماماً، فكما يتقبل الله دعوة المضطر يتقبل أيضاً دعوة غير المضطر، فها هو نبي الله سليمان يدعو ربه غير مضطر لما يطلب، وإنما رغبة في التملك:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ  (35)ص

فكانت النتيجة على النحو التالي:

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40) ص

وها هو نبي الله موسى يطلب رؤية الذات الإلهية غير مضطر لذلك وإنما طامعاً فيها:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) الأعراف

فلا أخال أن عنصر الاضطرار كان متوافراً في مثل هذه الحالات، إلا أن الرد الإلهي جاء مباشراً إيجاباً كان أم سلباً، فوهب لسليمان ذاك الحكم الذي طلبه، ورد طلب موسى لعدم قدرة موسى الجسدية على تحمل رؤية الذات الإلهية (للحديث حول هذا الموضوع ندعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى مقالتنا تحت عنوان أين تمت مناداة الله نبيه موسى)

وهنا نبادر القارئ الكريم بالتساؤل التالي: لِمَ جاء الرد الإلهي على مثل هذه الدعوات على الرغم من عدم وجود عنصر الحاجة (أو الاضطرار)؟

الجواب: إننا نزعم أنه من أجل أن تتحقق مثل هذه الدعوة فلا بد أن يتوافر فيها عنصر المشيئة ولا يكفي توافر الإرادة فقط، وهذا ما سنحاول تجليته- بحول الله وتوفيقه- في هذا الجزء من المقالة.

(وهنا ندعو القارئ الكريم إلى قراءة مقالتنا تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير للوقوف على بعض المعاني للتفريق بين الإرادة والمشيئة).

أما بعد:

في باب الدعاء: لا تجعل إرادتك تتعارض مع مشيئتك

غالباً ما تقبّل الناس واقع الحال على ما هو عليه، فإن هو مرض ودعا الله أن يعافيه من مرضه ولم تحصل تلك العافية، رجع إلى ربه متقبلاً واقع حاله، ويكأنه يعتبر أنّ في عدم تقبّله لواقعه رداً أو طعناً بقضاء الله وقدره، أليس هذا ما يحصل عند الكثير من الناس؟ إننا نظن أن مثل هذا السلوك ربما يكون سبباً في عدم تحقق الدعاء، ولكن كيف؟

إننا نزعم أنّ قبول قضاء الله يتمثل فيما تم وانقضى من الأمر ولا علاقة له بما سيحصل لاحقاً، فهناك إذاً حاجة للتمييز والفصل الدقيق بين أن يتقبل الإنسان ما تم وانقضى من الأمر من جهة وما لم يتم ولم يحدث بعد من جهة أخرى. فأنت إن مرضت لابد أن تتقبل الواقع فتقر بحقيقة مرضك، ولكن ذلك لا يعني استسلامك للمرض وقبولك له أو رضاك به، وإن أنت لم ترزق الذرية فعليك أن تتقبل واقع الحال وتقر به على ما انقضى منه، ولكن لا يجب الاستسلام له والقبول به على نحو استحالة تغيّره وتبدلّه، فالدعاء أصلاً هو في الحقيقة طلب لتبديل وتغيير واقع الحال، فأنت إن طلبت من ربك الصحة، فأنت إنما تطلب أن تتغير حالك من وجود المرض إلى حالة الشفاء منه كما في حالة أيوب، وإن أنت طلبت الذرية فأنت تطلب تحول حالتك من عدم وجود الذرية إلى حالة وجودها كما فعل زكريا، وهكذا.

إنّ مراد القول هو أن على الداع أن لا يرضى بواقع حاله إلا من حيث ما مضى منها، ولكنه يجب أن تكون مشيئته متوافرة في تغيير مستقبلها، وربما لصعوبة الفكرة وغرابتها لابد من تبسيطها بالمثال، وقد لا أجد -حتى اللحظة - مفراً من الوقوف مليّاً عند مثال زكريا عليه السلام لنتفقده من هذا الجانب:

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)

تأمل - عزيزي القارئ- الآية الكريمة جيداً، ما الذي يمكن أن نفهمه من طريقة صياغة زكريا لطلبه؟ إنّ من أبسط ما يمكن أن نخلص إليه هو بالرغم من معرفة ويقين زكريا بأن الله هو خير الوارثين، لكنّه لم ينكر حقيقة الرغبة التي تجول في خاطره (كما يفعل الكثيرون مخطئين). وبكلمات أكثر دقة فإننا نقول: إنّ المدقق في الآية الكريمة يجد أنّ زكريا لا يحاول أن يتحايل على نفسه، بل يقدم رغبته (أو لنقل مشيئته) كما تجول في خاطره، فهو يقر بأن الله هو خير الوارثين، ولكنّه لا ينكر رغبته في الحصول على الذرية:

رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ

وعند إسقاط هذه الصورة على واقعنا، نجد سلوك الناس مغايراً تماماً لفهم زكريا، فغالباً ما تعلل من لم تتحصل له الذرية بأن الله هو خير الوارثين ورضي بحظه ونصيبه (كما يرغب أن يسميه) منها، وهذا – في رأينا- سبب في عدم تحقق الاستجابة الربانية لدعائك، فإن كنت راغباً في شيء فلا تحاول التعلل بالقدر ليثنيك عن طلبه، فكن صادقاً فيما تريد من الله أن يحققه لك، فبالرغم أنّ الشخص يكون راغباً في الثروة، طالباً لها، إلا أنه يحاول أن ينّكر رغبته تلك إذا لم تتحقق، وهنا يقع التناقض بين إرادة الإنسان ومشيئته، فنحن نظن أن الله الذي يعلم خائنة الأعين، المطّلع على ما في الصدور يعلم ما يجول في خاطرك، فإن أنت كنت راض عن واقع حالك فذاك ما جنته نفسك، مصداقاً لقوله تعالى:

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا  (79)النساء

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) آل عمران

وإن لم تكن راض عن واقع حالك، ولكنك حاولت التحايل عليه بالتعلل الكاذب، سيحصل عندها تضارب بين إرادتك (رغبتك الدفينة بالحصول عليه) ومشيئتك (ما تريده فعلاً أن يحصل لك)، وسيكون ذاك سببا في رد طلبك:

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  (154)آل عمران

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)الأحزاب 

ولكنك إن كنت راغباً في طلبك ملحّاً عليه، لا تقبل بأقل من ذلك، فذاك سبب في قبول دعاءك، لأنّه ستتوافق إرادتك مع مشيئتك، وتأكد بأن هذه الرغبة محلها النفس، وإن كنت أنت طالباً تغير حالك فلابد من تغيير ما في نفسك مصداقاً لقوله تعالى:

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) الرعد

النتيجة: إن إعلانك بما لا تخفي في نفسك، وإخفاءك في نفسك بما لا تعلن على الملأ لا يقدم ولا يؤخر في علم الله بالأمر وذلك لأن الله هو "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ"، فلا بد إذاً من أن تطابق مشيئتك (ما سيحصل لك) إرادتك (ما تريده أن يحصل لك) ليتحقق لك الرد الإلهي.

مثال: ولد ولاّ بنت؟!

لتوضيح الصورة بالمثال من واقع حياة الناس، فإننا نتعرض لأمر غالباً ما حارت فيه عقول الناس ألا وهو حصول بعض الناس على ذرية من الذكور وبعضهم على ذرية من الإناث، وبقى قسم ثالث (على قلته) بلا ذرية، وأخفق العلماء –في رأينا- في تفسير هذه الظاهرة عندما لم يجدوا أفضل من إقحام الناس في عالم الغيبيات، فبقيت قضيةً تؤرق الناس حتى وإن لم يقولوها صراحة، وتجادل بها الكثيرون، وانتهى الأمر بالجميع إلى القبول بالأمر ويكأنه قدر رباني لا مناص منه ولا سبيل إلى تغييره. ولكن حتى لو لم يكن هناك مجال لتغيره (كما يظن القدريّون المنكرون للقدرية)[1] هل هذا – يا ترى- أمر قدري لا مجال لفهمه؟

قبل الدخول في هذه الجدلية لابد أن يدرك القدريّون أن هذا الأمر وإن وقع في باب الغيبيات في الماضي ولم يكن هناك مجال أن يتدخل به الخلق كما كان ظنهم على الدوام، لم يعد الأمر على هذه الشاكلة في العصر الحديث بعد التقدم الهائل في علم الطب، فها هم العلماء يستطيعون التدخل وفصل اللقاحات وتحديد جنس المولود (لا بل وخصائصه)، فأين يا ترى ذهب القدر الذي كان يتحكم في تحديد جنس المولود؟!

إنّ ما يهمنا هنا هو إثارة التساؤل البسيط التالي: لِمَ يرزق فلان بعشرة من الذكور ويرزق أخ له بعشرة من الإناث، ويتقاسم جارهم نصيبه خمسة بخمسة، وهكذا؟

- لِمَ يكون قدر الله على هذا النحو؟ هل في هذا عدل إلهي؟

- سيرد الجميع بالقول: نعم هو عدل مطلق.

ولكن تكمن المعضلة – في رأينا- في التعارض بين ما يجول في خاطرهم وما يمارسوه على أرض الواقع، فهم في الوقت الذي يقولون فيه مثل هذا الكلام لا تنفك وساوس الشيطان أن تفتك بهم (كحالي أنا الآن)، فالحديث والخوض في هذا الجدل، وعدم القبول بواقع الحال، لا شك هو من وساوس الشيطان بالنسبة للكثيرين، أليس كذلك؟ وفي الوقت الذي يؤمن البعض أن هذا تقسيم رباني، قد لا يتردد الكثير منهم عن الزواج بامرأة أخرى عسى أن يأتي الخير من طريق جديدة. وفي الوقت الذي ربما يؤمن البعض أن هذا تقسيم رباني عادل، لا تتوقف حاجته ورغبته ومحاولاته في الحصول على ذرية من الذكور، وهكذا.

إذاً، لم لا ننفك عن طرح هذا التساؤل إن كنا نؤمن حقاً أن ذلك من وساوس الشيطان وأن تلك قسمة ربانية عادلة؟ والأهم من ذلك كله هو: ما ذنبي أنا أن يكون نصيبي البنات بينما يكون نصيبك أنت الذكور؟ هل في هذا التقسيم (حتى وإن كان ربانياً كما يظن الكثيرون) عدل؟ وأين العدل فيه ما دام أن الله نفسه (كما ذكرنا في أكثر من مقالة سابقة لنا) لا يرضى بالبنات؟ وأين العدل الإلهي والله نفسه لا يساو الحصول على ذرية من الذكور بالحصول على ذرية من الإناث؟ ألم يقل الله في محكم كتابه الكريم:

أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَىٰ (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (22) ؟

ألم يقل الله في محكم التنزيل

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) ؟ النحل

ألم يقل الله في محكم التنزيل

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ؟ الإسراء (40)

(للتفصيل في هذا الموضوع أرجو قراءة مقالتنا تحت عنوان: جدليةالذكر والأنثى، وكذلك مقالتنا تحت عنوان: تعدد الزوجات، ومقالتنا تحت عنوان: زواج المتعة)

ألا تدل هذه الآيات الكريمة منفصلة ومجتمعة أن الله لا يعتبر من العدل أن يأخذ فريق الذكور ويأخذ فريق آخر الإناث، فلم نقول نحن أنّ ذلك عدل؟ والأهم من ذلك كله هو أنه في حين أننا نتلفظ بالقول بأن هذا عدل، لا تنفك أن تكذّب مثلَ قولنا هذا تصرفاتُنا وسلوكياتُنا اليومية، فنقع في إشكالية التنافر بين (بمفردات دقيقة) ما نريد وما نشاء. وبكلمات علمية فإننا نقول لقد حصل تنافر بين إرادتك (حبك الحصول على الولد) ومشيئتك (سلوكك في إظهار عدم التمييز بين الذكر والأنثى).

للخروج من هذه الأزمة، فإننا نرى الحاجة ملحة للوقوف عند الأمور وطلبها بمسمياتها الحقيقية، إن أبسط ما يمكن أن تخرج به هو إقرارك بأنّ حصول طرف على ذرية من الذكور وحصول طرف آخر على ذرية من الإناث ليس من العدل في شيء، وكفى.

- ولكن أليس ذلك من الله؟ ما الذي تقول يا رجل؟ اتق الله، ما هذه التخاريف وهذا الهذيان؟

نقول كلا، ذلك ليس من الله، والله لا شك عادل، وما دام أن الله لا يقبل إلا أن يكون عادلاً فمن الاستحالة أن يكون هو السبب في حصول نفر من الناس على ذرية من الذكور وحصول نفر آخر على ذرية من الإناث ما دام أن الله نفسه قد أقر بأن هذه القسمة ضيزى:

أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَىٰ (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (22)

النتيجة: إننا نزعم الفهم أن حصولك على ذرية من الذكور وأخرى من الإناث هو من نفسك (وبالتحديد من مشيئتك)، وليس لله دخل فيه.

- ولكن كيف؟ وأين الدليل على هذا الهذيان؟ سيرد الكثيرون بالقول.

نقول إنّ الدليل على مثل هذا الزعم متوافر بغزارة في كتاب الله تعالى:

مثال: زكريا يطلب من ربه الذرية:

لنمعن التفكير في طلب زكريا الذرية من ربه بعد أن تعذّر له ذلك زمناً طويلاً:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) آل عمران

ألا تدل الآية الكريمة أن زكريا قد طلب من ربه الذرية الطيبة؟ ولكن هل توقف زكريا عند هذا الحد في طلبه؟ فها هو زكريا في مكان آخر من كتاب الله يحدد طلبه على النحو التالي:

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)

فلو دققنا النظر في طلب زكريا جيداً لوجدنا أن دعاء زكريا لم يتوقف عند طلبه الذرية الطيبة وحسب، ولكنّه حددها على نحو ما يشاء، فلقد طلب زكريا على وجه التحديد وليّاً، فلغة زكريا تفيد بما لا يدع مجالاً للتأويل أنه يتحدث عن ذرية من الذكور فقط، فقال:

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا"

فزكريا لم يكن راغباً في ذرية من الإناث، وإنما كان طالباً ذرية من الذكور، فتحصل له ما شاء بسبب توافق إرادته مع مشيئته، أو بكلمات أخرى لأن مشيئته صدّقت إرادته.

امرأت عمران تطلب

وبالمقابل نجد مثال امرأت عمران التي لم تحدد مشيئتها فيما تريد، فبالرغم من معرفة وإقرار امرأت عمران بأن الذكر ليس كالأنثى إلا أنها لم تحدد رغبتها (مشيئتها) بأي منهما حتى وإن كانت راغبة (إرادتها) بالحصول على الذكر، فجاء طلبها على نحو:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) آل عمران

ونحن نسأل: لم صاغت امرأت عمران قولها على نحو " رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى"، ليأتي بعد ذلك مباشرة التأكيد الرباني البسيط "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ"؟

إنّنا نظنّ أنّ الجواب على هذا التساؤل يتمثل بما كان يجول في خاطرها قبل أن تضع مولودتها، فهي كانت تتوقع واحداً من الاحتمالين، إما الذكر أو الأنثى ولكنها لم تكن متيقّنة، قاطعة أمرها بخصوص جنس المولود، فها هي تؤكده بعدما وضعت ما في بطنها. لذا فإن مشيئتها لم تكن محسومة بواحدة من الاتجاهين كما كانت مشيئة زكريا يوم أن طلب من ربه ذرية طيبة من الذكور.

إننا نود القول أنه ليس لله دخل في تحديد الذرية التي تحصل عليها، فذاك متعلق بمشيئتك، فإن كانت مشيئتك الحصول على الذكور كانت النتيجة ذكراً، وإن كانت مشيئتك الإناث كانت النتيجة الأنثى، وإن كانت مشيئتك غير محسومة، فكلا الاحتمالين وارد، وهذا الزعم واضح تماماً في كتاب الله إنْ نحن قرأنا الآيات الكريمة التي تتحدث عن هذا الموضوع على النحو الذي تسمح به لغة الآيات نفسها، دون إقحام عقائدنا فيها من ذي قبل، وهنا ندعو القارئ الكريم إلى تدبّر الآيات الكريمة التالية من هذا المنظور. قال تعالى:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الشورى

إننا نظن أن الضبابية في الفهم قد حصلت في مثل هذه المواقف لأنّ المفسرون غالباً ما أقحموا عقيدتهم في مثل هذه الآيات قبل الوقوف على معظم معانيها المحتملة، فهم غالباً ما يدخلوا في صلب مثل هذه الآيات الكريمة بالعقيدة السائدة لديهم، المتلخّصة بأن هذا الأمر خاضع لمشيئة الله، فلا داع إذاً للخوض فيه ما دام أن أمره محسوم مسبقاً.

ونحن إذ لا ننوي أن ننكر عليهم صنيعهم هذا، لنود أن نجرّب (أقول نجرّب) مع القارئ الكريم قراءة الآية الكريمة بطريقة أخرى مادامت اللغة التي صيغت بها الآية الكريمة تسمح بذلك.

أما بعد،

نحن نظن أن الإبهام التركيبي (أو structural ambiguity باللسان الأعجمي) يقع هنا بسبب إشكالية الضمير المستتر في قوله تعالى:

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

فعلى من يعود الضمير المستتر لفعل المشيئة "يَشَاءُ" في الآية الكريمة؟ وبكلمات لغوية خاطئة (لكنها سائدة) نقول: من هو فاعل فعل المشيئة؟

لعل معظم (إن لم يكن كل) المفسرين يظنون أن ضمير الفاعل المستتر للفعل يشاء في الآية السابقة يعود على الذات الإلهية، أي أن تلك المشيئة خاصة بالله وحده، فنرد عليهم بالقول إن كلامكم هذا صحيح من منظور قوله تعالى:

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا الإنسان (30)

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)التكوير 

ولكن، لو دققنا النظر في قول الحق جيداً لوجدنا الترابط الذي لا انفكاك فيه بين مشيئة الله ومشيئة الإنسان، أليس كذلك؟ فالآيات الكريمة تؤكد استحالة حصول مشيئة الإنسان دون حصول مشيئة الله، إن صح هذا الزعم، فلا مانع إذاً من قراءة الآية الكريمة السابقة على نحو أن الفاعل المستتر يعود على الإنسان نفسه، ولنعيد الآية الكريمة ونحاول قراءتها من هذا المنظور:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الشورى

فنرجو أن نمنح الفرصة الكافية لملاحقة هذا الفرضية للنّظر في ما يمكن أن تعود علينا من أفهام، فإن حصل وحلّت لنا إشكاليات سابقة، فلا ضير في متابعتها والوقوف عند استدلالاتها.

أما بعد،

إن زعمنا بأن الفاعل المستتر لفعل المشيئة ربما يعود على الشخص نفسه يعني بأن الحصول على الذكر أو الأنثى هو أمر متعلق بمشيئة الشخص نفسه، وليس للإله دخل في هذا التقسيم، فمن حصل على الذكر كان بسبب مشيئته، ومن حصل على الأنثى كان بسبب مشيئته، ومن كان عقيماً كان بسبب مشيئته هو نفسه، وكفى.

التعليل:

دقق – عزيزي القارئ- جيداً في الآية الكريمة لتجد فيها فعلين وهما فعل الهبة (يهب) وفعل المشيئة (يشاء)، فإذا كان الحصول على الذكر أو الأنثى هو هبة من الله، فلم يأتي ذكر المشيئة، أي لم لم يقل الحق سبحانه شيئاً مثل:

يهب لبعضهم الذكور ويهب لبعضهم الإناث؟

فإنْ ظننّا –كما أفهمنا السادة المفسرون- بأن الذكر أو الأنثى هو هبة من الله (وهم على حق) فلا داعي إذاً لحصول المشيئة (وبالتالي لا داعي لوجود فعل المشيئة "يشاء")، ولكن المدقق في اللفظ القرآني يجد أنه في الوقت الذي يكون هذا العطاء الرباني هبةً (سواءً كان ذكراً أو أنثى) بدليل تكرار اللفظ في الحالتين:

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

نجد أن تحديد جنسه مرتبط بالمشيئة:

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

ولكن الإشكالية تكمن في تفسير الإبهام التركيبي، فكيف تقرأ هذه الآية الكريمة؟

إننا نزعم أنّ لهذه الآية الكريمة قراءتان محتملتان تعتمدان على المعنى المقصود من الكلام نفسه، فإن نحن ظننا أن فاعل فعل المشيئة يعود على الذات الإلهية، تكون القراءة على النحو التالي بجواز الوقف الخفيف (أو تغير نغمة الصوت) بعد الفعل يشاء مباشرة:

(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ) إِنَاثًا (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ) الذُّكُورَ

لتشكل العبارة "(يهب لمن يشاء)" كتلة واحدة، تكون بعدها كلمة "إناثاً" أو كلمة "ذكوراً" مفعولاً به للجملة بأكملها.

أما إن نحن ظننا أن الفاعل المستتر لفعل المشيئة يعود على الشخص نفسه يكون الوقف الخفيف (أو تغيير نغمة الصوت) جائزاً بعد الفعل يهب مباشرة

يَهَبُ (لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) وَيَهَبُ (لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)

لتشكل العبارة "(لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)" و العبارة "(لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)" كتلة واحدة كلها في محل نصب مفعول به للفعل يهب.

الاستنتاجات:

أولاً، إن من أبسط الاستنتاجات التي يمكن أن نخرج بها (إن نحن ظننا بوجاهة القراءة الثانية التي يكون فيها الفاعل المستتر لفعل المشيئة يعود على الشخص نفسه) هو أنّ الحصول على الذكر أو الحصول على الأنثى هو هبة من الله، فلو كان الحصول على الذكر هبة من الله بينما الحصول على الأنثى ليس بهبة من الله لربما جاء اللفظ على نحو:

يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء الذكور ولمن يشاء إناثاً

فلو وردت مفردة هبة ملازمة فقط للذكور ولم ترد ملازمة للإناث، لربما فهمنا النص القرآني على نحو أن الحصول على ذرية من الذكور هي هبة بينما الحصول على الذرية من الإناث قد لا تكون كذلك، ولكن لمّا تكررت لفظة "يهب" في الحالتين (مع الذكور ومع الإناث) كان لزاماً أن نؤمن بأن الحصول على الذكور أو الحصول على الإناث هي هبة ربانية، وهنا يبرز التساؤل التالي: ما دام أن الله يعطي ذلك كهبة، فلم يقدمها للبعض على شكل الذكر ويقدمها لآخرين على شكل إناث؟

... يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

ولتبسيط الفكرة، فإننا نسوق المثال التالي (ولله المثل الأعلى) للتوضيح: هب أنك أحضرت لي هدية في واحدة من المناسبات، وشعرت أني غير راغب في مثل هذه الهدية (أو الهبة)، هل كنت ستقدم لي نفس الهدية في المرة الثانية أو في مناسبة أخرى؟ فلو تزوجت أنت عشرة نساء، وقمت أنا في كل مرة بتقديم نفس الهدية التي لا تريدها، هل تعتبر تلك هبة مني لك؟ كلا، إلاّ إن كنت قاصداً أن أضايقك في كل مرة أقدم لك تلك الهدية التي لا ترغب. إنّ السؤال الذي كنت ستطرحه عليّ (حتى ولو لم تتلفظ به صراحة) هو: لم تقدم لي نفس الهدية في كل مرة بالرغم أنك عالم أني غير راغب فيها؟

وبالمقابل، لو كنت أنا محباً راغباً متلهفاً على الهدية التي أحضرتها لي في المرة الأولى، هل كنت سأتضايق من هديتك لو قدمتها لي مرة أخرى؟ وهل كنت ستشعر أنت بالحرج لو قدمت لي الهدية نفسها أكثر من مرة ما دمت أني راغب فيها؟

ثانياً: تحديد جنس المولود مرتبط بالمشيئةإننا نظن أنه في الوقت الذي نفهم فيه أن الحصول على الذرية من الذكور أو الذرية من الإناث هي هبة من الله، فإن الله يقدم تلك الهبة بالشكل الذي يشاءه الشخص نفسه، وهذا يعني أنه في حين أن إعطاء الذرية (بغض النظر عن جنسها) هي هبة من الله، إلاّ أن تحديد جنسها متعلق بمشيئة الفرد نفسه ولا علاقة لذلك بمشيئة الله إلا من باب إلزامية ارتباط مشيئة الخلق بمشيئة الخالق. والدليل على ذلك يأتي من الكرم الإلهي بالاستجابة لطلب أنبياءه عندما وهب لهم الذرية:

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)الأنعام 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)إبراهيم 

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)مريم 

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)الأنبياء 

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)الأنبياء 

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)العنكبوت 

إنّ المدقق في هذه السياقات القرآنية جيداً يجد أن الله قد استجاب طلبهم فوهب لهم الذرية، فوردت لفظة "وهبنا" في جميع هذه السياقات، ولكنها خلت جميعها من لفظة "شئنا"، أي حصول المشيئة الربانية. فلو كانت تلك الهبة مرتبطة فقط بمشيئة الله دون حصول مشيئة العبد فيها لجاءت – على أقل تقدير- واحدة من هذه السياقات على النحو التالي:

الحمد لله الذي وهب لي على الكبر ما شاء إسماعيل وإسحق...

وهنا ربما يرد البعض بالاستدراك التالي: إذا كان كلامك هذا صحيحاً، فلم لا ترد واحدة من هذه السياقات على نحو:

الحمد لله الذي وهب لي على الكبر ما أشاء إسماعيل وإسحق.

فنقول أن السبب في ذلك بسيط وهو ارتباط مشيئة الخلق بمشيئة الخالق، فنحن نود التأكيد على أنه لا يجب أن يفهم من كلامنا السابق بأن مشيئتك ربما تتعارض مع مشيئة خالقك، فمشيئتك بالولد لا يعني أن الله قد يشاء لك الأنثى، أو العكس، فما دام أن القاعدة الربانية هي على نحو:

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)

كان لزاماً توافر مشيئتك التي لا تنفك عن الارتباط بمشيئة خالقك، فحصول مشيئتك مرتبطة بحصول مشيئة خالقك، فما دام أن مشيئتك قد توافرت فاعلم - دون أدنى شك - بأن مشيئة خالقك قد سبقت مشيئتك، لذا فإننا نرى أن الضمير المستتر لفاعل فعل المشيئة في الآية الكريمة السابقة لا يعود على الذات الإلهية، وهو لا يعود على الإنسان نفسه، وإنما يعود على الذات الإلهية والإنسان معاً، وفي هذا تحقيق لقول الحق:

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)الإنسان 

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)التكوير 

ولكن يبقى المطلوب منك هو أن تتعلم كيف تتحصل لديك المشيئة بما تريد فعلاً.

قبل الدخول في هذا الموضوع لا بد من الوقوف عند بعض المعاني الأخرى التي تجلّبها الآية الكريمة التي كان جلُّ النقاش منصباً حولها وهي:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الشورى

وفي هذا المقام فإننا سنتوقف في محطتين اثنتين وهما قول الحق " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا" وقوله تعالى "وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"، وسنبدأ بالثانية قبل الأولى:

العقم: ليس هبة من الله

إن من أبسط المشاهدات التي ربما نجلبها من النقاش السابق عند التعرض لموضوع العقم هو التأكيد على أن العقم ليس هبة من الله. ففي حين أنّ الآية الكريمة تؤكد على أن الحصول على ذرية من الذكور أو الحصول على ذرية من الإناث هو هبة من الله بدليل تكرر اللفظ كما ذكرنا سابقاً:

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

لا نجد مثل هذا اللفظ "يهب" عند الحديث عن العقم، فتحول اللفظ من الفعل "يهب" في حالة الذرية إلى الفعل "يجعل" في حالة العقم:

وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

فمما لا شك فيه هو اختلاف اللفظ في الحالتين، في حالة الذرية (سواء كانت ذكراً أم أنثى) مقابل حالة العقم، فالذرية بنص الآية الكريمة هي هبة من الله "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ"، ولكن العقم بنص الآية الكريمة هو جَعْلٌ من الله " وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"، فما الفرق إذاً؟

لاستجلاء الصورة كان لزاماً علينا الخوض في معاني الفعل "جعل" كما يرد في السياقات القرآنية المختلفة. فنحن نفتري الظن بأن من أبسط معاني الفعل الثلاثي جعل واشتقاقاته – حسب فهمنا لسياقاته القرآنية- هو التحول من حالة إلى حالة، فأنت عندما تقول "جعلت الدقيق خبزاً" فأنت إنما حوّلته من حالة "الدقيق" إلى حالة "الخبز"، والمتتبع للسياقات القرآنية لفعل جعل ومشتقاته يجد حالة التحول هذه واضحة، ولنقدم بعض الأمثلة أولاً، ثم ننتقل بعدها لنربط ذلك بقضية العقم

فللنظر أولاً إلى السياقات القرآنية التالية حيث ترد مفردة "جعل" واشتقاقاتها بمفهومها الأوسع:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)البقرة 

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)المائدة 

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)المائدة 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)الأنعام 

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)الأنعام 

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)الأنعام 

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)الأعراف 

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)يوسف 

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)يوسف 

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)يوسف 

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)يوسف 

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)يوسف 

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)الحجر 

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)النحل

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ (1)الكهف 

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)مريم 

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)هود 

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)الحجر 

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)الأعراف 

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)الأعراف 

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)الأعراف 

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)إبراهيم 

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)الحجر 

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)النحل 

ولكن ما يهمنا على وجه التحديد هو الوقوف عند واحدة من معاني الفعل "جعل" كما ترد في السياقات القرآنية، وفي هذا المقام فإننا نزعم الفهم أن مفردة "جعل" تفيد التغيير من حالة إلى حالة، ولنتأمل جيداً السياقات القرآنية التالية:

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)الكهف 

فزبر الحديد لم يكن ناراً إلى بعد أن "جعله ناراً".

قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا الكهف (98)

وهو على حالته الحالية ليس دكاً ولكنه سيصبح كذلك (أي سيتحول إلى تلك الحالة) بعد أن يجعله الله كذلك. وهذه الفكرة جلية في كل السياقات التي ترد فيها مفردة "جعل" ومشتقاتها:

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)مريم 

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)مريم 

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي  (29)طه

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) الأنبياء 57-58

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) المؤمنون 12-13

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ  (43)النور

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)الفرقان 

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * الفرقان 54

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) القصص 4-5

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)العنكبوت 

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ  (8)السجدة

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)[2] يس 33-34

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)فصلت 

إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[3] (3)الزخرف 

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)الطلاق 

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)المزمل 

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الفيل 1-5

وبالتالي لم تكن الأرض مثلاً مهداً والسماء بناءً (أو سقفاً) قبل أن تُجْعَلْ:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)البقرة 

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ (53)طه 

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ  (31)الأنبياء

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ  (32)الأنبياء

أما المعنى الآخر الذي يجلبه الفعل جعل ومشتقاته في السياقات القرآنية هو أنّ الحالة التي كانت قبل الجعل هي الأصل أما الاستثناء فهو في الحالة التي تمت بعد الجعل، ولنتدبر بعض هذه السياقات من هذا المنظور:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ  (30)إبراهيم

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ  (96)الحجر

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)النحل 

فالأصل يتمثل في أن ليس لله أنداداً، وليس مع الله إلهاً آخر، وليس لله البنات، وما كان ذلك إلاً فتراءً على الله بعد أن جعلوه له.

ما علاقة ذلك بالعقم؟

لنعيد الآية الكريمة نفسها لنتدبرها بهذا الفهم لمفردة "جعل" ومشتقاتها، فلربما خرجنا بعدئذ ببعض الاستنتاجات التي تتعلق بقضية العقم كما ورد في قوله تعالى:

وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

فمن الذي يجعل؟ أو من هو فاعل الفعل يجعل في الآية الكريمة؟ لا شك أنه الله، فهو الذي يجعل، ولا مجال هنا للتأويل على غير هذه الشاكلة، إذاً الله هو الذي يجعل من يشاء عقيماً، أليس كذلك؟

فما دام أن الله هو الذي يجعل، وما دام أن الفعل يجعل يفيد التحول من حالة إلى حالة، فإن ذلك يعني أن العقم هو جَعْلٌ من الله، أي أن الله هو الذي يسبب هذا التحول، أليس كذلك؟

فكيف إذاً كانت حالة الشخص قبل هذا التحوّل؟ لا شك أن الشخص لم يكن عقيماً ولكن الله جعله عقيماً، أي أن الله قد حوّله من حالة إلى حالة: من حالة اللاعقم إلى حالة العقم. وهذا الفهم ربما يفيدنا على أقل تقدير في أمرين أثنين متداخلين يفضي أولهما إلى ثانيهما:


  1. أن جميع الخلق كانوا في الأصل في حالة اللاعقم، وما كان العقم إلا استثناءً كعملية تحول من الحالة الأولى إلى الحالة الجديدة
  2. ما السبب الذي أدى إلى هذا التحول؟


كان الخلق جميعاً في حالة اللاعقم

وفي هذا السياق فإننا نطرح التساؤل التالي: إذا كان الأصل هو الحالة التي كان عليها الناس قبل أن يجعل الله بعضهم عقيما، وأن الله قد خلق الخلق كلهم أصلاً في حالة اللاعقم، وما كان العقم إلاّ استثناءً، فلم يجعل الله بعد ذلك بعضهم عقيماً؟ هل يعتبر هذا تحولاً (أو تغييراً) في مشيئة الله؟ ولم يغيّر الله مشيئته؟!

إننا نفهم أن هذا التحول قد حصل ليس بسبب مشيئة الله ( فمشيئة الله تتمثل في تساو الخلق جميعاً في الحالة الأولى)، وما حصل تحوّل لمشيئة الله هذه إلاّ بسبب مشيئة الخلق أنفسهم، وهنا تبرز الحاجة إلى فهم سبب وجود فعل المشيئة في قوله تعالى:

وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: إن حالة العقم هي حالة استثنائية تولدت عن الحالة السابقة الأصلية (وهي حالة اللاعقم)، فكان البشر جميعاً متساوين في الفرصة، وما كان حصول العقم إلاّ بسبب توافر المشيئة فيها عند بعض البشر، فكانت النتيجة الحتمية تتمثل في تغيَر مشيئة الله الأولى (بطريقة الجعل) بسبب توافر مشيئة بعض الخلق لتلك الحالة الاستثنائية. وسنرى لاحقاً أن تغير هذه الحالة الاستثنائية (اللاعقم) مستحيلة إلا بشرط واحد وهو أن يغيّر الإنسان مشيئته بنفسه، لأن القانون الرباني يتمثل بما يلي:

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)الأنفال

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)الرعد 

فنعمة الله (كحالة اللاعقم مثلاً) لا تغيب عن الناس إلا يوم أن يغيّر القوم ما بأنفسهم، وبالمنطق نفسه، فإن السوء الذي جلبته نفس الإنسان عليه (كالعقم مثلاً) لا يتغير إلا يوم أن يغير الإنسان ما في نفسه. لذا فإن الإنسان بحاجة أن يتعلم كيف يغيّر ما في نفسه (مشيئته) لتتغير حاله.

وما دام أنّ الحديث منصب هنا على فهم آلية العقم والإنجاب، فلا بد من التعرض أيضاً لما ورد في الآية قيد البحث وهو قول الحق:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا

لنثير التساؤل التالي: ما المراد في قوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا؟ أي كيف يزوجهم الله ذكراناً وإناث؟ وهل هناك زواج لا يكون بين ذكر أو أنثى؟ الجواب نعم، وهذا ما سنتعرض له في الجزء القادم من هذه المقالة


لذا، فللحديث بقية بحول الله وتوفيقه صلاة الاستسقاء – الجزء السادس



_________________

[1] إننا نقول أنهم قدريون منكرون للقدرية لأنهم في الوقت الذين يرفضون فكر القدريين جملة وتفصيلا لا ينفكوا عن الإيمان المطلق بالقدر في مثل هذه الأمور، فهم قدريون في التطبيق منكرون للقدرية في التفكير.

[2] لاحظ عزيزي القارئ فكرة التحول التي حصلت على الأرض، فلم تكن الأرض أصلاً كما هي عليه الآن بدليل الفعل "جعل" الذي يتطلب التحول من حالة إلى حالة.

[3] لاحظ عزيزي القارئ فكرة التحول من حالة إلى حالة هنا، فالقرآن الكريم إذاً لم يكن أصلاً عربياً وإنما جعل عربيا، أي لقد تم تحويله من صيغته (حالته) الأولى غير العربية إلى صيغة أخرى (حالته) وهي العربية، وهذا ما نسميه تفصيل الكتاب وسنتحدث عن هذا في مقالتنا تحت عنوان مستويات فهم القرآن الكريم الثلاث: التفسير والتأويل والتفصيل.