قصة يأجوج ومأجوج - الجزء السادس

قصة ذي القرنين
قصة يأجوج ومأجوج 6
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى افتراء الظن من عند أنفسنا بأن هامان قد بنا لفرعون صرحا، ليبلغ من خلال ذلك الأسباب، فيطلع إلى إله موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

وزعمنا الظن بأن هامان لم يتردد في تنفيذ طلب فرعون هذا، وذلك لأن صنعة بناء العروش كانت مستندة على علم ربما كان يعلمه بعض الملأ من مثل هامان، وكان ذلك جزءً من بقية من علم يوسف في أرض مصر والذي جلبه معه من سبأ.

كما افترينا الظن من عند أنفسنا أيضا بأن ذلك قد حصل في منطقة أسوان في صعيد مصر، وهي المنطقة التي لازالت ما تبقى من العروش المدمرة هناك دالة على آثار تلك الصنعة العظيمة. وافتح – إن شئت- الرابط التالي:






وافترينا الظن من عند أنفسنا أن منطقة الحالية الواقعة في جنوب مصر الممتدة حتى شمال السودان (النوبة) هي المنطقة التي – في ظننا- يسميها القرآن بسبأ:
وفي تلك المنطقة نشأت حضارة عظيمة امتازت بما يلي:
  1. وجود العرش
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
  1. السجود للشمس بسبب ما زين لهم الشيطان ليصدهم عن السبيل فلا يهتدون
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
  1. وجود جنتان عن اليمين والشمال
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
  1. إعراض القوم عن شكر ربهم، فوقع عليهم العذاب بسيل العرم جزاء على كفرهم، فتبدّلت جنتاهم بجنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
  1. ثم جعلت قرى ظاهرة بينهم من جهة وبين القرى التي بارك الله فيها من جهة أخرى:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
  1. المباعدة بين الأسفار وجعلهم أحاديث وتمزيقهم كل ممزق:
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
  1. تصدَّق إبليس عليهم ظنه إلا فريقا من المؤمنين:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
من قصة سليمان
يرث سليمان الحكم بعد وفاة والده داوود، فيقف خطيبا بالناس قائلا:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
وكرجل عسكري، يكون أول ما يفعل سليمان الملك هو أن يحشر إليه جنوده من الجن والإنس والطير:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
فيتخلّف عن الحضور إلى طابور سليمان التفقدي هذا النمل، فيظن سليمان أنهم قد تخلفوا طواعية، وخروجا عن ملكه، ولمّا كان سليمان يظن (نحن نفتري القول) أن النمل هو من فئة الطير، ما كان منه إلا أن سار بجيشه متجها وقاصدا وادي النمل ليجبرهم على الخضوع لملكه إن لم يكن طواعية فكرها، وما أن وصل إلى هناك حتى سمع نملة تخاطب بقية النمل قائلة:
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
عندها تكون ردة فعل سليمان على النحو التالي:
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
نعم، يتبسم سليمان ضاحكا من قولها، لأنه أدرك على الفور (نحن نفتري القول) أن تلك النمل ليست من الطير الذي كان من المفترض أن يحشر له، لذا فقد علم الآن أن تخلف النمل عن الحضور لم يكن خروجا عن ملكه وإنما لأن ذلك النمل لم يكن من الكائنات التي تفهم لغة التخاطب. فالذي جعل سليمان يتبسم ضاحكا هو قولها نفسه (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا). وذلك لأن قولها لم يكن من النوع الذي يمكن أن يفهمه سليمان لأن سليمان كان قد علّم منطق الطير كما جاء على لسانه في بداية قوله:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
تخيلات: ما أن أتى سليمان مع جنوده من الجن والإنس والطير واد النمل قاصدا إخضاعهم لملكه حتى سمع ما قالت تلك النملة لبني جلدتها من بقية النمل، ولمّا كان سليمان قد عُلِّم منطق الطير عندها أدرك أن هذا ليس من القول المفهوم عنده، وهو من القول الذي يدعو للضحك. فأنت عندما تسمع قولا لا تفهمه لأول مرة تكون الدهشة بالتبسم وربما الضحك بادية عليك، ويعتمد ذلك على درجة غرابة القول، فكلما كان القول أكثر غرابة كانت الابتسامة أوسع، حتى ربما قد تصل إلى درجة الضحك. وهذا ما كان من قول النملة بالنسبة لسليمان. فخلص سليمان إلى أن النمل ليس من الطير، فتوقف عن مهاجمتها. (للتفصيل انظر مقالتنا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب النمل)
عاد سليمان هناك في واد النمل ليتفقد الطير مرة أخرى على وجه الخصوص من جديد وذلك لأن المشكلة (نحن نظن) كانت أساسا تخص الطير، وهنا بالضبط لاحظ سليمان غياب الهدهد، فتوعده بالعذاب الشديد أو الذبح أو أن يأتينه بسلطان مبين:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)
وما هو إلا وقت قصير حتى حط ذلك الطائر (الهدهد) غير بعيد عن سليمان ليقص عليه سبب غيابه، فجاءه من سبأ بنبأ يقين:
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
فكان النبأ على النحو التالي:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
ولو لاحظنا هذا السياق جيدا لوجدنا أن الهدهد يعقد في رده هذا مقارنة مباشرة بين سليمان من جهة وتلك المرأة في سبأ من جهة أخرى
سليمان
المرأة
- رجل
- ملك
- أوتي من كل شيء
- لم يكن له عرش
- يسجدون لله
- كانت الشياطين مسخرة لسليمان
- امرأة (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً)
- تملك (تَمْلِكُهُمْ)
- أوتيت من كل شيء (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)
- لها عرش عظيم (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)
- يسجدون للشمس (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ)
- كان الشيطان يتلاعب بهم ليصدهم عن السبيل (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)
ويكأن الهدهد (نحن نتخيل) يقول لسليمان: صحيح أنك رجل لك مُلك على من حولك، لكن هناك في سبأ امرأة تملك قومها (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)، وإذا كنت أنت قد أوتيت من كل شيء (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ)، فقد أوتيت هي كذلك من كل شيء (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)، وهي تتميز عليك بشيء ليس متوافر عندك ألا وهو العرش (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ). وهو ما ليس عندك.
ولكن – بالمقابل- هذه المرأة وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
ولو تدبرنا ردة فعل سليمان أكثر لوجدنا أن ما طلبه سليمان من ملئه أن يأتوه به من سبأ هو ذلك العرش على وجه التحديد:
قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
فهو كان قد رد الهدية (المال) من ذي قبل لأن سليمان يملك منه الكثير:
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
نتيجة مفتراة: لقد كان جل ما طلب سليمان أن يأتوه به من سبأ هو (نحن نظن) ما كان ينقص ملكه، ألا وهو العرش.
ولو تدبرنا النص أكثر لوجدنا أن سبأ لم تكن تقع داخل حدود مملكة سليمان عندما ورث سليمانُ والده داوود، وما وقعت تحت ملكه إلا بعد هذه الحادثة الشهيرة.
السؤال: لماذا كانت تلك البلاد (سبأ) خارج نفوذ حكم داوود (والد سليمان)؟ لِم لَم تكن جزءا من مملكة داوود؟
رأينا المفترى: وقعت المعركة الشهيرة بين طالوت وجالوت، وانتهت بانتصار طالوت على جالوت بسبب مقتل داوود لجالوت. وقد حصل ذلك على النحو التالي:
- أُخرج بنو إسرائيل مع أبناءهم من ديارهم، فما كان منهم إلا أن طلبوا من نبي لهم من بعد موسى أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
- كان ذلك الملأ من بني إسرائيل يظن أن المَلك سيكون منهم، لكن المفاجأة جاءتهم صاعقة عندما علموا من نبيهم بأن الملك ليس منهم، وأن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، فما كان منهم إلا أن أظهروا احتجاجهم على اختيار طالوت ملكا عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أنهم أحق بالملك منه، ولكن التبرير الإلهي كان على نحو أن الله قد زاده بسطة في العلم والجسم:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
- تكون آية ملك طالوت عليهم هو ذاك التابوت الذي تحمله الملائكة وفيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
- يبتلى الله القوم بنهر بعد أن فصل بهم طالوت، فيتجاوز طالوت هذا النهر بقليل من الذين آمنوا معه، ولكن يبقى القلق مسيطرا عليهم لأنهم هم الفئة القليلة، بينما جالوت وجنوده هم الفئة الكثيرة، فيظن البعض منهم أنهم لا طاقة لهم بجالوت وجنوده، ولكن تبقى فئة قليلة جدا تظن بصدق الوعد الإلهي بنصره للفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة الكافرة بإذنه، فكانوا من الصابرين:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
- تقع المواجهة بين الطرفين، فتطلب هذه الفئة القليلة المؤمنة من ربهم أن يفرغ عليهم صبرا ويثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الكافرين
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
- تهزم الفئة القليلة المؤمنة الفئة الكثيرة الكافرة بإذن الله، ويقتل داوودُ جالوت:
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاووُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
تساؤلات
- كيف قتل داوودُ جالوت؟
- لماذا لم يقتل طالوتُ جالوت؟
- إلى أين هرب من تبقى من جنود جالوت بعد هزيمتهم؟
تحدثنا في مقالتنا السابقة تحت عنوان ما دلهم على موته إلا دابة الأرض عن هذه القضية، وافترينا الظن من عند أنفسنا بأن داوود استطاع أن يقتل جالوت بما وجده في التابوت الذي كان يحتوي على بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وظننا أنها بقية تلك العصا التي كانت بيد موسى، والتي قبض منها السامري قبضة، فأصبحت بعد ذلك منسأة بعد أن كانت عصا. وكان ذلك بداية الحكم والعلم الذي آتاه الله داوود في تلك المرحلة من حياته.
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاووُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
فلقد كان داوود خليفة لأن المُلك لم يصله من طالوت بالوراثة، وإنما انتقل إليها انتقالا:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
نتيجة مفتراة: الحكم بالخلافة لا يأتي وراثة، فأبو بكر مثلا هو خليفة رسول الله، وعمر هو خليفة أبي بكر، وهكذا. ولكن يزيد ليس خليفة لمعاوية لأنه ولده، لذا فهو وارثه.
نتيجة مفتراة: استتب الملك لـ داوود كخليفة لطالوت الملك (وسنتحدث عن الآلية لاحقا في سلسلة مقالاتنا عن سليمان بحول الله وتوفيقه). وانتهى بالوراثة إلى سليمان من والده داوود:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ولم تكن سبأ تقع ضمن نطاق ذلك الملك بدليل أن الهدهد قد جاء سليمان بنبأ يقين من هناك كان غائبا عن سليمان:
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
نتيجة مفتراة: لم يكن سليمان يعلم ما كان يدور في سبأ وليس أدل على ذلك من ردة فعله على ما جاء به الهدهد:
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
السؤال: لماذا لم يكن سليمان يعلم بما يدور في سبأ؟
جواب مفترى: لأنها لم تكن حتى الساعة تقع ضمن نطاق ملكه.
السؤال: لماذا لم تكن سبأ تقع ضمن نطاق ملك سليمان الذي ورثه عن والده داوود؟
جواب مفترى خطير جدا: لأنها كانت هي البلاد نفسها التي هرب إليها جنود جالوت بعد هزيمتهم في الأرض المقدسة.
تخيلات من عند أنفسنا: عندما وقعت المعركة الفاصلة في القدس بين طالوت ومن معه من الذين آمنوا (ومنهم داوود نفسه) من جهة وجالوت وجنوده من جهة أخرى، لم يتوقع الكثيرون انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة. ولكن لما كان النصر بإذن الله كانت الغلبة للفئة القليلة المؤمنة بنصر ربها. ولما حصل أن قتل داوود جالوت، أصبح جنود طالوت بلا قائد يوجّههم، فكانت الهزيمة الساحقة لهؤلاء الجند، والنصر المؤزر لطالوت والذين آمنوا معه. عندها (نحن لازلنا نتخيل) هرب جنود طالوت في كل اتجاه، واستقر قسم كبير منهم في سبأ وذلك لأنها كانت تقع خارج سيطرة مُلك الغالب وهو طالوت حينئذ. فمنطق القول أن المغلوب في المعركة يفر إلى خارج حدود مُلك الغالب، فمن غير المنطقي أن ينهزم جنود جالوت في داخل مملكة طالوت لأن ذلك يعني نهايتهم وإلى الأبد. لذا نحن نتخيل أن المهزوم قد هرب خارج حدود مُلك الغالب. ومن هنا جاء افتراؤنا بأنهم قد هربوا إلى سبأ. فلماذا؟
هزم و غلب
ما الفرق بين أن تهزم أو أن تغلب؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الغلبة (غلب) تعني انتصار طرف على طرف، ولكن هذا الانتصار لا يؤدي إلى نهاية الطرف المهزوم، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
فبالرغم من أن الروم قد غلبت لكن ذلك لم يؤد إلى نهاية دولتهم (أو كيانهم) بدليل أنهم سيعاودن الكرة بعد بضع سنين وستكون لهم الغلبة، لذا ستبقى الحرب بين الطرفين سجال، يتغلب طرف على طرف، ولكن لا يستطيع طرف إنهاء الطرف الآخر كليا.
أما عندما تحدث الهزيمة (هزم)، فإن الصورة تكون أكثر مأساوية للطرف المهزوم لأنه عندها سيولي الدبر:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
ولو حاولنا إسقاط ذلك على ما حصل في المعركة الفاصلة بين طالوت وجالوت، لوجدنا أن طالوت ومن معه من المؤمنين قد هزموا جالوت وجنوده أجمعين (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاووُدُ جَالُوتَ)، فما كان من المهزومين (وهم جنود جالوت) إلا أن ولوا الدبر، فكانت تلك المعركة بمثابة بداية النهاية لجميع جنود جالوت. فهم قد هربوا وتفرقوا في الأرض فما عاد لهم ملكا واضحا. بل كانوا يحاولون التخفي عن الأنظار.
عندما وصل جنود جالوت المهزومين إلى سبأ، حاولوا قدر الإمكان أن يبقوا بعيدين عن متناول قبضة حكم طالوت، وداوود من بعده، ونجحوا في ذلك حتى كان ذلك اليوم الذي جاء الهدهد سليمان بنبئهم من سبأ:
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
ملحوظة مهمة: لو حاولنا تدبر هذا السياق القرآني جيدا لوجدنا أن تلك المرأة في سبأ لم تكن ملكة، وإنما كانت تملك قومها. ونحن نظن أن هناك فرق كبير بين من كان له ملك ومن كان يملك. فما الفرق؟
رأينا: نحن نظن أن من كان له ملك فهو يملك ملكية عامة، فالملك له سلطة على شعبه لكن هذه السلطة هي سلطة ذات طابع عام، فبالرغم أنه ملك، لكنه لا يستطيع أن يدخل بيتك الخاص دون إذنك المسبق. فملكه لا يعطيه الصلاحية بالتدخل بخصوصية حياة شعبه، ولكن عليه أن يحترمها. وعلى الشعب إطاعة أوامره بصفته ملكا.
أما من يملك الشيء، فهو من تكون له الأحقية بالتصرف فيه، لأنه هو صاحبه، فأنت تملك بيتك فلك الحق أن تفعل به ما تشاء، وهكذا. لذا تصبح الملكية هنا خاصة وليست عامة كما في حالة من كان ملكا.
نتيجة مفتراة 1: الملك هو ملكية عامة
نتيجة مفتراة 2: التملك هو ملكية خاصة
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لما كانت تلك المرأة ليست بالملكة ولكنها كانت تملك قومها، فقد كان لها (نحن نظن) حق التصرف فيهم، لذا كانوا على الدوام طوع أمرها، وهو ما أثبتوه بأنفسهم بأن لها الحق فيه:
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن القوم في تلك المنطقة لم يعمدوا إلى تأسيس مُلك، ولم يبنوا دولة مستقلة ذات طابع عام، وإنما كانت ملكية خاصية بغية الابتعاد عن متناول يد طالوت وداوود من بعده. وليس أدل على ذلك مما قالته المرأة لقومها عندما حاولوا أن يستعرضوا قوتهم:
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
نتيجة مفتراة: لم تكن تلك المرأة من بين ملوك جنوب مصر الرسميين، فمن هي؟ من يدري؟!!!
لما كانت تلك المرأة تعلم يقينا مقدار بطش الملوك (طالوت، داوود، سليمان)، حاولت أن لا تتجاوز حدود قدراتها، فما كان منها إلا أن أبدت كل سبل السلام، فأرسلت بهدية لتنظر بماذا يرجع المرسلون:
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
ولما وجدت أن هذا لن يثني سليمان (الملك) عن إخضاعهم كرها:
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
ما كان منها إلا أن لبت النداء، فجاءت سليمان مع قومها طواعية، فوجدت أن عرشها قد سبقها إلى هناك:
قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
فكان الحوار الأول معها هناك يدور حول العرش:
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
ليكون السؤال الآن هو: من أين جاءها العرش؟ لم كان لتلك المرأة في سبأ عرش عظيم؟
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن للآيات الكريمة التالية (كما نفهمها) علاقة بموضوع عرش هذه المرأة في سبأ:
وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)
السؤال: ما علاقة ذلك بالموضوع؟
بداية لابد أن نتدبر هذه الآيات الكريمة جيدا، لنجد الأمور التالية:
أولا، تتحدث الآيات عن الذين نبذوا الكتاب وراء ظهورهم من أهل الكتاب: (... نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101))
ثانيا، حصل ذلك بعد أن جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101))
ثالثا، بعد أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كان البديل عندهم إتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
رابعا، جاء التبيان الإلهي بأن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين هم الذين كفروا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ)
خامسا، كانت مهمة الشياطين هي تعليم الناس شيئين اثنين: السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)
سادسا، كان تحذيرهم واضحا لكل من تعلم على أيديهم بأنهم ليسوا أكثر من فتنة (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102))
تساؤلات
- من هم الشياطين؟
- ومن هم هاروت وماروت؟
- وما علاقة ذاك كله بسليمان؟
باب الشياطين
بداية لابد من التأكيد على أن مفردة الشياطين لا تقتصر على الجن، لأن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
لتكون النتيجة المهمة جدا التي نسعى إليها هنا هي: أن شياطين الإنس والجن هم أعداء الأنبياء، فلقد كان لكل نبي أعداء، فكانوا من الإنس والجن، فكان هؤلاء هم الشياطين. وكانت مهمتهم الأساسية هي أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. فكانت صنعتهم هي ما تلخصه الآيات الكريمة التالية:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وسنرى لاحقا بحول الله وتوفيقه أن ذلك كله من باب صنعة القول:
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
فالفرق واضح – لا محالة- بين القول الحق الذي جاء من عند ربنا والقول المختلف الذي يؤفك عنه من أفك، وهم الذين نظن أن الشياطين تتنزل عليهم (وسنتحدث عن هذا بتفصيل أكثر لاحقا، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي بعلم لا ينبغي لغيري – آمين).
باب هاروت وماروت
نحن نفتري القول بأن هاروت وماروت كانا ملكين ببابل (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، كما نؤمن أن ما جاء هذين الملكين قد جاءهم بطريقة الإنزال، فكيف تم ذلك؟ ومن أين أنزل عليهم؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه ما أن ينزل شيء حتى يكون مصدره السماء، فالإنزال يأتي مباشرة من السماء:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
نتيجة مفتراة 1: كان الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت قد نزل من السماء
نتيجة مفتراة 2: مادام أن ذلك قد نزل من السماء، فهو إذن قد نزل بعلم الله (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا). والله يشهد على كل ما ينزل من السماء:
لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (166)
نتيجة مفتراة 3: مادام أنه قد نزل من السماء وبعلم الله، فهو إذن علم حقيقي، لذا فهو لن يكون قولا مختلف، وما دام أنه كذلك فلن يجدوا فيه اختلافا كثيرا:
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)
تخيلات من عند أنفسنا: ينزل شيء من السماء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ولمّا كان هذا الذي أنزل من السماء بعلم الله، كان قولا حقا. لكن ما أن نزل هذا القول الحق من السماء على الملكين حتى كانت الشياطين (أعداء الأنبياء) التي تقعد مقاعد للسمع ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) جاهزة لتلقفه، وعندما سمعوا القول الحق، تنزلت تلك الشياطين به على كل أفاك أثيم ():
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
فعمدوا إلى تحريف القول، فأصبحوا في قول مختلف يتصف بالكذب، بعد أن كان قولا حقا:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)
وسنتعرض (إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه) إلى هذه الجزئية لاحقا بشيء من التفصيل عندما نتحدث عن الآية الكريمة التالية:
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)
ليكون محور النقاش حينها هو سؤال واحد: كيف يمكن أن يوجد اختلاف (حتى وإن كان قليلا) في القرآن؟ فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يهديني رشدي فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو السميع العليم – آمين.
افتراء خطير جدا: نحن نفتري القول أن ذاك العلم الحقيقي الذي نزل من السماء بعلم الله على الملكين ببابل هاروت وماروت هو علم "العرش" (أو لنقل علم صناعة العروش) فمن كان يملك ذلك العلم كان قادرا أن يعرش، وهو لا شك من باب القول الحق. فالله هو رب العرش العظيم:
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وكان لهذه المرأة في سبأ عرش عظيم:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
ولو دققنا في السياق الخاص بهذه المرأة لوجدنا الترابط بين عرشها من جهة وعرش الله نفسه كما جاء على لسان الهدهد:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
ونحن نفتري القول بأن من يملك علم العرش فهو قادر على علم ما نخفي ما نعلن، وذلك لأن العرش هو أداة المراقبة التي تستطيع من خلالها مراقبة كل ما هو معروش عليه (أي دونه). للتفصيل انظر مقالتنا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب العرش.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن بأن علم العرش (أو صناعة العروش) قد نزل من السماء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ومنذ تلك اللحظة أصبح متاحا لمن يمتلك هذا العلم أن يقوم ببناء عرش عظيم كما فعلت تلك المرأة، فأصبحت قادرة من خلال هذا العرش أن تملك قومها، فكانت ملكيتها لهم ملكية خاصة وليست ملكية عامة، فهي لم تكن ملكة على قومها ولكنها كانت تملك قومها (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)، وكانت وسيلتها في إحكام سيطرتها عليهم هو ذلك العرش العظيم الذي كان متواجدا في مكان خاص لها (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، ربما لا يستطيع الآخرون الوصول إليه.
الدليل
لما جاء الهدهد سليمان بذاك النبأ من سبأ صاغه على نحو من الدقة التي تصور لنا مكان عرشها، فالهدهد قد وجد المرأة مع عرشها في مكان ما:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
ثم وجد المرأة نفسها مع قومها يسجدون للشمس في مكان آخر:
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
فمجيء الفعل "وجد" في النص مرتين ربما يدل (نحن نظن) على أن الهدهد قد شاهد المرأة مع عرشها في مكان ما، فكان ذلك أول ما وجده من أمر تلك المرأة، لكن الهدهد انتظر بعض الوقت ليجد المرأة نفسها مرة أخرى في مكان آخر مع قومها يقومون بطقوس العبادة للشمس.
وعندما أمر سليمان الهدهد بالذهاب إليهم بكتابه، كان خطاب سليمان واضحا بالذهاب إليهم وإلقاء الكتاب عليهم في معبدهم الجماعي:
اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
لكن كانت المفارقة أن الهدهد قد ألقى الكتاب إلى المرأة وحدها في معبدها:
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
و لربما يدلنا هذا أن الهدهد (كطائر) قد قام بفعل الإلقاء من فوق (أي من جو السماء) إلى الأرض، لتتضح لنا أن صورة المعبدين مفتوحة من الأعلى بحيث يستطيع طائر كالهدهد أن يرى ما كان يجري فيهما، كما يستطيع أن يلقي فيهما شيئا ما (ككتاب سليمان مثلا) من الأعلى.
السؤال: أين نبحث عن ذلك في سبأ؟
افتراء خطير جدا جدا: نحن نظن أن ذلك موجود في سبأ في المنطقة التي يتواجد بها معبدان متجاوران، أحدهما أكبر من الآخر، يكون واحد منهما خاصا والآخر عاما، يحتوي المعبد الأول على أشياء خاصة بالنساء، بينما يحتوي المعبد الثاني على أشياء خاصة بالعبادة الجماعية وخاصة السجود للشمس؟
السؤال: أين يمكن أن نجد هذين المعبدين؟
رأينا: أظن أن صاحبنا عالم الآثار المصري عصام درويش من مصر يمكن له (بما لديه من خبرة) في أرض سبأ أن يأتينا بنبأ يقين من هناك. فالله أسأل أن يعلمني وإياه ما لا ينبغي لأحد غيرنا إنه هو السميع المجيب – آمين.
السؤال: أين يمكن لصاحبنا عصام درويش أن يبحث عن المعبدين؟
جواب مفترى: نحن نظن أن بإمكانه أن يجدهما في سبأ في المنطقة التي حصل فيها سيل العرم:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
السؤال: وأين يمكن أن يكون سيل العرم قد حصل؟
رأينا: لابد أنه قريب من منطقة الوادي:
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17)
نتيجة مفتراة: السيل هو (في ظننا) جريان الماء في الوادي
فالماء يسيل في الوادي، لذا لابد أن يكون هناك مجرى ماء عظيم (كالنيل مثلا)، ولابد أن ذلك النهر يتفرع ليشكل جنتين عن اليمين والشمال، لأن الجنتين هما ما يجري خلالهما أو من تحتهما الماء:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
فكان النهر هو الحد الفاصل بين الجنة التي عن الشمال من جهة والجنة التي عن اليمين (الجنوب) من جهة أخرى. ولابد أن المنطقة قريبة من الوادي حتى إذا سال ذلك الوادي فوق قدره، غُمرت المنطقة بأكملها بالماء، فأتت على الجنتين، فغطتهما بالماء حتى أصبح محصولها خمطا:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
والله أعلم
فالله وحده نسأل أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله وحده علينا عظيما. وأعوذ به أن نفتري عليه الكذب أو أن نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو السميع العليم – آمين.
المدّكرون: رشيد الجراح عصام درويش علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
7 أيلول 2014

الجزء السابع