نبذة عن المقالة:
مقدمة: خلاصة الجزء السابق
تعرضنا في مقالتنا السابقة إلى موضوعين رئيسيين مرتبطان بقبول الدعاء وهما:
- تحديد جنس المولود
- العقم
وزعمنا القول أن الحصول على الذرية سواءً كان ذكراً أم أنثى هو هبة من الله بدليل توافر نفس اللفظ في الحالتين:
(سورة الشورى)
ولكن تحديد جنس المولود (ذكر أو أنثى) مرتبط بالمشيئة بدليل ورود فعل المشيئة مصاحباً لفعل الهبة في كل حالة:
(سورة الشورى)
وخلصنا- حسب ظننا- إلى الافتراء التالي: أن تحديد جنس المولود مرتبط بمشيئة الشخص نفسه مادام أن الفصل بين مشيئة الإنسان ومشيئة خالقه مستحيلة:
(سورة الإنسان)
(سورة التكوير)
أما بخصوص العقم، فقد أكّدنا أن العقم ليس هبة من الله وإنما هو جَعْلٌ من الله، وركّزنا على معاني الفعل جَعَلَ كما يمكن استقصاءها من السياقات القرآنية المتنوعة التي ورد فيها هذا الفعل ومشتقاته، لنخلص بمعنيين اثنين: أولهما، أن الجعل يفيد التحول من حالة إلى حالة، وثانيهما، أن الحالة الأولى التي كانت قبل الجعل هي الأصل بينما الحالة الثانية التي نتجت عن الجعل هي الاستثناء، وربطنا ذلك بموضوع العقم، فزعمنا القول أن الناس كانوا في الأصل جميعاً في حالة اللاعقم، وما حصل العقم إلا نتيجة للجعل، وأكدنا كذلك على أن هذا التحول لم يكن ممكناً دون حصول مشيئة الإنسان نفسه، وهذا – في نظرنا- ربما يفسر سبب ورود لفظة المشيئة حتى في حالة العقم كما كانت في حالة إنجاب الذكور أو الإناث:
(سورة الشورى)
وسنتابع في بحثنا هذا استقصاء معاني الفعل جعل، التي ربما تسعفنا في فهم سبب حصول العقم "أو الجعل في العقم".
أما بعد،
استكمال البحث في معاني "جعل" وعلاقتها بالعقم
فعند تفقد السياقات القرآنية للفعل جعل ومشتقاته التي ذكرناها سابقاً، فإننا أيضاً نزعم الفهم التالي: استحالة حصول الجعل دون توافر قوة خارجية تؤثر فيه، لتدفع بالحالة الأصلية إلى التحول إلى الحالة الجديدة، ولنتفقد السياقات القرآنية التالية جيداً:
قوة خارجية ضرورية للجعل
(سورة المائدة)
فالكعبة البيت الحرام لم يكن ليصبح قياماً للناس لولا تدخل القوة الخارجية التي جعلته كذلك، لذا فقد كان ذلك البيت الحرام في حالته الأساسية ليس قياماً للناس بدليل أنه في حالته الأولى كان على النحو التالي:
فبالغم أن ذاك البيت كان أول بيت وضع للناس لكنه لم يكن قياماً للناس في حالته الأولى، وتم جعله كذلك بعد أن تدخلت القوة الخارجية لجعله قياماً للناس.
وبنفس المنطق يمكن تدبر الآية الكريمة التالية:
(سورة الفرقان)
فالبحران في الأصل لم يكن بينهما برزخ، وما كان ليحصل وجود هذا البرزخ إلا بالجعل، أي بتدخل قوة خارجية فيه، وكذلك حصل خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين بعدما كان خلقه الأول من طين:
(سورة السجدة)
فخلق الإنسان لم يكن ليتحول من حالة الطين إلى حالة النسل دون تدخل تلك القوة العظيمة التي دفعت إلى هذا التغير، وهكذا. (ونحن ندعو إلى التفكر بمثل هذه المعاني حيثما وردت مفردة جعل ومشتقاتها في السياقات القرآنية الكثيرة والمتنوعة).
ما علاقة هذا بالعقم؟
إننا نظن أن العقم لم يكن ليحصل لولا أنه جَعْلٌ من الله، فهذا إذاً يتطلب وجود قوة خارجية تؤثر بحالة اللاعقم (الحالة الأصلية) التي خلق الناس جميعاً عليها لتحولها إلى حالة العقم (الحالة الاستثنائية)، ولكن ما هي تلك القوة؟ إنها –في رأينا- المشيئة.
إنّ من أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من طرحنا هذا هو أن العقم لم يكن ليحصل لولا وجود قوة خارجية أدت به ليكون حقيقة واقعة بعدما كان غير موجود في الأصل، وما دام أن الله هو الذي جعل الشخص عقيماً بعد أن كان منجباً في الأساس، فلا بد من وجود دافع (أو سبب) إلى هذا التغيير، ونحن نظن أن ذاك السبب هو توافر مشيئة العقم عند الشخص الذي جعله الله عقيماً. وبكلمات أخرى، فإن العقم هو مما كسبت أيدي الناس أنفسهم، ولتغيير هذه الحالة والعودة إلى الحالة الأصلية التي خلق الله الناس عليها جميعاً وهي حالة اللاعقم فلا بد من أن يقوم الشخص نفسه بتغيير مشيئته لتتغير حالته، أي يجب أن لا تتوافر لدية المشيئة بالعقم، (كما فعل زكريا عليه السلام كما سنرى لاحقاً).
وهنا قد يرد البعض علينا بالقول: هل صحيح أن الشخص الذي جعله الله عقيماً لا يوجد لديه الرغبة بالإنجاب؟
نقول كلا، ربما تكون الرغبة بالإنجاب لديه جارفة، ولكن ليس هذا هو التشخيص الذي توصلنا إليه، إن لب قولنا هو بالرغم من وجود الرغبة لديه بالإنجاب إلا أن المشيئة لديه بالعقم متوافرة، على عكس الشخص المنجب الذي تتوافر لديه الرغبة بالإنجاب ولكن المشيئة لديه بالعقم معدومة (إي غير متوافرة)
ونستطيع التحقق من كلامنا هذا بطريقة عملية لا تحتاج إلى كثير عناء، فلو سألنا الشخص المنجب فيما لو تم تخييره بين الإنجاب والعقم، فما الذي سيختاره؟ لا شك أنه سيختار – إن صدقنا القول بالطبع- الإنجاب، فهو لا يستطيع تخيل حياته دون إنجاب، لذا فغالباً ما نظر المنجب إلى غير المنجب بنظرة لا تخلو من الشفقة على حاله. ولكن لو تم توجيه نفس السؤال إلى شخص عقيم، لربما وجدت القرار لديه غير محسوم، فهو يرضى بحالته ويستطيع التعايش والتكيّف معها. إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من مثل هذا الرد هو: صحيح أن الرغبة بالإنجاب متوافرة عند الطرفين، ولكن المشيئة بالعقم لا توجد إلا عند الإنسان الذي جعله الله عقيما، لا لشيء وإنما لتوافر المشيئة (الاستعداد) لديه لهذا الخيار.
(وهنا نجد لزامًا تنبيه القارئ الكريم إلى ضرورة التعريج على بعض القضايا التي تطرقنا لها في واحدة من مقالاتنا السابقة تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير، وذلك لغرض تسليط الضوء على معنى المشيئة ليتسنى فهم القصد من كلامنا هذا عن توافر المشيئة لدى بعض الناس بالعقم)
متى يحصل العقم
إننا نظن أنه لو كان العقم غير مرتبط بمشيئة الإنسان لكان الأمر محسوم منذ اليوم الأول لولادة الإنسان، أي لولد بعض الناس في حالة العقم ولولد آخرون في حالة الإنجاب، ولكن يبقى السؤال مطروحاً: متى يبين العقم عند الإنسان؟
لا شك أن العقم لا يبين عند الإنسان إلا بعد وصوله حالة البلوغ، هناك فقط نستطيع التحقق من وجود أو عدم وجود الجاهزية لدى الإنسان بالإنجاب، فهل يا ترى لو قمنا بفحص الإنسان قبل وصوله سن البلوغ، هل نستطيع تحديد توافر القدرة لديه بالإنجاب من عدمها؟ ثم، ألا يوجد هناك أناس ممن يستطيعون القيام بالممارسة الفعلية بالجماع، ولكن بالرغم من ذلك يبقى غير قادر على الإنجاب؟
وهنا يجب التمييز بين من يستطيع ممارسة الجماع ولكنه لا ينجب ومن لا يستطيع أصلاً الممارسة الفعلية للجماع. وهذا ينقلنا للخوض في جزئية أخرى تثيرها الآية القرآنية نفسها وهي قول الحق:
فما دلالات هذه الجزئية؟ وكيف ترتبط بقضية العقم؟
السؤال: ما معنى قول الحق: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا
فالآية الكريمة تتحدث عن الزواج بين الذكر والأنثى، أليس كذلك؟ فهل - يا ترى- يوجد زواج لا يكون بين ذكر وأنثى؟ إننا نظن أن فهم هذه الإشكالية ربما توصلنا إلى فهم ماهية العقم، أي كيف يكون البعض عقيماً. ولكن كيف؟
رأينا: ربما يجد المدقق في الآية 50 أنها تتحدث عن التقابل بين العقم وشيء آخر:
ففكرة العقم واضحة في قوله تعالى: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، أليس كذلك؟
ولكن ما هي فكرة " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ؟
إننا نود القول أننا نفهم الآية الكريمة على النحو التالي: أن الإنجاب لا يتم إلا بالزواج الذي يحصل بين ذكر وأنثى، وإن لم يكن الزواج بين ذكر وأنثى يستحيل عندها حصول الإنجاب. فالعقم ينتج عن الزواج الذي لا يتم بين ذكر وأنثى.
يا الله! ما هذه العبقرية!! لابد للزواج أن يكون بين ذكر وأنثى!! يا للعجب!!
ولكن هل هناك زواج يقع على غير تلك الشاكلة؟ هل تهذي يا رجل؟!
نعم، هناك زواج لا يكون على تلك الشاكلة، ولكن قبل تجلية هذا الأمر نرى لزامًا التأكيد على أنني رجل (ذكر) مفتون بدقة الألفاظ، وربما أكون مفطورا على حب التمييز بين الألفاظ المتقاربة (أو Synonyms باللسان الأعجمي)، وإنني على يقين بأن إشكالية فهم النص القرآni غالباً ما نبعت من خلط الألفاظ المتقاربة، ولا أجد أننا بحاجة إلى شيء أكثر من قراءة النص القرآني بتأني للوقوف عند ألفاظه كما يقصدها مفصل هذا الكتاب وهو الإله نفسه، لا كما نحب أن نفهما نحن، لأن فهمنا غالباً ما يشوبه النقص والتحريف والتأويل الذي لا ضرورة له، وهنا سأخرج قليلاً عن الموضوع الرئيسي لتقديم مثال على أن عدم الدقة في تفصيل الألفاظ غالباً ما تعيق الفهم وتحجب رؤية الأشياء على حقيقتها.
استراحة قصيرة: لماذا أخفقت أنا في فهم علم الرياضيات؟
لعل من أوضح عيوبي التحصيلية عبر رحلتي التعلّميّة في المدرسة والجامعة هو إخفاقي الفاضح في التحصيل الرياضي، فقد كنت من أفقر الطلاب علماً بالرياضيات، العلم الذي يحتاج إلى العقول الكبيرة لفهمه (كما يؤكد أهل الدراية)، وهو بالطبع ما ينقصني!
ولكن بالرغم من إدراكي قصور قدرتي العقلية عن فهم مثل هذا العلم المجرد الذي يميّز أصحاب العقول الكبيرة إلا أنني لا زلت مقتنعاً (وإن كنت مخطئاً) أن سببا آخر ساهم بشكل كبير في إخفاقي الشنيع ذاك، ألا وهو: إخفاق كتب ومدرسي علم الرياضيات في استخدام المفردات الصحيحة في علمهم كما ينبغي. ولكن كيف؟
قصة محزنة!
كنت لا زلت طالباً في الصف الأول الابتدائي ب (فحظي السيئ غالباً ما كان ينتهي بي في تلك الشعبة التي لا زلت أكرهها) عندما قدّم لنا معلم اللغة العربية درساً يهدف – حسب تقديري الآن- لتنمية قدراتنا الذهنية في التمييز بين حجم الأشياء، فكان - مما لا زلت أذكر من تلك السيناريوهات- تقديم المعلم صورة لسيارة كبيرة وأخرى صغيرة، ليفاجئنا بعد ذلك بالسؤال العبقري التالي:
- أيهما أكبر السيارة الحمراء أم الصفراء؟
وفي الصفحة الثانية من الكتاب نجد صورة شجرة كبيرة وأخرى صغيرة، ليسألنا المعلم السؤال نفسه بمفردات جديدة:
- أيهما أكبر شجرة التفاح أم شجرة البرتقال؟ وهكذا
وأقسم لكم – يا سادة- أني فهمت ذاك الدرس أيّما فهم، فأخذت أطبق مهارتي المكتسبة تلك في تمييز أحجام الأشياء على كل ما أرى في المدرسة والشارع وحتى البيت، وقد أعجبتني الفكرة حتى رحت أتساءل: لم يا ترى حجم أمي أكبر من حجم أبي؟ أليس هو الرجل وهي المرأة؟ ولم يكون بيت جيراننا أكبر من بيتنا؟ وهكذا.
وقد شططت في هذا الموضوع لدرجة أن مثل تلك التساؤلات أخذت تسبب لي بعض المشاكل، فقد أخذت أتساءل عن السبب في أن يكون زميلي حسين (أحد طلاب الصف) أكبر مني حجماً بالرغم أننا في صف واحد: هل ليكون هو أشد مني قوة، فإذا ما تعاركت معه صرعني على الأرض بلا عناء يذكر؟
فها هم زملائي في الصف والمدرسة يشكّلون فريق الرياضة، وغالباً ما يتم ذلك بناءً على أحجامهم وقدرتهم الجسمية، وكانت تتم تشكيلة الفريق على النحو التالي: يتقدم اثنين من زملائي الذين غالباً ما يكونون الأكبر جسماً ليختار كل منهم فريقه من مجموع طلاب الصف لحصول المباراة بين الفريقين، واقسم لكم - يا سادة - أنه لم يحصل ولو مرة واحدة أن تم اختياري في أي من الفريقين، ولم أكن استطيع الاعتراض على عدم اختياري لان ذلك كان سينتهي بي على الأرض مطروحا (وربما مضرجاً بدمائي)، لينتهي بي المطاف في كل مرة إلى جانب الملعب متفرجاً متحسراً على عدم قدرتي أن أكون مثل زملائي، ومما لا شك فيه أن السبب في ذلك كان يتمثل في حجم جسمي الذي كان من أصغر الأحجام في الصف مقارنة بمعظم زملائي، وما كان يشاركني ذاك الهمّ إلا عدد قليل جداً من زملائي الطلاب الذين كنت أشكل معهم جلّ (إن لم يكن كل) جمهور المتفرجين على المباراة.
ولكن – يا سادة- أدرك الآن أن ذلك الوقت الذي كنت أقضيه متفرجاً على المباراة لم يذهب سدىً، ففي الوقت الذي كان زملائي يشبعون فيه رغبة أجسادهم في اللعب والحركة والتمتع بالرياضة، كنت أنا منشغل التفكير في حظي من الدنيا (جسم صغير لا يساعدني على منافسة معظم زملائي).
- ولكن ما علاقة ذلك بدرس الرياضيات الذي لم تفلح فيه؟ يقاطعني البعض بالقول.
آه، لنعود إلى الموضوع بعد أن سردت عليكم جزءاً تراجيديا من طفولتي. المهم في الموضوع أنني - كما ترون- أصبحت أدرك وأفهم تماماً درس الأحجام (وربما أهميتها)، واستمرت الصورة على تلك الشاكلة حتى وصلنا إلى الصف الرابع (ب طبعاً) عندما قدّم لنا معلم الرياضيات واحدة من دروسه الأولى في الرياضيات المعاصرة (وعلى وجه التحديد علم الحساب arthematic)، فكان من أهم ما أربكني في ذاك الدرس اللعين هو استخدام الرموز الرياضية التالية:
< (أكبر)
> (أصغر)
≤ (أكبر أو يساو)
≥ (أصغر أو يساو)
وأظن (إن لم أكن مخطئاً) أنّ المعلم قدّم هذه الرموز على تلك الشاكلة، وبدأ المعلم يشرح لنا الفائدة المرجوة من استخدام هذه الرموز الرياضية، فكان من أول الأمثلة التي قدّمها لنا لنفهم كيفية استخدام هذه الإشارات الرياضية المثال التالي:
3 < 2
وبيّن لنا كيف نقرأ هذه الصيغة الرياضة باللغة العربية فقال: نقرأ هذه العبارة على النحو التالي (مشيراً بيده إلى الرمز الجديد):
ثلاثة أكبر من اثنين
وفي هذه اللحظة حصلت الكارثة التي أدت بي إلى نبذ علم الرياضيات كله، وكانت القصة على النحو التالي:
عندما أكدّ لنا المعلم أكثر من مرة (ربما لينخرها في عقولنا حتى ولو لم نفهمها، كما يفعل المعلمون على الدوام) أننا نقرأها على نحو ثلاثة أكبر من اثنين، ما كان مني إلا أن اعترضت على ذاك الكلام فجأة دونما تردد ولو للحظة واحدة، فرفعت يدي وقلت للمعلم: "لا الثلاثة مش أكبر من الاثنين" باللهجة المحكية. فما كان من المعلم إلا أن نظر إليّ نظرة التي لا تخلو من الفوقية والطبقية ولا ينقصها الازدراء والتحقير قائلاً: "ماذا تقول يا ولد؟ أو شو بتقول يا ولد؟ ليستطرد بعدها بلا توقف بسيل من الأسئلة تفضي جميعها إلى حقيقة واحدة وهي أنني لا أستحق أن أكون طالباً في الصف الرابع الابتدائي (بغض النظر عن الشعبة)، فكان مما قال: ألا تستطيع أن تفهم أن الثلاثة أكبر من الاثنين؟ كيف لي أن أبسّطها لك أكثر من ذلك؟ هل فعلاً أنت طالب بالصف الرابع؟ لا بد أن تعود إلى الصف الأول لتتدرب على الأعداد، ...الخ. لينفجر الصف بأكمله عندها بالضحك الذي لم يخلو من رائحة الازدراء والتهكم أيضاً. فما كان مني إلا أن سكتّ ووجهي يحمرّ خجلاً من نفسي ومن زملائي، ولم أستطع في تلك اللحظة أن أعبر عن ما كان يجول في خاطري، لأصبح بعدها محل سخرية من زملائي الذين أدركوا منذ تلك اللحظة أنني لا يمكن أن أفلح يوماً في علم الرياضيات، العلم الذي كرهته لكرهي لمعلمي الذي أذلني أما زملائي، ولم يمنحني الفرصة للتعبير عن ما جال في خاطري في تلك اللحظة. فلسان حالهم كان يقول: كيف ستفهم الرياضيات المعاصرة مادام أنك لم تستطع أن تفهم بأن الثلاثة أكبر من الاثنين؟
ولكني لمّا حرمت التعبير عنها أمام الصف لمعلمي أولاً ولزملائي ثانياً، فإني سأحاول التعبير عنها الآن علّ ذلك الخزي والعار الذي لحق بي سنوات وسنوات لجهلي الفاضح بعلم الرياضيات لا يبقي يطاردني خصوصاً أمام زملائي الذين أصبح معظمهم من حملة الشهادات العليا في العلوم الطبيعية، وانتهي بي الأمر أنا في العلوم الإنسانية (وعلم اللغة على وجه التحديد).
لقد كانت فكرتي يا سادة على النحو التالي:
معلمي يقول أن 3 أكبر من 2، ولكن لننظر إلى المعادلة نفسها مرة أخرى:
3 < 2
وقد كتبها معلمي على السبورة بالطبشورة وبخط اليد، لذا لا يمكن أن تكون يده دقيقة في رسم الأرقام كدقة الكمبيوتر هنا، ولكن لننظر جيداً إلى المعادلة كما هي مكتوبة الآن على شاشة الكمبيوتر: هل فعلاً 3 أكبر من 2؟ كلا، وألف كلا، إنهما نفس الحجم، أليس كذلك؟ فأنا لم ولن أنسى درس الأحجام الذي تدربنا عليه باستخدام صورة السيارة الحمراء والصفراء، وشجرة البرتقال والتفاح. هل تذكرون؟
ثم ماذا لو كتبت أنا المعادلة على النحو التالي:
3 < 2 ؟
هل تصبح 3 أكبر من الاثنين أم تكون 2 أكبر من 3 ؟ تأمل الحجم جيداً، أليس 2 أكبر حجماً من 3، كيف بمعلمي يقول إذاً أن 3 أكبر من 2؟
ألا ترون - يا سادة- أن كتب الرياضيات ومعلمي الرياضيات لا يزالون يقعون في الخطأ نفسه منذ ولادة علم الحساب في لغة الضاد؟ لا أعتقد أن وزارة التربية المعاقة بتفكيرها وعدد لا بأس فيه من كادرها وعلى رأسهم ... تستطيع أن تتجنب أخطاءً قاتلة مثل هذا الخطأ، لقد كان سبب فشلي في فهم الرياضيات هو أنهم لم يكونوا يستخدمون اللغة بالدقة المطلوبة، كان الأولى بمعلمي أن يفهم أن 3 ليست أكبر من 2 ، ولكنها أكثر من اثنين، فبدل أن يقرأ المعادلة على نحو
3 < 2 (3 أكبر من 2)
كان الأولى به أن يقرأها على النحو التالي:
3 < 2 (3 أكثر من 2)
وذلك لأن الرقم 3 هو عبارة عن (⏐⏐⏐) بينما الرقم 2 هو عبارة عن (⏐⏐)، والعلاقة بينهما ليست علاقة حجم (أكبر أو أصغر) وإنما هي علاقة كمية (أكثر أو أقل).
أقسم لكم - يا سادة- أنه ربما لولا تلك الحادثة المخجلة المحرجة لي في ذلك الوقت، المخجلة المخزية لمعلمي الرياضيات ولوزارة التربية في كل وقت وحين إلى أن يتم تصحيح الخطأ، لربما كنت اليوم نطّاساً بارعاً (ولو أني لا أعرف حتى اللحظة من هو النطاس)، أو مهندساً ماهراً يفتخر بمهنته بدل أن أكون قابعاً في هذا المكتب أنبش في الفرق بين أكبر وأكثر. ولأصبحت من نوابغ زماني، ولكن تلك الأفهام المغلوطة التي نخرتها وزارة التجهيل في عقولنا هي السبب في هذا التخلف الذي لا زلت أعاني منه، ولا أجد أني أفلح في شيء إلا بقدر ما استطيع التفلت من تلك الأفهام المغلوطة، وخصوصاً في فهم ألفاظ الكتاب الكريم الذي خلطوا متشابهه بمحكمه فضاعت المعاني وتشتت الأفهام.
وقد يقول صاحبنا: ما الذي نستفيده من التمييز بين أكبر وأكثر؟
فنرد عليه بما يلي:
هل نستطيع أن نقول الله أكبر؟
- نعم نستطيع.
ولكن هل نستطيع أن نقول الله أكثر؟
- لا، لا نستطيع ذلك.
لماذا؟ ما الفرق بين أن تقول الله أكبر أو أن تقول الله أكثر؟
- لأن الله واحد، فإن قلنا الله أكبر، فذاك لا يعني التعدد، ولكن إن قلنا الله أكثر فذاك يدل على التعدد، أي أنّ هناك آلهة كثيرة. لذا - عزيزي القارئ- إنني أود القول أن الأمة التي لا تستطيع أن تُميِّز بين أكبر وأكثر هي أمة لا تستطيع أن تُميِّز بين الشرك والتوحيد. ولا أظن أن هذا أمر بسيط (وسنتعرض لتبعات هذا الظن في مقالاتنا مفصلة بحول من الله وتوفيق منه، لذا فالله أسأل أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب)
تحليل ألفاظ "ذكر" و"أنثى" و"زواج"
وبعد هذا المثال المخجل نعود إلى صلب الموضوع لنفهم قول الحق
ولكن الشرط المسبق لحصول الفهم (إن نحن طلبناه حقاً) هو الوقوف عند الألفاظ كما هي، فلا نستخدم أكبر محل أكثر أو العكس. وبهذا المنطق نفسه فإننا بحاجة إلى الوقوف على معاني المفردات في الآية الكريمة وقوفاً مليّاً خصوصاً ألفاظ مثل ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ، علّنا نخرج – بحول الله وتوفيقه – بأفهام توصلنا إلى مبتغانا في فهم ماهية العقم.
أما بعد،
استنتاجات وتصنيفات لأنواع الزواج
أولا، ليس شرطاً أن ينتج عن الزواج مواليد
إننا نعلم كما نرى من واقع الناس أنه ربما يقع الزواج الذي لا ينتج عنه إنجاب الأطفال، وليس أدل على ذلك مما ورد في قول الحق في الآية الكريمة التالية:
فبالرغم من حصول الزواج بالحور العين، لكنني لا أظن أن ينتج عن ذلك الزواج مواليد، فعلاقة الزواج بين أهل الجنة والحور العين لن يتمخض عنها مواليد، ولكنها بنص مفردات القرآن الكريم هي علاقة زواج بدليل قوله تعالى " وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ"
ثانياً، إن من أهم مكونات الزواج هو وقوع الجماع (أو المباشرة الجنسية التي ربما ينتج عنها الإنجاب)، ولكن الملفت للنظر أن الذي يقع في الأصل بين الرجل والمرأة قد يحصل كذلك بين الرجل والرجل، وليس أدل على ذلك مما كان يفعل آل لوط:
فحصول الجماع يحدث بوجود الذكر فقط.، ولكن الملفت للانتباه أن القرآن الكريم لا يسمي هذه العلاقة زواجاً، فحتى يسمى زواجاً لا بد من نشوء العلاقة بين الذكر مع الأنثى:
فلفظة الزواج لا ترد إذا حصل جماع بين رجل ورجل، فذاك يسمى بنص القرآن الكريم إتيان:
(سورة الأعراف)
(سورة الشعراء)
(سورة النمل)
(سورة النمل)
(سورة العنكبوت)
(سورة العنكبوت)
ثالثاً، لا يمكن أن يتم جماع بين أنثى وأنثى، لذا لا نجد مثل هذا التوصيف في كتاب الله، فالأنثى ليست مزودة بأداة الجماع.
رابعاً، إننا نزعم الفهم أن الزواج هو المعاشرة الفعلية بالجماع، أما إذا لم تحصل المعاشرة بالجماع فذاك يسمى نكاحاً:
(سورة الأحزاب)
والآن لنعد بعد هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة التي هي في لب بحثنا هذا وهي:
فالله يقر أن الزواج هو الذي يتم بين الذكر من جهة والأنثى من جهة أخرى، وهو ما نظن أنه الزواج الذي يمكن ينتج عنه الإنجاب، ويظهر هذا الفهم جلياً في قوله تعالى:
فالأنثى هي بنص القرآن من لديها القدرة على الحمل، ولكن يبرز التساؤل هنا على النحو التالي: هل كل نساء الأرض لديهن القدرة على الحمل في أرحامهن؟
(سورة الرعد)
الجواب: كلا، فهناك نساء كثر ليس لديهن القدرة على الحمل. والحالة هذه فإننا نجد لزامًا التفريق بين مفردة الأنثى من جهة ومفردة النساء (أو المرأة) من جهة أخرى، لذا جاء قول الحق عند الحديث عن مجموع النساء التي لديها القدرة على الإنجاب والتي ليس لديها القدرة على الإنجاب على النحو التالي:
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الفهم أن المرأة القادرة على الإنجاب هي أنثى بينما المرأة غير القادرة على الإنجاب هي من النساء ولكنها ليست بأنثى.
وبالمقابل فإن الزوج القادر على الإنجاب وغير القادر على الإنجاب هو في نهاية المطاف رجل، ولكن القادر على الإنجاب فقط هو ذكر، لذا فإن سيناريوهات المواقعة الجنسية هي على النحو التالي:
- الإتيان (بين ذكر وذكر)
- زواج الإنجاب ويكون بين ذكر وأنثى (الرجل ينجب والأنثى تنجب)
- زواج العقم، فينتج عن الزواج بين
- ذكر وامرأة ليست بأنثى (أي أن الرجل قادر على الإنجاب بينما المرأة غير قادرة على الإنجاب)
- أنثى ورجل ليس بذكر (المرأة تنجب بينما الرجل لا ينجب)
- رجل ليس بذكر وامرأة ليست بأنثى (الرجل لا ينجب والمرأة لا تنجب كذلك)
وعند ربط هذا الكلام عن مفردة الذكر والأنثى ببقية مفردات الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن حصول المشيئة بالعقم في قوله تعالى:
فإننا نخلص إل السيناريوهات التالية
زواج ينتهي بالإنجاب
- الرجل لديه المشيئة بالإنجاب والمرأة لديها المشيئة بالإنجاب كذلك.
زواج ينتهي بالعقم فيكون في واحدة في الحالات التالية:
- المرأة لديها المشيئة بالإنجاب بينما لا يكون لدى الرجل المشيئة بالإنجاب (زواج زكريا)
- الرجل لديه المشيئة بالإنجاب بينما لا يكون لدى المرأة المشيئة بالإنجاب (زواج إبراهيم وسارة)
- الرجل ليس لديه المشيئة بالإنجاب والمرأة ليس لديها المشيئة بالإنجاب. (زواج فرعون)
ولمّا كان العقم هو محط بحثنا هذا، فلابد من تسليط الضوء على سيناريوهات العقم الثلاث هذه، لتقديم الدليل الدامغ من كتاب الله على احتمالية الشفاء، وحصول الذرية، ولا نجد أفضل من أمثلة الكتاب الكريم نفسه للتحقق من زعمنا هذا، لذا فإننا سننبش في كل واحدة من هذه السيناريوهات الخاصة بحياة الأنبياء وأشخاص آخرون تحدث عنهم القرآن الكريم بالتفصيل اللازم.
دراسة حالة: عقم سببه الزوج (زكريا عليه السلام)
1. الزواج بين رجل (ليس بذكر) وامرأة أنثى
إن مثالنا الذي نسوقه على العقم الذي سببه الزوج وليس الزوجة هو مثال زكريا عليه السلام، فنحن نزعم الفهم أن الخلل (أو العقم) الذي عانى منه زكريا عليه السلام كان سببه زكريا نفسه، ولم يكن لزوجته دخل فيه. وسنحاول إثبات صحة زعمنا هذا من الكتاب نفسه، فالقراءة المنضبطة لآيات الكتاب الكريم المتعلقة بهذا الموضوع تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن العقم الذي عانى منه زكريا قسطاً من الزمن كان سببه أن زكريا كان زوجاً (رجلاً) ولكنه لم يكن ذكرا. ولكن كيف؟
أما بعد،
فقد تطرقنا في مقالة سابقة لنا (صلاة الاستسقاء 4) إلى الآية الكريمة التالية التي غالباً ما فهمت – حسب ظننا- بطريقة خاطئة،:
لذا لم نستطع الخروج بالكثير من العبر والدروس المستفادة بسبب الفهم المغلوط للآية، ولمّا كان هدفنا هو فهم آلية العقم وسببه وطرق الخلاص منه، كان لزامًا التطرق إلى هذه الآية الكريمة علّنا – بحول الله- نوفق إلى تصحيح الأفهام.
لقد كان الغلط في الفهم يتمثل –في نظرنا- بالزعم أن زكريا يبين أن سبب العقم هو في زوجته، وكانت حجتهم في ذلك يتمثل بما جاء على لسان زكريا في قوله "وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، فظن الكثيرون أن هذا يعني أن زوجة زكريا ربما كانت سبباً في ذاك العقم الذي عانى منه الرجل سنين طوال، وقد أثرنا في مقالتنا السابقة عدة تساؤلات حول مثل هذا الفهم المغلوط، ونحن نجد لزامًا هنا إعادة بعض تلك التساؤلات، فقد كان جل البحث ينصب حول سؤال واحد ألا وهو: إن كان ما قالوا صحيحاً، فكيف علم زكريا أن زوجته لا تنجب؟
إعادة للأفكار التي طرحت حول هذه المعضلة سابقاً
كيف علم زكريا أن زوجته هي سبب العقم؟ لابد إذاً من طريقة تبين لزكريا أن العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فهل جرّب زكريا ذلك مع نساء أخريات؟ هل كان زكريا متزوجا من أخريات؟ فلو حصل ذلك وكان العقم في زوجته وليس فيه، لتحصلت له الذرية من تلك النساء ولما كان أصلاً بحاجة أن يطلب ذلك من ربه؟
وقد يرد البعض بالقول: لربما أن عادة المجتمعات القديمة أن تنسب العقم للمرأة وليس للرجل؟ فنقول هذا جواب جيد لو لم تكن شريعة تعدد الزوجات قائمة، ففي المجتمعات القديمة كانت حقيقة تعدد الزوجات قائمة مطبّقة على أرض الواقع، لذا لا يمكن أن يخدع الناس جميعاً بهذه الحجة، فلو كان العقم في الرجل وعدّد زوجاته، لبان الأمر بكل يسر وسهولة، فإن لم ينجب من واحدة لن ينجب من الأخرى، وهكذا. لذا لابد أن المجتمعات البشرية كانت تعرف أن احتمالية أن يكون العقم في الرجل هي احتمالية قائمة. فهذا سيناريو لا يمكن أن يغفل عنه نبي الله، ولا يمكن أن يتهم زوجته بما ليس فيها.
وقد يرد آخر بالقول: ربما أن زكريا يقول ذلك لأن زوجته قد تقدم بها العمر، لذا فهي عاقر، نقول هذا كلام أكثر وجاهة، ولكنّه يعاني من وجود دليل ينقضه تماماً في كتاب الله، فالمدقق في النص القرآni يجد أن زكريا لم يقل أن زوجته عاقر فقط:
(سورة آل عمران)
وإنما جاء قول الحق على لسان زكريا على النحو التالي أيضاً:
(سورة مريم)
فالمدقق باللفظ يجد أن زكريا لا يتحدث عن حال زوجته الآن بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت فقط كما في الآية 40 من آل عمران، وإنما يتحدث عن ماضيها بدليل "وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، كما في الآية 5 من مريم، فهو إذاً يسرد تاريخها الماضي بالإضافة إلى حقيقتها الحالية، وبكلمات أكثر دقة نقول: وكأن زكريا يقول لقد كانت زوجتي حتى قبل هذا الوقت عاقراً (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، وهي لا زالت حتى هذه اللحظة عاقرا (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ).
وهنا نواجه سؤالاً آخر لا مفر منه وهو: إذا كان زكريا يعرف أنّ العقم يكمن في زوجته وليس فيه شخصياً، فلم إذاً لم يتزوج بغيرها فينجب منها ما دام أنها هي (وليس هو) سبب العقم؟
فهل فعلاً تزوج زكريا بأخريات؟ الجواب كلا، وذلك لأن زكريا لم يتحدث إلا عن زوجة واحدة:
وجاء قول الحق مؤكداً ذلك:
(سورة الأنبياء)
ولكن هل كان لزكريا جواري وأنجبن منه ولكنه لم ينجب من زوجته؟ كلا، لأن زكريا قد قال بملء فيه أنه كان يخاف الموالي من وراءه، ونحن نفهم من صريح اللفظ القرآني أنّ الموالي ليسوا بكل تأكيد من ذرية الرجل، قال تعالى:
فمن لم تعرف من هو أبوه يكون أخوك في الدين أو مولاك، فلا يمكن أن يكون الموالي من ذرية زكريا، وإنما هم ممن كان يتخذهم زكريا في رعايته وممن لا يعرف من هم آباؤهم. فلقد عُرِف عن زكريا كفالته الأيتام، وليس أدل على ذلك من كفالته لمريم بنت عمران:
(سورة آل عمران)
إذاً كيف عرف زكريا أن امرأته كانت هي سبب العقم؟
لقد توقفنا في مقالتنا السابقة عند هذا الحد، ولكننا وعدنا القارئ الكريم في الوقت ذاته أن نحاول الإجابة على هذا السؤال لاحقاً، وها نحن نعود الآن إلى الموضوع ذاته لنقدم لكم ما فتح الله علينا فيه. فالله أسأل أن يعلمنا قول الحق فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.
أما بعد،
إننا نظن أن الخطأ في الفهم قد نبع من التحليل المغلوط للنص القرآني "وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ" ولـ" وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"، ونحن نزعم أن هذه العبارة لا علاقة لها بالعقم إطلاقاً، فهي لا تعني بأي حال من الأحوال أن زكريا يشير إلى أن زوجته كانت غير قادرة على الإنجاب، ولكنها تعني أن زوجته كانت عاقراً، وكفى. ولكن كيف؟
السؤال: ما الذي يمكن أن نفهمه من قول زكريا " وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا"؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إن كلام زكريا يعني – في ظننا- أن زوجته كانت قادرة على الإنجاب (فهي إذاً أنثى) ولكن زكريا لم يكن قادراً على الإنجاب (لأنه رجل ليس بذكر)، فكان ذك سبب عقور زوجته.
ولكن أين الدليل على هذا الكلام؟
أما بعد،
الفرق بين العاقر والعقيم
لقد ورد في مكان آخر من كتاب الله على لسان زوجة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى:
وهنا تظهر مفردة "عقيم" لتتحدث عن المرأة التي لا تنجب، فامرأة إبراهيم كانت إذاً عقيم (امرأة متزوجة ولكنها ليست بأنثى). وهنا يثار التساؤل التالي: كيف يمكن أن نميز بين امرأة زكريا (التي كانت عاقرا) وامرأة إبراهيم (التي كانت عقيم)؟
رأينا: نحن نظن أن الدقة تستدعي أولاً التميز بين المرأة العقيم كزوجة إبراهيم، والمرأة العاقر كزوجة زكريا، ونحن نظن أن الغلط قد وقع في الخلط بين اللفظين، فحمل إحداهما بمحمل الآخر، فضاع المعنى وتشتت الأفهام. لذا فإننا ندعو للوقوف على معنى كل واحدة منهما من جديد
العقيم
لاشك أن العقم هو عدم الإنجاب، فإن قلنا أن هذا الرجل عقيم أو تلك المرأة عقيم، فهذا يعني أنه أو أنها لا تنجب، فقد قال الله عن الريح التي أرسلها على قوم عاد ليعذبهم بها بأنها ريح عقيم:
فنحن نفهم أن الريح إذا أرسلت جاء معها المطر الذي يسبب خروج النبات (الإنجاب)، أما تلك الريح فقد كانت مختلفة، لأنها لم يكن لينتج عنها الزرع أو الثمر، فقد كانت إذاً ريحاً عقيما. وكذلك هو عذاب يوم الحساب الذي لن ينتج عنه خير للكافرين:
فالشجرة أو الريح أو الرجل أو المرأة التي لا تنجب فهي إذاً عقيم.
العاقر
ولكن ما العاقر؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن العقر هو مس الشيء بالسوء، فها هم ثمود (قوم صالح) يأمرهم الله أن لا يمسوا الناقة بسوء لكي لا يقع عليهم العذاب، فما كان منهم إلا أن عقروها، فأخذهم عذاب يوم عظيم.
(سورة هود)
(سورة الشعراء)
(سورة القمر)
(سورة الشمس)
النتيجة: القوم هم من عقروا الناقة، فكانت الناقة هي المعقورة (اسم المفعول كما يحب أهل اللغة أن يفهموه) وكان القوم هم من قام بفعل العقر (اسم الفاعل: عاقر).
لذا فعندما قال زكريا أن امرأته كانت عاقر لم يكن يعني – في ظننا- أنها لم تكن تنجب، وإنما كان يتحدث عن سلوكها الاجتماعي حتى تلك اللحظة، فقد كانت امرأة تمس زوجها (وربما وغيره) بالسوء، فهي امرأة ذات أخلاق غير حميدة، لذا كانت النعمة الربانية على زكريا لا تتمثل فقط في أن الله قد استجاب له دعوته فوهب له الذرية على الكبر:
بل منّ الله على زكريا بأن أصلح له زوجه:
فصلاح زوجته كان يتمثل بأن توقفت تلك المرأة عن "عقورها"، فما عادت تمس زوجها (ولا غيره) بالسوء.
ولعل هذا الفهم على علاته قد يحل لغز التساؤل التالي: لماذا لم يتزوج زكريا بامرأة أخرى (إذا كانت زوجته لا تنجب) وعلى ذاك السوء من الأخلاق؟
- الجواب: لأن زكريا لم يكن ذكرا
وهنا يطرح سؤال آخر: لماذا كانت زوجته أصلاً عاقرا؟
- الجواب: لأن زكريا لم يكن ذكرا
لماذا صلح حال زوجته؟
- الجواب، لأن زكريا أصبح ذكراً قادراً على الإنجاب.
نعم، إننا نزعم الفهم أن زكريا كان متزوجاً من امرأة عاقر (تسيء لزوجها وربما لغيره)2، ولا أظن أن ذلك كان جزءاً من طبعها عندما تزوجها زكريا، فذاك رجل لا شك يعرف كيف يختار زوجته، ولا أظن أنه قد اختار زوجة من شرار الناس، ولكن بعد أن تزوجها زكريا قسطاً من الزمن، وبان لها أنه لم يكن قادراً على القيام بواجباته الزوجية في المعاشرة، ومن ثم انشغاله بكفالة الأيتام وخاصة مريم، ربما دفع المرأة أن تسوء أخلاقها ومعاملتها معه.
وبكلمات أخرى نقول يكن الرجل قادراً على معاشرة امرأته كما يجب، وكان يعوض على ذلك بكفالته للأيتام، والحالة هذه، لم تطق تلك المرأة ذاك النوع من الحياة، فما كان منها إلا أن أصبحت امرأة عاقرا، وبقيت على تلك الشاكلة حتى اللحظة التي دعا فيها زكريا ربه فاستجاب له طلبه، فأصبح زكريا رجلاً ذكرا قادراً على تلبية حاجات ورغبات زوجته في المعاشرة والإنجاب، فأصلح الله حالها، وأصبحت ممن تسارع في الخيرات بعد أن كانت ممن تمس الناس بالسوء (أي عاقرا).
أما الدليل الثاني الذي نسوقه لنثبت صحة ما نزعم فيأتي من صيغة دعا زكريا ربه:
فالمدقق في اللفظ القرآني يجد أن الهبة من الله كما ذكرنا عند حديثنا عن قوله تعالى "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ" جاءت بصيغة المفرد المخصص لزكريا نفسه، فهذا يدعونا لنثير التساؤل التالي: لم لم يقل الله تعالى:
فاستجبنا له ووهبنا لهم يحيى
بصيغة الجمع؟ ألم يكن يحيى ولد زكريا وزوجه؟ فكيف يصبح يحيى هبة من الله لزكريا فقط؟ لم لا يكون هبة من الله لزوجة زكريا كذلك؟
رأينا: إن هذا يدلنا أنّ زوجة زكريا لم تكن تعاني من العقم، فهي كانت امرأة منجبة، وكان الخلل خاصا بزوجها. فيحيى هو إذاً هبة من الله لزكريا نفسه.
ما علاقة ذلك بمشيئة العقم؟
لقد ذكرنا سابقاً أن التحول من حالة اللاعقم إلى حالة العقم يتطلب تغيير ما في النفس مصداقاً لقوله تعالى:
(سورة الرعد)
ولكن من الذي سيغير ما في نفسه؟
لا شك أن زوجة زكريا لم تكن بحاجة أن تغير ما في نفسها لكي تنجب، وذلك لأن مشيئتها بالإنجاب كانت متوافرة على الدوام، ولكن الخلل كان يكمن في زكريا فقط، لذا فعندما غيّر زكريا ما في نفسه وتوجه إلى الله طالباً الذرية الطيبة، استجاب الله له طلبه، فجاء قول الحق مفرداً زكريا دون زوجه:
فلو كان تغير ما في النفس قد وقع من زكريا ومن زوجه، لجاء قول الحق على نحو:
فاستجبنا لهم ووهبنا لهم
ولكن لمّا كان التغيير خاصاً بزكريا وحده، جاء التعبير القرآني بصيغة المفرد لتبين الدقة والحكمة في ذلك.
إننا نخلص إلى النتيجة التالية: إذا كان الرجل هو سبب العقم، فلا يمكن أن يحدث الإنجاب إلا بعد أن تتوافر المشيئة لدى الرجل بالإنجاب وذلك بتغيير ما في نفسه، وأن تدخّل المرأة أو دعاءها بالإنجاب ربما لا يغيّر من الحال شيئاً ما دامت أنها ليست هي السبب في العقم، ولكن يصبح لزاما على المرأة أن تغيّر هي ما في نفسها إن كانت هي سبب العقم، وقد لا يسعف تدخّل الرجل في مثل هذه الحالة إن لم يكن هو سبب العقم، وسنقدم الدليل على هذا السيناريو الجديد باستعراض قصة إبراهيم وزوجه من هذا الجانب.
وللحديث بقية
د. رشيد الجراح مركز اللغات
جامعة اليرموك