مقالة في التسيير والتخيير


مقالة في التسيير والتخيير
ملاحظة: نشير للقارئ الكريم أنّنا لا نكتم ما نظن أنه علماً علمنا الله إياه مهما بلغ درجة غرابته في نطر الآخرين، لذا ما يهمنا هو انتشار العلم بين الناس ليكون سببا في تحريك الجمود الفكري الذي أصاب الأمة منذ قرونا من الزمن، سائلين الله أن يكون من باب العلم الذي ينتفع به، وتسأله تعالى أن يكون ذلك خالصاً لوجهه فلا نريد منكم جزاء ولا شكورا. فمن أحب أنْ يشارك الكاتب بأفكار تساعد في تطوير مقالتنا هذه (التي نطن أن فيها من الافتراءات غير المسبوقة) فله من الله الأجر ومنا الشكر والثناء، ومن أراد أنْ ينسب هذه الأفكار له، فهو لن ينال إلا عقوبة السارق (فنحن نؤمن أنّ الله يعلم من دفع ثمن الأضحية)، أما نحن فلا نلاحقه قضائياً ولا أكاديمياً، وأما من ظن أنّ كلامنا لا يعدو أكثر من هراء فهو بلا شك لم يجاوز الحقيقة وليرسل هذا الملف بأكمله إلى recycle bin على جهازه. وأما من أراد أن لا يتزعزع إيمانه بعقائد آباءه وأجداده فإننا ننصحه أن لا يتابع القراءة بعد هذا السطر.




مقدمة
إننا نزعم الفهم أنّ القرآن الكريم قد أثبت أنّ لله إرادة ولله مشيئة ولله قول، حيث نقدّم الافتراء الخطير جداً (الذي هو بلا شك من عند أنفسنا) التالي: الإنسان مخير بالإرادة مقيد بالمشيئة محكوم بالقول، ونحن نزعم الظن بأن فهم هذا الإدعاء قد يحل – في رأينا- إشكالية التسيير والتخيير، ولنبدأ بها الواحدة تلو الأخرى.

الإرادة: الإنسان مخير بالإرادة
السؤال: هل يسير الكون كلّه بإرادة الله؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن الكون لا يسير كله بإرادة الله
فالسؤال الذي يتبادر للذهن ولربما نظن أنّه لم يفهم كما يجب هو: هل الكون مسيّر بإرادة الله؟ فإذا كان الكون فعلاً مسيراً بإرادة الله فهذا يعني أولاً أنّ الإنسان كجزء من هذا الكون مسيّر هو كذلك بإرادة خالقه وليس له من الأمر شيئاً، والأهم من ذلك أنّ الكون كله سيكون خيراً ونعيماً خالصاً، والأرض ستكون جنة الخلد، وذلك لأنّ إرادة الله على نحو:
"... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..."      البقرة 185
"...مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" المائدة 6
ولكن هل فعلاً الحياة كلها يسر؟ فكيف نفهم أنّ الله يريد بنا اليسر ونحن نواجه ما نواجه (بما أوقعنا أنفسنا به من) العسر؟ ولتعزيز الفكرة نفسها فإننا ندعو القارئ الكريم إلى تدبر الآيات القرآنية التالية:
تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ آل عمران 108
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ غافر 31
فإذا ظننا أنّ الكون مسيّر بإرادة الله، وهذه الآيات الكريمات تشير جميعها أنّ إرادة الله تقضى انتفاء الظلم للعالمين، فـ أليس ما يحصل من ظلم للإنسان (حتى وإن كانوا هم سبب فيه) يتنافي ويتعارض مع إرادة الله؟
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ التوبة 70
إنّ تساؤلنا هو على النحو التالي: الله يقول "وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ فلم إذاً يقع الظلم على العالمين؟ فلو كانت إرادة الله نافذة على الدوام لما وجدنا (نحن نفتري الظن) الظلم واقع إطلاقاً لأنّ الظلم يتنافى مع إرادة الله، أليس كذلك؟ لذا فإننّا نزعم الظن أنّ إرادة الله ليست هي المسيّرة لكل ما في الكون، فإرادة غيره قد تكون نافذة وإنْ هي تعارضت مع إرادته جل وعلا، كلام خطير، أليس كذلك؟
ولكن أين الدليل على ذلك؟
جواب: لنقرأ الآية القرآنية التالية:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ المائدة 91
فإذا ظننا أنّ الكون وما فيه مسير بإرادة الله فكيف سيستطيع الشيطان أنْ ينفِّذ إرادته التي تتعارض كلياً مع إرادة الله؟ والملفت للنظر أنّ إرادة الشيطان نافذة أكثر بدليل الكثرة المتبعة له:
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف 103
قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المائدة 100
بينما القلة القليلة هي التي نفذت إرادة الله لها بالخير:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ 13
عواقب هذا الظن
بناء على منطقنا المفترى هذا، فإن لب القول عندنا هو أنّ الله لا يتدخل بإرادة الإنسان، فإرادة الإنسان مستقلة تماماً عن إرادة خالقه، وهذا ما كان بالضبط في حال آدم وزوجه حواء، فلقد كانت إرادة الله لهم الخير كل الخير وهو عدم الأكل من الشجرة، ولكن كانت إرادة الشيطان لهم الشر كل الشر وهو أنْ تبدو لهما سوءاتهما، ولمّا تضاربت إرادة الله مع إرادة الشيطان كان اختيار آدم بإرادته طريق الشيطان الذي أوقعه في المعصية:
النتيجة
إرادة آدم
  إرادة الشيطان
إرادة الله
الإرادة
الضوابط
فبدت لهما سوءاتهما
نعم
نعم
لا
الأكل من الشجرة



إنّ هذا يقودنا إلى الافتراء الخطير التالي: إنّ ما يجول بخاطرك من أفكار ونوايا ليس لأحد (حتى لخالقك) دخل بها، وهذا التصور ربما يساعدنا في فهم الآيات القرآنية التالية:
وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران 141-142
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ التوبة 16
هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ   الجاثية 29
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ آل عمران 140
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ الحديد 25
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ العنكبوت 11
والسؤال المشروع يكون إذاً على نحو: إذا كان الله يتدخل بإرادتنا فلم يوقعنا في تلك الفتن أصلاً؟ وإذا كنا مسيّرين بإرادته بكل شيء فما الجديد الذي سيعلمه وما الجديد الذي سيستنسخه؟ لقد تضاربت الآراء بتأويل مثل هذه الآيات، فقد يقول قائل لِمَ يختبرنا الله ويبلونا ما دام أنه يعلم كل شيء؟ فهل هي إذاً مسرحية مكتوبة ومقدرة من قبل أنْ تُمثّل على خشبة المسرح؟ نقول كلا، إنها ليست كذلك للسبب البسيط وهو أنّ الإنسان خلق مستقل الإرادة، وإرادة الله فيه غير نافذة إذا تعارضت مع إرادته:
وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا   النساء 27
يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا   النساء 28
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ َاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الأنفال 67
وهذه الآيات الكريمات وغيرها تثبت – برأينا- إمكانية تضارب إرادة الله مع إرادة غيرة (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)، وأن إرادة الله قد لا تكون هي النافذة دائماً، فإرادة الله لم تنفذ في آدم بينما نفذت إرادة الشيطان فيه، وإرادة الله لم تنفذ في الغالبية الساحقة من خلقه بل نفذت بهم إرادة الشيطان وأنفسهم.
وهذا يدعونا أنْ نتذكر كذلك أنّ وجود الإرادة لا يعني حتمية وقوع الأمر، فالإرادة لا تعني أكثر من "الميل الداخلي نحو أمر ما، وليس حتمية وقوعه، فحتى لو كان للإنسان إرادته الخاصة في حدوث شيء ما، فقد لا يحدث ذلك الشيء، والسبب كما أسلفنا أن إرادة الله نفسه قد لا تتحقق، فالإرادة بحد ذاتها غير كافية لتحقيق الأمر، ولهذا نفهم أنّ الله إذا أراد شيئاً قد لا يكون، وسنرى لاحقاً كيف يحقق الله إرادته، أي كيف يفعل الله ما يريد.
وبهذا نفهم التضارب الظاهر في الآيتين التاليتين:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ القصص  83
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 139

فالله يقضي أنّ الدار الآخرة لا تكون للذين يريدون أنْ يعلوا في الأرض وفي الوقت ذاته يخبر المؤمنين أنهم هم الأعلون، فكيف يمكن تفسير ذلك؟ فبعيداً عن التأويلات المجازية، فإننا نزعم الظن بأنّ افتراضنا السابق ربما يحل مثل هذه الإشكالية بكل يسر وسهولة، فالله يقول أنّ الدار الآخرة تكون للذين لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا، وهذا يعني أنّ ما هو مطلوب هو فقط الإرادة، فإذا لم تكن إرادتك العلو فإنّ الدار الآخرة هي لك حتى وإن حصل لك العلو في الدنيا، فالمطلوب من المؤمن ليس "عدم العلو في الأرض" وإنما أنْ لا تكون إرادته كذلك (أي العلو في الأرض). وبالتالي لا تتنافر إرادتك مع إرادة خالقك كما في قوله تعالى:
"... تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ َاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الأنفال 67
وكذلك نفهم التضارب الظاهر بين قوله تعالى:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ الشورى (20)
وقوله تعالى:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ القصص (77)
إن مراد القول هو: لا ضير أن تعمل لدنياك ولكن لا تجعلها إرادتك ومقصدك فتهلكك.
فخلاصة القول هو الافتراء بأنّ الإنسان مسيّر بإرادته وليس بإرادة الله، صحيح أنّ إرادة الله هي الخير له دائماً، ولكن إنْ آثر هو غير ذلك فالله لا يمنعه، وهذا (كما ذكرنا سابقاً) هو العدل الإلهي، فلو لم تكن إرادة الإنسان مستقلة عن إرادة خالقه لأصبح معنى الحياة عبثاً لأنّ الجميع سيكونون مسيّرين لا مخيّرين وبذلك ينتفي التميز بينهم، ولكن لمّا كان كل إنسان – في ظننا- مستقل الإرادة أصبح من السهل علينا فهم قول الله تعالى:
لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الأنفال 37
مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ آل عمران 179
وبذلك لا تكون الحياة مسرحية كل فصولها معدّة مسبقاً، وسنرى لاحقاً أنّ ما هو مطلوب من الإنسان (أي إنسان) ليس إلاّ إصلاح إرادته حتى يتحصل له الإيمان، ولا يكون في الطرف الآخر، طرف الهوى والشيطان، وإنْ صح هذا القول فإننا ندعي كذلك أنّ الأمر لا يتطلب الجهد الكبير، إنها فقط مقارعة إرادة الشر التي في النفس وإرادة الشيطان المسعرة لها، فلا يجوز لأي إنسان أنْ يتعذّر عن اللحاق بركب المؤمنين بسبب صعوبة العمل، فالمطلوب هو فقط أنْ لا تتحصل لك الإرادة بالشر، وإنْ هي حصلت أنْ تكبح جماحها، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا النساء 76
فنبي الله يوسف لم يترك بيت العزيز ولم يهرب من الفتنة وإنما جل ما فعل هو "صفاء الإرادة" فتوجه إلى ربه قائلاً:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ يوسف 33
فكانت النتيجة:
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يوسف 34
وإنما من أراد المعصية وأصرّ عليه، فما كان الله ليمنعه عنها:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ الأنعام 110   
ولهذا نرى أنّ من أكره على المعصية غير محاسب عليها، أما من اتخذ الكفر عن إرادته الخاصة فهو المحاسب عليها المتحمل لتبعاتها:
مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ النحل 106
وقد يقول قائل: إذا كانت إرادة الله غير نافذة في كل أمر فكيف يمكن تفسير قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ؟ الحج 14
فنقول نعم "أنّ الله يفعل ما يريد"، ولكن لنتذكر أنّ إرادة الله هي الخير دائماً، فما يريده الله لا يمكن أنْ يكون به السوء للناس وحتى للكافر والمكابر والمجاهر بالمعصية، أما ما نود تأكيده هو إنْ أراد الإنسان نفسه أنْ تخالف إرادته الذاتية إرادة الله له بالخير فالله لن يمنعه ذلك، ولو منع الله الناس تحقيق إرادتهم لأنها تتعارض مع إرادته لما استطاع الإنسان الوقوع في المعصية إطلاقاً ولأصبح الإنسان بذلك كبعض مخلوقات الله الأخرى المسيرة طوعاً أو كرهاً:
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فصلت 11
ولهذا نرى كذلك لِمَ لا يقبل الله الأعمال إنْ لم تكن صادرة عن "إرادة" خالصة لله، فالمؤمن قد ينفق من أمواله على الفقراء وكذلك قد يفعل الكافر، ولربما نرى أنّ بعض الكافرين يفعلون من الأعمال الخيرية أضعاف أضعاف ما قد يفعله المؤمنون، ولكننا (حسب عقيدتنا) نؤمن أنّ ذلك لن يكون محسوباً لصالح الكافر في ميزان الله:
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا الفرقان 23
إنّ ما هو مطلوب من المؤمن هو أنْ تتطابق إرادته مع إرادة الله له بالخير، أما إنْ هو آثر إرادته الخاصة فله ذلك وهو من سيتحمل تبعاتها وخصوصاً إنْ هو أصرّ عليها ولم يعدل عنها بالتوبة قبل فوات الأوان، وهذا ما نفهمه من معنى التسيير والتخيير، فلب القول أنّ الإنسان مخير بإرادته التي قد لا تتطابق مع إرادة خالقه.
وهنا يبرز تساؤل مثير آخر وهو: كيف يسير الكون إذاً إن لم يكن مسير كله بإرادة الله؟
رأينا: فنقول أنه كما لله إرادة فله أيضاً مشيئة. ولكن يجب أنْ فهم أولا ما معنى مشيئة الله وكيف تختلف عن مشيئة غيره، وأخيراً علينا أن نفهم كيف يسير الكون وكيف لا يتنافى ذلك مع معنى التسيير والتخيير.
نتيجة مفتراة: الإنسان مخير بإرادة الله، فإرادة الله غير ملزمة له، لذا نقول أن الإنسان مخير بالإرادة.

المشيئة: الإنسان مقيّد بالمشيئة
مشيئة الله: لا شيء في الكون يعارض مشيئة الله
لقد توصلنا إلى الفهم السابق أنّ لله إرادة وللإنسان إرادة وقد تتعارض إرادة الإنسان مع إرادة خالقة فتكون النتيجة حينئذ الوقوع بالمعصية، ولكن إنْ آثر الإنسان أنْ لا تتعارض إرادته مع إرادة خالقه وسلك طريق النجاة فله ذلك، فالإنسان من هذا المنطلق (أي من حيث الإرادة) مخيّر وليس مسيّر.  ولكن عندما نأتي للحديث عن مشيئة الله فيجب أنْ نفهم قبل كل شيء أنّ هذه ليست اختلاف مسميات لشيء واحد، فمشيئة الله تختلف عن إرادة الله، ولكن كيف؟
رأينا: إنّ مشيئة الله (على غير إرادة الله) لا يمكن أنْ تتعارض معها مشيئة غيره، فالإنسان له مشيئته ولكن يجب أنْ ندرك استحالة أنْ تتعارض مشيئة الإنسان مع مشيئة خالقه مصداقاً لقوله تعالى:
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا الإنسان 30
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التكوير 29
والحالة كذلك يكون الإنسان في هذا الجانب مسيّراً غير مخيّر وليس له من الأمر شيئاً، وهنا ينبري البعض لإثارة التساؤل نفسه: ما دام أنّ مشيئة الإنسان مرتبطة بمشيئة خالقة، فكيف إذاً يمكن للإنسان أنْ يقع في معصية خالقه؟ فلقد ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان يقع في المعصية لأنّ إرادته قد تتعارض مع  إرادة خالقه، فتقع في  نفسه المعصية التي لا يرضاها له ربه، ولكن المسألة هنا مختلفة، فكيف يقع الإنسان في المعصية ما دامت مشيئة ذلك الإنسان مرتبطة بمشيئة ربه الذي لا يرضى بالمعصية؟
أولاً، لم تقضي مشيئة الله أنْ لا يقع الإنسان في المعصية، بل ترك مشيئة الناس نافذة حتى وإنْ كانت في الكفر:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فصلت 40
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ الزمر 15
ثانياً، لم تكن مشيئة الله تقضي الإلزام بخيار واحد، بل كان هناك الخيار الآخر قائماً:
وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ الأنعام 107
قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ الأنعام 149
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ هود 118
فهل قضت مشيئة الله بأنْ لا يشركوا؟ وهل قضت مشيئة الله بهداية الناس جميعاً؟ وهل قضت مشيئة الله بأنْ يكون الناس كلهم أمة واحدة؟ الجواب هو كلا، فلقد أشرك أغلبية الناس، ولم يهتد الجميع، وتفرق الناس شعوباً وقبائل. وهذه الأمور كلها لا ترضي الإله بكل تأكيد، أليس كذلك؟
وبالمقابل ألم تنفذ مشيئة الله في الخير؟
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يونس 16
ألم تنفذ إذاً مشيئة الله بأنْ أرسل رسوله ليتلوا علينا آياته؟ فلب القول إذاً هو أنّ مشيئة الله لم تكنْ لتقضي دائماَ بهداية الناس أو أنْ تقضي دائماً بضلالهم، لم تكن تقضي بالخير على الإطلاق، فهي إذاً مشيئة الناس أنفسهم، إنْ هي خير فخير وإنْ هي شر فشر،  فارتباط مشيئة الناس بمشيئة الله لا تعني أنّها موجهة بطريقة واحدة، فالإنسان بالرغم من ارتباط مشيئته بمشيئة خالقه لا يكون مسيراً، بل هو لا زال مخيراً، فلو قضت مشيئة الله بخيار أوحد وارتبطت مشيئة الإنسان بمشيئة خالقه لكان الإنسان عندها مسيّراً لا يملك من أمره شيئاً، ولكن وجود الخيار بالخير والشر واستطاعت الإنسان (لأن الفرصة متاحة له) الوقوع في كليهما يعني أنّه غير مجبر، وأما قول الكافرين في الآية التالية:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ الأنعام 148
فهو من باب الكذب الواضح لأنّه مبني - كما توضح الآية نفسها- على الظن، وذلك لأن الاختيار قائم بين نقيضين لكل منهما نفس الفرصة، وبكلمات أخرى فأنت عندما ترمي حجر النرد ألا يكون لكل جهة نفس الفرصة في الظهور؟ وألا تكون فرصة الصورة كفرصة الكتابة عندما تقذف قطعة نقد؟ ألا يكون لكل طرف في قطعة النقد نفس الفرصة في الظهور؟ فكيف بك تعود بعد أنْ يتم قذف القطعة ومعرفة النتيجة أنْ تقول هي مقدّرة مسبقاً أنْ تكون هذه أو تلك؟ فهل قذفتها ولديك العلم الذي يؤهلك لمعرفة النتيجة في كل مرة قبل أنْ تقذفها؟ إنْ كان كذلك فحق لك أنْ تدعي أنّها مقدّرة مسبقاً، ولكن إنْ لم تكن تملك العلم بها وكان جلّ ما تستطيع هو فقط الظن بأنْ تكون إما هذا أو ذاك، فأنت إذاً تملك فرصة متساوية لكل احتمال، وبلغة رياضية فأنت لديك فرصة 50% أنْ تكون من أصحاب اليمين، كما تملك في الوقت ذاته فرصة 50% أنْ تكون من أصحاب الشمال، وما هي إلاّ مشيئتك أنت أنْ تقرر إلى أي طرف تحب أنْ تنتمي، فترجع خطوة إلى الوراء (إلى إرادتك) لترى إلى أي الفريقين هي أقرب، ولتتذكر الآن أنّ الله –كما ذكرنا سابقاً- قضى بأنْ تكون إرادتك مستقلة عن إرادة غيرك حتى وإنْ كان خالقك، فتكون بذلك مخيّرا محاسباً على تبعات اختيارك.
وهذا الخيار موجود في كل آية يقتبسها المجادل ليتحدى أنّ الأمور محسومة مسبقاً، ولنقرأ بعض هذه الآيات ونرى الدقة والروعة في التصوير القرآني لهذا التخيير:
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ النحل 93
فلقد اقتبست مثل هذه الآية الكريمة من الكثيرين لتدليل على عبثية إهدار الجهد في الهداية أو الضلال لأنّ ذلك مقروناً بمشيئة الله، فكما تشير الآية الكريمة فإنْ شاء الله لك الهداية اهتديت، وإنْ لم يشاء لك الهداية ضللت، فنقول نعم هو كذلك ولكننا نود أنْ نجلب انتباه القارئ إلى أنّه غفل عن قراءة أخرى للآية القرآنية، فنحن ندعي أنّ هذه الآية يجب أنْ تقرأ على وجهين لتعطي معنيين في ظاهرهما متناقضين ولكن في جوهرهما متطابقين.
فغالباً ما قرءت هذه الآية وأمثالها على أنّ ضمير الفاعل (أي الضمير المستتر المقدر للفعلين يشاء ويهدي) عائد على الذات الإلهية، فيكون المعنى بذلك "يشاء الله ويهدي الله"، ولكن ألا توجد قراءة أخرى؟ فما قولك بأنّ ضمير الفاعل المستتر للفعلين "يشاء ويهدي" يعود على الشخص نفسه، فيكون المعنى أنَ الله يضل من يشاء الضلالة ويهدي من يشاء الهداية، وقبل التسرع في رفض هذه القراءة فإننا ندعو القارئ الكريم أنْ يأخذ ما يكفي من الوقت لتدبر القراءتين، فلتقرأ الآية بالوصل بعد الفعل "يضل" والفعل "يهدي" عل نحو:
وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء    وَيَهْدِي مَن يَشَاء
ثم تعاود القراءة بالوقف بعد كل فعل على نحو:
وَلكِن يُضِلُّ    مَن يَشَاء  وَيَهْدِي     مَن يَشَاء
وإنْ لم يكن الأمر كذلك، وفَهِمَ الناس أنّ الله هو نفسه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويغفر لمن يشاء على إطلاقه، فكيف يمكن تفسير الآيات التالية:
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا النساء 48
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا النساء 116
فتساؤلنا هو على النحو التالي: إذا كان الله يغفر لمن يشاء ويهدي من يشاء ويعذب من يشاء على إطلاقها، فلِمَ قرر على نفسه أنْ لا يغفر لمن لا يشرك به؟ أي لم قيّد مشيئته بأنْ لا يغفر لمن يشرك به؟ إنّنا نزعم الظن أنّ الأمر ليس كذلك، والآية القرآنية تقرأ على نحو أنْ الله لا يغفر لمن يشرك به كقانون إلهي، وفي الوقت ذاته يقضي بأنّ يغفر ليس لمن يشاء هو أنْ يغفر له وإنما للعبد الذي شاء هو نفسه أنْ يهديه الله، وبهذا يكون المعنى أن ّ الله لن يغفر لمن أشرك به سواء شاء العبد ذلك أم لم يشاء، ولكن الله سيهدي العبد الذي اقترف من الذنوب ما هو أصغر من الشرك إنْ طلب العبد نفسه تلك المغفرة، ولنتذكر أمراً غاية في الأهمية يثبت صحة ما ندعي وهو: هل يتقبل الفكر الإسلامي فكرة أنْ الله يغفر لمن لا يطلب المغفرة بنفسه؟ وإذا كان الجواب بالنفي قطعاً، فكيف إذاً يغفر الله لمن يشاء هو، خصوصاً إذا كان العبد غير طالب لتلك المغفرة؟
ثالثاً، إذا كان المعنى ليس كذلك فكيف يمكن فهم مثل الآيات التالية؟
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة 256
وبكلمات أخرى كيف إذاً يُنسَبْ الإيمان بالله والكفر بالطاغوت (أو عكسهما) للشخص نفسه؟
رابعاً، لابد من فهم معنى المشيئة كما ترد في السياق القرآني،  ونحن نفتري الظن بأنّ المشيئة تعني ما قدّر الله من احتمالات الإدراك والفعل بمجملها، أي ما يمكن أنْ يحصل بغض النظر عن علم الإنسان أو جهله، فلو افترضنا أنّ الإنسان يريد القيام بعمل ما، فما هي احتمالات وقوع الفعل وكيفيته؟ إن الجواب هو بكل تأكيد احتمالات كثيرة جداً لا يعلمها إلا الله، وكون الإنسان قد اختار واحدة منها لا يعني أنّ الله قد أختار ما شاء الله نفسه له على وجه الخصوص، بل تعني أنّ ما اختاره الإنسان لم يخرج عن نطاق الاحتمالات الكثيرة التي قدّرها الله، فجل القول أنّ الله قدّم مشيئته على شكل اختيارات كثيرة، وجعل ارتباط مشيئة الإنسان بمشيئة الله هي – في ظننا- من نوع اختيار الواحد من المتعدد على نحو:
مشيئة الله ح1 ح2 ح3 ح4 ح5 ح6 ... ح ن
مشيئة الإنسان     ح س
وليست اختيار واحد من واحد كما في الشكل:
مشيئة الله ح س
مشيئة الإنسان ح س
وهذا النوع الأخير من الاختيار (اختيار الواحد من واحد) ورد في القرآن الكريم ليس عند الحديث عن المشيئة وإنما عند الحديث عن الإذن الإلهي، ونحن ندعو القارئ الكريم إلى التفكر بالفرق بيت قوله تعالى "إِلاَّ بِإِذْنِه" وقوله "إِلاَّ بِمَا شَاء"، فنحن نظن أنّ ذلك ليس تبديلا لمفردات تؤدي نفس الغرض، بل العكس تماما، إنها معاني مختلفة.
قال تعالى:
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة 255
فالشفاعة لا تتم إلاّ بإذن الله (لأنها تعني إما شفاعة أو لا شفاعة):
... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ...
ولكنّ الإحاطة بشي من علم الله –بالمقابل- لا تتم إلا بمشيئته:
... وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء...
والسبب في لك هو – برأينا- يعود إلى أنّ الاحتمالات كثيرة في هذه الحالة، فعلم الله لا يحتمل الثنائية(binary)  كما الحال في الشفاعة، وبتقصي الآيات الكريمات التي يرد فيها الإذن الإلهي نظن أنّها جميعاً تحتمل الثنائية (حصول الشيء أو عدمه) وبالتالي فهي تعني الإلزام بواحدة من خيارين لا ثالث لهما، أما آيات المشيئة فتقتضي التعددية (plurality) ولذا فهي تستلزم الاختيار، قال تعالى:
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ يونس (99)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ يونس 100
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ هود 105

*** *** ***
وهنا يبرز التساؤل التالي: متى تنفذ المشيئة؟ أي يجب أنْ نفهم ما هي المشيئة النافذة (متى تنفذ المشيئة ومتى لا تنفذ).  
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن القرآن الكريم يثبت لنا بأنّ مشيئة الله قد لا تنفذ للمؤمن (كما يطلبها) فكيف بها أنْ تنفذ بالمغفرة لمن لا يطلبها! وبكلمات أخرى، فإننا نزعم القول بأنه حتى لو ربط العبد المؤمن أمره بمشيئة الله ففد لا تنفذ له تلك المشيئة. وإنْ صح هذا الإدعاء بالنسبة بالمؤمن فالأمر بالنسبة لغير المؤمن ليس أفضل حالاً، لأنه من باب أولى أنْ تنفذ مشيئة الله للعبد المؤمن كما يطلبها على أن تنفذ لغير المؤمن. وقد يرد البعض على الفور بالقول وهل فعلاً لم تنفذ مشيئة الله للعبد المؤمن إنْ هو طلبها؟
جواب: نقول نعم، لم تنفذ مشيئة الله حتى لمن طلبها من عباده المؤمنين، فالقرآن الكريم يورد الأمثلة على نفاذ مشيئته للعبد المؤمن إنْ هو طلبها ويورد كذلك أمثلة على عدم نفاذ تلك المشيئة للعبد المؤمن حتى وإنْ طلبها، ولنقرأ الموقفين التاليين:
  1. موقف خاص بموسى
قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا الكهف 69
  1. موقف خاص بإسماعيل
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ الصافات 102
فها هو نبي الله موسى عليه السلام يطلب صحبة ذلك الرجل ويؤكد له أنّه "بمشيئة الله" سيصبر على صحبته، وذاك نبي الله إسماعيل يطلب منه والده الامتثال لأمر الله بالذبح، فيكون رده على طلب أبيه أنّه "بمشيئة الله" سيصبر على ذلك، والسؤال البسيط هو: ماذا كانت مشيئة الله في الحالتين؟ فهل صبر موسى على صحبة ذلك الرجل الصالح؟ الجواب هو النفي بكل تأكيد:
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا الكهف 72
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا الكهف 75
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا الكهف 78
وبالمقابل، ألم يصبر إسماعيل على أمر الله؟
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الصافات 103-105
السؤال: لو كانت مشيئة الله نافذة على إطلاقها، فلِمَ لَمْ يصبر موسى على صحبة ذلك الرجل بالرغم أنّه ربط مشيئته بمشيئة الله؟ وبنفس المنطق نسأل: لم صبر إسماعيل على أمر الله عندما ربط مشيئته بمشيئة الله؟
رأينا: إنّ الافتراض أنّ ذلك أمر خاص بالله يعني بالضرورة العشوائية في أحكام الله (تنزه وتعالى عن ذلك)، فها هي مشيئته تنفذ لموسى بأنْ لا يصبر بينما تنفذ مشيئة الله لإسماعيل فيصبر على الرغم أنّ الطلب واحد والطالب في كل حالة نبي من أنبياءه.
افتراء من عند أنفسنا: إنّنا نعتقد أنّ الأمر ليس تلك الشاكلة التي صوّرها لنا علماؤنا الأجلاء، فالله هو الحكم العدل وهذا يعني بمنطقنا المفترى أنّ صبر موسى وصبر إسماعيل لم يكن مصدره من الله (لأنه لو كان الأمر متعلق بمشيئة الله لنفذت لموسى كما نفذت لإسماعيل). ولكننا نظن إنّ الأمر نابع من موسى نفسه ومن إسماعيل نفسه، فلَمْ يصبر موسى على صحبة الرجل ليس بسبب مشيئة الله وصبر إسماعيل ليس بسبب مشيئة الله  (فمشيئة الله نافذة بالتساوي لكل منهما) وإنّما لأمر آخر يخص كل منهم بذاته، وإلاّ كيف يمكن فهم أنّ نبي الله موسى لم يصبر على صحبة الرجل بالرغم من ربطه ذلك بمشيئة الله بينما نفذت مشيئة الله لقومه عندما طلب منهم ذبح البقرة بالرغم من ما وقع في أنفسهم من الأمر في البداية:
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
فجل القول هو أنّ كلاًّ من موسى وإسماعيل ربطوا مشيئتهم بمشيئة خالقهم ولم تنفذ المشيئة لموسى ونفذت لإسماعيل لأمر لا يتعلق بالمشيئة، وإلاّ لكانت مشيئة الله نافذة بنفس الطريقة في كلا الحالتين، فكلاهما نبي مكرم، وخصوصاً إذا علمنا –كما ذكرنا سابقاً- أنّ الله لم يرد طلباً لموسى قط. إنّنا ندعي أنّ ربط موسى وإسماعيل مشيئتهم بمشيئة ربهم ليس لغرض تحقيق المشيئة أو عدمها وإنما من باب قوله تعالى:
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) الكهف 23-24
فحتى في الأمر غير الصالح يربط الإنسان المؤمن مشيئته بمشيئة ربه، مصداقاً لقوله تعالى:
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن _ يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ الأعراف 89
نقول – حسب فهمنا لما في هذه الآية الكريمة- أنّه حتى عدول الإنسان عن الإيمان إلى الكفر لا يتم إلا بمشيئة الله، وهذا بالضرورة يعني أنّ مشيئة الله ليس لها دخل بتمييز جهة على حساب جهة، فمشيئة الله بالإيمان موجودة ومشيئة الله للناس بالكفر موجودة كذلك، فالله قد يشاء لك الإيمان كما قد يشاء لك الكفر، وفي هذا فرق كبير بين مشيئة الله وإرادة الله، ففي حين أن الله قد يشاء لك الكفر لكنه بكل تأكيد لا يريده لك. فكيف إذن تختلف مشيئة الله عن إرادة الله؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أنّ مشيئة الله إنما تعني تدبير الأمور عن علم، ففعل أي شي (سواءً كان من الخير أو الشر) لا يتم إلا بمشيئة الله (أي بعلم الله فيه)، وتدبر معي – عزيزي القارئ- تكملة الآية نفسها "وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا":
... وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا...
فتلك هي – في ظننا- مشيئة الله، إنها "العلم بكل الاحتمالات القائمة"، ويتمثل عجز الإنسان في عدم قدرته الخروج عن حدود تلك الاحتمالات (وليس باختيار واحدة من هذه الاحتمالات)، فالإنسان لا محالة محكوم بتلك الاحتمالات فلا يستطيع الخروج عنها لذا عليه أن يختار واحدة منها، فهو لا يستطيع الإتيان باحتمال لم يحط الله به علماً من قبل، قال عز وجل:
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة 255
وبهذا – في رأينا- يتحقق معنى قوله تعالى "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"، وذلك لأنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يغافل ربه فيحدث ما لم يكن يعلم، وإنْ صحّ هذا الاستقراء تصبح المشيئة كما تصورها هذه الآيات جميعاً الإحاطة بالعلم كله، أما ما يخص تحقيق الأمر أو عدمه فهذا يتعلق بالشخص نفسه، فكما ذكرنا سابقاً تحققت المشيئة في حالة إسماعيل وقوم موسى ولم تتحقق في حالة موسى نفسه لأمر يخص موسى وإسماعيل وقوم موسى وليس بسبب مشيئة الله.
وهنا يتساءل القارئ عن سبب عدم تنفيذ الله لموسى مشيئته مثلاً بالرغم أنّه ربطها بمشيئة الله؟
رأينا: نحن نجزم الظن أنّه لو نفذت مشيئة الله لموسى بالصبر لناقض القرآن الكريم بعضه بعضا، وسنحاول في الحال تفسير كيف أنّ عدم نفاذ مشيئة الله لموسى كما أرادها موسى نفسه هي الأمر الحق. ولكن كيف ذلك؟
جواب: ربما يعرف الجميع قصة موسى مع ذاك الرجل الصالح، فلقد طلب موسى صحبة ذلك الرجل لأنّ ذلك الرجل كان يملك علما من لدن الله، فقال تعالى:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا الكهف 65
وربما يعرف الجميع أنّ جزءا من علم ذلك الرجل تمثل في القدرة على المعرفة المستقبلية، فلقد أعلمهم بخبر السفينة، وأعلمهم كذلك بخبر الغلام والجدار، وعن السبب الذي جعله يخرق السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار، ونحن نؤمن ونصدق أنّ ذلك كان عن علم (إي العلم الذي علمه إياه ربه)، أليس كذلك؟ الجواب نعم بكل تأكيد، فذاك الرجل كان يخبر عن علم، وقد يقول قائل وما دخل ذلك بعدم نفاذ مشيئة الله بطلب موسى الصبر على صحبة ذاك الرجل الصالح؟ نقول أنّ موسى قَدِمَ طالباً صحبة ذلك الرجل ولكن لا ننسى أنّ ردة الفعل الأولى لذاك الرجل الصالح على طلب موسى:
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا الكهف 67
فهل سيستطيع موسى إذاً الصبر على صحبة ذلك الرجل؟ ألا يملك ذلك الرجل العلم من ربه؟ لقد علم ذلك الرجل (بما علمه الله) أنّ موسى لن يصبر على صحبته، ولكن لشغف موسى مصاحبة الرجل يرد عليه قائلاً:
قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا الكهف 69
السؤال: هل كان ربط موسى كلامه بالمشيئة يكفي لأن تتحقق تلك المشيئة؟
رأينا: نحن نظن أن موسى قد قال ذاك الكلام لكي يضمن صحبة الرجل، كقول الناس العاديين "إن شاء الله" إنْ شعروا هم أنْ لا حول لهم ولا قوة، وحتى يرى موسى بأم عينه أنّ علم ذاك الرجل حقيقي، لم يجادل ذاك الرجل موسى فقبل صحبته، وكان أول ما أثبت له الرجل من علمه أنه لن يصبر على صحبته كما أخبره من قبل. والسؤال الذي نود إثارته على نحو: لو حقاً نفذت مشيئة الله لطلب موسى الصبر على صحبة الرجل، فكيف إذاً سيصح قول الله في ذلك  الرجل:
"... آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" الكهف 65
فالاختيار هو على النحو التالي:
  1. نفاذ المشيئة بصبر موسى على صحبة الرجل ومن ثم تكذيب قول الرجل الصالح أنّ موسى لن يصبر على صحبته
  2. عدم نفاذ المشيئة بصبر موسى على صحبة الرجل وتصديق قول الرجل أنّ موسى لن يصبر على صحبته
فيكون السؤال هو: أي الخيارين قد حصل فعلاً؟
إنّنا نزعم الظن بأنّ قول العبد الصالح لا يمكن تكذيبه لأنّه صادر عن علم حقيقي تلقاه مباشرة من ربه (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)، فموسى لا يمكن له أنْ يصبر على صحبة الرجل سواء ربط الأمر بمشيئة الله أو لم يربطه، فمشيئة الله تحتمل أنْ يصبر موسى أو أنْ لا يصبر، فالله نفسه لم يتدخل ليجعل موسى يصبر وفي الوقت ذاته لم يتدخل ليجعله لا يصبر، فالأمر متروك لمشيئة موسى نفسه، فإن شاء صبر وإن شاء لم يصبر.
نتيجة: فيكون بذلك الاحتمال الثاني هو (عدم صبر موسى) الأولى حتى لا يناقض القرآن بعضه بعضاً (أي ليصدق قول الله في علم ذاك الرجل).
أما في شأن إسماعيل، فمشيئة الله تحتمل لإسماعيل الصبر كما تحمل له عدم الصبر (كما كان الحال بالنسبة لموسى) وكون إسماعيل صبر على أمر الله لا يعني أنّ الله قد قدرّ له مشيئة معينة دون أخرى. ولتأكيد فكرة توافر مشيئة الله في الاتجاهين نورد قصة ذبح البقرة التي طلبها نبي الله موسى (بأمر ربه) من قومه:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) البقرة 67-71
وقد يظن البعض أنّ القوم ذبحوا فعلاً البقرة لربط الأمر بمشيئة الله في قولهم "وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"، فنقول كلا، فالأمر ليس كذلك، فلقد ربط نبيهم موسى صبره بمشيئة ربه ولم يستطع الصبر على صحبة الرجل الصالح، فالمشيئة كما ذكرنا سابقاً تحتمل الوجهين (فعل الشيء وعدم فعل الشيء)، وما قولهم ذاك إلا من باب –كما ذكرنا سابقاً- "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ..."، وقد يبادرنا البعض بالقول ولماذا نفذت مشيئة الله هنا بذبح البقرة؟ نقول لو كان الأمر يتعلق بمشيئة الله ذاتها لكان عدم ذبح البقرة أولى لعلمنا أنّ الله أتبع ذلك بقوله "فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ"، فالقوم كانوا في شك من الأمر ولم يكونوا أصلاً عاقلين له، ومع ذلك (وعلى الرغم مما في نفوسهم من الريبة) نفذت المشيئة بذبح البقرة، والسؤال المشروع هو: لماذا؟
رأينا: إنّنا نعتقد أنّ الجواب غاية في البساطة فهو موجود في نفس الآيات السابقة، ولنكرر الآية نفسها للوصول إلى الإجابة التي نظن أنها صحيحة:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ البقرة 67
فلقد نفذت المشيئة بذبح البقرة ليس لربط بني إسرائيل ذلك بمشيئة الله وإنما –كما نظن- لسبب آخر وهو أنّ الله قد أصدر أمره بذبحها، فجاء بنص الآية "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً"، فما يكون لبني إسرائيل ولا لغيرهم (سواء ربطوا الأمر بمشيئة الله أو لم يربطوا) أنْ يمنعوا (أو أنْ ينفذوا) مشيئتهم لشيء كان الله قد اصدر أمره فيه، وهذا ينقلنا مباشرة إلى موضوع جديد وهو قول الله

القول: الإنسان محكوم بالقول
قول الله: يحقق المراد
لقد ناقشنا سابقاً الافتراض أنّ لله إرادة ولله مشيئة وحاولنا تبينا الفرق بين إرادة الله ومشيئة الله وعلاقة ذلك بإرادة الإنسان ومشيئته، وقد افترضنا إمكانية التعارض بين إرادة الإنسان وإرادة خالقه (فيبقى الإنسان له مطلق الحرية في ما يريد) وعدم إمكانية تعارض مشيئة الإنسان مع مشيئة خالقه (ويصبح الإنسان مقيد في الاختيار من عدة بدائل لا يستطيع أن يضيف إليها شيئا). ولكن المهم بالقول هو أن الإنسان يبقى في الحالتين مخيرا غير مجبر، لانّ الله ترك إرادة الإنسان مستقلة عن إرادة خالقه على نحو:
إرادة الله ح1 ح2 ح3 ح4 ح5 ح6 ... حن
إرادة الإنسان ح1 ح2 ح3 ح4 ح5 ح6 ... حن
وأنفذ مشيئته بالتعدد وليس بالإفراد فترك بذلك الباب مفتوحا للإنسان حتى يختار أي الطرق يسلك:
مشيئة الله ح1 ح2 ح3 ح4 ح5 ح6 ... حن
مشيئة الإنسان حس
وقد يقول الإنسان بما أنّ إرادة الله ليست ملزمة ومشيئته تقضى الاختيار فكيف يفعل الله ما يريد، نقول أنّ ذلك لا يتحقق إلا بقول الله، فنحن نفتري القول بأنّ الأمور لا تتحقق على أرض الواقع إذا أرادها الله أو إذا شاء الله لها أنْ تحدث، فكم من أمر يريده الله ويحصل نقيضه، وأكبر مثال على ذلك الكفر والشرك و الظلم، فهل يريد الله الكفر أو الشرك أو الظلم؟ ولكن ألا يوجد كفر وشرك وظلم؟! وألَمْ يذكر الله في عشرات المواقع في كتابه الكريم أنّه لو شاء لكان كذا وكذا، ولكن لِمَ يحصل نقيض الأمر؟ أي لم تجري الأمور على شكل مغاير لما يريده الله ولما يشاءه؟ (والقارئ مدعو لمراجعة باب الإرادة وباب المشيئة السابقين). ولكن كيف ينفذ الله ما يريد أو ما يشاء؟
افتراء من عند أنفسنا: إنّنا نزعم الظن أنّ الأمور لا تتحقق على أرض الواقع  إلاّ في حالة واحدة: إذا صدر  بحقها قول الله. وهذا يعني أنّ الله يفعل ما يريد فقط عندما يصدر قوله فيه، ولنتدبر الآيات الكريمات التي تبين نفاذ قول الله:
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ البقرة 117
"...إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ آل عمران 47 إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ آل عمران 59        وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الأنعام 73
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ النحل 40
مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ مريم 35
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس 82
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ غافر 68
فهذه الآيات الكريمة تؤكد جميعها التلازم بين القول والتنفيذ، فإذا أراد الله أمراً ما وقضت مشيئته بذلك فإنه يصدر قوله فيه، وهذا يعني أنّ الأمر لا يتحقق بمجرد الإرادة وإلاّ لجاء قول الحق على نحو:
إنما أمرنا إذا أردناه يكون
أو على نحو
وإذا قضى أمراً فإنما يكون
أو على نحو
إذا أراد  شيئاً يكون،
وهكذا
فهذه الصيغ لا ترد في القرآن الكريم على الإطلاق، فجل القول أنّه لو وردت مثل هذه الصيغ لكان الأمر يتحقق بمجرد حصول إرادة الله فيه، وهي لم ترد كذلك على نحو "إنما أمرنا إذا شئناه يكون"، ولو كان الأمر على هذا النحو لأصبح الإنسان (كباقي مخلوقات الله) مسيراً غير مخير. ولكن قضت حكمة الله بأنْ لا يتحقق الأمر إلاّ عند صدور الأمر الإلهي بالقول فيه، وعندها فقط تتوقف إرادة الإنسان ومشيئته ويكون حينها مسيراً غير مخير، مصداقاً لقوله تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا الأحزاب 36
وهذا ما نسميه بقضاء الله الذي لا يقع إلا إذا صدر أمر الله فيه بالقول. والسؤال هنا يكون على نحو: كيف يقضي الله أمره كما تورد هذه الآية الكريمة؟ الجواب هو قوله تعالى:
"... وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ البقرة 117
"...إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ آل عمران 47 "...إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ مريم 35
"...فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ غافر 68
وهذا يعني – في ظننا- أنّ تحقيق الأمر يمر بثلاثة مراحل: (1) حدوث الإرادة فيه، (2) صدور المشيئة (قضاء الله) وصدور القول فيه
المشيئة (القضاء) ح1 ح2 ح3 ح4 ... ح ن
الإرادة: ح س
القول ح س
وبكلمات أخرى، فإذا ما حصلت إرادة الله بشيء، فإن الله (بعلمه) يعلم جميع الاحتمالات (اللامنتهية والتي لا تخرج عن نطاق مشيئته) فيصدر قوله بواحدة منها وهي ما اختارته إرادته من مشيئته : وهو ما يتحصل بالفعل على أرض الواقع. ولنأخذ المثال التالي لتوضيح الفكرة.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا     الإسراء 16
ولنلحظ الدقة الرائعة في هذا التصوير القرآني، فالله يقول إذا أراد حصول الهلاك لقرية ما:
الإرادة الإلهية: حصول الهلاك لقرية ما
فهل يحصل ذلك الهلاك مباشرة لمجرد حصول إرادة الله بذلك؟
الجواب: بكل تأكيد لا، ولكن حتى يحصل الأمر على أرض الواقع فلابد أن ينتقل الأمر إلى مشيئة الله (أي قضاء الله) للإحاطة بجميع الاحتمالات الممكنة؟ وقد يستغرب القارئ ويقول وأين ذلك في الآية القرآنية نفسها؟ فنقول: أنّ ذلك وارد في لفظة أمرنا.
ولعل من المفيد أنْ نتوقف هنا للحظة لفهم هذه الآية التي نظن أنّها قد أشكلت على الفهم العام، فكثير من ظن أنّ الآية تعني أنّ الله قد أمر مترفي القرية بارتكاب الفسق (انظر تفسير القرطبي مثلا)، فنقول أنّ ذلك غير صحيح على الإطلاق، وإلاّ كيف يمكن إذاً فهم قوله تعالى؟
"...قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ الأعراف 28
ولعل في ذلك خطورة كبيرة أنْ لا يتم مقارنة ما يأمر به الله وما يأمر به عدو الله وعدو الإنسان وهو الشيطان:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) البقرة 168-169
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء _ َالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ َسمِيعٌ عَلِيمٌ النور 21
وقد حصلت هذه المقارنة فعلاً في كتاب الله:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ البقرة 268
فنحن نستغرب كيف يفهم البعض الأمر في قوله تعالى " وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" على أنّ الله يأمر الناس بالفسق؟ أليس الأمر بالفسق من عمل الشيطان؟ فكيف يكون من عمل الرحمن؟
رأينا: إنّ ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. وفي ضوء هذه الحقائق (وهو أنّ أمر الله لا يكون بفاحشة) فكيف إذاً يمكن فهم قوله تعالى:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الإسراء 16
رأينا: إنّنا نؤمن أنّ الله لم يصدر أمره لهم بالفسق، فهذا من كذب إدعاءهم، فلقد قالوا:
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ الأعراف 28
لذا نحن نزعم الظن أنّ آية الإسراء يجب أنْ تفهم على نحو أنَ الله قد أمر مترفي القرية فقط، فتقرأ الآية بالوقف عند ذلك:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا     فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الإسراء 16
وهذا الوقف يعني أنّه لمّا صدر الأمر للمترفين، كان أمامهم الخيرات العديدة (أي مجمل مشيئة الله فيهم)، فاختاروا هم أنفسهم خيار الفسق وكان بإمكانهم اختيار غيره مما قضت به مشيئة الله لهم، وقد يبادرنا البعض بالسؤال الحتمي: وأين ذلك في الآية القرآنية؟
جواب: نحن نظن أنّ عنصر الاختيار موجود في قوله تعالى "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا"، ولكن كيف ذلك يرد صاحبنا؟ أي بماذا إذاً أمر الله مترفي القرية؟
رأينا: نرد على ذلك باستحضار قوله تعالى في مكان آخر من كتابه العزيز:
"... اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فصلت 40
نعم إننا نؤمن أنّ ذاك هو الأمر الإلهي الذي صدر لمترفي القرية "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ"، وهو أمر الله الذي يصدر للناس كافة، وهذا بالضبط ما نقصد من حصول المشيئة، أي الاختيار من الاحتمالات التي قضاها الله في اللوح المحفوظ، ويكون واحدة منها ما أحدثته تلك الزمرة وهو الفسق (ح س)
مشيئة الله: ح1 ح2 ح3 ح4 ح س (فسق المترفين) ... ح ن
وهنا يتعرض البعض للسؤال التالي: لِمَ لَمْ تختار تلك الزمرة الصلاح بدلاً من الفسق؟ أليس ذلك ما قضى الله لهم به؟ نقول كلا، ولنقرأ بداية الآية السابقة لنتأكد أنْ ليس لله دخل بفسقهم وإنما كان ذلك بإرادتهم ومشيئتهم أنفسهم:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فصلت 40
ونحن نفهم من هذه الآية أمرين اثنين: أولهما أنّ اختيارهم للفسق كان سببه إلحادهم في آيات الله (أي إصرارهم على الذنب)، فهم فسقوا بعد أن كذّبوا آيات الله، ففسقهم لم يكن سبباً لإلحادهم وإنما العكس تماماً، وثانيهما أنهم لما ألحدوا في آيات الله، قضت مشيئة الله إعطاءهم حرية العمل، فاختاروا الفسق، والحالة كذلك كان لزاماً صدور الأمر الإلهي (بالقول) بتنفيذ العقاب، ولكن على من؟  
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يونس 33
وعندما يصدر الأمر الإلهي بالقول (أي بعد تنفيذ الأمر) تنعدم عندها الحرية للإنسان ويصبح عندها مسيّراً لا مخيّراً مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ يونس 96
ولعل من المفيد أنْ نستذكر في هذا المقام أمر الله للملائكة بالسجود وردة فعل إبليس على الأمر الإلهي بالسجود لآدم:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ الأعراف 12
وهذا يعني أنّ الله قد أمر إبليس بالسجود، ولكن ماذا كانت ردة فعل إبليس على أمر الله؟ أليس الفسق؟
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف 50
نعم لقد فسق الشيطان عن أمر ربه، وكذلك فسق مترفوا القرية عن أمر ربهم. وسنعود إلى هذا التطابق في الموقفين ولكن بعد أن نتوقف لنطرح السؤال المثير التالي: لماذا رفض إبليس على وجه التحديد السجود لآدم في حين تقبل الأمر كافة الملائكة؟ وبكلمات أخرى فإننا نتساءل: في حين أنّ الأمر الإلهي بالسجود لآدم جاء لجميع الحضور (الملأ الأعلى) رفض فقط إبليس من بين جميع الحضور السجود لآدم، فهل كان ذلك من قبيل المصادفة؟ نقول كلا، إنّ معرفة السبب تتطلب منا قراءة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأمر الإلهي بالسجود لآدم بشيء من الدقة والتمييز، وسنحاول فيما يأتي محاولة التفريق بين الأمر الإلهي للملائكة والأمر الإلهي لإبليس بالسجود لآدم، إننا ندعي أنّ الأمر الإلهي للملائكة جاء من باب قول الله، بينما جاء الأمر الإلهي لإبليس بالسجود لآدم من باب مشيئة الله، وهذا يعني أنّ الملائكة لم تكن تستطيع عدم تنفيذ قول الله لأنّ قول الله نافذ لا محالة، فكانت النتيجة:
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الحجر (30)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ص (73)
بينما كان إبليس مخيراً بالسجود لأنّ الأمر من الله لإبليس بالسجود جاء من باب المشيئة، فاختار إبليس أن لا يسجد، وقد يرد البعض بالقول: وأين ذلك في كتاب الله؟ هل فعلاً كان الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم يختلف عن الأمر الإلهي لإبليس بالسجود لآدم؟
رأينا: إنّنا ندعو الجميع إلى قراءة الآيات القرآنية التالية من هذه الزاوية ليروا الجديد فيما نقول وندّعي، قال تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ البقرة (34)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا الإسراء (61)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ طه (116)
لعل جل الفكر الإسلامي درج على عدم التميز بين الأمر الإلهي للملائكة والأمر الإلهي لإبليس بالسجود لآدم، فهم اعتقدوا أنّ الأمر كان أمراً واحداً موجهاً للجميع في آن واحد، ولكننا نسأل من ظن ذلك سؤالاً غاية في البساطة ربما لن نحتاج إلى المجادلة فيه كثيراً وهو: إنّ جميع الآيات السابقة تبدأ بالقول "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" فهل كان إبليس إذاً واحداً من الملائكة؟ إنّ القول أنّ الأمر الإلهي كان أمراً واحد صدر للجميع بنفس الوقت ونفس الصيغة يعني بما لا مجال للشك فيه أنّ إبليس كان أحد الملائكة وهو أمر ربما لا يتقبله الفكر الإسلامي على الإطلاق، فإبليس لم يكن من الملائكة، أليس كذلك؟ فالآيات القرآنية السابقة تثبت أنّ قول الله اسْجُدُوا لِآدَمَ كان موجهاً للملائكة فقط، وما دام إبليس ليس واحداً منهم بكل تأكيد (بدلالة أنّ إبليس لا ينتسب إلى من وجه الله لهم الأمر بالسجود في هذه الآيات الكريمات)، فالأمر إذاً في هذه المرة لا يعنيه لأنّ الخطاب غير موجه له على وجه الخصوص، فهو ليس من جمع الملائكة بدلالة الآية الكريمة التالية التي تثبت نسب إبليس:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف (50)
فلو لم يثبت نسب إبليس بأنّه ليس من جنس الملائكة لسلّمنا بالقول أنّ الأمر الإلهي جاء أمراً واحداً للجميع وفي نفس الوقت، ولأصبح لا مناص من الإيمان بأنّ إبليس هو واحد من الملائكة الذين رفضوا السجود لآدم ولتعارض ذلك تعارضاً صارخاً مع قوله تعالى بحق الملائكة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ التحريم (6)
إننا نرى أنّ حقيقة الأمر هي أنّ الله سبحانه أصدر أمرين اثنين: أمراً موجهاً لجمع الملائكة بصيغة العموم وآخر موجهاً لإبليس على وجه الخصوص، وقد يرد البعض بالقول: وأين ذلك في كتاب الله؟ فنرد عليهم بالقول أنّ ذلك واضح في الآية القرآنية التالية:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف (12)
فالمتفحص للآية القرآنية يدرك على الفور أنّ أمراً إلهياً صدر لإبليس على وجه التحديد للسجود لآدم منفصلاً عن أمر السجود الذي صدر للملائكة، فلو كان الأمر بالسجود للملائكة يتضمن الأمر لإبليس لجاء قول الله في هذه الآية الكريمة على نحو (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتكم)، ولكنّ الدقة والروعة القرآنية تبين أنّ الأمر هنا صدر على سبيل الإفراد "إِذْ أَمَرْتُكَ" موجهاً فقط لإبليس ما دام أنّه ينتمي إلى جنس منفصل وهم جنس الجن، وسنرى لاحقاً تبعات هذا الأمر لغوياً، فما دام إبليس ينتمي إلى جنس غير جنس الملائكة فهو إذاً بحاجة إلى لغة تخاطب تختلف عن لغة التخاطب مع الملائكة، فكل جنس (الملائكة والجن والإنس) له لغته الخاصة به.
والجميل في هذا التصور – في نظرنا- هو أنّه لو لم يصدر أمرا مستقلاً لإبليس بالسجود لكانت حجة إبليس بعدم السجود لآدم مختلفة ولربما أنقذته مما أوقع نفسه فيه، فلربما كان يكفي إبليس الرد بالقول لربه "أنّ أمرك صدر للملائكة وأنا لست واحد منهم فما ظننت أنّه يخصني"، ولكن لمّا صدر أمر إلهي مستقل لإبليس على وجه التحديد لم يكن لإبليس أن ينفذ بتلك الحجة، لذا جاء رده على الفور "أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ".
نستنج إذاً أنّ الله قد أصدر أمرين بالسجود لآدم: أمراً موجهاً للملائكة بصيغة الجمع:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
وآخر موجهاً لإبليس بصيغة المفرد:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ
ويبقى السؤال المثير التالي: كيف اختلف الأمران حتى سجد الملائكة كلهم أجمعون:
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الحجر (30)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ص (73)
ورفض إبليس السجود، فتخلف عن الركب:
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ الحجر (31)
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ص (74)
إنّ المدقق في آية نسب إبليس يجد الدقة القرآنية واضحة من النظرة الأولى، قال تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف (50)
وهنا نسأل القارئ الكريم سؤالاً غاية في البساطة وهو: ماذا كان من إبليس لحظة صدور الأمر له بالسجود؟ الجواب بكل سهوله " فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ"، حاول الآن عزيزي القارئ ربط ذلك بآية المترفين الذين أمرهم الله، ماذا كانت ردة فعلهم على أمر الله؟ لقد كانت بالضبط كردة فعل زعيمهم إبليس:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا     الإسراء 16
ولقد ذكرنا سابقاً أنّ  أمر الله على نحو:
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ الأعراف (28)
ولذا بيّنّا أنّ أمر الله ذاك كان من باب المشيئة على نحو:
"... اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فصلت (40)
وبنفس المنطق، فما دام أنّ إبليس فسق عن أمر ربه، كان الأمر له في الأصل من باب المشيئة كذلك، لذا في حين أنّ الصيغة وردت بحق إبليس على نحو "أمرتك" في قوله تعالى:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف (12)
لم ترد مثل هذه الصيغة في حالة الملائكة وذلك لسبب بسيط وهو أنّ السجود بالنسبة للملائكة لم يأت من باب المشيئة وإنما جاء من باب القول، وقول الله كما بيّنّا سابقاً نافذ لا محالة بينما مشيئته تقتضي التخيير.
ولعلنا نتوقف هنا للحظة لنستميح السادة العلماء العذر بتصحيح (نظن أنه) خطأ في الرسم القرآني وهو استبدال علامة الوقف ۗ  بعلامة الوصل  ۖ  في الآية الكريمة التالية:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف (12)
ووضع علامة الوقف  ۗ  بعد كلمة مترفيها في الآية التالية:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَاۗ فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا  
الإسراء 16
وذلك ليستقيم المعنى بأنّ شيئاً مقدراً يجب فهمه لذا استوجب القطع، وحتى لا يذهب ذهن القارئ في حالة الوصل أنّ الله "يأمر بالفسق، أو أنّ الله أصدر أمره بشيء (كسجود إبليس لآدم مثلاً) فلم ينفذ. لذا علينا أن نميّز بين أمر الله إن جاء على سبيل المشيئة وأمره إن كان من باب القول، ففي حين أنّ أمره على سبيل المشيئة يحتمل التعددية ومن ثم الاختيار، يكون أمره على سبيل القول نافذ لا محالة.
ولعل هذا الطرح يحل إشكالية أخرى كبرى في الفكر الإسلامي تتمثل بالطرح التالي: ألم يأمر الله آدم بعد حادثة السجود بالسكن في الجنة وعدم الأكل من الشجرة؟ فكيف استطاع آدم الخروج عن أمر الله والأكل من الشجرة؟ فقد يرد البعض بالقول لأنّ الشيطان قد وسوس له، فنرد بأنّ سؤالنا أكبر من ذلك وهو: كيف يستطيع الشيطان أن ينفذ أمره في مكان المفروض أنّه كله يسير بأمر الله وحده؟ فالله قد أمر آدم أن لا يأكل من الشجرة والشيطان وسوس له بالأكل منها، فهل "تغلبت" إذاً وسوسة الشيطان على أمر الله؟! كلا، إنّ طرحنا السابق ربما يحل هذه الإشكالية بكل يسر وسهوله، ولكن كيف؟
رأينا: إنّنا نعلم بنص القرآن الكريم أنّ الله قد أمر أدم وزوجه القيام بشيئين بعد حادثة السجود وهما: السكن في الجنة وعدم الأكل من الشجرة، ونعلم كذلك أنّه في حين أنّ آدم وزوجه امتثالا لأمر ربهم فسكنوا الجنة، خرجا عن أمر ربهما المتمثل بعدم الأكل من الشجرة، والسؤال الذي نطرحه هو: لماذا لم يخرجا عن أمر ربهما بخصوص السكن في الجنة بينما خرجا عن أمر ربهما بخصوص عدم الأكل من الشجرة؟ إنّ الجواب واضح وجلي في كتاب الله، فالأمر لآدم وزوجهما بالسكن في الجنة جاء من باب أمر الله بالقول، بينما جاء أمر الله الموجه لآدم وزوجه بعدم الأكل من الشجرة من باب المشيئة، وحتى يتبين القارئ وجاهة ما نفتري فإننا ندعوه لتدبر مفردات الآية التالية:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)
فلعل القارئ أدرك بنفسه بكل سهولة ويسر أنّ الآية الكريمة تنقسم إلى شطرين فيما يخص الأمر الإلهي:
(1) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
(2) وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ
ففي حين أنّ الأمر الإلهي بالسكن كان مرتبطاً بقول الله بدليل مفردة "وَقُلْنَا" وفعل الأمر اسْكُنْ، كان الأمر الإلهي بالأكل " وَكُلَا" مع عدم الاقتراب من الشجرة "وَلَا تَقْرَبَا" مرتبطاً بالمشيئة "حَيْثُ شِئْتُمَا"، وكان التخيير في حالة المشيئة واضح في قوله تعالى "فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ".

مشيئة الله تسبق إرادته
وقد يسبقنا البعض هنا بالسؤال: لماذا يريد الله (وقبل كل شيء) أنْ يهلك قرية مثلاً؟ أي هل تحصل إرادة الله حسب هواه؟ نقول كلا، إنّ إرادة الله بتدمير القرية لا تحصل قبل أنْ يقع أولئك بمحض إرادتهم في الفسق، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فصلت 40
إنّ هذه الآية الكريمة تؤكد على أنّ القوم إذا ما أصروا على الكفر (وتكذيب آيات الله)، عندها فقط يصدر الأمر الإلهي لهم بالخيار التام ليسلكوا أي طريق شاءوا، فعقاب الله (وإرادته بالعقاب من قبل) لا تحصل إلاّ نتيجة لما أوقع القوم أنفسهم فيه من الظلم مصداقاً لقوله تعالى:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ هود 117
ولكن لنتذكر أنّ الخيارات المطروحة جميعها (بما فيها وقوعهم في الفسق) قد قضت بها مشيئة الله جميعاً من ذي قبل، فهم لا يستطيعوا اختيار بديل ليس مسطوراً بمشيئة الله، قال تعالى:
وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا الإسراء 58
وهذا يعني بالضرورة أنّ ما سيختارون هو أحد البدائل التي قضت بها مشيئة الله، وتكون بذلك مشيئة الله (التي تعطي الخيار للإنسان) سابقة لإرادة الله بتدميرهم التي حصلت نتيجة لما اختاروا من تلك البدائل التي كانت متوافرة. فتكون الصورة على النحو التالي:
مشيئة الله: ح1 ح2 ح3 ح4 ح س (فسق المترفين) ... ح ن
إرادة القوم ح س (فسق المترفين)
مشيئة القوم ح س (فسق المترفين)
فعل القوم ح س (فسق المترفين)
إذا
إرادة الله تدمير القرية
قول الله الأمر بتدمير القرية
ولنلحظ هنا أنّ إرادة الله بتدمير القرية مرتبطة بفعل القوم بالفسق، فلو أختار القوم بديلاً آخر مما قضت به مشيئة الله (ولنقل ح3 مثلاً) لتغيرت إرادة الله تبعاً لتغير إرادة ومشيئة وفعل القوم، فإرادة الله تختلف باختلاف البدائل، وهذا ما نفهم من قوله:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا الطلاق 12
فإحاطة الله بالعلم لا تعني العلم بما سيختار القوم وما سيقع بهم نتيجة اختيارهم، بل هي أكثر من ذلك فهي تعني العلم بما ستكون عليه الحال لو اختلفت الاختيارات، فالله قد أحاط بكل شيء علما لأنّه يعلم ما ستكون عليه الحال مع كل بديل مما قضت به مشيئته، فالله لا يتدخل إذاً باختيار الإنسان وإنما يحدد الإنسان بفضاء تلك الخيارات (المشيئة)، ويعلم ما ستكون عليه الحال في كل واحدة من هذه البدائل حتى وإنْ أختار الإنسان واحدة منها فقط، وذلك لأنّ مشيئة الله تقتضي التعدد، قال تعالى:
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
فالآية الكريمة تشير أنّ الله قد علم داود "مما يشاء"، وهذا يعني أنّ الله قد شاء لنفسه علماً كثيراً وما كان تعليم داود إلاّ شيئاً يسيراً من ذلك العلم، وهذا لا ينطبق فقط على علم داود أو سليمان أو موسى وعيسى والنبيين جميعاً، وإنما هو كذلك بالنسبة لعلم الناس العاديين:
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة 255

خلاصة
نستنتج من النقاش السابق أنّ الإنسان مخير بإرادته بنفسه، ومقيد بالاختيار بمشيئة خالقة ولكنّه مسيّر فقط بقول ربه، أي لا يصبح الإنسان مسيراً إلا بعد وقوع القول، ولعل في هذا النقاش رداً على من ادعى أنّ الأمور محسومة مسبقاً وظن أنْ لا داعي لبذل الجهد لأنّ ذلك سيكون من باب إهدار الوقت والجهد والدوران في حلقة مفرغة، فنقول كلا إنّنا نجد في قرآننا أنّ الأمور حتى تتحقق تمر بثلاث مراحل: مرحلة الإرادة ومرحلة المشيئة ومرحلة القول، والإنسان مستقل الإرادة عن خالقه، فـ للخالق إرادة وللإنسان إرادة (قد لا تلتقي في كثير من الأحوال مع إرادة خالقه)، وللخالق مشيئة وللإنسان مشيئة (تختار من ما قضى الله من البدائل اللامنتهية لكل حالة)، وهنا تكمن حرية الإنسان: يريد ما يشاء ويختار واحدة من البدائل التي قضت بها مشيئة الله، ولكن يصبح الإنسان مسيراً فقط بعد نفاذ قول الله:
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يونس 33
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ يونس 96
إنّنا نفهم أنّ كلمة الله قد حقت على هؤلاء القوم أنْ لا يؤمنوا ليس لأنّ الله يريد ذلك وليس لأنّ مشيئته قضت بذلك على وجه التحديد، بل لأنهم هم أنفسهم اختاروا تلك الطريق، وبكلمات أخرى إنّ كلمة ربك لم تكن هي السبب بل هي النتيجة:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الإسراء 16
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ النمل 85
فهم لمّا أرادوا الفساد واختاروه بأنفسهم ووقعوا فيه، جاءت كلمة ربك لتكون هي الحق، فـ وقوع قول ربك لا يكون إلاّ رداً على ما كسبت أيدي الناس، فلقد ورد هذا المعنى في العديد من الآيات القرآنية:
"... وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" الجاثية 22
إنّنا نخلص إلى نتيجة مفادها أنَ الله يصدر قوله (وَوَقَعَ الْقَوْلُ) بناءاً على ما كسبت أيدي الناس (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ)، ولنعلم أيضاً أنّ الله "يفعل ما يريد" فقط عندما يصدر قوله في ما يريد مما يشاء، وهذا يعني أن الأشياء مخيرة بالإرادة ومحددة بالمشيئة ومسخرة بالقول. فالإنسان له الحق أنْ يريد ما يشاء، ولكنه لا يستطيع أنْ يخرج عن نطاق ما قضت به إرادة الله من مجمل البدائل التي لا يعلمها إلا الله، ويصبح لا حول له ولا قوة إذا نفذ بها قول الله. فالإرادة هي هوى النفس والمشيئة هي علم الله المحيط بكل شيء والقول هو التطبيق العملي لعلم الله كما يريده هو.
والله أعلم

بقلم د. رشيد الجراح