فهرس المقالة
مراجعة الافتراضات السابقة
قصة ذي القرنين
قصة يأجوج ومأجوج 6
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى افتراء الظن من عند أنفسنا بأن هامان قد بنا لفرعون صرحا، ليبلغ من خلال ذلك الأسباب، فيطلع إلى إله موسى:
سورة غافر
وزعمنا الظن بأن هامان لم يتردد في تنفيذ طلب فرعون هذا، وذلك لأن صنعة بناء العروش كانت مستندة على علم ربما كان يعلمه بعض الملأ من مثل هامان، وكان ذلك جزءً من بقية من علم يوسف في أرض مصر والذي جلبه معه من سبأ.
كما افترينا الظن من عند أنفسنا أيضا بأن ذلك قد حصل في منطقة أسوان في صعيد مصر، وهي المنطقة التي لازالت ما تبقى من العروش المدمرة هناك دالة على آثار تلك الصنعة العظيمة. وافتح – إن شئت- الرابط التالي:
وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)
Epic, cinematic shot of the ruins of the Karnak Temple in Aswan, Egypt. Focus on the grand columns and hieroglyphics, hinting at a lost, powerful ancient technology. The lighting is dramatic, with sun rays breaking through the columns. Highly detailed, realistic, 8k.
وافترينا الظن من عند أنفسنا أن منطقة الحالية الواقعة في جنوب مصر الممتدة حتى شمال السودان (النوبة) هي المنطقة التي – في ظننا- يسميها القرآن بسبأ:
وفي تلك المنطقة نشأت حضرة عظيمة امتازت بما يلي:
- وجود العرش
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴿٢٢﴾ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾
سورة النمل - السجود للشمس بسبب ما زين لهم الشيطان ليصدهم عن السبيل فلا يهتدون
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿٢٤﴾
سورة النمل - وجود جنتان عن اليمين والشمال
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿١٥﴾
سورة سبأ - إعراض القوم عن شكر ربهم، فوقع عليهم العذاب بسيل العرم جزاء على كفرهم، فتبدّلت جنتاهم بجنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴿١٦﴾ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿١٧﴾
سورة سبأ - ثم جعلت قرى ظاهرة بينهم من جهة وبين القرى التي بارك الله فيها من جهة أخرى:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴿١٨﴾
سورة سبأ - المباعدة بين الأسفار وجعلهم أحاديث وتمزيقهم كل ممزق:
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿١٩﴾
سورة سبأ - تصدَّق إبليس عليهم ظنه إلا فريقا من المؤمنين:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾
سورة سبأ
من قصة سليمان
يرث سليمان الحكم بعد وفاة والده داوود، فيقف خطيبا بالناس قائلا:
سورة النمل
وكرجل عسكري، يكون أول ما يفعل سليمان الملك هو أن يحشر إليه جنوده من الجن والإنس والطير:
سورة النمل
تفقّد سليمان لجنوده
فيتخلّف عن الحضور إلى طابور سليمان التفقدي هذا النمل، فيظن سليمان أنهم قد تخلفوا طواعية، وخروجا عن ملكه، ولمّا كان سليمان يظن (نحن نفتري القول) أن النمل هو من فئة الطير، ما كان منه إلا أن سار بجيشه متجها وقاصدا وادي النمل ليجبرهم على الخضوع لملكه إن لم يكن طواعية فكرها، وما أن وصل إلى هناك حتى سمع نملة تخاطب بقية النمل قائلة:
سورة النمل
عندها تكون ردة فعل سليمان على النحو التالي:
سورة النمل
نعم، يتبسم سليمان ضاحكا من قولها، لأنه أدرك على الفور (نحن نفتري القول) أن تلك النمل ليست من الطير الذي كان من المفترض أن يحشر له، لذا فقد علم الآن أن تخلف النمل عن الحضور لم يكن خروجا عن ملكه وإنما لأن ذلك النمل لم يكن من الكائنات التي تفهم لغة التخاطب. فالذي جعل سليمان يتبسم ضاحكا هو قولها نفسه (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا). وذلك لأن قولها لم يكن من النوع الذي يمكن أن يفهمه سليمان لأن سليمان كان قد علّم منطق الطير كما جاء على لسانه في بداية قوله:
سورة النمل
تخيلات: ما أن أتى سليمان مع جنوده من الجن والإنس والطير واد النمل قاصدا إخضاعهم لملكه حتى سمع ما قالت تلك النملة لبني جلدتها من بقية النمل، ولمّا كان سليمان قد عُلِّم منطق الطير عندها أدرك أن هذا ليس من القول المفهوم عنده، وهو من القول الذي يدعو للضحك. فأنت عندما تسمع قولا لا تفهمه لأول مرة تكون الدهشة بالتبسم وربما الضحك بادية عليك، ويعتمد ذلك على درجة غرابة القول، فكلما كان القول أكثر غرابة كانت الابتسامة أوسع، حتى ربما قد تصل إلى درجة الضحك. وهذا ما كان من قول النملة بالنسبة لسليمان. فخلص سليمان إلى أن النمل ليس من الطير، فتوقف عن مهاجمتها. (للتفصيل انظر مقالتنا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب النمل)
عاد سليمان هناك في واد النمل ليتفقد الطير مرة أخرى على وجه الخصوص من جديد وذلك لأن المشكلة (نحن نظن) كانت أساسا تخص الطير، وهنا بالضبط لاحظ سليمان غياب الهدهد، فتوعده بالعذاب الشديد أو الذبح أو أن يأتينه بسلطان مبين:
سورة النمل
نبأ الهدهد من سبأ
وما هو إلا وقت قصير حتى حط ذلك الطائر (الهدهد) غير بعيد عن سليمان ليقص عليه سبب غيابه، فجاءه من سبأ بنبأ يقين:
سورة النمل
فكان النبأ على النحو التالي:
سورة النمل
ولو لاحظنا هذا السياق جيدا لوجدنا أن الهدهد يعقد في رده هذا مقارنة مباشرة بين سليمان من جهة وتلك المرأة في سبأ من جهة أخرى
المرأة | سليمان |
---|---|
امرأة (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً) | رجل |
تملك (تَمْلِكُهُمْ) | ملك |
أوتيت من كل شيء (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) | أوتي من كل شيء |
لها عرش عظيم (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) | لم يكن له عرش |
يسجدون للشمس (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) | يسجدون لله |
كان الشيطان يتلاعب بهم ليصدهم عن السبيل (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) | كانت الشياطين مسخرة لسليمان |
ويكأن الهدهد (نحن نتخيل) يقول لسليمان: صحيح أنك رجل لك مُلك على من حولك، لكن هناك في سبأ امرأة تملك قومها (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)، وإذا كنت أنت قد أوتيت من كل شيء (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ)، فقد أوتيت هي كذلك من كل شيء (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)، وهي تتميز عليك بشيء ليس متوافر عندك ألا وهو العرش (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ). وهو ما ليس عندك.
ولكن – بالمقابل- هذه المرأة وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
اهتمام سليمان بالعرش
ولو تدبرنا ردة فعل سليمان أكثر لوجدنا أن ما طلبه سليمان من ملئه أن يأتوه به من سبأ هو ذلك العرش على وجه التحديد:
سورة النمل
فهو كان قد رد الهدية (المال) من ذي قبل لأن سليمان يملك منه الكثير:
سورة النمل
ولو تدبرنا النص أكثر لوجدنا أن سبأ لم تكن تقع داخل حدود مملكة سليمان عندما ورث سليمانُ والده داوود، وما وقعت تحت ملكه إلا بعد هذه الحادثة الشهيرة.
أصل قوم سبأ وعلاقتهم بجالوت
رأينا المفترى: وقعت المعركة الشهيرة بين طالوت وجالوت، وانتهت بانتصار طالوت على جالوت بسبب مقتل داوود لجالوت. وقد حصل ذلك على النحو التالي:
قصة طالوت وجالوت
- أُخرج بنو إسرائيل مع أبناءهم من ديارهم، فما كان منهم إلا أن طلبوا من نبي لهم من بعد موسى أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿٢٤٦﴾
سورة البقرة - كان ذلك الملأ من بني إسرائيل يظن أن المَلك سيكون منهم، لكن المفاجأة جاءتهم صاعقة عندما علموا من نبيهم بأن الملك ليس منهم، وأن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، فما كان منهم إلا أن أظهروا احتجاجهم على اختيار طالوت ملكا عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أنهم أحق بالملك منه، ولكن التبرير الإلهي كان على نحو أن الله قد زاده بسطة في العلم والجسم:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٤٧﴾
سورة البقرة - تكون آية ملك طالوت عليهم هو ذاك التابوت الذي تحمله الملائكة وفيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٢٤٨﴾
سورة البقرة - يبتلى الله القوم بنهر بعد أن فصل بهم طالوت، فيتجاوز طالوت هذا النهر بقليل من الذين آمنوا معه، ولكن يبقى القلق مسيطرا عليهم لأنهم هم الفئة القليلة، بينما جالوت وجنوده هم الفئة الكثيرة، فيظن البعض منهم أنهم لا طاقة لهم بجالوت وجنوده، ولكن تبقى فئة قليلة جدا تظن بصدق الوعد الإلهي بنصره للفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة الكافرة بإذنه، فكانوا من الصابرين:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿٢٤٩﴾
سورة البقرة - تقع المواجهة بين الطرفين، فتطلب هذه الفئة القليلة المؤمنة من ربهم أن يفرغ عليهم صبرا ويثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الكافرين
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿٢٥٠﴾
سورة البقرة - تهزم الفئة القليلة المؤمنة الفئة الكثيرة الكافرة بإذن الله، ويقتل داوودُ جالوت:
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاووُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿٢٥١﴾
سورة البقرة
تساؤلات
- كيف قتل داوودُ جالوت؟
- لماذا لم يقتل طالوتُ جالوت؟
- إلى أين هرب من تبقى من جنود جالوت بعد هزيمتهم؟
تحدثنا في مقالتنا السابقة تحت عنوان ما دلهم على موته إلا دابة الأرض عن هذه القضية، وافترينا الظن من عند أنفسنا بأن داوود استطاع أن يقتل جالوت بما وجده في التابوت الذي كان يحتوي على بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وظننا أنها بقية تلك العصا التي كانت بيد موسى، والتي قبض منها السامري قبضة، فأصبحت بعد ذلك منسأة بعد أن كانت عصا. وكان ذلك بداية الحكم والعلم الذي آتاه الله داوود في تلك المرحلة من حياته.
سورة البقرة
فلقد كان داوود خليفة لأن المُلك لم يصله من طالوت بالوراثة، وإنما انتقل إليها انتقالا:
سورة ص
ولم تكن سبأ تقع ضمن نطاق ذلك الملك بدليل أن الهدهد قد جاء سليمان بنبأ يقين من هناك كان غائبا عن سليمان:
سورة النمل
هزيمة جالوت وفرار جنوده
تخيلات من عند أنفسنا: عندما وقعت المعركة الفاصلة في القدس بين طالوت ومن معه من الذين آمنوا (ومنهم داوود نفسه) من جهة وجالوت وجنوده من جهة أخرى، لم يتوقع الكثيرون انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة. ولكن لما كان النصر بإذن الله كانت الغلبة للفئة القليلة المؤمنة بنصر ربها. ولما حصل أن قتل داوود جالوت، أصبح جنود طالوت بلا قائد يوجّههم، فكانت الهزيمة الساحقة لهؤلاء الجند، والنصر المؤزر لطالوت والذين آمنوا معه. عندها (نحن لازلنا نتخيل) هرب جنود طالوت في كل اتجاه، واستقر قسم كبير منهم في سبأ وذلك لأنها كانت تقع خارج سيطرة مُلك الغالب وهو طالوت حينئذ. فمنطق القول أن المغلوب في المعركة يفر إلى خارج حدود مُلك الغالب، فمن غير المنطقي أن ينهزم جنود جالوت في داخل مملكة طالوت لأن ذلك يعني نهايتهم وإلى الأبد. لذا نحن نتخيل أن المهزوم قد هرب خارج حدود مُلك الغالب. ومن هنا جاء افتراؤنا بأنهم قد هربوا إلى سبأ. فلماذا؟
هزم و غلب
ما الفرق بين أن تهزم أو أن تغلب؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الغلبة (غلب) تعني انتصار طرف على طرف، ولكن هذا الانتصار لا يؤدي إلى نهاية الطرف المهزوم، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
سورة الروم
فبالرغم من أن الروم قد غلبت لكن ذلك لم يؤد إلى نهاية دولتهم (أو كيانهم) بدليل أنهم سيعاودن الكرة بعد بضع سنين وستكون لهم الغلبة، لذا ستبقى الحرب بين الطرفين سجال، يتغلب طرف على طرف، ولكن لا يستطيع طرف إنهاء الطرف الآخر كليا.
أما عندما تحدث الهزيمة (هزم)، فإن الصورة تكون أكثر مأساوية للطرف المهزوم لأنه عندها سيولي الدبر:
سورة القمر
ولو حاولنا إسقاط ذلك على ما حصل في المعركة الفاصلة بين طالوت وجالوت، لوجدنا أن طالوت ومن معه من المؤمنين قد هزموا جالوت وجنوده أجمعين (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاووُدُ جَالُوتَ)، فما كان من المهزومين (وهم جنود جالوت) إلا أن ولوا الدبر، فكانت تلك المعركة بمثابة بداية النهاية لجميع جنود جالوت. فهم قد هربوا وتفرقوا في الأرض فما عاد لهم ملكا واضحا. بل كانوا يحاولون التخفي عن الأنظار.
عندما وصل جنود جالوت المهزومين إلى سبأ، حاولوا قدر الإمكان أن يبقوا بعيدين عن متناول قبضة حكم طالوت، وداوود من بعده، ونجحوا في ذلك حتى كان ذلك اليوم الذي جاء الهدهد سليمان بنبئهم من سبأ:
سورة النمل
ملحوظة مهمة: لو حاولنا تدبر هذا السياق القرآني جيدا لوجدنا أن تلك المرأة في سبأ لم تكن ملكة، وإنما كانت تملك قومها. ونحن نظن أن هناك فرق كبير بين من كان له ملك ومن كان يملك. فما الفرق؟
الفرق بين الملك والتملك
رأينا: نحن نظن أن من كان له ملك فهو يملك ملكية عامة، فالملك له سلطة على شعبه لكن هذه السلطة هي سلطة ذات طابع عام، فبالرغم أنه ملك، لكنه لا يستطيع أن يدخل بيتك الخاص دون إذنك المسبق. فملكه لا يعطيه الصلاحية بالتدخل بخصوصية حياة شعبه، ولكن عليه أن يحترمها. وعلى الشعب إطاعة أوامره بصفته ملكا.
أما من يملك الشيء، فهو من تكون له الأحقية بالتصرف فيه، لأنه هو صاحبه، فأنت تملك بيتك فلك الحق أن تفعل به ما تشاء، وهكذا. لذا تصبح الملكية هنا خاصة وليست عامة كما في حالة من كان ملكا.
لما كانت تلك المرأة تعلم يقينا مقدار بطش الملوك (طالوت، داوود، سليمان)، حاولت أن لا تتجاوز حدود قدراتها، فما كان منها إلا أن أبدت كل سبل السلام، فأرسلت بهدية لتنظر بماذا يرجع المرسلون:
سورة النمل
ولما وجدت أن هذا لن يثني سليمان (الملك) عن إخضاعهم كرها:
سورة النمل
ما كان منها إلا أن لبت النداء، فجاءت سليمان مع قومها طواعية، فوجدت أن عرشها قد سبقها إلى هناك:
سورة النمل
فكان الحوار الأول معها هناك يدور حول العرش:
سورة النمل
مصدر علم العرش
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن للآيات الكريمة التالية (كما نفهمها) علاقة بموضوع عرش هذه المرأة في سبأ:
سورة البقرة
بداية لابد أن نتدبر هذه الآيات الكريمة جيدا، لنجد الأمور التالية:
- تتحدث الآيات عن الذين نبذوا الكتاب وراء ظهورهم من أهل الكتاب: (... نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101))
- حصل ذلك بعد أن جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101))
- بعد أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كان البديل عندهم إتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
- جاء التبيان الإلهي بأن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين هم الذين كفروا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ)
- كانت مهمة الشياطين هي تعليم الناس شيئين اثنين: السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)
- كان تحذيرهم واضحا لكل من تعلم على أيديهم بأنهم ليسوا أكثر من فتنة (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102))
تساؤلات
- من هم الشياطين؟
- ومن هم هاروت وماروت؟
- وما علاقة ذاك كله بسليمان؟
الشياطين وهاروت وماروت
باب الشياطين
بداية لابد من التأكيد على أن مفردة الشياطين لا تقتصر على الجن، لأن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن:
سورة الأنعام
لتكون النتيجة المهمة جدا التي نسعى إليها هنا هي: أن شياطين الإنس والجن هم أعداء الأنبياء، فلقد كان لكل نبي أعداء، فكانوا من الإنس والجن، فكان هؤلاء هم الشياطين. وكانت مهمتهم الأساسية هي أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. فكانت صنعتهم هي ما تلخصه الآيات الكريمة التالية:
سورة الشعراء
وسنرى لاحقا بحول الله وتوفيقه أن ذلك كله من باب صنعة القول:
سورة الذاريات
فالفرق واضح – لا محالة- بين القول الحق الذي جاء من عند ربنا والقول المختلف الذي يؤفك عنه من أفك، وهم الذين نظن أن الشياطين تتنزل عليهم (وسنتحدث عن هذا بتفصيل أكثر لاحقا، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي بعلم لا ينبغي لغيري – آمين).
باب هاروت وماروت
نحن نفتري القول بأن هاروت وماروت كانا ملكين ببابل (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، كما نؤمن أن ما جاء هذين الملكين قد جاءهم بطريقة الإنزال، فكيف تم ذلك؟ ومن أين أنزل عليهم؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه ما أن ينزل شيء حتى يكون مصدره السماء، فالإنزال يأتي مباشرة من السماء:
سورة سبأ
سورة الحديد
تخيلات من عند أنفسنا: ينزل شيء من السماء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ولمّا كان هذا الذي أنزل من السماء بعلم الله، كان قولا حقا. لكن ما أن نزل هذا القول الحق من السماء على الملكين حتى كانت الشياطين (أعداء الأنبياء) التي تقعد مقاعد للسمع ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) جاهزة لتلقفه، وعندما سمعوا القول الحق، تنزلت تلك الشياطين به على كل أفاك أثيم ():
سورة الشعراء
فعمدوا إلى تحريف القول، فأصبحوا في قول مختلف يتصف بالكذب، بعد أن كان قولا حقا:
سورة الجن
وسنتعرض (إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه) إلى هذه الجزئية لاحقا بشيء من التفصيل عندما نتحدث عن الآية الكريمة التالية:
سورة النساء
ليكون محور النقاش حينها هو سؤال واحد: كيف يمكن أن يوجد اختلاف (حتى وإن كان قليلا) في القرآن؟ فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يهديني رشدي فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو السميع العليم – آمين.
علم صناعة العروش
افتراء خطير جدا: نحن نفتري القول أن ذاك العلم الحقيقي الذي نزل من السماء بعلم الله على الملكين ببابل هاروت وماروت هو علم "العرش" (أو لنقل علم صناعة العروش) فمن كان يملك ذلك العلم كان قادرا أن يعرش، وهو لا شك من باب القول الحق. فالله هو رب العرش العظيم:
سورة التوبة
وكان لهذه المرأة في سبأ عرش عظيم:
سورة النمل
ولو دققنا في السياق الخاص بهذه المرأة لوجدنا الترابط بين عرشها من جهة وعرش الله نفسه كما جاء على لسان الهدهد:
سورة النمل
ونحن نفتري القول بأن من يملك علم العرش فهو قادر على علم ما نخفي ما نعلن، وذلك لأن العرش هو أداة المراقبة التي تستطيع من خلالها مراقبة كل ما هو معروش عليه (أي دونه). للتفصيل انظر مقالتنا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب العرش.
الدليل
لما جاء الهدهد سليمان بذاك النبأ من سبأ صاغه على نحو من الدقة التي تصور لنا مكان عرشها، فالهدهد قد وجد المرأة مع عرشها في مكان ما:
سورة النمل
ثم وجد المرأة نفسها مع قومها يسجدون للشمس في مكان آخر:
سورة النمل
فمجيء الفعل "وجد" في النص مرتين ربما يدل (نحن نظن) على أن الهدهد قد شاهد المرأة مع عرشها في مكان ما، فكان ذلك أول ما وجده من أمر تلك المرأة، لكن الهدهد انتظر بعض الوقت ليجد المرأة نفسها مرة أخرى في مكان آخر مع قومها يقومون بطقوس العبادة للشمس.
وعندما أمر سليمان الهدهد بالذهاب إليهم بكتابه، كان خطاب سليمان واضحا بالذهاب إليهم وإلقاء الكتاب عليهم في معبدهم الجماعي:
سورة النمل
لكن كانت المفارقة أن الهدهد قد ألقى الكتاب إلى المرأة وحدها في معبدها:
سورة النمل
و لربما يدلنا هذا أن الهدهد (كطائر) قد قام بفعل الإلقاء من فوق (أي من جو السماء) إلى الأرض، لتتضح لنا أن صورة المعبدين مفتوحة من الأعلى بحيث يستطيع طائر كالهدهد أن يرى ما كان يجري فيهما، كما يستطيع أن يلقي فيهما شيئا ما (ككتاب سليمان مثلا) من الأعلى.
تحديد موقع سبأ ومعابدها
افتراء خطير جدا جدا: نحن نظن أن ذلك موجود في سبأ في المنطقة التي يتواجد بها معبدان متجاوران، أحدهما أكبر من الآخر، يكون واحد منهما خاصا والآخر عاما، يحتوي المعبد الأول على أشياء خاصة بالنساء، بينما يحتوي المعبد الثاني على أشياء خاصة بالعبادة الجماعية وخاصة السجود للشمس؟
فالماء يسيل في الوادي، لذا لابد أن يكون هناك مجرى ماء عظيم (كالنيل مثلا)، ولابد أن ذلك النهر يتفرع ليشكل جنتين عن اليمين والشمال، لأن الجنتين هما ما يجري خلالهما أو من تحتهما الماء:
سورة الكهف
فكان النهر هو الحد الفاصل بين الجنة التي عن الشمال من جهة والجنة التي عن اليمين (الجنوب) من جهة أخرى. ولابد أن المنطقة قريبة من الوادي حتى إذا سال ذلك الوادي فوق قدره، غُمرت المنطقة بأكملها بالماء، فأتت على الجنتين، فغطتهما بالماء حتى أصبح محصولها خمطا:
سورة سبأ
والله أعلم
فالله وحده نسأل أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله وحده علينا عظيما. وأعوذ به أن نفتري عليه الكذب أو أن نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو السميع العليم – آمين.
المدّكرون: رشيد الجراح، عصام درويش، علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
7 أيلول 2014
د. رشيد الجراح - جامعة اليرموك- مركز اللغات