صلاة الاستسقاء 6


تعرضنا في مقالتنا السابقة إلى موضوعين رئيسيين مرتبطان بقبول الدعاء وهما:

1. تحديد جنس المولود

2. العقم

وزعمنا القول أن الحصول على الذرية سواءً كان ذكراً أم أنثى هو هبة من الله بدليل توافر نفس اللفظ في الحالتين:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)[1] الشورى

ولكن تحديد جنس المولود (ذكر أو أنثى) مرتبط بالمشيئة بدليل ورود فعل المشيئة مصاحباً لفعل الهبة في كل حالة:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الشورى

وخلصنا- حسب ظننا- إلى الافتراء التالي: أن تحديد جنس المولود مرتبط بمشيئة الشخص نفسه مادام أن الفصل بين مشيئة الإنسان ومشيئة خالقة مستحيلة:

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا  (30)الإنسان

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ  (29)التكوير

أما بخصوص العقم، فقد أكّدنا أن العقم ليس هبة من الله وإنما هو جَعْلٌ من الله، وركّزنا على معاني الفعل جَعَلَ كما يمكن استقصاءها من السياقات القرآنية المتنوعة التي ورد فيها هذا الفعل ومشتقاته، لنخلص بمعنيين اثنين: أولهما، أن الجعل يفيد التحول من حالة إلى حاله، وثانيهما، أن الحالة الأولى التي كانت قبل الجعل هي الأصل بينما الحالة الثانية التي نتجت عن الجعل هي الاستثناء، وربطنا ذلك بموضوع العقم، فزعمنا القول أن الناس كانوا في الأصل جميعاً في حالة اللاعقم، وما حصل العقم إلاّ نتيجة للجعل، وأكدنا كذلك على أن هذا التحول لم يكن ممكناً دون حصول مشيئة الإنسان نفسه، وهذا – في نظرنا- ربما يفسر سبب ورود لفظة المشيئة حتى في حالة العقم كما كانت في حالة إنجاب الذكور أو الإناث:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)الشورى 

وسنتابع في بحثنا هذا استقصاء معاني الفعل جعل، التي ربما تسعفنا في فهم سبب حصول العقم "أو الجعل في العقم".



أما بعد،

فعند تفقد السياقات القرآنية للفعل جعل ومشتقاته التي ذكرناها سابقاً، فإننا أيضاً نزعم الفهم التالي: استحالة حصول الجعل دون توافر قوة خارجية تؤثر فيه، لتدفع بالحالة الأصلية إلى التحول إلى الحالة الجديدة، ولنتفقد السياقات القرآنية التالية جيداً:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)المائدة 

فالكعبة البيت الحرام لم يكن ليصبح قياماً للناس لولا تدخل القوة الخارجية التي جعلته كذلك، لذا فقد كان ذلك البيت الحرام في حالته الأساسية ليس قياماً للناس بدليل أنه في حالته الأولى كان على النحو التالي:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

فبالرغم أن ذاك البيت كان أول بيت وضع للناس لكنه لم يكن قياماً للناس في حالته الأولى، وتم جعله كذلك بعد أن تدخلت القوة الخارجية لجعله قياماً للناس.

وبنفس المنطق يمكن تدبر الآية الكريمة التالية:

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)الفرقان

فالبحران في الأصل لم يكن بينهما برزخ، وما كان ليحصل وجود هذا البرزخ إلاّ بالجعل، أي بتدخل قوة خارجية فيه، وكذلك حصل خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين بعدما كان خلقه الأول من طين:

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) السجدة

فخلق الإنسان لم يكن ليتحول من حالة الطين إلى حالة النسل دون تدخل تلك القوة العظيمة التي دفعت إلى هذا التغير، وهكذا. (ونحن ندعو إلى التفكر بمثل هذه المعاني حيثما وردت مفردة جعل ومشتقاتها في السياقات القرآنية الكثيرة والمتنوعة).

ما علاقة هذا بالعقم؟

إننا نظن أن العقم لم يكن ليحصل لولا أنه جَعْلٌ من الله، فهذا إذاً يتطلب وجود قوة خارجية تؤثر بحالة اللاعقم (الحالة الأصلية) التي خلق الناس جميعاً عليها لتحولها إلى حالة العقم (الحالة الاستثنائية)، ولكن ما هي تلك القوة؟ إنها –في رأينا- المشيئة.

إنّ من أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من طرحنا هذا هو أن العقم لم يكن ليحصل لولا وجود قوة خارجية أدت به ليكون حقيقة واقعة بعدما كان غير موجود في الأصل، وما دام أن الله هو الذي جعل الشخص عقيماً بعد أن كان منجباً في الأساس، فلا بد من وجود دافع (أو سبب) إلى هذا التغيير، ونحن نظن أن ذاك السبب هو توافر مشيئة العقم عند الشخص الذي جعله الله عقيماً. وبكلمات أخرى، فإن العقم هو مما كسبت أيدي الناس أنفسهم، ولتغيير هذه الحالة والعودة إلى الحالة الأصلية التي خلق الله الناس عليها جميعاً وهي حالة اللاعقم فلا بد من أن يقوم الشخص نفسه بتغيير مشيئته لتتغير حالة، أي يجب أن لا تتوافر لدية المشيئة بالعقم، (كما فعل زكريا عليه السلام كما سنرى لاحقاً).

وهنا قد يرد البعض علينا بالقول: هل صحيح أن الشخص الذي جعله الله عقيماً لا يوجد لديه الرغبة بالإنجاب؟

نقول كلا، ربما تكون الرغبة بالإنجاب لديه جارفة، ولكن ليس هذا هو التشخيص الذي توصلّنا إليه، إن لب قولنا هو بالرغم من وجود الرغبة لديه بالإنجاب إلا أن المشيئة لدية بالعقم متوافرة، على عكس الشخص المنجب الذي تتوافر لديه الرغبة بالإنجاب ولكن المشيئة لدية بالعقم معدومة (إي غير متوافرة)

ونستطيع التحقق من كلامنا هذا بطريقة عمليه لا تحتاج إلى كثير عناء، فلو سألنا الشخص المنجب فيما لو تم تخييره بين الإنجاب والعقم، فما الذي سيختاره؟ لا شك أنه سيختار – إن صدقنا القول بالطبع- الإنجاب، فهو لا يستطيع تخيل حياته دون إنجاب، لذا فغالباً ما نظر المنجب إلى غير المنجب بنظرة لا تخلو من الشفقة على حاله. ولكن لو تم توجيه نفس السؤال إلى شخص عقيم، لربما وجدت القرار لديه غير محسوم، فهو يرضى بحالته ويستطيع التعايش والتكيّف معها. إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من مثل هذا الرد هو: صحيح أن الرغبة بالإنجاب متوافرة عند الطرفين، ولكن المشيئة بالعقم لا توجد إلا عند الإنسان الذي جعله الله عقيما، لا لشيء وإنما لتوافر المشيئة (الاستعداد) لديه لهذا الخيار.

(وهنا نجد لزاما تنبيه القارئ الكريم إلى ضرورة التعريج على بعض القضايا التي تطرقنا لها في واحدة من مقالاتنا السابقة تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير، وذلك لغرض تسليط الضوء على معنى المشيئة ليتسنى فهم القصد من كلامنا هذا عن توافر المشيئة لدى بعض الناس بالعقم)


متى يحصل العقم

إننا نظن أنه لو كان العقم غير مرتبط بمشيئة الإنسان لكان الأمر محسوم منذ اليوم الأول لولادة الإنسان، أي لولد بعض الناس في حالة العقم ولولد آخرون في حالة الإنجاب، ولكن يبقى السؤال مطروحاً: متى يبين العقم عند الإنسان؟

لا شك أن العقم لا يبين عند الإنسان إلا بعد وصوله حالة البلوغ، هناك فقط نستطيع التحقق من وجود أو عدم وجود الجاهزية لدى الإنسان بالإنجاب، فهل يا ترى لو قمنا بفحص الإنسان قبل وصوله سن البلوغ، هل نستطيع تحديد توافر القدرة لديه بالإنجاب من عدمها؟ ثم، ألا يوجد هناك أناس ممن يستطيعون القيام بالممارسة الفعلية بالجماع، ولكن بالرغم من ذلك يبقى غير قادر على الإنجاب؟

وهنا يجب التمييز بين من يستطيع ممارسة الجماع ولكنه لا ينجب ومن لا يستطيع أصلاً الممارسة الفعلية للجماع. وهذا ينقلنا للخوض في جزئية أخرى تثيرها الآية القرآنية نفسها وهي قول الحق:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ

فما دلالات هذه الجزئية؟ وكيف ترتبط بقضية العقم؟

السؤال: ما معنى قول الحق: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا

فالآية الكريمة تتحدث عن الزواج بين الذكر والأنثى، أليس كذلك؟ فهل - يا ترى- يوجد زواج لا يكون بين ذكر وأنثى؟ إننا نظن أن فهم هذه الإشكالية ربما توصلنا إلى فهم ماهية العقم، أي كيف يكون البعض عقيماً. ولكن كيف؟

رأينا: ربما يجد المدقق في الآية 50 أنها تتحدث عن التقابل بين العقم وشيء آخر:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ففكرة العقم واضحة في قوله تعالى: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، أليس كذلك؟

ولكن ما هي فكرة " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ؟

إننا نود القول أننا نفهم الآية الكريمة على النحو التالي: أن الإنجاب لا يتم إلا بالزواج الذي يحصل بين ذكر وأنثى، وإن لم يكن الزواج بين ذكر وأنثى يستحيل عندها حصول الإنجاب. فالعقم ينتج عن الزواج الذي لا يتم بين ذكر وأنثى.

يا الله! ما هذه العبقرية!! لابد للزواج أن يكون بين ذكر وأنثى!! يا للعجب!!

ولكن هل هناك زواج يقع على غير تلك الشاكلة؟ هل تهذي يا رجل؟!

نعم، هناك زواج لا يكون على تلك الشاكلة، ولكن قبل تجلية هذا الأمر نرى لزاماً التأكيد على أنني رجل (ذكر) مفتون بدقة الألفاظ،وربما أكون مفطورا على حب التمييز بين الألفاظ المتقاربة (أو Synonyms باللسان الأعجمي)، وإنني على يقين بأن إشكالية فهم النص القرآني غالباً ما نبعت من خلط الألفاظ المتقاربة، ولا أجد أننا بحاجة إلى شيء أكثر من قراءة النص القرآني بتأني للوقوف عند ألفاظه كما يقصدها مفصل هذا الكتاب وهو الإله نفسه، لا كما نحب أن نفهما نحن، لأن فهمنا غالباً ما يشوبه النقص والتحريف والتأويل الذي لا ضرورة له، وهنا سأخرج قليلاً عن الموضوع الرئيسي لتقديم مثال على أن عدم الدقة في تفصيل الألفاظ غالباً ما تعيق الفهم وتحجب رؤية الأشياء على حقيقتها

استراحة قصيرة: لماذا أخفقت أنا في فهم علم الرياضيات؟  (افتح الرابط)


وبعد هذا المثال المخجل نعود إلى صلب الموضوع لنفهم قول الحق

" أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا "

ولكن الشرط المسبق لحصول الفهم (إن نحن طلبناه حقاً) هو الوقوف عند الألفاظ كما هي، فلا نستخدم أكبر محل أكثر أو العكس. وبهذا المنطق نفسه فإننا بحاجة إلى الوقوف على معاني المفردات في الآية الكريمة وقوفاً مليّاً خصوصاً ألفاظ مثل ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ، علّنا نخرج – بحول الله وتوفيقه – بأفهام توصلنا إلى مبتغانا في فهم ماهية العقم.

أما بعد،

أولا، ليس شرطاً أن ينتج عن الزواج مواليد

إننا نعلم كما نرى من واقع الناس أنه ربما يقع الزواج الذي لا ينتج عنه إنجاب الأطفال، وليس أدل على ذلك مما ورد في قول الحق في الآية الكريمة التالية:

كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)

فبالرغم من حصول الزواج بالحور العين، لكنني لا أظن أن ينتج عن ذلك الزواج مواليد، فعلاقة الزواج بين أهل الجنة والحور العين لن يتمخض عنها مواليد، ولكنها بنص مفردات القرآن الكريم هي علاقة زواج بدليل قوله تعالى " وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ"

ثانياً، إن من أهم مكونات الزواج هو وقوع الجماع (أو المباشرة الجنسية التي ربما ينتج عنها الإنجاب)، ولكن الملفت للنظر أن الذي يقع في الأصل بين الرجل والمرأة قد يحصل كذلك بين الرجل والرجل، وليس أدل على ذلك مما كان يفعل آل لوط:

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)

فحصول الجماع يحدث بوجود الذكر فقط.، ولكن الملفت للانتباه أن القرآن الكريم لا يسمي هذه العلاقة زواجاً، فحتى يسمى زواجاً لا بد من نشوء العلاقة بين الذكر مع الأنثى:

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ (45)

فلفظة الزواج لا ترد إذا حصل جماع بين رجل ورجل، فذاك يسمى بنص القرآن الكريم إتيان:

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)الأعراف

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) الشعراء

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)النمل

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)النمل

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)العنكبوت

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ  (29)العنكبوت

ثالثاً، لا يمكن أن يتم جماع بين أنثى وأنثى، لذا لا نجد مثل هذا التوصيف في كتاب الله، فالأنثى ليست مزودة بأداة الجماع.

رابعاً، إننا نزعم الفهم أن الزواج هو المعاشرة الفعلية بالجماع، أما إذا لم تحصل المعاشرة بالجماع فذاك يسمى نكاحاً:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)الأحزاب

والآن لنعد بعد هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة التي هي في لب بحثنا هذا وهي:

" أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا "

فالله يقر أن الزواج هو الذي يتم بين الذكر من جهة والأنثى من جهة أخرى، وهو ما نظن أنه الزواج الذي يمكن ينتج عنه الإنجاب، ويظهر هذا الفهم جلياً في قوله تعالى:

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)

فالأنثى هي بنص القرآن من لديها القدرة على الحمل، ولكن يبرز التساؤل هنا على النحو التالي: هل كل نساء الأرض لديهن القدرة على الحمل في أرحامهن؟

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)الرعد 

الجواب: كلا، فهناك نساء كثر ليس لديهن القدرة على الحمل. والحالة هذه فإننا نجد لزاماً التفريق بين مفردة الأنثى من جهة ومفردة النساء (أو المرأة) من جهة أخرى، لذا جاء قول الحق عند الحديث عن مجموع النساء التي لديها القدرة على الإنجاب والتي ليس لديها القدرة على الإنجاب على النحو التالي:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الفهم أن المرأة القادرة على الإنجاب هي أنثى بينما المرأة غير القادرة على الإنجاب هي من النساء ولكنها ليست بأنثى.

وبالمقابل فإن الزوج القادر على الإنجاب وغير القادر على الإنجاب هو في نهاية المطاف رجل، ولكن القادر على الإنجاب فقط هو ذكر، لذا فإن سيناريوهات المواقعة الجنسية هي على النحو التالي:

1. الإتيان (بين ذكر وذكر)

2. زواج الإنجاب ويكون بين ذكر وأنثى (الرجل ينجب والأنثى تنجب)

3. زواج العقم، فينتج عن الزواج بين
           أ‌. ذكر وامرأة ليست بأنثى (أي أن الرجل قادر على الإنجاب بينما المرأة غير قادرة على الإنجاب)
          ب‌. أنثى ورجل ليس بذكر (المرأة تنجب بينما الرجل لا ينجب)
          ت‌. رجل ليس بذكر وامرأة ليست بأنثى (الرجل لا ينجب والمرأة لا تنجب كذلك)

وعند ربط هذا الكلام عن مفردة الذكر والأنثى ببقية مفردات الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن حصول المشيئة بالعقم في قوله تعالى:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا

فإننا نخلص إل السيناريوهات التالية

زواج ينتهي بالإنجاب

1. الرجل لدية المشيئة بالإنجاب والمرأة لديها المشيئة بالإنجاب كذلك.


زواج ينتهي بالعقم فيكون في واحدة في الحالات التالية:

1. المرأة لديها المشيئة بالإنجاب بينما لا يكون لدى الرجل المشيئة بالإنجاب (زواج زكريا)
2. الرجل لديه المشيئة بالإنجاب بينما لا يكون لدى المرأة المشيئة بالإنجاب (زواج إبراهيم وسارة)
3. الرجل ليس لديه المشيئة بالإنجاب والمرأة ليس لديها المشيئة بالإنجاب. (زواج فرعون)

ولمّا كان العقم هو محط بحثنا هذا، فلابد من تسليط الضوء على سيناريوهات العقم الثلاث هذه، لتقديم الدليل الدامغ من كتاب الله على احتمالية الشفاء، وحصول الذرية، ولا نجد أفضل من أمثلة الكتاب الكريم نفسه للتحقق من زعمنا هذا، لذا فإننا سننبش في كل واحدة من هذه السيناريوهات الخاصة بحياة الأنبياء وأشخاص آخرون تحدث عنهم القرآن الكريم بالتفصيل اللازم.

1. الزواج بين رجل (ليس بذكر) وامرأة أنثى

إن مثالنا الذي نسوقه على العقم الذي سببه الزوج وليس الزوجة هو مثال زكريا عليه السلام، فنحن نزعم الفهم أن الخلل (أو العقم) الذي عانى منه زكريا عليه السلام كان سببه زكريا نفسه، ولم يكن لزوجته دخل فيه. وسنحاول إثبات صحة زعمنا هذا من الكتاب نفسه، فالقراءة المنضبطة لآيات الكتاب الكريم المتعلقة بهذا الموضوع تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن العقم الذي عانى منه زكريا قسطاً من الزمن كان سببه أن زكريا كان زوجاً (رجلاً) ولكنه لم يكن ذكرا. ولكن كيف؟

أما بعد،

فقد تطرقنا في مقالة سابقة لنا (صلاة الاستسقاء 4) إلى الآية الكريمة التالية التي غالباً ما فهمت – حسب ظننا- بطريقة خاطئة،:

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)

لذا لم نستطع الخروج بالكثير من العبر والدروس المستفادة بسبب الفهم المغلوط للآية، ولمّا كان هدفنا هو فهم آلية العقم وسببه وطرق الخلاص منه، كان لزاماً التطرق إلى هذه الآية الكريمة علّنا – بحول الله- نوفق إلى تصحيح الأفهام.

لقد كان الغلط في الفهم يتمثل –في نظرنا- بالزعم أن زكريا يبين أن سبب العقم هو في زوجته، وكانت حجتهم في ذلك يتمثل بما جاء على لسان زكريا في قوله "وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، فظن الكثيرون أن هذا يعني أن زوجة زكريا ربما كانت سبباً في ذاك العقم الذي عانى منه الرجل سنين طوال، وقد أثرنا في مقالتنا السابقة عدة تساؤلات حول مثل هذا الفهم المغلوط، ونحن نجد لزاما هنا إعادة بعض تلك التساؤلات، فقد كان جل البحث ينصب حول سؤال واحد ألا وهو: إن كان ما قالوا صحيحاً، فكيف علم زكريا أن زوجته لا تنجب؟

أعادة للأفكار التي طرحت حول هذه المعضلة سابقاً

كيف علم زكريا أن زوجته هي سبب العقم؟ لابد إذاً من طريقة تبين لزكريا أن العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فهل جرّب زكريا ذلك مع نساء أخريات؟ هل كان زكريا متزوجا من أخريات؟ فلو حصل ذلك وكان العقم في زوجته وليس فيه، لتحصلت له الذرية من تلك النساء ولما كان أصلاً بحاجة أن يطلب ذلك من ربه؟

وقد يرد البعض بالقول: لربما أن عادة المجتمعات القديمة أن تنسب العقم للمرأة وليس للرجل؟ فنقول هذا جواب جيد لو لم تكن شريعة تعدد الزوجات قائمة، ففي المجتمعات القديمة كانت حقيقة تعدد الزوجات قائمة مطبّقة على أرض الواقع، لذا لا يمكن أن يخدع الناس جميعاً بهذه الحجة، فلو كان العقم في الرجل وعدّد زوجاته، لبان الأمر بكل يسر و سهوله، فإن لم ينجب من واحدة لن ينجب من الأخرى، وهكذا. لذا لابد أن المجتمعات البشرية كانت تعرف أن احتمالية أن يكون العقم في الرجل هي احتمالية قائمة. فهذا سيناريو لا يمكن أن يغفل عنه نبي الله، ولا يمكن أن يتهم زوجته بما ليس فيها.

وقد يرد آخر بالقول: ربما أن زكريا يقول ذلك لأن زوجته قد تقدم بها العمر، لذا فهي عاقر، نقول هذا كلام أكثر وجاهة، ولكنّه يعاني من وجود دليل ينقضه تماماً في كتاب الله، فالمدقق في النص القرآني يجد أن زكريا لم يقل أن زوجته عاقر فقط:

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ  (40)آل عمران

وإنما جاء قول الحق على لسان زكريا على النحو التالي أيضاً:

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا... مريم 5

فالمدقق باللفظ يجد أن زكريا لا يتحدث عن حال زوجته الآن بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت فقط كما في الآية 40 من آل عمران، وإنما يتحدث عن ماضيها بدليل "وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، كما في الآية 5 من مريم، فهو إذاً يسرد تاريخها الماضي بالإضافة إلى حقيقتها الحالية، وبكلمات أكثر دقة نقول: ويكأن زكريا يقول لقد كانت زوجتي حتى قبل هذا الوقت عاقراً (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، وهي لا زالت حتى هذه اللحظة عاقرا (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ).

وهنا نواجه سؤالاً آخر لا مفر منه وهو: إذا كان زكريا يعرف أنّ العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فلم إذاً لم يتزوج بغيرها فينجب منها ما دام أنها هي (وليس هو) سبب العقم؟

فهل فعلاً تزوج زكريا بأخريات؟ الجواب كلا، وذلك لأن زكريا لم يتحدث إلاً عن زوجة واحدة:

وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا

وجاء قول الحق مؤكداً ذلك:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ  (90)الأنبياء

ولكن هل كان لزكريا جواري وأنجبن منه ولكنه لم ينجب من زوجته؟ كلا، لأن زكريا قد قال بملء فيه أنه كان يخاف الموالي من وراءه، ونحن نفهم من صريح اللفظ القرآني أنّ الموالي ليسوا بكل تأكيد من ذرية الرجل، قال تعالى:

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

فمن لم تعرف من هو أبوه يكون أخوك في الدين أو مولاك، فلا يمكن أن يكون الموالي من ذرية زكريا، وإنما هم ممن كان يتخذهم زكريا في رعايته وممن لا يعرف من هم آباؤهم. فلقد عُرِف عن زكريا كفالته الأيتام، وليس أدل على ذلك من كفالته لمريم بنت عمران:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ  (37)آل عمران

إذاً كيف عرف زكريا أن امرأته كانت هي سبب العقم؟

لقد توقفنا في مقالتنا السابقة عند هذا الحد، ولكننا وعدنا القارئ الكريم في الوقت ذاته أن نحاول الإجابة على هذا السؤال لاحقاً، وها نحن نعود الآن إلى الموضوع ذاته لنقدم لكم ما فتح الله علينا فيه. فالله أسأل أن يعلمنا قول الحق فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.

أما بعد،


إننا نظن أن الخطأ في الفهم قد نبع من التحليل المغلوط للنص القرآني "وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ" ولـ" وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، ونحن نزعم أن هذه العبارة لا علاقة لها بالعقم إطلاقاً، فهي لا تعني بأي حال من الأحوال أن زكريا يشير إلى أن زوجته كانت غير قادرة على الإنجاب، ولكنها تعني أن زوجته كانت عاقراً، وكفى. ولكن كيف؟

السؤال: ما الذي يمكن أن نفهمه من قول زكريا " وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: إن كلام زكريا يعني – في ظننا- أن زوجته كانت قادرة على الإنجاب (فهي إذاً أنثى) ولكن زكريا لم يكن قادراً على الإنجاب (لأنه رجل ليس بذكر)، فكان ذك سبب عقور زوجته.

ولكن أين الدليل على هذا الكلام؟

أما بعد،

الفرق بين العاقر والعقيم

لقد ورد في مكان آخر من كتاب الله على لسان زوجة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى:

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)

وهنا تظهر مفردة "عقيم" لتتحدث عن المرأة التي لا تنجب، فامرأة إبراهيم كانت إذاً عقيم (امرأة متزوجة ولكنها ليست بأنثى). وهنا يثار التساؤل التالي: كيف يمكن أن نميز بين امرأة زكريا (التي كانت عاقرا) وامرأة إبراهيم (التي كانت عقيم)؟

رأينا: نحن نظن أن الدقة تستدعي أولاً التميز بين المرأة العقيم كزوجة إبراهيم، والمرأة العاقر كزوجة زكريا، ونحن نظن أن الغلط قد وقع في الخلط بين اللفظين، فحمل أحداهما بمحمل الآخر، فضاع المعنى وتشتت الأفهام. لذا فإننا ندعو للوقوف على معنى كل واحدة منهما من جديد

العقيم

لاشك أن العقم هو عدم الإنجاب، فإن قلنا أن هذا الرجل عقيم أو تلك المرأة عقيم، فهذا يعني أنه أو أنها لا تنجب، فقد قال الله عن الريح التي أرسلها على قوم عاد ليعذبهم بها بأنها ريح عقيم:

وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

فنحن نفهم أن الريح إذا أرسلت جاء معها المطر الذي يسبب خروج النبات (الإنجاب)، أما تلك الريح فقد كانت مختلفة، لأنها لم يكن لينتج عنها الزرع أو الثمر، فقد كانت إذاً ريحاً عقيما. وكذلك هو عذاب يوم الحساب الذي لن ينتج عنه خير للكافرين:

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

فالشجرة أو الريح أو الرجل أو المرأة التي لا تنجب فهي إذاً عقيم.

العاقر

ولكن ما العاقر؟

افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن العقر هو مس الشيء بالسوء، فها هم ثمود (قوم صالح) يأمرهم الله أن لا يمسوا الناقة بسوء لكي لا يقع عليهم العذاب، فما كان منهم إلا أن عقروها، فأخذهم عذاب يوم عظيم.

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) هود

قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) الشعراء

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ (29) القمر

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) الشمس

النتيجة: القوم هم من عقروا الناقة، فكانت الناقة هي المعقورة (اسم المفعول كما يحب أهل اللغة أن يفهموه) وكان القوم هم من قام بفعل العقر (أسم الفاعل: عاقر).

لذا فعندما قال زكريا أن امرأته كانت عاقر لم يكن يعني – في ظننا- أنها لم تكن تنجب، وإنما كان يتحدث عن سلوكها الاجتماعي حتى تلك اللحظة، فقد كانت امرأة تمس زوجها (وربما وغيره) بالسوء، فهي امرأة ذات أخلاق غير حميدة، لذا كانت النعمة الربانية على زكريا لا تتمثل فقط في أن الله قد استجاب له دعوته فوهب له الذرية على الكبر:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ ...

بل منّ الله على زكريا بأن أصلح له زوجه:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

فصلاح زوجته كان يتمثل بأن توقفت تلك المرأة عن "عقورها"، فما عادت تمس زوجها (ولا غيره) بالسوء.

ولعل هذا الفهم على علاّته قد يحل لغز التساؤل التالي: لماذا لم يتزوج زكريا بامرأة أخرى (إذا كانت زوجته لا تنجب) وعلى ذاك السوء من الأخلاق؟

- الجواب: لأن زكريا لم يكن ذكرا

وهنا يطرح سؤال آخر: لماذا كانت زوجته أصلاً عاقرا؟

- الجواب: لأن زكريا لم يكن ذكرا

لماذا صلح حال زوجته؟

- الجواب، لأن زكريا أصبح ذكراً قادراً على الإنجاب.

نعم، إننا نزعم الفهم أن زكريا كان متزوجاً من امرأة عاقر (تسيء لزوجها وربما لغيره)[2]، ولا أظن أن ذلك كان جزءاً من طبعها عندما تزوجها زكريا، فذاك رجل لا شك يعرف كيف يختار زوجته، ولا أظن أنه قد اختار زوجة من شرار الناس، ولكن بعد أن تزوجها زكريا قسطاً من الزمن، وبان لها أنه لم يكن قادراً على القيام بواجباته الزوجية في المعاشرة، ومن ثم انشغاله بكفالة الأيتام وخاصة مريم، ربما دفع المرأة أن تسوء أخلاقها ومعاملتها معه.

وبكلمات أخرى نقول يكن الرجل قادراً على معاشرة امرأته كما يجب، وكان يعوض على ذلك بكفالته للأيتام، والحالة هذه، لم تطق تلك المرأة ذاك النوع من الحياة، فما كان منها إلا أن أصبحت امرأة عاقرا، وبقيت على تلك الشاكلة حتى اللحظة التي دعا فيها زكريا ربه فاستجاب له طلبه، فأصبح زكريا رجلاً ذكرا قادراً على تلبية حاجات ورغبات زوجته في المعاشرة والإنجاب، فأصلح الله حالها، وأصبحت ممن تسارع في الخيرات بعد أن كانت ممن تمس الناس بالسوء (أي عاقرا).

أما الدليل الثاني الذي نسوقه لنثبت صحة ما نزعم فيأتي من صيغة دعا زكريا ربه:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ

فالمدقق في اللفظ القرآني يجد أن الهبة من الله كما ذكرنا عند حديثنا عن قوله تعالى "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ" جاءت بصيغة المفرد المخصص لزكريا نفسه، فهذا يدعونا لنثير التساؤل التالي: لم لم يقل الله تعالى:

فاستجبنا له ووهبنا لهم يحيى

بصيغة الجمع؟ ألم يكن يحيى ولد زكريا وزوجه؟ فكيف يصبح يحيى هبة من الله لزكريا فقط؟ لم لا يكون هبة من الله لزوجة زكريا كذلك؟

رأينا: إن هذا يدلنا أنّ زوجة زكريا لم تكن تعاني من العقم، فهي كانت امرأة منجبة، وكان الخلل خاصا بزوجها. فيحيى هو إذاً هبة من الله لزكريا نفسه.

ما علاقة ذلك بمشيئة العقم؟

لقد ذكرنا سابقاً أن التحول من حالة اللاعقم إلى حالة العقم يتطلب تغيير ما في النفس مصداقاً لقوله تعالى:

... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ... الرعدٍ (11)

ولكن من الذي سيغير ما في نفسه؟

لا شك أن زوجة زكريا لم تكن بحاجة أن تغير ما في نفسها لكي تنجب، وذلك لأن مشيئتها بالإنجاب كانت متوافرة على الدوام، ولكن الخلل كان يكمن في زكريا فقط، لذا فعندما غيّر زكريا ما في نفسه وتوجه إلى الله طالباً الذرية الطيبة، استجاب الله له طلبه، فجاء قول الحق مفرداً زكريا دون زوجه:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ

فلو كان تغير ما في النفس قد وقع من زكريا ومن زوجه، لجاء قول الحق على نحو:

فاستجبنا لهم ووهبنا لهم

ولكن لمّا كان التغيير خاصاً بزكريا وحده، جاء التعبير القرآني بصيغة المفرد لتبين الدقة والحكمة في ذلك.

إننا نخلص إلى النتيجة التالية: إذا كان الرجل هو سبب العقم، فلا يمكن أن يحدث الإنجاب إلا بعد أن تتوافر المشيئة لدى الرجل بالإنجاب وذلك بتغيير ما في نفسه، وأن تدخّل المرأة أو دعاءها بالإنجاب ربما لا يغيّر من الحال شيئاً ما دامت أنها ليست هي السبب في العقم، ولكن يصبح لزاما على المرأة أن تغيّر هي ما في نفسها إن كانت هي سبب العقم، وقد لا يسعف تدخّل الرجل في مثل هذه الحالة إن لم يكن هو سبب العقم، وسنقدم الدليل على هذا السيناريو الجديد باستعراض قصة إبراهيم وزوجه من هذا الجانب.





وللحديث بقية صلاة الاستسقاء – الجزء السابع






_____________

[1] وهنا ندعو القارئ الكريم إلى تدبر السبب الذي من أجله جاءت مفردة إناثاً نكرة بينما جاءت مفردة الذكور معرفة في هذه الآية الكريمة:

ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ


[2] وسنرى لاحقاً أن جزءا من عقور امرأته كان بسبب تكفله لمريم