ما يؤكل وما لا يؤكل - قصة الخلق الأولى و الشجرة و تحريم لحم الخنزير


من تطبيقات نظريات تحليل الخطاب (1): تحريم لحم الخنزير


نقدم في بحثين متتابعين تطبيقاً عملياً لنظريات تحليل الخطاب اللغوية، يناقش البحث الأول سبب التركيز القرآني على حرمة لحم الخنزير على وجه التحديد، ويناقش البحث الثاني إعراض الناس عن أكل لحوم حيوانات معينة، والتباين الملحوظ في هذا المجال بين المجتمعات المختلفة. وقد تم استخدام المنهجية المتبعة في نظريات تحليل الخطاب في كلا البحثين

البحث الأول: تحريم لحم الخنزير

تتعرض الدراسة الحالية إلى مجتمعات متنوعة كان الخنزير من المحرمات الأساسية (Taboos) في ثقافاتها، كالمجتمع المصري القديم (Ancient Egyptians) والمجتمع اليهودي (Israelites) قديمه وحديثه وكذلك المجتمع الإسلامي (Muslims) . ولإيجاد العلة كان لا بد من تفقد الروابط الذهنية(Retrieving Conceptual Information) التي يمكن إثارتها في النصوص القرآنية والتي تعود إلى هذه الثقافات المختلفة في سياق الحديث عن المحرمات، وقد أدى أسلوب البحث هذا إلى إثارة وجاهة محرمات مماثلة في هذه المجتمعات وفي المجتمعات الأخرى كحرمة ذبح وأكل البقر- على سبيل المثال- في بعض المجتمعات الهندية(Indian Cultures) ، وبالمقابل تقبل أكل لحوم الكلاب والحيوانات الأليفة(Pets) والقوارض (Rodents) وما شابه في مجتمعات أخرى (خصوصاً بعض مجتمعات الشرق الأقصى) وقد توصلت الدراسة إلى تصور فكري للتحريم والإباحة من منظور قرآني. وكانت الخلاصة تتمثل في أن تقبل المأكولات أو تحريمها لا علاقة له بأسباب تعود إلى عوامل الصحة البدنية أو الرغبة النفسية أو حتى الثقافة السائدة، وإنما هي أسباب في مجملها عقائدية متوارثة من أصول دينية ذهبت معظم تشريعاتها وبقيت مخلفات لتلك التشريعات، وكان أهمها تحريم لحم الخنزير (Pork). فتحاول الدراسة الراهنة تقديم تفسير قرآني - حسب دليلنا اللغوي- لتحريم لحم الخنزير على وجه الخصوص في هذه الثقافات مجتمعة، كما تناقش الدراسة جغرافية محرمات الأطعمة وذلك بإسقاط المحرمات على خارطة العالم القديم، لتخلص الدراسة إلى افتراض مفاده أن التحريم يتزايد كلما اتجهنا غرباً بناءَ على فهمنا لما جاء في الآية الكريمة التالية:

"ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ" [1] المؤمنون (44)

الكلمات الدالة : نظريات تحليل الخطاب، التحريم، لحم الخنزير

توطئة

تعتبر هذه المقالة تطبيقاً عملياً لنظرية تحليل الخطاب اللغوية( Discourse Analysis) على النص القرآني. لذا نجد أنه من بالغ الأهمية الإشارة إلى أن هذا البحث هو بحث لغوي خالص، لكننا نرى أن من عظيم الفائدة أن يجد فرصته في النشر في مجلة علمية تعنى بعلوم القرآن الكريم واللغة معاً، فنحن نظن أن التطبيقات الصحيحة والاستفادة المثلى من تلك النظريات اللغوية ربما تفتح آفاقاً جديدة في البحث في مجالات أخرى. وسنحاول تقديم الدليل على مثل هذا الزعم في مقالتنا. ومثالنا الذي نطرحه يتمثل بالإجابة على سؤال يخالج العامة وأهل الاختصاص على حد سواء، يتمحور حول ما يؤكل وما لا يؤكل من المنظور القرآني. ولمّا كان البحث لغوياً خالصاً، فإننا لن نقحم أنفسنا بالآراء العقائدية المتوافرة في الأدب النظري حول الموضوع، فهذا ليس مكانها، فيستطيع القارىء الكريم الرجوع إلى كتب الأحكام إن أراد الاستزادة، ولكن ما يهمنا هو التركيز على جانب التطبيق العملي للنظرية اللغوية في كيفية استنباط الأحكام من خلال الدليل اللغوي فقط، لذا نجد لزاماً التنبيه أنّنا لا نصدر هنا فتاوى أو أحكاماً شرعية بخصوص الموضوع، وإنما جل غايتنا تتمثل في تبيان كيفية التوصل إلى استنباطات من النص القرآني من خلال استخدام أدوات النظرية اللغوية نفسها، ليتم بعدها عرض تلك الأحكام على أهل الدراية والعلم لتمحيص تلك الاستنباطات وتنقيتها.

الإطار النظري:

دلّلت معظم الأبحاث اللغوية ضمن إطار نظريات تحليل الخطاب (Discourse Analysis)، وتحليل النص (Text Analysis) على أن المعاني محكومة بالألفاظ، لذا يصبح من الصعب، وربما من باب الاستحالة، أن تعبّر الجملة الواحدة عن كل المعاني التي تدلّل عليها (أنظر Carston 2000). لهذا السبب تبرز الحاجة إلى اللجوء إلى مبدأ الإحالة النصيّة (Intertextuality) في تحليل الخطاب اللغوي، حيث ينصب دور القارئ على تزويد السياق الواحد بمعاني يتم جلبها من سياقات أخرى (أنظر Kolaiti 2008)، وهذا يتطلب من القارىء العمل في مستويات ثلاث من التحليل على النحو التالي:

  1. ) تحليل المفردة على مستوى الجملة التي وردت فيها (Intra-sentential Analysis) أو ما يسميه Kintsch & Van Dijk (1978) بــ Microstructure
  2. تحليل المفردة على مستوى النص الكلي (Inter-Sentential Analysis) أو ما يسميه Kintsch & Van Dijk (1978) بـ Macrostructure.
  3. تحليل المفردة على المستوى المعرفي الكلي (Sociocultural Analysis) أو ما يسميها Minsky (1975) بـ Frame Knowledge.

وحتى يتم ذلك، تصبح كل مفردة في النص معلومة مستدعِية (Presupposing) لمعلومات مستدعاة (Presupposed) تقوم بدورها بإستدعاء معلومات جديدة، وهكذا، فيصبح النص بأكمله ساحة للتنقيب عن المعاني. والمهم في هذا الإطار أنّه لا يجوز تحليل المعلومة المستدعِية فقط في سياقها المحلي (Local) دون ربطها بالمعلومة المستدعاة من السياق الكلي (Global) (أنظر Halliday and Hasan 1976). وهذا ما يطلق عليه بمبدأ الإحالة النصية Intertextuality)). ويميز Wilson (1998( بين نوعين من المعلومة يدرجهما تحت عنوانين هما: الإدراك على المستوى المحلي (Local Intuitions ) و الإدراك على المستوى الكلي (Global Intuitions)، ويسميها Kintsch & van Dijk (1978) Microstructure و Macrostructure وكلاهما يخدم هدفاً واحداً يتمثل في خلق الترابط الإحالي (Co-referential Coherence) بين مكومات الخطاب الكلي لكي يتبين في النهاية قوة الترابط بين مكونات النص كوحدة واحدة متماسكة (Coherent Whole). ولكن يبقى السؤال الإجرائي متمحوراً حول كيفية الانتقال من مكان إلى مكان آخر داخل الخطاب الواحد. تكمن قوة النظرية في الافتراض بأن هذا الانتقال يمكن أن يتم بجميع الاتجاهات المحتملة، فهذا الانتقال يمكن أن يكون انتقالاً إلى الوراء (Anaphoric) أو إلى الأمام ((Cataphoric، وكذلك يمكن أن يكون داخلياً (Endophoric) أو خارجياً Exophoric)). ولكن الانتقال الأمثل حسب نظرية Sperber and Wilson يكون في اتباع الطريق الذي يتطلب جهداً أقل (Minimum Effort) ويكون له ثمار أكبر (Maximum Effect).

وهنا يجب التأكيد على الافتراض النظري أنّ هذا كله مرتبط بقدرة القارئ على الاستنباط (Inferencing). وتتألف قدرة القاريء ليس فقط من مجموع الحقائق المتوافرة لديه، بل من كل ما هو قادر على استنباطه بناء على تلك الحقائق (انظر(Sperber and Wilson 1995: 39 ، وهذا ما سنجهد أنفسنا في تجليته في تحليلنا للخطاب القرآني فيما يتعلق بتحريم لحم الخنزير.

تطبيق المنهجية على الخطاب القرآني

تتلخص منهجيتنا إذاً في متابعة إشارات الترابط النصي في القرآن الكريم كله. فلقد دلت الأبحاث اللغوية على أنّ الترابط النصي (Textual Cohesion) يمكن قياسه من الإشارات (Cohesive Elements) التي تعين القارىء على ربط المعلومات بعضها ببعض داخل النص الواحد أو قد ترجعه إلى معلومات وردت في سياقات سابقة أو لاحقة وهو ما نسميه الترابط الإحالي (Referential Coherence) (انظر: (Kintsch & Van Dijk, 1978; Givon, 1995 . ومن الجدير بالذكر أن هذه الإشارات قد ترد داخل الآية الواحدة أو السياق الواحد (Locally)، وقد ترد في سياقات أخرى (Globally)، ولكن من المفيد أن نذكر هنا أن الترابط النصي لا يعني وجود ترابط أو عدمه، وإنما هي درجة (أو قوة) الترابط التي يجب أن تؤخذ في الحسبان، فقد تكون الإشارة قوية في موطن ما، وقد تكون أقل قوة في موطن آخر، وهكذا. فهي إذاً تدرجية (Continuum)، فارتباط لفظة في آية في موطن ما من القرآن الكريم مع موطن آخر لا شك يثير روابط جديدة، وهكذا. وأشارت الأبحاث العلمية إلى أنّ فهم كيفية ترابط هذه الإشارات تساعد في فهم النص بشكل أكثر دقة (انظر

Strawson (1950; 1964); Chastain (1975); Grice (1975); Halliday and Hassan (1976; 1985); Clark (1977); Kintsch & Van Dijk, 1978 ; Donnellan (1978); Givón (1983); Reinhart (1983a; 1983b) Hasan (1984); Tannen (1987a; 1987b; 1989); Gumperz (1992); Chafe (2005).

وبتطبيق هذه الفرضيات في تفسيرات الآيات القرآنية، فإننا نفهم أن كلَّ آية قرآنية هي معلومة مستدعية بحد ذاتها، تتطلب استدعاء آيات أخرى من الخطاب القرآني بأكمله حتى يستطيع القارىء خلق حلقات متتالية (Lexical Chains) يفضي بعضها إلى بعضها الآخر بمسوغات مفهومة (Conceptual Ties) لا يختلف الكثيرون في الاستنباطات التي يمكن الخروج بها من ذلك الترابط النصي ( (Textual Cohesion(انظر Clark 1977). ويتم ذلك بجميع الوسائل والمسوغات اللغوية المتوافرة كإستخدام الضمائر (انظر: Bardovi-Harlig 1983; Reinhart 1983a, b) والحذف (انظر: Reinhart 1983a, b) والابدال (انظر: Chafe 1972; Prince 1981b, 1992; Wallace 1982; Farhady 1982) وترتيب الكلمات (انظر: Gundel et al. 1993; Birner 1994; Birner & Gregory 1998) والتكرار (انظر: Yule 1999; Leech 2004) والإعراب (انظر: Grimes 1975; Siddharthan 2004) والإشتقاق (انظر: Siddharthan 2004)، الخ. وما ينتج عنها من استباطات (انظر: Clark 1977; Kintsch & Van Dijk, 1978; Eisterhold 1983). وما دام أن الغرض هو تطبيقي، فلن ندخل بالتفاصيل النظرية حول الموضوع وإنما سننطلق فوراً إلى التطبيقات العملية للوصول إلى الاستنباطات التي سيفضي إليها النقاش.

مقدمة

بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة إلى أن التزامنا المطلق بحرفية النص القرآني تدعونا إلى البوح بعقيدتنا التي مفادها أن التحريم الذي جاء في كتاب الله عن الخنزير يخص لحم الخنزير فقط، فالله قد حرم الميتة بكليتها وكذلك المنخنقة والموقوذة والنطيحة والمتردية وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، ولكن تحريم الخنزير جاء خاصاً بلحمه فقط:

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ البقرة (173)

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة (3)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ النحل (115)

فنحن نفتري القول أنه لو كان التحريم يشمل الخنزير على كليّته لربما جاءت على الأقل واحدة من هذه السياقات القرآنية على نحو "حرم عليكم الميتة والدم والخنزير"، الأمر الذي يدعونا أن نتساءل عن السبب الذي من أجله جاء التحريم خاصاً بلحم الخنزير، وحتى نصل إلى إجابة على مثل هذا التساؤل نظن أننا بحاجة أن نعود إلى قصة التحريم في المأكولات منذ بدأت رحلة البشر على الأرض [2] .

تبدأ قصة التحريم (Taboo) في المأكولات منذ اللحظة الأولى لسكن آدم وزوجه الجنة، وكان ذلك جليّاً في قوله تعالى:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف (19)

تؤكد هاتان الآيتان الكريمتان أنّ الأكل كان في البدء متصفاً بسمتين رئيسيتن؛ أولهما أنّ الأكل يسبب التمتع "وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا"، وثانيهما أنّ الأكل مرتبطاً بالمشيئة البشرية، أي خاصة بالفرد، فمن شاء أكل ومن شاء ترك (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا)، فلم يكن محظوراً على الإنسان الأكل إلاّ من نوع واحد من الطعام (وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ)، فالأطعمة من الأصول الحيوانية كاللحوم والاسماك وغيرها لم يصدر بحقها أي نوع من التحذير، وصدر أمر واحد بالتحذير من الأكل على نوع واحد من الأطعمة ذات الأصول النباتية وهي تلك الشجرة.

 ومن هنا تبدأ رحلتنا في تفقد الروابط الذهنية التي نستطيع من خلالها إيجاد حلقات متتالية (Lexical Chains) يبين من خلالها الترابط النصي في القرآن على أساس وحدة واحدة متماسكة (Coherent Whole).

 لذا، نستطيع القول أنّ الآيتين السابقتين تثيران تساؤلات عديدة، يصبح لزاماً متابعتها في النص القرآني بأكمله ليستبين في النهاية كيف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالموضوع الذي وردت في سياقه، ألا وهو موضوع التحريم في المأكولات، نذكر منها على سبيل المثال:

- لماذا حذّر الله سبحانه وتعالى آدم وزوجه من الإقتراب من تلك الشجرة؟

- كيف حصل التحريم لأنواع أخرى (معينة) من الطعام بعد ذلك؟

التحذير من الاقتراب من الشجرة

إنّنا نعتقد جازمين أن الفكر الإسلامي السائد ربما يكون قد أخفق في شرح قصة التحريم الأولى، مدعيّاً أنّ قصة الأكل من الشجرة كانت اختباراً لآدم وزوجه في الجنة، ولمّا فشل آدم وزوجه في ذلك الاختبار، أمره الله بالهبوط إلى الأرض، ونحن نظن أنّ ذلك غير صحيح للأسباب التالية:

أولاً، إنّ خلافة الله لآدم على الأرض كانت ستحصل سواءً أكل آدم وزوجه من تلك الشجرة أو لم يأكلا، فالله سبحانه قضى بخلافة آدم الأرض حتى قبل أن يسكنه الجنة، وتسلسل الاحداث جلي في سورة البقرة

(1) القرار الإلهي باستخلاف بشر من طين:

قال تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

(2) تعليم الله لآدم

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

(3) الأمر الإلهي بالسجود لآدم

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

(4) الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

(5) وقوع آدم وزوجه في مكيدة الشيطان

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)

(6) قبول توبة آدم

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه ِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

(7) الأمر الإلهي للجميع بالهبوط

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

فهذه الآيات الكريمة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ القرار الإلهي باستخلاف آدم في الأرض كان سبباً (وليس نتيجة) للأكل من الشجرة. فالله سبحانه وتعالى يخبر الملائكة بخلافة آدم حتى قبل تسويته " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "، ونحن نثير هنا التساؤل الافتراضي التالي: ماذا لو لم يأكل آدم وزوجه من تلك الشجرة؟ هل كان ذلك سيحول دون خلافتهم الأرض؟!

ثانياً، عندما حذّر الله سبحانه بنفسه آدم وزوجه من الأكل (أو حتى الاقتراب) من الشجرة علّل هذا التحذير بالقول " فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"، قال تعالى:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

ونحن نظن أنّ الظلم في سياقه القرآني يعني ارتكاب السوء بعد حصول العلم فيه (وسنتعرض بالتفصيل لهذا المبحث بعد قليل)، فآدم عَلِمَ من الله سبحانه أنّ الأكل من الشجرة أمر خاطيء فتحصل له العلم بذلك، ولكنّه نزل عند رغبة الشيطان فأكل من الشجرة، وعندما عاد وزوجه إلى ربهما، أقرا بالظلم الذي ارتكباه:

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف (23)

المهم في الموضوع أنّ الله بيّن لآدم وزوجه عاقبة الأكل من الشجرة، فكانت على نحو "فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، ولم تكن على نحو "فتكونا من الخارجين" أو "فتكونا من الهابطين"، ونحوهما. 

فتحليل النص القرآني على المستوى المحلي (Intern-Sentential Analysis) يظهر أن عاقبة الأكل من الشجرة لا تكون بأي حال من الأحوال الهبوط أو الخروج من جنة الفردوس كما يعتقد الكثيرون، لأنه لو كانت عاقبة الأكل الهبوط، لربما جاءت الآية الكريمة على نحو " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فتكونا من الهابطين أو فتكونا من المخرجين"

ثالثاً، علّل الشيطان لآدم الأكل من الشجرة بالحجة التالية:

"... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)

فتقبل آدم تلك الحجة، وأكل من تلك الشجرة:

"فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ..."

" فَأَكَلَا مِنْهَا..." [3]

إن ما يعنينا هنا هو أنّ آدم تقبل فكرة أن يكون هناك ما هو أفضل مما هو فيه الآن، أليس كذلك؟ فلو كان آدم في جنان الخلد (كما ظن الكثيرون وزعموا)، لما كان لحجة الشيطان تأثير فيه، فقبول آدم بفكرة وجود شجرة الخلد يدل على حصول العلم لآدم أنه ليس من الخالدين في هذا المكان. ونحن نعلم أنّ من أبسط سمات جنان السماء التي سيؤول إليها المؤمنون بعد الحساب أنها جنان خلد.

رابعاً، عندما أكل آدم وزوجه من الشجرة حصل لهما مكروه:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ

طه (121)

وكان ذلك هو مقصد الشيطان وغايته من الوسوسة: حصول ذلك المكروه لآدم وزوجه، ليس ليخرجهم من جنان الخلد إلى الأرض لأنه يعلم أن القرار الإلهي بخلافة آدم الأرض لا محالة حاصل، لذا جاء قوله تعالى على نحو:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا

وليس ما تلفّظ الشيطان به صراحة لآدم وزوجه:

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)

يتضح إذاً من قصة التحريم الأولى أنّ التحذير لم يكن بداعي الاختبار (كما ظن الكثيرون)، وإنما لما يترتب عليه من مكروه، فالله سبحانه حذّر آدم وزوجه من الأكل من تلك الشجرة حتى لا يتحصل لهما ذلك المكروه، وهنا تتبلور الحلقة الذهنية الأولى التي يمكن ربطها بقصة التحريم في المأكولات، وهي الاستنباط بأن أساس التحريم في الماكولات هو الحيلولة دون حصول المكروه .

خامساً، لقد علم الشيطان أنّ الأكل من الشجرة سيترتب عليه حصول المكروه لآدم وزوجه، وكان ذلك المكروه هو أنْ تبدى لهما ما وري عنهما من سوآتهما:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)

فـــ اللام في قوله " لِيُبْدِيَ" لام (الهدف) وليس لام التعليل (فهي تدل على ما يخفي الشيطان في نفسه عندما وسوس لآدم وزوجه)، فالشيطان كان يبطن ذلك الهدف المعلوم بالضرورة لديه، ولكنّه علّل الأمر لآدم وزوجه على غير تلك الشاكله، فدلهما بغرور على نحو "أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" و "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ" [4] وأصر على ذلك عندما "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ".

سادساً، أكل آدم وزوجه من الشجرة وهما غير ناسيي الأمر الإلهي لهم بالحذر من الاقتراب من الشجرة، وذلك لأنّ الشيطان عندما كان يحاول إيقاع آدم وزوجه في المعصية ذكّرهما بنفسه بالأمر الإلهي الذي صدر لهما من ذي قبل:

"... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" الأعراف (20)

فالانسان حتى اللحظة لا يقع في معصية إلاّ ويتذكر أمر ربه قبل الوقوع فيها، فتنازعه نفسه، ويحدث ذلك الصراع الداخلي، وفي هذه الحالة يكون الإنسان من الظالمين إنْ هو تابع هوى نفسه ووقع في المعصية، أما إذا عمل شخص عملاً ما وأخطأ فيه ولم تنازعه نفسه قبل الوقوع في الخطأ فلا يكون من الظالمين.

وهذا الطرح يضطرنا لما يبدو للوهلة الأولى بأنه خروج عن سياق الموضوع الرئيس للتعرض لمبحثين اثنين، أولهما موضوع الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه، وثانيهما معنى لفظة "الظلم" كما وردت في السياقات القرآنية التي وردت في قصة النهي عن الأكل من الشجرة، وسنرى لاحقاً أنّ هذا استطراد ضروري لما سيترتب عليه من نتائج جمة ذات صلة وثيقة بموضوع التحريم.

ما هي الشجرة التي حذر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟

ما هي تلك الشجرة التي حذر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟ ولماذا حذّر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟ ولماذا كانت الشجرة أصلاً موجودة في جنة آدم؟ فهل لو كانت الشجرة غير موجودة، أكان آدم وزوجه سيقعان فريسة مكيدة الشيطان؟

لقد بيّنا سابقاً أن الله سبحانه حذّر آدم وزوجه من الاقتراب من الشجرة ليس اختباراً لهما، وإنما لما سيترتب على ذلك من المكروه الذي سيحصل لهما إن أكلا منها، قال تعالى:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

ولكن، لماذا كانت الشجرة موجودة في الجنّة أصلاً؟ 

إنّ محاولة حل هذا السؤال يتطلب- إثارة سؤال آخر وهو: كيف علم الشيطان بخبر الشجرة؟

 وكيف علم أنّ الأكل من الشجرة ستكون عاقبته على نحو ما كان؟

 إننا نزعم أنّ هذا دليل كبير على أنّ الجنّة التي كان يسكنها آدم وزوجه لم تكن جنّة الخلد إطلاقاً، وأن تلك الجنّة كانت مأهولة بجنس آخر من خلق الله وهم الجن بدليل تواجد الشيطان مع آدم وزوجه ليوسوس لهما [5] ، وبدليل أن الله عندما أمر الجميع بالهبوط قال لهم:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ طه (123)

فمفردة "جَمِيعًا" تدل على أنّ المأمور بالهبوط ليس آدم وزوجه فقط، فمن غير المستساغ أن يوجه الخطاب لشخصين إثنين على نحو "أنتما جميعاً"، ولكن يصبح الأمر أكثر قبولاً عندما يكون الخطاب موجهاً لمجموعتين، لذا فإننا نعتقد أن الأمر الإلهي بالهبوط صدر لجنس البشر ممثلين بآدم وحواء وكذلك للجن ممثلين بالشيطان الذي وسوس لآدم وزوجه [6] ، وكذلك بدليل العداوة في قوله تعالى "بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ"، فلا يوجد عداوة بين آدم وزوجه، ولكنّ العداوة مستحكمة بين الجن ممثلين بالشياطين من جهة والإنس من جهة أخرى .

نستنتج إذاً أنّ الشجرة كانت موجودة في الجنة قبل وجود آدم وزوجه، ولهذا يعلم قاطنو المكان (الجن على وجه التحديد) [7] ذلك التحذير الرباني من الاقتراب منها، فالله - لا شك - حذّرساكني الجنة من الاقتراب منها قبل أن يحذر آدم وزوجه، وربما لذلك تحصّل للشيطان العلم بخبر الشجرة حتى قبل سكن آدم الجنة، فاستخدمها كمكيدة ليوقع آدم في المعصية.

ويبرز هنا التسآؤل الأكبر التالي: لماذا حرّم الله تلك الشجرة على الجن؟ إننا نظن أن ذلك ربما يعود لنفس السبب الذي حرم الله من أجله بعض الأطعمة على بني إسرائيل مثلاً:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

وهذا الافتراض يثير بدوره تساؤلاً جديداً: إذا كان الله سبحانه قد خلق الجن قبل الإنس، فلم جاء قراره الإلهي باستخلاف البشر (وليس الجن) في الأرض؟

 فالتساؤل المشروع هو: لماذا كان الاستخلاف للإنس وليس للجن؟ لا شك أن سنن الله الكونية تقتضي أن يبدل الأقوام عندما يرتكبوا الظلم ولا يتراجعوا عنه بالتوبة، فكم من الأمم أبيدت واستبدلت بعد أن كانت نعم الله جارية لهم، وكذلك هي حالة استخلاف الانس (ممثلين بآدم وزوجه) بدلاً من الجن بالرغم من السبق الزمني الذي كان للجن.

وربما يفسر مثل هذا التصور كيفية علم الملائكة المسبق بوجود من يسفك الدماء على الأرض، يوم أخبرهم الله بخلافة آدم الأرض.

إننا نزعم أن وجود الجنس الآخر (وهم الجن) وارتكابه الظلم على الأرض كان هو من علم الملائكة باستباق الأحداث.

فوجود الظالمين في ذلك المكان مثبت بدليل وجود من يعمل المكائد (كالذي وسوس لآدم لمخالفة الأمر الرباني) في نفس المكان الذي كان آدم وزوجه متواجدين فيه.

 فسكان المكان (وأقصد الجن على وجه الخصوص) كان منهم المؤمن ومنهم الكافر، ولنخلص إلى القول أن الجنّ كانوا يسكنون تلك الجنّة قبل آدم ,ولكن بعضهم ظلموا أنفسهم، فحرّم الله عليهم بعض تلك الأطعمة (تلك الشجرة).

ومما لاشك فيه أن هذا الطرح يثير روابط ذهنية عديدة ، فقد يثير هذا القول استغراب الكثيرين حول ماهية المكان الذي كان آدم وزوجه متواجدين فيه مع الجن قبل الوقوع في المعصية: 

هل فعلاً كان المكان الذي تسكنه الشياطين مع آدم وزوجه على الأرض قبل الهبوط؟

 نعم هو كذلك، وهذا ما نحن بصدد تبيانه في بحثنا هذا لنصل من خلاله إلى موضوع تحريم الأطعمة. وحتى نصل إلى مبتغانا، لا بد من إثارة سلسة من التساؤلات المترابطة: ما هي تلك الشجرة؟ ولماذا هي بالذات؟

ما هي تلك الشجرة؟

إن هذا السؤال غاية في الخطورة لاننا سنقفز من خلاله إلى نتيجة قد لا يحمد عقباها لنا على وجه التحديد. فنقول بعد التوكل على الله أننا نفهم أنّ تلك الشجرة هي ما جاء في قوله تعالى:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ المؤمنون (18)

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ المؤمنون (19)

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ المؤمنون (20)

إننا نظن أنّ الشجرة التي حذر الله آدم من الاقتراب منها هي تلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء [8] .

أولاً، نطلب من القارىء الكريم أن يربط ما تنبت به هذه الشجرة ( بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) بما حصل لآدم وزوجه عندما ذاقا الشجرة (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، قال تعالى:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ طه (121)

(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ) (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، إنّ أبسط ما تعنيه هذه العبارة السببية (أي المؤلفة من سبب ونتيجة) أن سوءة آدم وزوجه لم تكن بادية لهما إلا لحظة الأكل من الشجرة، فقد كان الأكل من الشجرة هو سبب ظهور السوءة، وهنا نتوقف لنتساءل:

 كيف إذاً بدت لهما سوآتهما؟ كيف كان الأكل من الشجرة سبباً لأن تبدى لهما سوآتهما؟

لقد ذكرنا في مقالة سابقة لنا أن السوءة لا تعني العورة فقط كما روّج له معظم الفكر الديني السائد وإنما تعني الجسد بأكمله بدليل قصة ابني آدم في قوله تعالى:

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ المائدة (31)

فلا أخال أنّ الأخ (الذي طوّعت له نفسه قتل أخيه) كان يحاول تغطية عورة أخية فقط ، ولا أخال أن الله بعث الغراب (الذي كان يبحث في الأرض) ليريه كيف يواري عورة أخيه كما يظن الكثيرون، بل للتّخلص من الجثّة بأكملها بالدفن في باطن الأرض، فـ لربما أن عورة الأخ كانت مغطاة لحظة أن قتله أخوه. [9]

نعود إلى صلب الموضوع بالفهم أنّ سوءة أدم وزوجه (سَوْآتُهُمَا) قد بدت لهما لحظة الأكل من الشجرة لنطرح التساؤل السابق بصيغة جديدة: لماذا بدت السوءة (الجسد بأكمله) عندما أكلا من الشجرة؟ وكيف كانت إذاً أجسادهم قبل الاكل من الشجرة؟

لقد زعمنا في مقالة سابقة أن لون بشرة آدم وزوجته (أي لون الجسد) لم تكن بادية لهما قبل الأكل من الشجرة، وذلك لأنّ آدم وزوجه كانا قبل الأكل من الشجرة نورانيين بدليل أنّ الله الذي هو نور السموات والأرض:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور (35)

هو من نفخ بنفسه من روحه في آدم لحظة أن بعث الحياة فيه:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحجر 28-29

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ص 71-72

لنخلص إلى القول الذي مفاده أن آدم وزوجه التمسا ذلك النور من مصدر النور الحقيقي فكانت سوآتهما غير بادية لأنها نور خالص، وخسر آدم وزوجه تلك النورانية لحظة أن أكلا من الشجرة، فكيف حصل ذلك؟

إنّنا نعتقد أن ذلك لا يتم إلا إذا كانت تلك الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه تنتج صبغاً يلوّن جلود الأكلين منها

وهنا تظهر في كتاب الله قصة شجرة طور سيناء التي لم تذكر في محض الحديث عن الأكل، وإنما منفصلة في آية مستقلة تتحدث عن صبغ للآكلين، فتلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، فمن أكل من تلك الشجرة سيصبغ جسده، ولا شك أنّ الجسد عندما يصبغ يتغير لونه، ولا شك كذلك أنّ اللون هو أساس الرؤية. 

وبكلمات بسيطة نحن نزعم القول أن آدم اكتسب النور من مصدر النور الحقيقي يوم أن نفخ الله فيه من روحه، فكانت سؤاتهما غير بادية لأنها نور خالص، وخسر آدم وزوجه تلك النورانية لحظة أن أكلا من الشجرة لأنّ فيها صبغاً لمن يأكل منها، وعندما تلونت جلودهما وأصبحا قادرين على رؤية أجسادهما [10] ، كان لزاما تغطية تلك الأجساد:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ طه (121)

ثانياً، لننظر إلى السياق الأوسع الذي وردت فيه قصة شجرة طور سيناء كما ترد في سورة المؤمنون:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

ألا ترى أن تلك الشجرة تنبت في الجنات التي أنشأها ربنا لنا على الأرض (وليس في السموات)؟

 ثم لندقق النظر في النص أكثر: ألا ترى أنّ في تلك الجنات نخيل وعنب وفواكه كثيرة نأكل منها؟ 

ولكنّنا لا نأكل من الشجرة التي تخرج من طور سيناء، فلقد جاء الحديث عن تلك الشجرة في الآية (20) منفصلة عن الآية التي سبقتها والتي تتحدث عن الثمار التي خصصت للأكل في تلك الجنات، أي لقد جاءت بعد الانتهاء من تلك الأطعمة التي أنشأها لنا ربنا في تلك الجنات (قارن ما جاء في الآية 19 مع ما ورد في الآية 20)، ثم لندقق النظر في الخطاب الإلهي لنسأل: 

لمن وجّه الخطاب؟ 

ثم لنلاحظ كذلك صيغ الفعل الماضى (وَأَنْزَلْنَا، فَأَسْكَنَّاهُ، فَأَنْشَأْنَا). فلو ظن البعض أنّ الخطاب موجه للبشرية بأكملها لبرز التساؤل الكبير: وما دخل شجرة طور سيناء بمن يسكن القارة الأوروبية أو الأسترالية أو الأمريكيتين، الخ؟

نعم، تلك هي – في رأينا- جنات آدم وزوجه، فلقد كان فيها نخيل وأعناب وفواكه كثيرة ليأكلوا منها، وفي الوقت ذاته كانت فيها تلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء والتي تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (وهي التي لم يخصصها ربنا للأكل كما خصص النخيل والأعناب والفواكه الكثيرة التي جاء ذكرها في الآية 19). لذا، عندما أكل آدم وزوجه من الشجرة التي لم تخصص للأكل صبغت جلودهم فتلونت، وبكلمات علمية ربما يمكننا أن نزعم القول أن آدم وزوجه اكتسبا من تلك الشجرة جينات اللون، فتلونت جلودهم وتلونت جلود ذريتهم من بعدهم، فولدوا الأبيض والأصفر والأشقر والأسمر والاسود، بسبب صبغ تلك الشجرة التي حذرهم الله منها.

ثالثاً، لعلنا بحاجة أن نجلب الانتباه إلى فكرة وجدناها في كتاب الله فيها ما قد يبدو للوهلة الأولى من الغرابة ما يستدعي التوقف عندها. وتتلخص تلك الفكرة بأن القرآن الكريم يسرد موقفين اثنين فقط تمت فيهما المخاطبة الإلهية المباشرة لخلقه، وهما خطاب الله مع آدم لحظة أن أسكنه الجنة وحذره من الاقتراب من الشجرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف (19)

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)

وثانيهما، مخاطبة الله سبحانه نبيه موسى عليه السلام:

فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص (29)

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ القصص (30)

فلو دققنا النظر بمفردات هذه الآيات الكريمات ملياً، لوجدنا أن هناك الطور، وهناك حادثة المناداة، وهناك البقعة المباركة وهناك الشجرة. فهل ذلك كله من قبيل المصادفة؟

نحن نزعم القول أن ذلك لم يكن مصادفة، فلو تفحصنا هذه المفردات بشيء من الدقة، لوجدنا أن الله نادى موسى من جانب الطور في البقعة المباركة من الشجرة، وقد نادى الله آدم وزوجه وهما في مكان مبارك عند الشجرة، أليس كذلك؟

إننا نعتقد جازمين أنّ الحدثين متصلان لأنهما – في ظننا- حصلا في نفس المكان.

 فمخاطبة الله لآدم ومخاطبة الله لموسى (الاتصال المباشر من البشر مع الله) تمت في المكان نفسه، فالله سبحانه لم يخاطب بشراً قط غير آدم وموسى، وتلك المخاطبة تمت في المكان نفسه بدليل توافر العوامل الجغرافية ذاتها في الحالتين. 
ولنعقد مقارنة بين الحالتين كما ترد في السياقات القرآنية:

  • أ. لندقق النظر بما تحصّل لآدم وحواء في الجنة، ثم لنربط ذلك مع ما تحصّل لقوم موسى في ذلك المكان.

جاء في سورة البقرة في شأن آدم وزوجه من جهة (البقرة 35) وموسى وقومه من جهة أخرى (البقرة 58):

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ البقرة (58)

وجاءت المقارنة نفسها مرة أخرى في سورة الأعراف:

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

الأعراف (19)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ الأعراف (161)


  • ب. ثم لننظر كيف كان موسى لحظة الخطاب:

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الشعراء (10)

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا مريم (52)

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص (46)

لاحظ كيف تتكرر فكرة المناداة (مناداة رب العالمين لنبيه موسى)، وما يعنينا في الموضوع أنّ تلك المناداة الربانية لم تتحصل إلاّ لآدم من قبل:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

وقد يرد البعض بالقول ولكن تلك المناداة الإلهية لآدم حصلت فقط بعد المعصية، وجاء الخطاب قبل المعصية على النحو التالي:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

فنقول نعم، إنّ فكرة القرب والبعد المكاني للذات الإلهية واضحة في قصة آدم، فقبل المعصية جاء الخطاب من الله لآدم وزوجه على صيغة القرب المتمثلة في قوله تعالى:

"... وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" البقرة (35)

وتحول الخطاب بعد المعصية على النحو التالي:

"... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ" الأعراف (22)

فقبل المعصية نجد القرب الإلهي في كلمة "هذه الشجرة"، ولا شك أن القريب مكانياً لا يحتاج المناداة (فترد الصيغة على نحو: قال ويقول ونحوهما)، ولكن المناداة تتحصل لمن كان بعيداً عن الآخر في المكان (فترد الصيغة على نحو نادى وينادي ونحوهما)، فحصلت بذلك مناداة رب العالمين لآدم لحظة البعد المكاني، وكذلك حصلت المناداة الإلهية لموسى في المكان نفسه للبعد المكاني بين موسى وربه، وقد يبادرنا البعض بالقول: 

كيف ذلك ورب العالمين موجود في كل مكان ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ 

فنرد على ذلك بالقول بأننا نتحدث عن المكان الجغرافي (وليس عن علم الله) [11] ، فجغرافياً (مكانياً) لا شك أن هناك مسافة بين الإله والبشر، لذا فالمخاطبة تحصلت بالمناداة، انظر كيف ترد فكرة المناداة في كتاب الله:

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ المائدة (58)

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الأعراف (44)

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ الأعراف (48)

وتحصل المناداة كذلك عندما يكون الخطاب من البشر إلى ربهم، فها هو نوح ينادي ربه:

وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ هود (45)

وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الأنبياء (76)

وها هو أيوب ينادي:

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الأنبياء (83)

وذا النون ينادي:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الأنبياء (87)

وزكريا:

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ الأنبياء (89)

ولكن الله نفسه هو من نادى موسى:

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الشعراء (10)

نخلص إلى القول أنه بسبب البعد المكاني بين الإله وموسى، حصل الخطاب على نحو "نادى"، وحتى يتيقن القارىء من وجود البعد المكاني بين الإله ونبيه موسى ندعوه ليدقق النظر بمفردات الآية نفسها:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) مريم 51-52

وسؤالنا هنا يتمحور حول ورود عبارة "وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا"، فما معنى ذلك؟ 

أي كيف حصل القرب لموسى؟ 

فإذا كان الله موجوداً فيزيائياً في كل مكان، فما داعي ورود عبارة"وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا"؟ 

وما هو أصلاً القرب الذي حصل لموسى؟ 

إننا نظن أن ذلك لا يعني أكثر من القرب المكاني لموسى من ربه؟ 

وبسبب ذلك القرب تجرأ موسى فطلب الرؤية المباشرة للذات الإلهية [12] :

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف (143)

فمن أهم معاني "قرب" في السياقات القرانية هو القرب المكاني، قال تعالى:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ البقرة (222)

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [13] آل عمران (45)

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا النساء (172)

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) الأعراف 113-114

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة (28)

فصيغة "قرب" تفيد إذاً القرب المكاني، فآدم وموسى وعيسى هم الأنبياء الذين حصل لهم القرب المكاني من الذات الإلهية [14] .


  • ج. وللمزيد من المقارنة بين حالة آدم وزوجه من جهة وقوم موسى عليهما السلام عندما خالفوا الأمر الرباني بالسكن والأكل مما شاءوا من جهة أخرى، فإننا نثير التساؤل الغريب التالي: ما الذي حصل بعد مخالفة ذلك الأمر الرباني؟ إنه الهبوط:

في حالة آدم:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ طه (123)

في حالة قوم موسى:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ البقرة (61)

لقد برزت فكرة الهبوط في الحالتين، ولا شك أن الهبوط في حالة قوم موسى هو تبديل المكان (من الأرض المقدسة إلى أرض مصر)، فما هو الهبوط في حالة آدم وزوجه؟ 

لقد زعمنا القول في مقالة سابقة لنا أن هبوط آدم كان انتقالًا من مكان على الأرض إلى مكان آخر على الأرض.


  • د. لقد نادى الله موسى "مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ":

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ القصص (30)


  • هـ. تكرر اللقاء الرباني لموسى في المكان نفسه:

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ البقرة (51)

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر [15] ٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الأعراف (142)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ طه (80)

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص (46)

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ البقرة (59)

وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ البقرة (60)

وهنا نجد حصول الحياة الرغد، تبديل الكلام، حصول الظلم، حصول العقاب، طلب الطعام الذي هو أدني، الأمر الإلهي لهم بالهبوط.

نصل من النقاش السابق إلى النتيجة المفتراة التالية:

 إن قصة التحريم الأولى حصلت في مكان ما على الأرض وليس في جنة في السماء. 

  [16] وإن صح هذا الافتراض، فإننا بحاجة أن نفهم سبب التحريم، أي


 لماذا حرم الله بعض الأطعمة على عباده؟

الظلم

لعلنا بحاجة أولاً أن نلفت الانتباه إلى الآية القرآنية التالية ليبين الربط بين الظلم وقضية التحريم في المأكولات، قال تعالى:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

ولا ننسى كذلك مغزى ورود مثل هذه الآية الكريمة في سورة النساء التي تتحدث في جزء كبير منها عن النكاح وأسباب تحريمه (وهو ما سنتعرض له لاحقاً بحول الله وتوفيقه)، كما لا ننسى موضوع تحريم المأكولات كما ورد في سورة المائدة والربط العجيب بين الطعام والنكاح في قوله تعالى:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة

أولاً، نحن نفهم من السياق القرآني أنّ حكمة الله قضت بأن لا يطرد الظالم من رحمته إن هو تاب واستغفر ربه ثم أناب، فآدم وزوجه ارتكبا الظلم الذي حذرهم الله منه، لكن الله لم يطردهما من رحمته مادام أنهما رجعا إلى ربهم واعترفا بذنبهما، قال تعالى:

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة (37)

وكانت تلك من سنن الله للخلق جميعاً، قال تعالى:

إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ النمل 11

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ آل عمران (135)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا البقرة (64)

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا النساء (110)

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة (39)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ الرعد (6)

ثانياً، نحن نفهم كذلك أنّ الظلم (كما يرد في القرآن الكريم) يعني "إرتكاب المعصية بالرغم من العلم فيها"، فلا يسمى من يقع في المعصية ظالماً إلاّ إذا كان قد امتلك العلم فيها من قبل، قال تعالى:

"... وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ" البقرة 145

وهو كذلك الإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا الكهف (57)

وبهذا نفهم قوله تعالى:

"... لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ البقرة 150

فكيف سيكون للذين ظلموا حجة على الذين آمنوا؟ إنّ الجواب من هذا المنظور بسيط جداً، فأولئك الكافرون (لكونهم ظالمين) فهم على دراية وعلى درجة من العلم، ولكنهم آثروا كما فعل زعيمهم إبليس من قبل الوقوع في المعصية عن علم، فحصلوا بذلك على لقب "الظالمين" عن جدارة واستحقاق.

وكذلك نفهم كيف خاطب الله في كتابه الكريم نبيه عن علماء بني إسرائيل:

أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ الشعراء 197

فـ لبني إسرائيل بنص القرآن الكريم علماء، ولكن هل مكّنهم هذا العلم من الهداية؟

 الجواب: كلا، فهم لم يؤمنوا برسالة الله لغيرهم (كرسالة عيسى عليه السلام أو رسالة سيدنا محمد مثلاً) بالرغم من علمهم بصدق تلك الرسالات، وقد يتساءل البعض عن سبب ذلك، فنقول لا بد من التمييز بين الشخص العالم والشخص العاقل ولكن لب القول أنّ هولاء القوم لا يعقلون بالرغم من امتلالكهم العلم، ولهذا جاء على لسانهم يوم القيامة:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [17] الملك 10

فالعالم هو من تحصلت لديه المعلومة وخزّنها في مستودعه (دماغه الذي في رأسه) ولكنها لم تدخل مستقره (عقله: أي قلبه الذي في صدره) [18] ، فصدق بهم قول الحق سبحانه:

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْتَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) الأعراف 176-177

فآدم وقع في المعصية بالرغم من أنّ الله قد أودع فيه العلم من ذي قبل ونبّهه إلى خطر المعصية التي سيقع فيها، وموسى قد ظلم نفسه لأنّ الله كان قد أودع فيه العلم قبل الوقوع في المعصية:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) القصص 14-16

فالمطلوب من الإنسان ليس "عدم الوقوع في الظلم"، وإنما "عدم الإقرار به" و "الرجوع عنه بالتوبة" ليشمله الله بالغفران. 

فها هم الأنبياء أنفسهم يقعون في الظلم (أي الذنب بعد العلم)، ولكنهم لا يصرون عليه، بل يبادرون بالاعتراف بظلمهم فيتوجهوا إلى الله بالتوبة، فيغفر الله لهم لأنه "هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". وليس أدل على ذلك من دعوة ذي النون الشهيرة:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الأنبياء (87)

وبهذا نصل إلى استنتاجات مهمة، نذكر منها:

أولاً: أنّ المعصية لم تتأتي ولن تأتي إلا بالوسوسة، فهي سبب التغيير، وهذا بالضبط ما حصل مع آدم، وهو ما يحصل مع جميع البشر حتى اليوم، فالإنسان بطبعه مجبول على الفطرة (وهي الهداية)، ولا تأتي المعصية إلاّ بعد الوسوسة، فإذا ما أراد شخص ما أنْ يرتكب معصية لا تتم تلك المعصية إلا بعد ذلك الحوار الداخلي، فيبدأ بسرد الأسباب الموجبة والأسباب النافية للوقوع في المعصية، وإذا ما استجاب الإنسان لدعوة الشيطان ونفسه الأمّارة بالسوء وقع عندها بالمعصية:

"... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إبراهيم 22

ثانياً: أنّ هذه الوسوسة تؤدي إلى التغيير، وأهمها تغيير المفردات والمعاني، فيصبح البذيء والرديء حسنا:

تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النحل 63

لتنقلب بعدها الهداية إلى معصية، والقرآن الكريم غاية في الروعة والدقة في هذا الجانب، فمن خلال استعراض بعض الآيات القرآنية يتضح أنّه كلما حصل تبديل للكلام، حصلت المعصية واستحق الظالمون حينئذ العقاب الرباني، قال تعالى:

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ البقرة 59

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ الأعراف 162

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة 75

وكذلك فإنّ الذي يكذب عن علم فهو من الظالمين:

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ ۖ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا ۚ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الأنعام (144)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ هود (18)

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الأنعام (33)

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأنعام (68)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الصف (7)

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الجمعة (5)

ومن آثر اتباع هواه، فهو إذاً من الظالمين:

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ القصص (50)

ومن دعا من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره، فهو من الظالمين:

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ يونس (106)

وبهذا السرد يكون قوم فرعون قد ضلّوا عن علم، ولكنهم آثروا اتباع الهوى:

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11) الشعراء 10-11

وكذلك ترك قوم موسى الهداية عن علم يوم أن أضلهم السامري:

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأعراف (150)

ودخل النار من اتبع الشيطان عن علم:

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إبراهيم (22)

وهذا القرآن لن يكون شفاء ورحمة ولن يزيد من آثر عدم اتباع نهجه الاّ خسارا:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا الإسراء (82)

فالله لا يظلم أحدا، فهو يرسل العلم لهم، ولكنهم إن آثروا تركه كانوا هم الظالمين لأنفسهم:

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ الزخرف (76)

وأخيراً لنلتفت إلى آية كريمة تعتبر من سنن الله الكونية:

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الأنفال (25)

فالظلم إن وقع من مجموعة محددة، يقع العقاب على المجموعة بأكملها (باستثناء الذين ينهون عن السوء، أما من أقر بالظلم حتى وإن لم يفعله بنفسه، فهو من المجموعة التي سيقع عليها العقاب الرباني):

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ البقرة (59)



الظلم وعلاقته بتحريم لحم الخنزير

والآن لنربط هذه الفكرة بقصة التحريم وهو الأمر الذي جهدنا للوصول إليه، قال تعالى:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

فالتحريم (تحريم الطيبات من الرزق) كان بسبب الظلم الذي ارتكبته مجموعة معينة، فوقع العقاب على الجميع، وتتكرر الفكرة في مكان آخر من كتاب الله:

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ النحل (118)

افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الله سبحانه طلب من بني إسرائيل شيئاً فتحصل لهم العلم به، ولكنهم لمّا آثروا مخالفة أمر ربهم عن علم، جاءهم العقاب الرباني المباشر – نحن نفتري القول- على شكل التحريم (تحريم الطيبات من الرزق)، فما هو ذلك الشيء – نحن نتساءل- الذي كان سبباً في تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل بسبب ظلمهم لأنفسهم، ولنتدبر المشهد كما يرد في سورة النساء:

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ َقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) النساء 154-161

إنّ المدقق في هذه الآيات الكريمات يجد أنّ الله قد أخذ من بني إسرائيل ميثاقاً بأن لا يعدوا في السبت، ولكنهم نقضوا ذلك الميثاق، وقصة الذين اعتدوا في السبت واضحة تماماً في السياق القرآني، قال تعالى:

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖكُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) الأعراف 160-163

فها هم بنو إسرائيل يعيشون في جنة كتلك الحياة التي حصلت لآدم وزوجه في الجنة:

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ الأعراف (160)

ولكنّهم ظلموا أنفسهم بتبديل القول الإلهي لهم:

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ الأعراف (162)

وهنا تبرز قصة الذين اعتدوا في السبت:

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ الأعراف (163)

ويأتي العقاب الرباني على هذا النحو:

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) الأعراف 164-166

وترتبط صورة القردة هذه بصورة أخرى وهي صورة الخنازير:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) المائدة 59-60

فالخطاب - بلا شك- موجه لبني إسرائيل، وفيه يذكّر الله بني إسرائيل بحادثة المسخ الذي حصل لهم، فغضب الله (الرجز الذي نزل عليهم) كان على شاكلة مسخهم قردة وخنازير، ولمّا كان الخنزير أصلاً من سلالة الحيوانات، وكان الناس على عادة أكل لحوم الحيوانات، بدأت منذ تلك اللحظة – نحن نزعم القول- قصة تحريم أكل لحم الخنزير، ولربما وصل القارىء الكريم إلى ما نبغي الوصول إليه وهو سبب تحريم أكل لحم الخنزير على وجه الخصوص.

افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم القول أن الناس لم يكونوا على عادة أكل لحم القردة، وبالتالي فهو لم يكن محور خلاف بين الناس، فلربما يبادرنا البعض بالقول: لماذا لا يذكر القرآن الكريم حرمة أكل بعض القوارض كالفئران والجرذان، أو بعض الحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط، وهكذا؟ فنرد بالقول أن التحريم جاء في الأصل للأطعمة التي كان الناس على عادة أكلها، ولهذا جاءت الروعة القرآنية لتصور هذه الحقيقة على النحو التالي:

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام (145)

فالخلاف حصل على الأصناف التي كانت تعد من الأطعمة وعلى رأسها الخلاف الذي حصل على وجاهة تحريم أكل لحم الخنزير، فنقول أنّ النص القرآني لا يذكر أنّ لحم الخنزير محرم بسبب عوامل تتعلق بالرغبة أو القيمة الغذائية أو المضار الصحية التي تترتب على أكله (وإن وجدت) أو حتى العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية، ولكن قصة الخنزير في القرآن الكريم واضحة جلية، وهي على النحو التالي:

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ آل عمران (93)

فالله يثبت في كتابه أن ما كان يؤكل (طعاماً) كان حلاً لبني إسرائيل، ولا شك أن لحم الخنزير كان إذاً من الأطعمة بدليل أن الناس حتى يومنا هذا يأكلوه، ولكن لما حصلت حادثة المسخ:

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ المائدة (60)

إختلطت دماء بني إسرائيل (الذين اعتدوا منهم في السبت فقط) بدماء الخنازير والقردة، فأصبح من الصعب التفريق بينهم، فحصل التحريم لذلك النوع من الطعام على وجه الخصوص، لعدم القدرة على التمييز بين ما هو من أصل حيواني وما هو من أصل بشري، وانتقل هذا التحريم إلى الشرائع الأخرى كالمسيحية والإسلام. ولما كانت القردة ليست أصلاً من الأطعمة البشرية لم يكن هناك خلاف عليها، ولم يكن هناك داع للتأكيد على حرمتها في مواضع الحديث عن الطعام، ولكن برزت الحاجة إلى تأكيد حرمة لحم الخنزير في أكثر من موضع في كتاب الله، فكلما ذكرت الأطعمة وردت في السياق نفسه حرمت لحم الخنزير، ولو لم يكن لحم الخنزير من الأطعمة السائدة (كما هو الحال في حالة القردة) لما كان هناك حاجة لتأكيد ذلك التحريم.

نستنتج إذاً أن لحم الخنزير كان من الطعام الذي كان يؤكل قبل حادثة المسخ بدليل أنّ كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل، وبدليل أن الناس ما انفكوا عن عادة الأكل هذه حتى يومنا هذا، وما حصل التحريم له إلاّ بعد تلك الحادثة، ولا أظن أن الإنسان يأكل لحم حيوان إن علم أنّ ذلك الحيوان له أصول بشرية، وهنا نورد دليلين على صحة ما نزعم:

أولا، أما الدليل العلمي (الذي لا نثق به كثيراً لاثبات صحة ما ندعي ) يتمثل بما يلى: تجتاح العالم أمراض الحيوانات الكثيرة، كانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير وجنون البقر، الخ، ففي حين أن أمراض الحيوانات بشكل عام تنتقل فقط من حيوان إلى إنسان، فاذا أصبت أنا (كانسان) مثلاً بانفلونزا الطيور أو جنون البقر فلا أنقل المرض لك، فلا بد من وجود الواسطة وهي الحيوان نفسه، فهي أمراض بمجملها تنتقل من حيوان إلى إنسان، ولكن لمّا ظهر ما يسمى "بأنفلونزا الخنازير" على وجه الخصوص دب الرعب الأكبر في العالم، لأنّ الخبراء يحذرون من خطورة هذا المرض التي تتمثل بانتقال المرض من الإنسان المصاب إلى إنسان آخر دون وجود الوساطة وهي الحيوان نفسه، فهذا المرض على وجه الخصوص ينتقل من الحيوان إلى الإنسان وينتقل كذلك من الإنسان إلى الإنسان، وسؤالنا هو: لماذا أنفلونزا الخنازير على وجه الخصوص تنتقل من الإنسان إلى الإنسان؟! [19]

رأينا: اختلاط الدم البشري بدم الخنازير، فالله يقول في سورة المائدة:

"... وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ

المائدة (60)

وهنا لا بد من التعريج على جزئية تداولها بعض أهل الفكر الاسلامي في هذا الشأن، وهي اعتقادهم بأن المسخ كان معنوياً، فنرد على مثل هذا الإدعاء بالإيمان المطلق بأن كلام الله يؤخذ على الحقيقة وليس على المجاز [20] ، فالله سبحانه عندما يخبرنا بشىء فهو يخبرنا بحقيقة ما حصل فعلاً، ولا ننسى كذلك أن الله يستخدم المفردات بمعانيها الحقيقية، ولهذا قال في هذا السياق:

... وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ...

ولنلتفت إلى معنى مفردة "جعل"، فلماذا استخدم الله هذه اللفظة في هذا السياق؟ 

 فلعلنا بحاجة إلى أن تستقصي بعض السياقات القرانية التي ترد فيها هذه المفردة:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ البقرة (30)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ المائدة (20)

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المائدة (97)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الأنعام (1)

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الأنعام (96)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأنعام (97)

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ الأعراف (10)

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يوسف (15)

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف (55)

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يوسف (62)

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يوسف (70)

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يوسف (100)

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ الحجر (16)

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًاوَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل(78)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ الكهف (1)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا مريم (24)

وبعد هذا الإستعراض الطويل، يأتي تساؤلنا على النحو التالي: هل حصلت تلك الأمور على الحقيقة أم على المجاز؟ وإن كان الجواب بلا شك على الحقيقة، فلِمَ نتقبل في جميع هذه الحالات حصولها حقيقة ولا يتقبل بعضنا حصول المسخ على الحقيقة، والله سبحانه يقول بكلمات واضحة لا تقبل التبديل:

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ المائدة (60)

وإذا كان العقاب (بالمسخ) على من اعتدى من بني اسرائيل معنوياً، فلم يكون على غيرهم حقيقياً:

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ هود (82)

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ الحجر (74)

فلِمَ نقبل أن يكون العقاب الإلهي (على قوم لوط مثلاً) حقيقياً بينما على الذين اعتدوا في السبت مجازياً؟ 

فهل نتحرّج أن نقول أنّ القردة والخنازير من سلالة الذين اعتدوا في السبت من بني اسرائيل؟!

والأهم من ذلك أنه لو كانت "جعل" تحمل المعنى المجازي كما ظن البعض، لما كان للكفار والمشركين مشكلة تستحق الوقوف عندها أصلاً:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ الأعراف (136)

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ الأعراف (138)

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الأعراف (190)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ إبراهيم (30)

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر (96)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ النحل (57)

فهولاء ستكون حجتهم يومئذ القول إنما كان ذلك على سبيل المجاز وليس على الحقيقة، فلا أظن أنهم سيترددون حينئذ أن يقولوا: نحن لم نطلب من موسى أن يجعل لنا إلهاً حقيقياً مثل أصنام القوم الذين مروا بهم، ونحن لم نجعل لله أنداداً وشركاء والهة أخرى وبنات على الحقيقة [21] .

فلعلنا إذاً بحاجة أن نستجلي معنى "جعل" كما ترد في السياقات القرانية،

وفي هذا المقام نقول: إننا نفهم أن "جعل" تعني التغيير من حالة إلى حالة:

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا الكهف (96)

قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا الكهف (98)

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا مريم (30)

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا مريم (49)

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي طه (29)

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) الانبياء 57-58

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12 ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) المؤمنون 12-13

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ النور (43)

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا

الفرقان (53)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا الفرقان 54

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) القصص 4-5

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت (27)

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ السجدة (8)

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) [22] يس 33-34

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فصلت (44)

إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [23] الزخرف (3)

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا الطلاق (7)

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا المزمل (17)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الفيل 1-5

وبالتالي لم تكن الأرض مثلاً مهداً والسماء بناءً (أو سقفاً) قبل أن تجعل:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة (22)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ طه (53)

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الأنبياء (31)

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ الأنبياء (32)

ثانياً، أما الدليل العقائدي وهو الأهم في رأينا لإثبات صحة ما نزعم فيتمثل في أنّ لحم الخنزير محرم في الشريعة اليهودية والإسلامية تحريماً قطعياً، فالمؤمنون بهاتين الشريعتين لا يأكلوا لحم الخنزير على وجه الخصوص، أما في المسيحية فهو بلا شك محرم تحريماً قطعياً إلا أن أتباع المسيحية يأكلون لحم الخنزير بحجة أن عيسى ابن مريم قد أحله لهم، ولكننا نقول إن النص القرآني يكذب قصتهم تلك في قوله تعالى:

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ آل عمران (50)

وهنا نذكر أن عيسى بن مريم عليه السلام قد أحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم وليس كله، ولا شك أن ما أحله لهم هو الطيبات وليس الخبائث:

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

الجاثية (16)

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

وقد ذكرنا سابقاً أن التحريم كان في بني إسرائيل سارياً لاطعمة من الطيبات بسبب تحريم إسرائيل تلك الأطعمة على نفسه [24] :

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

فالذي أحله عيسى لهم إنما هي بعض الطيبات و ليس لحم الخنزير وقد أصبح من الخبائث:

قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الأنعام (145)

فالجملة الاسمية "فَإِنَّهُ رِجْسٌ" هي صفة ملازمة للحم الخنزير، وليست جملة معطوفة على المحرمات التي تم ذكرها في الآية الكريمة، لأنها لو كانت كذلك، لجاءت منصوبة كما الحال بالنسبة لمفردة "فِسْقًا" التي تليها مباشرة.

إن خلاصة القول هي أن هذه الشرائع السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والاسلام) جميعها تحرم أكل لحم الخنزير على وجه الخصوص، بينما لا يوجد تحريم للحم الخنزير عند الشعوب الأخرى، وبذلك جاء الخطاب القرآني لهذه الأمة على هذا النحو:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ۖ ... المائدة (5)

أما طعام غير أهل الكتاب فليس حلاً لنا على إطلاقة، فلا بد من التخيير، 

 وسؤالنا هو لماذا يثبت القرآن الكريم تحريم أكل لحم الخنزير في هذه الشرائع الثلاث على وجه التحديد؟ 

الجواب هو – كما نظن- أنّ لحم الخنزير (بعد أن كان من الأطعمة التي تؤكل) اختلط به الدم البشري يوم حادثة المسخ الشهيرة، فحرمته هذه الديانات الثلاث على وجه التحديد فتوقف أتباع الشرائع الثلاث عن أكله ، واستمرت الشعوب الأخرى في سننها في أكل لحم الخنزير. 

وعندما نسقط محرمات الأطعمة على خارطة العالم القديم بعد قليل سيتبين لنا الجواب على السؤال التالي: 

لماذا لا تحرم شعوب الشرق الأقصى لحم الخنزير على الاطلاق؟ 

ولكن القارىء مدعو هنا لمراجعة مقالتنا تحت عنوان "سفينة نوح ونظرية تكون القارات" ليتعرف على توزيع الخارطة الدينية (واقصد بالذات رسالة ذوي العزم من الرسل) على خارطة العالم القديم. وتتلخص الفكرة أن الخنزير لم يكن محرماً في شرائع الانبياء الذين سبقوا موسى عليه السلام.

ثالثاً، يأتي دليلنا الثالث على اعتقادنا بأن سبب تحريم لحم الخنزير على أساس اختلاط دم الخنزير بدماء الذين اعتدوا في السبت من بني إسرائيل يأتي من ما نستنبطه من الآية الكريمة التالية:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة (5)

وقد يتساءل البعض: وما علاقة هذه الاية بتحريم أكل لحم الخنزير؟

 فنرد بالقول: هنا تتداخل فكرة الطيبات من الأطعمة مع فكرة النكاح في هذه الآية الكريمة، ولا شك أن القارىء العادي للقرآن الكريم يلحظ أن الله استخدم لفظ الطيبات للحديث عن الاطعمة وللحديث عن النكاح، قال تعالى عند الحديث عن الطعام:

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ البقرة (57)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ البقرة (172)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ البقرة (267)

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ المائدة (4)

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأعراف (32)

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ الأعراف (160)

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ طه (81)

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ المؤمنون (51)

ولا تخفى كذلك الآيات الكثيرة التي تتحدث عن أن الله رزقنا من الطيبات دون تحديدها:

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الانفال (26)

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يونس (93)

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا الإسراء (70)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غافر (64)

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ الجاثية (16)

وقال عند الحديث عن النكاح:

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ النور (26)

وجاء في معرض اختلاط الطيبات من الرزق مع النكاح:

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ النحل (72)

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِأَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ الأحقاف (20)

ومما يدلنا على هذا الاختلاط هو قوله تعالى "وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا"، وعند الحديث عن هذا الاستمتاع نجد الله سبحانه يقول في موطن آخر:

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (24)

فهنا نجد الحديث عن الاستمتاع متعلق بالنساء (النكاح)، فترتبط بذلك فكرة الاستمتاع بالطيبات من الأكل مع الاستمتاع بالطيبات بالنكاح، وترتبط فكرة الطعام والنكاح كذلك بفكرة التحليل والتحريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المائدة (87)

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الأعراف (157)

وهنا نصل إلى السؤال الذي ننوي إثارته وهو: ما هي ماهية التحريم في النكاح؟ لماذا حرمت بعض العلاقات الجنسية كتلك بين الأب والأخ والعم والخال مع قرائنهم من النساء: قال تعالى في سورة النساء:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا النساء (23)

ويظهر التطابق العجيب في سرد التحريم من الأطعمة في سورة المائدة في قوله تعالى:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة (3)

فلعلنا نعلم جميعاً أن من أهم أسباب التحريم في النساء (النكاح) هو صلة القرابة، أليس كذلك؟ فالأم والبنت والأخت والعمة والخالة تجري في عروقهم نفس الدماء. 

فأنت لا تقدم على نكاح الأم والأخت والبنت (وان كن ملكات جمال) وتقبل نكاح غيرهن حتى وإن كن غير جميلات، أليس كذلك؟ 

ولكن ما علاقة ذلك بسبب التحريم في المائدة (الطعام)؟

لعلي أجزم أن الصورة نفسها تتكرر في قصة تحريم لحم الخنزير: إنها صلة القرابة، فالخنزير له صلة قرابة مع البشر، لذا تعافه النفس البشرية، وربما تتقبل أكل لحوم الحيوانات التي ربما هي أقل منه إثارةً للشهية كالبقر والخيل وحتى الجراد والضب، ولا تتقبل أكل لحم الخنزير وإن كان – كما يظن الكثيرون وهم على ما أعتقد محقون- ليس أقل إثارة للشهية من لحم البقر أو الإبل، الخ.

والله أعلم



___________________________________________

[1] للإمعان بمدلولات الآية الكريمة، القارئ مدعو لقرآءة مقالتنا تحت عنوان:" سفينة نوح ونظرية تكون القارات"

[2] لا أظن أنه لو خير الإنسان بين أن يأكل من لحم أخيه الإنسان أو أن يأكل من لحم الخنزير لاختار أن يأكل من لحم الخنزير، لأن النفس لا تتقبل إطلاقاً أن يأكل الإنسان من لحم أخيه الإنسان مصداقاً لقوله تعالى "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ"، ولكن بالرغم من ذلك، فلا يجد الناس ضيراً في أن ينقل دم إنسان إلى أخيه الإنسان أو أن يأخذ من أعضاءه، وهكذا. فيمكن للأم أن تتبرع بكليتها لابنها لكنها محرمة عليه في النكاح، فالحرمة – في رأينا- خاصة بالأكل والنكاح فقط.

[3] وهنا ترد القصة بلفظتين مختلفتين "ذاقا" وأكلا"، ولعلنا نجزم أن هذا مثال يثبت ما ذهبنا إليه في إحدى مقالاتنا السابقة كدليل على عجز اللغة العربية في احتواء كلام الله، فما حصل لآدم وزوجه هو أنهما ذاقا الشجرة ولم يكتفيا بذلك بل أصرّا على المضي قدماً في فعلتهم، فبدأا مترددين فكان الفعل على نحو "فذاقا" وانتهى بعملية "الأكل"، ولكن لمّا عجزت العربية عن إيجاد فعل واحد يجمع الحدثين "ذاقا" و "أكلا" في مفردة واحدة، قدمت الصورة كما حصلت فعلاً: فهما لم يأكلا مباشرة ولكنهم لم يتوقفا عند المذاق فقط، ويظهر سيناريو مشابه في الآيتين الكريمتين التاليتين:

"... وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ ..." (160)

"وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ ..." (60)

لاحظ عزيزي القارىء كيف تم التعبير عن الموقف ذاته بلفظتين مختلفتين "فَانْبَجَسَتْ"، و "فَانْفَجَرَتْ"، وحتى لا نختلف كثيراً، فالانفجار لا شك أقوى من الانبجاس، فعين الماء انبجست أولا ثم انفجرت بعد ذلك، ولكن ما هي المفردة العربية التي يمكن أن تعبر عن المعنين معاً؟ يتأكد ذلك في قوله تعالى:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ الانبياء (69)

فهل فعلا قال الله للنار يا نار كوني (برداً وسلاماً) من خلال مفردتين منفصلتين؟ لو كان الأمر كذلك لما تحمل إبراهيم برد النار قبل أن تكون سلاماً. 

إننا نظن أن الله قد استخدم مفردة واحدة تحمل المعنين معاً، ولكن لما عجزت اللغة العربية أن تحمل في قاموسها مثل هذه المفردة فصّلت تلك المفردة قرأناً عربياً على نحو (بَرْدًا وَسَلَامًا).

[4] لاحظ عزيزي القارىء أن خطاب الشيطان في قوله تعالى أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ جاء على صيغة المثنى موجها بكل تأكيد لآدم وزوجه، أما خطاب الشيطان في قوله تعالى " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ" فقد جاء على صيغة المفرد موجهاً لشخص آدم دون زوجه. يدل هذا على أن وسوسة الشيطان توجهت مرة لآدم وزوجه ومرة أخرى لآدم فقط دون زوجه، ولو دققنا النظر في كل حاله لوجدنا أنّ الشيطان توجه لكل شخص بما يحب ويرغب، فـ حواء كان يهمها " أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ"، أما آدم فقد وجه له خطاب بحجة أكثر إغواء " وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ"، وهذا فرق واضح بين ما تميل إليه نفس الانثى وتحبه وما تميل إليه نفس الرجل وتستهويه.

[5] أنظر مقالتنا تحت عنوان: "هل فعلاً وسوس إبليس لآدم؟" لقد أثرنا في تلك المقالة التسآؤل التالي: إذا كان الله قد طرد إبليس من المكان لحظة أن رفض السجود لادم وأمر آدم بالسكن وزوجه في الجنة، فكيف استطاع إبليس إذاً الدخول إلى المكان حتى يوسوس لآدم وزوجه؟!

[6] لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا "هل فعلاً وسوس إبليس لآدم؟

[7] إن الدليل على وجود الجن في نفس المكان قبل آدم وزوجه يمكن استنباطه من تسلسل الآيات الكريمات التالية في سورة الحجر:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)

[8] إن هذا الإدعاء يعني أنّ جنة آدم كانت على الارض وليست في السماء، للتفصيل في هذا الموضوع ندعوا القارىء الكريم إلى مراجعة مقالتنا تحت عنوان: "أين كانت جنة آدم وزوجه؟"

[9] للتفصيل حول هذه القضية انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا يدفن الناس موتاهم؟ ومقالتنا تحت عنوان لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟

[10] لاحظ عزيزي القارئ أنك لا تستطيع رؤية تفاصيل سطح القمر أو الشمس على سبيل المثال بالرغم من أنهما في الحقيقة أجسام ترابية وصخرية وكتل نارية ملتهبة، لكن الرؤيا الحقيقية لهذه الأجرام منعدمة بسبب الضوء الساطع منهما.

[11] للتفصيل في هذا الموضوع: انظر مقالتنا تحت عنوان "سفينة نوح ونظرية تكوّن القارات"

[12] للحديث حول احتمالية الرؤية المباشرة للذات الإلهية انظر مقالتنا تحت عنوان: هل هي معجزات أم آيات بينات؟

[13] للتدليل على قرب عيسى بن مريم من الذات الالهية مكانياً نجلب انتباه القارىء الكريم إلى الآية القرآنية التالية:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ آل عمران (55)

فعيسى ابن مريم لم يتحصل له القرب المكاني من الذات الإلهية في الحياة الدنيا وانما بعد أن توفاه الله ورفعه. لهذا فقربه يختلف عن قرب آدم وموسى.

[14] وهنا قد يرد البعض بالقول: وكيف نفسر الآية الكريمة التالية إذا كانت "قرب" تعني القرب المكاني:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق (16)

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة 83-85

فنرد بالقول أنّ المدقق بهذه السياقات يجد الدقة القرآنية في استخدام الضمير "َنَحْنُ" (وسنتعرض لموضوع الضمائر في مقالة أخرى)، ولكن جل القول أن الله لم يقل هنا "وأنا" بل قال "َنَحْنُ" لتدلّ على إشتراك آخرين بالقرب، ولا شك أنهم الملائكة الموكل إليهم أمر البشر، فالله قريب من الناس بعلمه والملائكة قربين من الناس مكانياً، ولتوضيح الفكرة نقدم مثال "ذوي القربى":

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ البقرة (83)

فلا شك أن صيغة "ذي القربى" تعني الاقارب الذين لهم ارتباط دم بالشخص، فهناك إذاً قرب بينك وبينهم ولكن قد لا يكون ذلك القرب مكانياً، فقد يكون قريب لك يسكن أقصى اطراف الارض، فبالرغم من بعده المكاني يبقى من ذوي القربى، ولهذا جاء التصوير القرآني غاية في الدقة في هذا السياق، قال تعالى:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

فالقريب قد يكون جارك (أي قريب مكانياً لك)، ولكنه قد لا يكون جارك.

وللتدليل على الفرق بين إفراد الضمير للذات الإلهية "أنا" واشتراك آخرون معه "نحن" نورد السياقات القرانية التالية:

لقد توجه الله سبحانه بالخطاب لموسى على نحو:

يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ النمل (9)

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الشعراء (10)

ولكن جاء الخطاب في حالة إبراهيم على نحو:

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الصافات 104-105

[15] لاحظ عزيزي القارىء كيف جاء النص على نحو أَرْبَعِينَ لَيْلَةً في آية البقرة ولكنه جاء على صيغة ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر في آية الاعراف، إن حل هذه المسألة يتطلب التذكير بآية آخرى وردت في كتاب الله الا وهي:

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ طه (83)

إننا نعلم أن موسى تعجل للقاء ربه، فنقول أن موسى بناءً على ما جاء في آية الأعراف وصل المكان الذي واعده إياه ربه في الليلة الثلاثين وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فموسى هنا هو الفاعل لفعل الوعد ولكن الله كان قد وعده اللقاء في الليلة الاربعين، لذا جاء الخطاب في سورة الاعراف وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لذا جاءت الصيغة في سورة البقرة وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فموسى هنا مفعول به لفعل الوعد.

[16] للاستزادة حول هذا الموضوع يمكنكم قرآءة مقالتنا تحت عنوان: أين كانت جنة آدم؟

[17] التميز بين "العالم" والعاقل والفقيه وعلاقتها بالحواس السمع والبصر والفؤاد

[18] للتعرض لهذا الموضوع، انظر مقالتنا: جدلية القلب والدماغ

[19] ثم نحن ندعو القارىء الكريم إلى متابعة ابحاث نقل الاعضاء، وكيف أصبح من الممكن نقل أعضاء من القردة والخنازير على وجه الخصوص إلى الجسم البشري.

[20] للتفصيل حول هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم

[21] إننا نفهم أن البشر يستخدموا المجازات لعجزهم في توصيل الفكرة بالكلمات الحقيقية، ولكن لما كان الإله قادراً على توصيل الفكرة بالكلمات الحقيقية فهو ليس بحاجة إلى المجازات. ولا أظن أن القرآن الكريم يحتوى على مجازات لانه كلام الله على الحقيقة.

[22] لاحظ عزيزي القارىء فكرة التحول التي حصلت على الأرض، فلم تكن الأرض أصلاً كما هي عليه الآن بدليل الفعل "جعل" الذي يتطلب التحول من حالة إلى حالة.

[23] لاحظ عزيزي القارىء فكرة التحول من حالة إلى حالة هنا، فالقرآن الكريم إذاً لم يكن أصلاً عربياً وإنما جعل عربيا، أي لقد تم تحويله من صيغته (حالته) الاولى غير العربية إلى صيغة أخرى (حالته) وهي العربية، وهذا ما نسميه تفصيل الكتاب، انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه خاصة الجزء الذي يتحدث عن مستويات فهم النص القرآني الثلاثة: التفسير والتأويل والتفصيل.

[24] انظر مقالتنا تحت عنوان "لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه" للتعرف على رأينا بمن هو إسرائيل هذا.