صلاة الاستسقاء 4


لقد حاولنا في مقالتنا السابقة التفريق بين الدعاء

(كطلب يستوجب الإجابة الربانية التي قطعها الإله على نفسه)من جهة والتمني (كرغبة لا تستوجب مثل تلك الاستجابة) من جهة أخرى، وحاولنا بيان أنّ مثل الطلب التالي الذي جال في خاطر نفر من بني إسرائيل لا يندرج تحت باب الدعاء:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)القصص 

فهم إذاً لا يدعوا الله أن يؤتيهم مثل ما أوتى قارون وإنما كانوا يتمنون ذلك، فما كان لهم ما تمنوا.

ولو دقّقنا النظر في السياقات القرآنية التي وردت فيها صيغ التمني لربما وجدنا أنّ الصبغة الغالبة على التمني هي النبش في أحداث قد سلفت وأصبحت جزءاً من الماضي، ولنسرد هذه السياقات ونتفحصها من هذا المنظور:

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)النساء 

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)الأنعام 

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)الكهف 

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)مريم 

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)الفرقان 

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)القصص 

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)الأحزاب 

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ  (26)يس

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)الزخرف 

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) الحاقة 25-27

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)النبأ 

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) الفجر 13-24

افتراء من عند أنفسنا: لو أمعنا التفكير في جميع هذه المواقف لوجدنا أن الأمر متعلق بما كان قد حصل وانتهى، ولكن لمّا كان الدعاء أمراً يخص ما سيحصل، كان لزاماً طلب الشيء على نحو ما سيكون وليس على غير نحو ما كان، فحتى عندما تمنى نفر من بني إسرائيل مثل ما عند قارون لم يطلبوه على نحو أنه سيكون مستقبلاً، وإنما كان الطلب على نحو حصولهم عليه من ذي قبل. فأنت إن ذهبت في رحلة وتبيّن لك بعد ذلك أنّ تلك الرحلة لم تجلب لك الخير فلا تطلب من الله لو أنك لم تذهب فيها، وتتوقع من الله الاستجابة لمثل هذا الطلب، فالحياة لا تعود إلى الوراء. لذا فإن كانت رغبتك تتعلق بتغير ما كان فذاك أمر يقع في باب التمني، وأظن أن عقيدتنا تتمثل في أن الله لا يغيّر ما كان قد حصل وانتهى، ولكن الله تكفل بتغير ما سيحصل.

ولو دققنا النظر في قصة نوح مع ابنه (التي قدمناها سابقا) من هذا المنظور لوجدنا أن نوحاً توجه إلى الله في شأن ولده بعد انقضاء الأمر برمته، أي بعد أن حصل الطوفان واستوت السفينة على الجودي، وقضي الأمر، جاء نداء نوح ربه بشأن ابنه:

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)

لاحظ - عزيزي القارئ- كيف كان النداء بعد أن قضي الأمر كله، وأصبح ذاك جزءاّ من الماضي، لذا فحتى لو ظننا أن ذاك طلب من نوح موجّه إلى ربه (وهو ليس كذلك على ما نظن كما بيّنا سابقاً)، فإن الأمر يقع في باب التمني وليس في باب الدعاء، لأنه يخص ما كان وليس ما سيكون.

وبكلمات بسيطة جداً فإننا نقول أنك إذا مرضت فلا تتمنى على ربك لو أنك لم تمرض (لأنّ الأمر قد حصل وانتهي فيكون ذلك تمنياً)، ولكن اطلب من ربك أن يشفيك. فلم يتمنى أيوب على ربه لو أنه لم يمرض، ولم يطلب زكريا من ربه لو أنه تحصل على الولد من ذي قبل ولم يتمنى لو زوجته لم تكن عاقرا، ولم يطلب يونس من ربه لو أنه لم يدخل في فم الحوت، وإنما جاء طلبهم متعلقاً بما سيحصل لاحقاً.

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن قبول الأمر كواقع حال على الشاكلة التي هو عليها أمر مهم في تحقيق الطلب بما سيكون عليه الأمر لاحقاً، فقبولك الفقر كأمر قد تم وحصل ضرورة في طلبك الغنى بعده، وتقبلك المرض كحالة قد وقعت ضرورة في طلبك الشفاء منه لاحقاً، وهكذا. ولو أمعنا النظر في بعض سياقات الدعاء القرآنية لوجدنا أن الداع يقر بحقيقة الأمر لينتقل بعدها إلى طلب ما ستكون عليه الحال بعد هذا الواقع، فها هو زكريا يدعو ربه قائلاً:

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) مريم 4-6

فهذه الآيات الكريمة تشير إلى حقيقة جلية تتمثل في قبول زكريا بواقع الحال وإقراره بأن ذاك قد تم وانتهى، وهو لا يتمنى على الله لو كان الأمر على غير تلك الشاكلة، وإنما يقرّ بما حصل على أنه حقيقة انتهى أمرها، فيلجأ إلى الله أن يغيّر ما ستكون عليه الحال بعد هذا الوضع القائم.

إننا نظن أن عدم إقرار الداع بواقع الحال وتمنيّه على الله الأماني هو واحد من أسباب رد الدعاء، لذا عزيزي الداع، ابدأ دعاءك بإقرارك بربوبية المدعو على نحو:

رب................

ثم انتقل إلى شرح واقع الحال على أنك مقر به كما تم وانقضى، كما فعل زكريا:

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا

فزكريا يقر بالأمور التالية كواقع حال:

  1.  أنه وهن العظم منه
  2.  واشتعل رأسه شيبا
  3. ولم يكن بدعاء ربه شقيا
  4. وأنه خاف الموالي من ورائه
  5. وكانت امرأته عاقرا


لينتقل بعدها إلى طلب ما يريد أن تصير إليه الأمور:

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

وهنا نتوقف مع سؤال غريب لا بد من طرحه قبل الانتقال إلى شرط آخر من شروط الدعاء، سؤال يثيره إقرار زكريا بواقع حاله، فنحن لا نحتاج إلى برهان لنصدّق أن العظم قد وهن من زكريا أو أن رأسه قد اشتعل شيبا، فتلك أمور لا تخفى على أحد ما دام أن العمر قد تقدم بالرجل، ونحن لا نشك أن الرجل لم يكن بدعاء ربه شقيا أو أنه قد خاف الموالي من وراءه، فذاك ما يحس به الرجل في جوفه، فهو يعبر عن ما ظهر من إشارات على ملمحه الخارجي وعن ما يجول في خاطره من شعور، ولكن يبقى السؤال الغريب على النحو التالي: كيف بزكريا يجزم أن زوجته كانت عاقرا؟ لم لا يكن الخلل في زكريا نفسه؟ لم لم يكن العقم من زكريا وليس من زوجته؟ هل فعلا كان عند زكريا مختبراً يقدم فحصاً سريريا يبين من خلاله أين يكمن مصدر العقم: في الزوج أم في الزوجة؟ وقد يرد البعض بالقول: ما علاقة هذا الأمر بموضوع الدعاء؟

فنقول: نحن نظن أنه لو كان العقم من زكريا نفسه (ولم يكن من زوجته) وقدم زكريا مثل تلك الحجة المغلوطة لما تمت الاستجابة الربانية الايجابية لدعائه، لأن ذلك ربما يدل على أن زكريا لا يتقبل الواقع كما هو، فحتى تتم الاستجابة لابد من سرد الأمر على نحو ما حصل فعلاً دون تبديل ولا تغيير. ولنقدم المثال التالي لتوضيح الصورة، فهناك من يدعو الله أن يرزقه لأنه فقير قائلاً:

رب إني فقير فارزقني

فقد لا تتم الاستجابة الربانية لمثل هذا الدعاء في بعض الحالات بينما تتم الاستجابة في حالات أخرى، ولكن لماذا؟

إننا نظن أن السبب يكمن في أن الذي لم تتم الاستجابة الربانية لدعائه قد قدّم المعلومة مغلوطة عن واقع حاله، فالله لا يستجيب دعاءً لا يصف واقع الحال كما هو، ولا يبين أن الداع قد أقر بالواقع كما هو حاصل فعلاً، وبكلمات أكثر دقة نقول، هل فعلاً كنت أنت فقير عندما وصفت نفسك بهذه الصفة؟ فحتى الأغنياء ربما يظنون أنهم فقراء فيطلبوا الزيادة من ربهم، نقول نعم هذا صحيح، ولكن يجب أن تميّز بين أن تكون غنياً وتطلب من ربك الاستزادة أو أن تكون فقيراً فتطلب من ربك الغني، فإن لم تكن فقيراً وطلبت من الله الغنى على نحو:

رب إني فقير فارزقني

لما تمت الاستجابة الربانية لك، ولكن لماذا؟

الجواب: لأنه لا بد من مخاطبة الرب بصدق الحال، فلو عدنا إلى كتاب الله وبحثنا فيه عن معنى الفقير لوجدنا الآية الكريمة التالية:

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

فحتى تكون فقيراً (بالمعنى المادي) فيجب أن تكون ممن تصرف لهم الصدقات، لذا فعندما تتوجه إلى ربك بالقول أنك فقير (فقراً مادياً كما تبينه الآية السابقة) طالباً الغنى وأنت في واقع الحال لست فقيراً لأنك لست ممن تصرف لهم الصدقة، فذاك ربما يكون سببا في عدم قبول الدعاء، لذا يجب التميز بين دعاء من هو فعلاً فقير ممن تصرف له الصدقة فيتوجه إلى ربه بالقول:

رب إني فقير فارزقني

ومن هو ليس فقير وعنده ما عنده من المال ولكنه يطلب الزيادة، فيقول

رب عندي ........ من المال فزدني

مثال


ولنقدم المثال التالي لتوضيح الصورة (ولله المثل الأعلى): تخيل لو أن طالباً جاءك يطلب مسألة وشرح لك حالته، ولكنّه تحايل في تقديم حجته، فأوهمك بأنه فقير وليس عنده ما يكفيه، ثم اكتشفت بعد ذلك أنه ليس كذلك، فهل كنت ستلبي له طلبه؟ ولكن تخيل لو أنه صدقك القول في شرح وضعه وطلب منك شيئاً لحاجة أخرى، فهل كنت سترد طلبه؟ فكيف بالله الذي يعلم السر وأخفى؟ كيف بك تقدم حجتك لله على أنك فقير وأنت فعلاً لست فقيرا؟ ألا تعلم أن الله هو أعلم بحالك من نفسك؟ لم إذاً لا تصدق الله القول، وتطلب ما أنت طالب دون تحايل؟ فإن كنت فعلاً فقيراً، فقدّم فقرك كحجة لك وإلاّ فلا، وإن كنت غنياً، فقدم حجتك على أنك غني تطلب الزيادة وهكذا.

وبهذا المنطق، كيف نفهم أن زكريا قدّم حجته على أن زوجته هي فعلاً العاقر فتقبل الله منه تلك الحجة؟

الجواب: لأن زوجته كانت فعلاً هي العاقر؟

إذاً يبقى السؤال قائماً: كيف علم زكريا أن زوجته هي سبب العقم؟ لابد إذاً من طريقة تبين لزكريا أن العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فهل جرّب زكريا ذلك مع نساء أخريات؟ هل كان زكريا متزوجا من أخريات؟ فلو حصل ذلك وكان العقم في زوجته وليس فيه لتحصلت له الذرية من تلك النساء ولما كان أصلاً بحاجة أن يطلب ذلك من ربه؟ أليس كذلك؟

وقد يرد البعض بالقول: إن عادة المجتمعات القديمة أن تنسب العقم للمرأة وليس للرجل؟ فنقول هذا جواب جيد لو لم تكن شريعة تعدد الزوجات قائمة، ففي المجتمعات القديمة كانت حقيقة تعدد الزوجات قائمة مطبّقة على أرض الواقع، لذا لا يمكن أن يخدع الناس جميعاً بهذه الحجة، فلو كان العقم في الرجل وعدّد زوجاته لبان الأمر بكل يسر و سهوله، فإن لم ينجب من واحدة لن ينجب من الأخرى، وهكذا. لذا لابد أن المجتمعات البشرية كانت تعرف أن احتمالية أن يكون العقم في الرجل هي احتمالية قائمة. فهذا سيناريو لا يمكن أن يغفل عنه نبي الله، ولا يمكن أن يتهم زوجته بما ليس فيها.

وقد يرد آخر بالقول: ربما أن زكريا يقول ذلك لأن زوجته قد تقدم بها العمر لذا فهي عاقر، نقول هذا كلام أكثر وجاهة ولكنّه يعاني من وجود دليل ضده في كتاب الله، فالمدقق في النص القرآني يجد أن زكريا لم يقل أن زوجته عاقر فقط:

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ  (40)آل عمران

وإنما جاء قول الحق على لسان زكريا بالقول أيضاً:

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا... مريم 5

فالمدقق باللفظ يجد أن زكريا لا يتحدث عن حال زوجته الآن بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت فقط كما في الآية 40 من آل عمران، وإنما يتحدث عن ماضيها بدليل "وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، كما في الآية 5 من مريم فهو إذاً يسرد تاريخها الماضي، وبكلمات أكثر دقة نقول: ويكأن زكريا يقول لقد كانت زوجتي حتى قبل هذا الوقت عاقراً.

وهنا نواجه سؤالاً آخر لا مفر منه وهو: ما دام أن زكريا كان يعرف أنّ العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فلم إذاً لم يتزوج بغيرها فينجب منها ما دام أنها هي (وليس هو) سبب العقم؟

فهل فعلا تزوج زكريا بأخريات؟ الجواب كلا، وذلك لأن زكريا لم يتحدث إلاً عن زوجة واحدة:

وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا

وجاء قول الحق مؤكداً ذلك:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)الأنبياء 

ولكن هل كان لزكريا جواري وأنجبن منه ولكنه لم ينجب من زوجته؟ كلا، لأنّ زكريا قد قال بملْ فيه أنه كان يخاف الموالي من وراءه، ونحن نفهم من صريح اللفظ القرآني أنّ الموالي ليسوا بكل تأكيد من ذرية الرجل، قال تعالى:

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

فمن لم تعرف من هو أبيه يكون أخوك في الدين أو مولاك، فلا يمكن أن يكون الموالي من ذرية زكريا، وإنما هم ممن كان يتخذهم زكريا في رعايته وممن لا يعرف من هم آباؤهم. فلقد عرف عن زكريا كفالة الأيتام، وليس أدل على ذلك من كفالته لمريم بنت عمران:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا  قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) آل عمران

إذاً كيف عرف زكريا أن امرأته كانت هي سبب العقم؟ (سنتعرض لهذا الموضوع بحول الله في مقالة منفصلة عن حياة الأنبياء الخاصة مع زوجاتهم)

أما ما يهمنا هنا هو الإقرار بأن الداع يدعو ربه بصدق واقع الحال، وهذا شرط من شروط استجابة الدعاء. لننتقل بعده إلى شرط آخر من شروط استجابة الدعاء كما يبين لنا من الداع الذي تمت الاستجابة الربانية عليه.

أن يكون الدعاء خاصاً بك

إن الدعاء هو علاقة فريدة بينك وبين ربك، فلا ينوب في ذلك أحد عن أحد، فهل يستجيب الله دعائي إن دعوت نيابة عن فلان؟ فهل لو قلت رب ارزق فلاناً، هل أتوقع الاستجابة الربانية لدعائي هذا؟ الجواب كلا.

لو تفقدنا جميع الأدعية التي تمت الإجابة الربانية لها لوجدنا أن الدعاء كان يخص الداع مباشرة، فزكريا يطلب الذرية لنفسه، ويونس يتحدث عن البلاء الذي هو واقع فيه، وأيوب يتحدث عن محنته، وهكذا، وعندما توجه موسى بالدعاء لأخيه لم يكن ذلك بسبب أخيه، وإنما ربط ذلك بما يعود عليه هو من مردود، فلم يأتي طلب موسى ربه على النحو التالي:

واجعل هارون أخي وزيراً

وإنما جاء طلبه على النحو التالي:

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) طه

فموسى لم يكن همّه الأول هو ما سيتحصل لأخيه من خير (وإن كان كذلك)، وإنما كان غرضه من الطلب هو ما سينتج عن ذلك من فائدة بالنسبة له، لذا جاء طلبه على نحو: وَاجْعَلْ لي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، وبيّن الفوائد التي تخصه هو شخصياً من هذا الطلب
" اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي" و " وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي".

وكذلك كان الحال بالنسبة لامرأة عمران:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) آل عمران

فامرأت عمران لم تدعو لتخص ما في بطنها بالخير على وجه التحديد، وإنما كان جل ما طلبت هو أن يتقبل الله منها ما نذرت، بغض النظر عن ما في بطنها، لذا جاءت الروعة في اللفظ القرآني على نحو (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ولم تقل "فتقبلها" مثلاً، لأن الذي يعنيها هو أمر نفسها قبل أن يكون أمر ما في بطنها، وهذا المنطق يتماشى مع سنّة الله الكونية في أنّ الولد لا يجز عن والده ولا المولود هو جاز عن والده شيئاً. صحيح أنه ربما يتحصل الخير لغيرك بسبب دعاءك، ولكن حتى يكون دعاؤك مجاباً عند ربك فيجب أن يكون في أمر يخصك أنت نفسك.

ولو عقدنا مقارنة بين طلب موسى وطلب إبراهيم بالغفران لتمثلت لنا هذه المعاني في أحسن صورها، فها هو موسى يقتل الرجل فيعترف بذنبه على الفور ويعود إلى ربه طالباً المغفرة:

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)القصص 

فكانت النتيجة على نحو ما أراد وطلب (فَغَفَرَ لَهُ)،

وبالمقابل فها هو إبراهيم يتوجه إلى ربه طالباً المغفرة لأبيه من الشرك الذي هو (أي أبيه) واقع فيه:

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)الشعراء 

فلم تتحصل الاستجابة الربانية لطلبه. ونحن نظن أن احد الفروق يتمثل في حين أن موسى كان يدعو لنفسه بالمغفرة، كان إبراهيم يقوم بالدعاء نيابة عن أبيه، ولما كانت سنّة الله تقتضي أن المولد لا يجز عن والده شيئاً، كان لزاماً أن يقوم الأب نفسه بالدعاء لتتحصل الإجابة الربانية له، وفي هذا عدل مطلق للبشرية جميعاً، فلو كان الله يتقبل دعاء الناس بعضهم نيابة عن بعض لنجوا جميعاً، الصالح منهم والطالح، فحتى إبراهيم قد دعا لوالده، فما الذي يمنع أن يدعو كل إنسان لغيره؟ ولو حصل ذلك، لنجا المشركون بذنوبهم ولفلتوا من العقاب بدعاء ممن حولهم من المؤمنين، ولكن قضت سنّت الله لتكون على النحو التالي:

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

وها نحن نقدم للقارئ أمثلة على الدعاء الذي تمت إجابته على الفور ليصار إلى تمحيصها من هذا المنظور:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) آل عمران 38-39

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) آل عمران 40-41

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) مريم

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) الأعراف

قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36) طه

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) المؤمنون

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) المؤمنون

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) الشعراء

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ القصص (16)

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) القصص

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) العنكبوت

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40) ص

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) ص

نخلص إلى القول أنه لابد للداع أن يربط الدعاء بما سيعود عليه نفسه من خير، فالابن لا ينوب عن والده ولا الوالد ينوب عن ولده، ولنعقد مقارنه بين ما طلب إبراهيم بخصوص والده وكيف جاء طلبه فيما يخص أبناءه

إبراهيم يطلب لوالده:

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ الشعراء (86)

فلم تتم الاستجابة الربانية لهذا الطلب

إبراهيم يطلب لـ أبناءه

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)إبراهيم 

فكانت الاستجابة حاصلة، لاحظ – عزيزي القارئ- كيف نأى إبراهيم بنفسه عن طلب المغفرة لوالده بينما شمل نفسه في موضوع هداية أبناءه.

أن يكون الهدف من الدعاء هو تحقق الدعاء


غالباً ما سوّق لنا منظرو الفكر الديني أن عدم الاستجابة الربانية لدعاء العبد ربما يقع في باب الخير للعبد نفسه، فهم يعتقدون أن الإله يعلم أحوال العبد أكثر من العبد نفسه، وبالتالي ربما يكون من مصلحة العبد أن لا يحقق الله له ما طلب، وغالباً ما تحايل الناس على أنفسهم بمثل هذه الحجج الواهية، فعندما يدعو العبد ربه طالباً شيئاً ولا يتحقق له ذاك الشيء، يعود العبد ليطمئن نفسه بالقول أن في عدم تحقق الدعاء خيراً له، وكثيراً ما سمعنا مثل هذا الهراء (كما نزعم) من العامة وأهل الاختصاص على حد سواء، في حين أنهم أنفسهم لا زالوا يتمنون لو يتحقق لهم ما أرادوا.

إننا نعتقد أن مثل هذا الاعتقاد أو السلوك هو من أسباب عدم تحقق الدعاء، لأننا نؤمن أنّ الأمر هو على النحو التالي: إذا كان الله لا يحقق لي ما أطلب لأن تحقيق الأمر ربما لا يعود بالخير عليّ، فلم يطلب الله مني أن أدعوه أصلاً؟ وإذا كان الله يرأف بالناس لهذه الدرجة، فلم لا يحقق لهم الخير في كل شيء دون الحاجة أن يدعوه؟ والأهم من ذلك هو: لم يطلب الله مني أن أدعوه أصلاً ما دام أنه لن يحقق لي إلا ما فيه خير لي؟ إذاً ليحقق الله لي الخير ولا يطلب مني أن أدعوه.

ثم -يا سادة- أين عدم الخير في طلب الخير؟ هل في طلبي الرزق أو الصحة أو المنصب أو أي رغبة في نفسي شيء من السوء؟ فسيرد البعض بالقول "ربما،، فقد تطلب من الله المال فلا يعطيك الله ذلك المال لأنك ربما تقع في المحارم بسبب المال، أو لربما تشتري بالمال سيارة فتتسبب في حادث فيقضي عليك. أليس هذا ما يسوّقه بعض مشايخنا الأجلاء؟

ولكن ألا ترى – عزيزي القارئ- حجم المهزلة في مثل هذا الكلام؟ هل عدم شرائي للسيارة يكف عني الموت إن كان مكتوباً علي؟ ثم لم لا أطلب من الله المال فيعطيني إياه، ثم إذا ما اشتريت سيارة دعوت الله من جديد أن يحفظني وسيارتي؟ هل هذا شيء يصعب القيام به؟!!!

والأهم من ذلك، ما المانع أن أطلب من الله شي فيعطيني إياه حتى لو كان ذلك سيسبب لي الشر، أليس هذا ما أريد؟ ثم للنظر مرة أخرى إلى طلب إبليس الأول:

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

دقق – عزيزي القارئ- في طلب إبليس هذا جيداً، ما الذي كان يريده إبليس من هذا الطلب؟ هل في الإجابة الربانية لطلب إبليس خير للطالب (إبليس)؟ ألا يعلم الله أن إبليس سيستغل الكرم الرباني في الشر؟

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف

أليس هذا هو الشر بعينه؟ لم يسمح الله بذلك ما دام أنه يريد الخير لخلقه؟ سترد عليّ بالقول ولكن هذا إبليس، وهو من أراد الشر. فأرد عليك بالقول: لم إذاً لا يلبي الله طلب من يدعوه حتى لو كان ما أراد شراً؟ أليس هذا ما اختاره الإنسان بنفسه؟ إنني أنوي القول أن الإنسان يطلب من الله (أي يدعوه) بما يحب ويرغب، والله طلب من الناس أن يدعوه ليجيب دعائهم، لذا يجب أن يفهم الداع أن من حق الله عليه أن يدعوه، ومن حقه على ربه أن يجيب دعاءه بغض النظر عن العواقب التي ستؤول إليها الأمور.

إن موقفنا هذا مستمد من سياقات قرآنية عديدة قام فيها بعض الخلق بدعاء ربهم أن يعطيهم ما يريدون، ولكنهم بعد أن حصلوا على ما أرادوا انقلبوا على أعقابهم، وتبين أن ذلك لم يكن خيراً لهم، وسنقدم بعض تلك السياقات لتمحيصها من هذا المنظور:

فها هم بنو إسرائيل يطلبوا من نبيهم موسى أن يدعوا لهم ربه ليكف عنهم الأذى

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) الأعراف

ولكن، ما الذي حصل بعد أن كشف الله عنهم الأذى؟ ألم ينقلبوا على أعقابهم؟ إذاً، فالسؤال المشروع الذي نطرحه هنا هو: هل كان في كشف الرجز عنهم خيراً لهم؟ كلا، وألف كلا، لا بل فقد كان ذلك سبباً في وقوع الانتقام الرباني منهم، فأين الخير إذاً في إجابة طلبهم؟

ويتكرر المشهد على المستوى الفردي في الآيات التالية:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) الأعراف

فهل جلبت لهم الإجابة الربانية لدعائهم الخير؟

وكم من الناس انطبقت عليهم الآيات الكريمة التالية:

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) التوبة

فهل كان في تقبل دعائهم، وإسباغ النعم عليهم خيراً لهم؟ فلو كان الله لا يتقبل الدعاء إذا كانت العاقبة ستكون وخيمة – كما يظن الكثيرون- لكان الأجدر أن لا يجيب الله دعاء مثل هؤلاء، لأن الإجابة الربانية لدعائهم لم تجلب لهم الخير إطلاقاً، فلو غرق من ركب البحر على الإيمان الذي كان في قلبه في تلك اللحظة لكان خيراً له من النجاة التي دعا الله إياه وكانت عاقبتها البغي في الأرض بغير الحق.

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) يونس

إذاً لنكف عن تسويق ما يتعارض مع النصوص الصريحة في كتاب الله، ولنكف عن تفسير الغيبيات بالغيبيات، ولنكف عن إفحام الناس في تقديم أجوبة غيبية لا يمكن التحقق منها، فتكون كالطعام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، إن الناس جياع للحقيقة، وعلم الله لا شك هو الحق بعينه، فلنقدم لهم كتاب الله كما هو، ولا نتكفل التعذر عن ما لا نستطيع فهمه.

وفي هذا السياق فإننا نقول إنّ أبسط الحقائق التي يجب الوقوف عندها هو أن الله طلب منا أن ندعوه، وتعهد على نفسه أن يجيب دعاءنا بغض النظر عن النتيجة التي ستؤول إليها الأمور جراء تلك الاستجابة الربانية، وإن لم تتم الاستجابة الربانية لدعائك فلا تتعلل بما هو ليس من الحق في شيء، بل يجب أن تقف عند الحقيقة وكفى، فقل إني دعوت الله ولم يستجيب دعائي، وكفى. فنحن نظن أن التعلل بهذه الحجج الواهية هو سبب من أسباب عدم الاستجابة الربانية لدعائك، فعلى الداع أن يدعو الله ولا يقبل بأقل مما طلب، فليس المدعو بالبخيل ولا هو بغير القادر على الإجابة، ولا ينقص ذلك من ملكه شيئاً، لذا يجب أن يتمتع الداع بالشجاعة الكافية ليؤمن أن ذلك من حقه ولا يقبل بأقل من حقه، وليس أدل على صحة مثل هذا الزعم من دعوة يوسف عليه السلام، فبعد أن راودته نسوة المدينة عن نفسه، وألححن في طلبه، ضاق بالأمر ذرعا، وما عاد يستطيع أن يقاوم كل تلك الإغراءات أكثر من ذلك، توجه إلى ربه بالدعاء بنبرة لا تخلو من القوة في الطلب:

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)يوسف 

ألا تشعر - عزيزي القارئ- بقوة الطلب الذي يطلبه يوسف؟ ألا ترى ويكأن يوسف يشترط على ربه؟ نعم هو كذلك، ولكني أرى أن يوسف يؤمن أن من حقه على ربه أن يجيب دعاءه، فهو قد قاوم بكل الوسائل التي يستطيعها، ولكن الإغراء كان أكبر من قدرته هو كبشر، لذا كان لزاماً أن تتدخل قوة تنقذه مما هو فيه من الكرب، ولعلي أجزم أنه لو لم يستجيب الله لطلب يوسف (وهو أمر يستحيل حصوله) ووقع يوسف في الإثم لما كان لرب يوسف على يوسف حجة، لأن حجة يوسف على ربه حينئذ ستكون أقوى من حجة ربه عليه. إن إصرار يوسف على طلبه وإيمانه بأن هذا حق له على ربه، هو الذي سوّغ الاستجابة الربانية الفورية على النحو التالي:

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)يوسف 

وهذا بالضبط ما نظن أنه ما يقع في باب قوله تعالى:

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)النمل 

ألم يكن يوسف مضطراً لنجده تأتيه من ربه؟ فلو لم يقاوم يوسف كل تلك الإغراءات، وتوجه إلى ربه بمثل هذا الدعاء لما تحصلت له الاستجابة الربانية، لأن دعاءً كهذا يقع في باب دعاء المضطر، والله قد تعهد بأن يجيب دعاء المضطرين.

وعلى العكس من ذلك يقع دعائي في العام الماضي أن يرزقني الله ثمن الأضحية في يوم النحر، فقد كان طلبي على نحو: أن لو رزقني الله ثمن الأضحية لفعلت، فلم يرزقني الله ذلك، ولما تفقدت حالي، وجدت أني لم أكن أملك ثمن أضحية واحدة فقط ولكن ثمن أضحيات كثيرة، ولكني اشترطت القيام بذلك إن رزقني الله ثمن الأضحية وكان لسان حالي يقول ويكأني لا أملك ثمن أضحية واحدة، ألا ترى - عزيزي القارئ- أني كنت أكذب، فلو كنت صادقاً في طلبي، مضطرا إليه لتحصلت الاستجابة الربانية على الفور، فلو كنت مثلاً على عادة أن أضحي كل عام، ثم جاء ذاك العام ولم أكن فعلاً أملك ثمن الأضحية، ودعوت الله دعوة المضطر المحتاج الذي لا حول له ولا قوة، هل تتوقع أن يرد الله دعائي حينها؟!

إننا نؤمن أنّ الله لم يرد دعاءهم عندما كانوا مخلصين مضطرين:

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)يونس 

فكانت الاستجابة الربانية حاصلة نتيجة لذاك الإخلاص وذاك الاضطرار حتى لو كان ما آلت إليه الأمور بعد ذلك هي عاقبة وخيمة عليهم، لأن ذلك طلبهم وتلك رغبتهم:

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)العنكبوت 

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)لقمان 


وللحديث بقية  صلاة الاستسقاء – الجزء الخامس