النظرية العالمية الإسلامية لكشف أسرار الكون (3) - أين كانت جنة آدم؟ (قصة الخلق الأولى)


الفصل الثالث :
أين كانت جنة آدم؟




نتعرض في هذه المقالة إلى سؤال شغل الكثيرين على مر العصور يتعلق بمكان التواجد الإنساني الأول:
فأين – يا ترى- أسكن الله آدم وزوجه بعد أن طلب من الملائكة السجود لآدم؟
وبكلمات أخرى، فإننا نطرح السؤال على النحو التالي: أين كانت جنة آدم وزوجه الأولى؟
افتراء من عند أنفسنا:
سنحاول في هذا البحث تسويق ظننا بأن تلك الجنة كانت على الأرض وأن آدم وزوجه لم يسكنا جنة الخلد إطلاقاً.
وسنحاول أن نحدد المنطقة الجغرافية التي سكنها آدم وزوجة قبل الوقوع في فتنة الشيطان والمنطقة الجغرافية التي انتقلا إليها بعد الوقوع في فتنة الشيطان.


المنهجية: تتلخص منهجيتنا بتتبع السياقات القرآنية التي نؤمن أنها تعرض القصة بشكل جلي ربما يصعب المجادلة فيه.




تمهيد: تغيّر اللغة

تجمع النظريات اللغوية الحديثة أنّ اللغة كائن متغير لا يبقى على حاله، وأنّ هذا التغير حتمي وذلك لأسباب عديدة، فيذكرون مثلاً حاجة المجتمعات المتغيرة، وبالتالي تكون اللغة متغيرة بتغير المجتمعات، وكذلك انقطاع أسباب الاتصال، فكلما كان المجتمع مغلقاً كلما ازدادت عوامل التغيير قوة، وهو ما أدى بالنهاية إلى تكون مجتمعات منعزلة ومفصولة عن بعضها البعض وبالتالي استقلال اللهجات وتطورها التاريخي إلى لغات مستقلة، وكان هناك عوامل تتعلق بالأشخاص أنفسهم، فرغبة الأشخاص بالاستقلال والتميز عن بعضهم البعض شجع ظهور القوميات والأعراق التي تحافظ على هويتها من خلال لغتها، وكان هناك أيضاً حاجة للتميز داخل المجتمع الواحد، فظهرت اللهجات التي تعكس عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية حتى داخل المجتمع الواحد.


فكان نتيجة الانعزال السياسي والجغرافي، أن ظهرت لغات مستقلة (Languages) ، وكان ثمرة التميز الطبقي ظهور ما يسمى (Sociolect)، وثمرة التميز الجغرافي داخل المجتمع الواحد ظهور ما يسمى بـ (Dialect)، وثمرة التميز حتى على مستوى الشخص ما يسمى بـ (Idiolect)، وكان هناك عوامل مؤثرة حتى داخل هذه التصنيفات كعوامل تتعلق بالجنس (أي لغة الذكور مقابل لغة الإناث)، وعوامل تتعلق بالمهنة (فأصحاب المهنة الواحدة لهم تميز لغوي) كلغة الحدادين والجزارين والصحفيين ولغة رجال الأعمال، الخ.


وهنا نخلص للقول أنّ جل ما تفعله هذه النظريات أنّها تقدم شرحاً لما يحصل في الواقع فلا تعدو قوتها أنْ تكون أكثر من وصفية (Descriptive) ، فهي لا تناقش السؤال الأكبر وهو:


لِمَ حصل التغير في الأصل؟
لِمَ تكون اللغة متغيرة؟
لمَ لا تكون اللغة كما القوى الطبيعية الأخرى في الكون ثابتة لا تتغير؟


إنّ جميع النظريات اللغوية الحديثة تسلم بالحقيقة الماثلة وهي تغير اللغة، ولكنّها لا تبحث عن السبب الأساسي الذي أدى باللغة إلى التغير بالرغم أنّها كما ذكرنا سابقاً علماً أودعه الله واختص به بني البشر ممثلين بآدم عليه السلام؟
ولكن القرآن الكريم يبيّن بشكل لا لبس فيه السبب الحقيقي الذي أدى باللغة إلى التغير أصلاً.
وسنناقش هذا الإدعاء بشيء من التفصيل الآن.





تغير اللغة من منظور قرآني كما نفهمه نحن

عندما أدرك الملائكة حكمة الله تعالى في استخلاف آدم على الأرض، وقدرة هذا المخلوق الجديد التي يستمدها من العلم الذي أوكله الله إياه، جاء الخطاب الرباني المباشر للملائكة بالسجود لآدم، قال تعالى:


قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة 33-34


ومما لا شك فيه أنّ سجود الملائكة لآدم لم يكن بأي حال من الأحوال سجود عبادة، فالملائكة الذين مهمتهم في المقام الأول عبادة الله لا يمكن أنْ يطلب منهم عبادة غيره، فالسجود هنا يعني – كما نراه- إتباع الطريقة والمنهج، أي أنّ الملائكة قد طلب منهم الانصياع وراء لواء آدم (وهذا النوع من السجود قد تكرر في قصة يوسف مع إخوته)، فبعد أن رفع يوسف أبويه على العرش خروا له إخوته سجداً:


وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يوسف (100)


وهذا مشابه تاماً للطلب الإلهي من الملائكة بأن يفعلوا مع آدم:

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ الحجر (29)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ص (72)
المهم الآن بالنسبة لنا هو الطلب الرباني من الملائكة جميعاً بالوقوع ساجدين لآدم، الأمر الذي نظن أنه أشعل فتيل الغيرة والحسد عند إبليس، فجاء رفضه معللاً بالقول:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ الأعراف 12
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) الإسراء 61-62
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ص 76



وسنتعرض لمعنى السجود الذي يتحدث عنه النص القرآني بشيء من التفصيل فيما بعد، لننتقل الآن إلى موضوع اختلاف الأمر الإلهي بخصوص سجود الملائكة وسجود إبليس


لماذا سجد الملائكة كلهم أجمعون ورفض إبليس السجود؟

وهنا لا بد من التوقف للحظة لتصحيح فكرة تعرضنا لجزئيتها عند الحديث عند قضية التسيير والتخيير تتعلق بالتساؤل التالي:

 لماذا سجد الملائكة كلهم أجمعون فلم يتخلف منهم أحد بينما رفض إبليس على وجه الخصوص الأمر الإلهي بالسجود لآدم؟ 
فكما نعلم أنّه في حين أن الأمر الإلهي صدر للجميع بالسجود لآدم رفض إبليس فقط السجود لآدم، فلماذا لم يتخلف أحد من الملائكة عن السجود لآدم بينما رفض إبليس الانصياع لذاك الأمر الإلهي؟
 
الرأي السائد: قد يرد البعض بالقول لأنّ إبليس تكبّر واستعلى، وظنّ أنّه أعظم من أنْ يسجد لآدم، ولكننا نرد بالقول أنّ الملائكة كذلك جادلوا في الأمر ولم يكن سجودهم برغبة منهم، أليس كذلك؟ 
وندعو القارئ الكريم إلى التدبر في السياقات القرآنية التالية:

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) ص 69-76


فلعل المتدبر لهذه الآيات الكريمات يدرك على الفور أنّ الخصومة دبت في الملإ الأعلى لحظة أنْ أخبر الله الملائكة بخلق "بَشَرًا مِنْ طِينٍ"، فليس إبليس فقط من تلكأ عن السجود وإنما الملائكة كذلك ما تقبلوا الأمر طواعية، فالآيات القرآنية تتحدث عن حدوث خصومة في الملإ الأعلى، والخصومة – كما يعلم الجميع- لا يمكن أنْ يشترك بها طرف واحد فقط، فلابد من وجود أكثر من طرف حتى تصبح خصومة، فالملائكة أظهروا أنّ إرادتهم تتنافى مع الإرادة الإلهية لهم باستخلاف بشراً من طين ومن ثم السجود له.

افتراء من عند أنفسنا، لذا نحن نفتري الظن بأنّ السبب في تقبل الملائكة السجود لآدم في نهاية المطاف ليس لرغبة منهم في السجود وإنما امتثالاً لأمر ربهم لأنّ الأمر الإلهي نزل عليهم –كما ذكرنا سابقاً- من باب القول، وقول الله لا محالة نافذ، أما إبليس فقد رفض السجود لأنّ الأمر الذي صدر له على وجه الخصوص –كما ذكرنا سابقاً- جاء من باب المشيئة، وبالتالي كان له حرية الاختيار، فآثر أنْ لا يسجد.

ولربما سأل البعض السؤال التالي: لماذا دبت الخصومة في الملإ الأعلى لحظة أن أخبرهم الله مشيئته بخلق بشراً من طين؟
 
جواب: لعل الجميع يدرك أنّ تلك الخصومة التي دبت في الملإ الأعلى لم تكن بسب الأمر بالسجود بحد ذاته، وإنما بسبب القرار الإلهي باستخلاف آدم في الأرض، وقد يقول البعض وما الفرق؟ فنرد بالقول أنّ فهم هذه الجزئية ربما يحل إشكالية كبيرة في الفكر الإسلامي ألا وهي: 

لماذا تلكأ الملائكة بتقبل الأمر؟
 ولماذا رفض إبليس السجود؟
 ولماذا وسوس الشيطان لآدم في الجنة؟
 إنها أسئلة مترابطة تتضح بشكل أكبر إنْ هي أفضت بعضها إلى بعض. 
وقبل الولوج في تفصيلات الأمر ندعو القارئ الكريم إلى تدبر الترتيب في الآيات القرآنية التالية:

(1) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

(2) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

(3) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

(4) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

لاحظ عزيزي القارئ أنّ المجادلة التي بادر بها الملائكة حصلت مباشرة بعد أنْ أخبرهم الله بقراره استخلاف بشراً من طين (الآية 30)، وجاء الطلب الإلهي من الملائكة بالسجود (الآية 34) بعد أنْ أقروا بقصور علمهم (الآيات 31-32)، فعلموا أنّ لله حكمة أكبر من تلك التي كانوا يظنون.

إننا نفهم المشهد إذاً على النحو التالي: لقد سبق خلقُ الجان خلقَ الإنس:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) الحجر 26-27

فلقد كان الجآن متواجدون قبل خلق آدم، ولكن أين؟
 
ولا شك أنّ الملائكة كانوا أيضاً متواجدين قبل خلق آدم بدليل الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لحظة النفخ في آدم واكتسابه الحياة:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحجر 28-29

وهنا لا شك يثار السؤال نفسه: أين كان الملائكة متواجدون؟

ولا شك أيضاً أنّ الأرض كانت موجودة قبل خلق الملائكة كذلك:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) البقرة 29-30

لاحظ عزيزي القارئ كيف تترابط هذه الآيات مع بعضها البعض في السياقات القرآنية التي تتحدث عن خلافة آدم وسجود الملائكة وسجود إبليس. فهي تذكر أولاً أن الله قد خلق ما في الأرض جميعاً لنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، ثم كان الاستواء الإلهي إلى السماء (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، وجاء بعد ذلك القرار الإلهي باستخلاف آدم فيها (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

فالصورة تكون على النحو التالي:
  •  يخلق الله ما في الأرض، 
  • يتم الاستواء إلى السماء،
  •  يسويهن سبع سموات،
  •  يكون الملائكة متواجدون في الملإ الأعلى،
  •  يخلق الجآن، 
  • وأخيراً يخلق آدم، 
فتحدث المخاصمة في الملإ الأعلى:
 فما الدافع الذي أشعل فتيل المخاصمة في الملأ الأعلى إذاً؟

رأينا: إننا نظن إنّ جميع المخلوقات التي كانت هناك ممثلين بالملائكة والجن كانوا يختصمون لسبب واحد: ألا وهو خلافة الأرض التي كانت معدة من ذي قبل لتكون هي موطن الخليفة، فكان الملائكة - بلا شك- يظنون أنهم هم الأحق بالخلافة في أرض الله:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ البقرة (30)

وهذا واضح جداً في الشطر الثاني من الآية الكريمة " قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، فلو لم يكن للملائكة رغبة بتلك الخلافة لكان يكفيهم القول "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" وكفى، ولكن جاء تعريضهم لأنفسهم في هذا الباب- كما نظن- من باب رغبتهم في الخلافة نفسها، فأردفوا حجتهم تلك برغبتهم هذه عندما تابعوا القول "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، ويكأن الملائكة إذاً يتساءلون: ما لنا لا نكون نحن الخليفة؟


والجان كانت أيضاً تظن أنّها هي من ستخلف الله في أرضه؟ 
ولكن لمّا حصل هذا الخلاف تفاجأ الطرفان (الملائكة والجن) بأنّ الخلافة ليست من نصيب أي منهم، وإنما من حق مخلوق جديد، لذا أبدوا معارضتهم المبطنة بالقول غير الصريح قاصدين المجادلة للحصول على تفسير لهذا القرار الرباني، فتقبل الملائكة التفسير الرباني "قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، فكان ردهم:

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ البقرة (32)

ورفضه إبليس صراحة ومن ثم رفض الانصياع لتبعاته وهو "الأمر بالسجود"، فجاء في سورة الأعراف قوله تعالى:

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف (12)

والملفت للنظر هو القرار الإلهي الذي صدر بعد رفض إبليس ألا وهو:

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف (13)

ويتكرر المشهد في سورة ص :

قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ص (76)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ص (77)

وسؤالنا هو: 
لماذا كان القرار الإلهي على هذا النحو: 
الهبوط والخروج من المكان؟ 
أي لِمَ كان العقاب على شكل الهبوط والخروج؟
 لِم لَم يحصل العقاب على شكل المسخ الذي حصل لبني إسرائيل مثلاً:

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ المائدة (60)
 
ولِمَ لم يكن العقاب على شكل الإلقاء في النار؟ 
أليس هو المكان الذي سيؤول إليه إبليس في نهاية المطاف؟ وهكذا.
 
افتراء من عند أنفسنا: 
أننا نؤمن أنّ العقاب الإلهي جاء عادلاً ولا شك، فعندما يقترف شخص جريمة القتل لا يعاقب بحد السرقة، وعندما يسرق لا يجلد كالذي وقع في الزنا وهكذا، لذا جاء العقاب الرباني لإبليس من جنس الذنب الذي اقترفه: لقد أنكر إبليس أحقية آدم وجنس آدم خلافة الأرض، مقراً بها لنفسه وجنسه لأفضليتهم في الخلق (كما ظن هو وادّعى)، فكان العقاب الرباني له بالطرد منها على شكل الهبوط والخروج منها.
 ولكن قد يبادرنا البعض بالاستغراب قائلين: 
وما دخل ذلك بالأرض؟
 فالخروج والهبوط كان من الجنة، أليس كذلك؟ 

فنرد بالقول أنّ هذا ينقلنا إلى إشكالية وجدلية كبيرة في الفكر الإسلامي ألا وهي:
 أين سكن آدم بعد سجود الملائكة له؟ 
وأين انتهى به الأمر بعد حصول المعصية؟ 
وأين كان إبليس قبل وقوعه في المعصية؟ 
وأين انتهى به الأمر بعد رفضه الأمر الإلهي بالسجود لآدم؟ 
أسئلة لا شك مترابطة أعيت المفكرين في إيجاد الجواب الذي لا يدحض بسهوله، فما تناقله الفكر الإسلامي حتى الساعة يمكن رده بكل يسر وسهوله، ولنبدأ بهذه الافتراضات تباعاً، محاولين التأطير لمنطق جديد في سرد قصة الخلق الأولى.


آدم لم يسكن جنة الخلد قط
أولاً، لقد ذهب جل الفكر الإسلامي إلى القول أنّ آدم قد سكن الجنة بعد حصول عملية السجود:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ... البقرة (35)

وظن الكثيرون أنّ تلك كانت جنة الخلد الذي سيعود إليها آدم وذريته بعد الحساب يوم القيامة، فنرد على من ظن ذلك أنّه بحاجة أنْ يكمل قراءة الآية نفسها:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وقد يتساءل البعض وما علاقة ذلك بموضوع السكن في الجنة؟
جواب:
 نقول للذين يظنون أن الله قد أسكن آدم جنة الخلد بعد أن أمر الملائكة بالسجود له نقول لهم لو تدبرتم الآية الكريمة بشيء من التفصيل لوجدتم أمراً ينافي الاعتقاد أنّ آدم وزوجته قد سكنا جنة الخلد، ألا وهو الأمر الإلهي الذي جاء لآدم وزوجته بعدم الأكل من الشجرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

أولاً، نحن نعرف من مجمل الفكر الإسلامي وبالأدلة القاطعة أنّ من أهم صفات الأكل في جنات الخلد أنه غير مقيد:

لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ الواقعة (33)

وسؤالنا هو: 
هل هناك في جنات الخلد أي نوع من الطعام (حتى وإن كان من شجرة ما) يحضر على الإنسان حتى الاقتراب منه؟
و نحن نعلم كذلك أنّ آدم عندما اقترب وزوجته من تلك الشجرة حدث له مكروهاً (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا):

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
طه (121)

وسؤالنا هو: هل الأكل من ثمر جنات الخلد يمكن أنْ يسبب مكروهاً؟


آدم يسكن الجنة على سبيل الدوام


ثانياً، لقد جاء قول الله تعالى لآدم وزوجه عندما أسكنه وزوجه الجنة على النحو التالي:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119) طه 117-119

إنّ المتدبر في هذا الكلام يدرك حقيقة صارخة وهي أنّ الله طلب من آدم عدم النزول عند رغبة إبليس لأنّ ذلك سيكلفه الخروج من الجنة، أليس كذلك؟
 إنّ هذا الافتراض يعني أنّ الله قد أذن لآدم السكن في الجنة (جنات الخلد كما يظن البعض) على سبيل الدوام، فالله يحذر آدم من إبليس حتى لا يخرجه من جنات الخلد (فهذا منطقهم)، أليس كذلك؟
 وهنا نثير التساؤل الكبير التالي: 
كيف نفهم أنّ الله أمر آدم وزوجه السكن في جنات الخلد وحذرهم من إبليس وجنوده حتى لا يخرجهم من تلك الجنة والله نفسه هو من قضى بخلافة آدم الأرض حتى من قبل حصول الأمر برمته؟ 
 وبكلمات أخرى فإنّ ما يشغل بالنا هو: 
كيف يطلب الله من آدم وزوجه السكن في الجنة على سبيل الدوام ويحذرهم من إبليس خوفاً أنْ يكلفهم ذلك الخروج من الجنة وهو نفسه من خلق آدم وزوجه ليستخلفهم في الأرض؟ 
ألا يناقض الله نفسه (حاشاه جلَّ وعلى) في هذا السياق؟
 إنّ الفهم السابق الذي قّدمه لنا السادة العلماء يوصلنا بلا شك إلى هذا الموقف المتناقض: 
الله يطلب من آدم وزوجه السكن في جنات الخلد ويحذرهم أنْ يخرجهم الشيطان من تلك الجنان، وهو قد سبق وأخبر الملائكة أنّ آدم وزوجه مستخلفين في الأرض.


آدم يسكن مكان يمكن أن يكون هناك مكان خير منه


ثالثاً، لقد سوغ الشيطان لآدم وزوجه الأكل من الشجرة بالحجج التي ترد في السياق نفسه:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (120)

فقد دخل الشيطان لآدم وزوجه من بابين اثنين: 
(1) أنّ الشجرة هي شجرة الخلد (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ) و 
(2) وأنّ ذلك سيكسب آدم ملك لا يبلى ( وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ)،

 والمتدبر للسياقات القرآنية الأخرى يدرك أنّ إبليس سرد لآدم وزوجه السبب التالي الذي من أجله حرم الله عليهما الأكل من الشجرة قائلاَ:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
 
وما يهمنا في هذا المقام هو تقبل آدم لحجج الشيطان، فسؤالنا هو:
 لماذا تقبل آدم تلك الحجج؟ 
فلماذا يقبل آدم حجة الشيطان بأنّ الشجرة هي شجرة الخلد ما دام أنه يعيش هو وزوجه في جنات الخلد؟ 
كلا وألف كلا، إنّنا نظن أنّ آدم وزوجه تقبلا حجة الشيطان بأن تلك شجرة الخلد لأنهما لم يكونا يسكنا جنة الخلد أصلاً، وإلاّ لرد آدم حجة إبليس بالقول: "نحن في جنة الخلد، فما الذي نريد أكثر من ذلك؟"

فما الذي سيطمع آدم في اكتسابه إنْ كان هو في جنة الخلد أصلاً؟
 وكذلك نقول: 
لماذا تقبل آدم وزوجه حجة إبليس بأنهما سيحصلان على ملك لا يبلى إنْ كانا يقطنا جنة الخلد أصلا؟، 

فهل من تحصل له جنة الخلد سيبلى ملكه؟ 

وبالمنطق نفسه لماذا تقبل آدم من الشيطان الحجة " أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ إذا كان آدم وزوجه أصلاً في جنة الخلد؟ 

كلا وألف كلا، لم يتقبل آدم تلك الحجج إلاّ لأنهم ما كانوا يقطنون جنة الخلد، وإنما هي جنة أخرى نحن بحاجة أنْ نبحث عنها لنعلم كيف هي حتى تقبل آدم منطق إبليس بأنه لازال هناك مكان أفضل من هذا المكان الذي يقطنه آدم وزوجه الآن بالرغم من التحذير الإلهي لهم من الوقوع في شرك الشيطان. 
فهل من سكن جنات الخلد يمكن أن يتمنى شيئاً لا يحصل عليه؟ 
كلا، إننا نؤمن أن جنات الخلد لا تبقى للإنسان رغبة لا تتحقق، أما الجنات الأخرى فقد يسكن الإنسان في نعيم كبير ولكن يبقى في نفسه ما لا يمكن أن يتحقق له، فها هو صاحب الجنتين (وليست جنة واحدة) يطمع ويقع في الذنب لحاجة في نفسه بلا شك:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) الكهف

ولكنه يقع في المعصية فيكلفه ذلك خسارتهما

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)لَٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)

وها هم أهل سبأ يتمتعون بالعيش بجنتين (وليست جنة واحدة)

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ سبأ (15)

ولكنهم يغرقوا في الضلالة فيخسروا ما كانوا فيه من النعيم:

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ سبأ (16)

وها هم أصحاب الجنة يمنعوا الفقراء من دخولها فتحترق:

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) القلم 17-20

وكذلك كان آدم (الأب الأول لهم جميعاً) يقطن الجنة ولكنه يقع في المعصية فيخسرها:

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
طه (121)



وحتى نتبين ذلك المكان فعلينا أولا ربط القرار الإلهي بإستخلاف آدم وزوجه الأرض مع الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة، وماهية الجنة نفسها، ومعنى الخلافة، وعملية الهبوط والخروج التي حصلت لإبليس أولاً ثم لقاطني الجنة جميعاً من بعده.


ماهية الجنة (جنة آدم أم جنة الخلد)

غالباً ما وردت الصيغة " جَنَّاتٌ ... خَالِدِينَ فِيهَا" في أكثر من مكان في كتاب الله للتدليل على المكان الذي سينتهي إليه المؤمنون بعد الحساب يوم القيامة، قال تعالى:

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ البقرة (15)
أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ آل عمران (136)
لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ آل عمران (198)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ النساء (13)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا النساء (57)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا النساء (122)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ المائدة (85)
قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المائدة (119)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) التوبة 21-22
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة (72)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة (89)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة (100)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ هود (108)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ إبراهيم (23)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) الكهف 107-108
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ طه (76)
أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) الفرقان 75-76
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ العنكبوت (58)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) لقمان 8-9
أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأحقاف (14)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا الفتح (5)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الحديد (12)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المجادلة (22)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التغابن (9)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا الطلاق (11)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ البينة (8)


وبعد هذا الاستعراض الطويل والمتكرر للآيات التي ترد فيها عبارة " جَنَّاتٍ...خَالِدِينَ فِيهَا"، ألم تشعر عزيزي القارئ أني قد اقتبست آيات كثيرة كان الأولى بي أنْ أقدم لك آية أو آيتين وكفي فتصلك الفكرة دون هذا الجهد والإطالة؟
 ولربما ظنّ البعض أننا لا نحتاج لهذا الكم الكبير من الآيات الكريمات لإثبات أنّ المؤمنين في جنات خالدين فيها، فإذا كان هذا الإدعاء صحيحاً، فلم لا ننتقد هذا التكرار الكثير جداً للفكرة والصيغة نفسها في كتاب الله؟
أي لم يخبرنا الله بأنّ المؤمنين في الجنات خالدين فيها في عشرات الآيات القرآنية؟ 
ألا تكفي آية أو آيتان لتصل لنا الفكرة؟
 فهل نحن بحاجة لعشرات الآيات لترداد نفس الفكرة وإلى حد كبير بنفس الصيغ والتراكيب؟
وإذا كانت لفظة الجنة (كما يظن البعض) تدل أصلا على جنات الخلد، فلم ترد عبارة "خَالِدِينَ فِيهَا" تقريباً في كل مرة يصار إلى الحديث عن تلك الجنات؟ 
ألا تصبح تلك العبارة من باب التكرار غير المرغوب فيه؟
كلا وألف كلا، إنه المعنى الذي لا يمكن أن يتم بدونها، فتلك العبارة ضرورة لا يمكن تجاوزها لسبب بسيط –حسب ظننا- ألا وهو التفريق بين نوعين من الجنان في السياق القرآني:

(1) الجنات التي فيها خلود دائم فلا موت فيها، و
(2) الجنات التي لا خلود فيها ونهايتها محتومة

وبهذا الفهم نستطيع أن ندرك كيف أوقع إبليس آدم في شركه عندما وسوس له بالقول:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)

لقد صوّر إبليس لآدم أنّ الأكل من الشجرة سينقلهما من حالة إلى حالة أخرى: من حالة اللاخلود إلى حالة الخلود " أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" ، فتلك الجنة التي يتواجد آدم وزوجه بها الآن لا خلود فيها بدليل تقبل آدم لفكرة الشيطان، ونحن نعتقد أنّ الشيطان لم يكن لينجح بالإيقاع بآدم وزوجه لولا معرفة آدم المسبقة بوجود شجرة الخلد التي عندما يأكل منها الشخص "يكون من الخالدين"، وبكلمات أخرى لقد كان يعلم آدم بوجود شجرة الخلد ويعلم أنّ الأكل منها يسبب الخلود والملك الذي لا يبلى، (فهو يعرف بوجود نعيم وجنان غير تلك التي هو فيها الآن) وعندها اقتصرت مهمة إبليس بإقناع آدم (ليس بوجود شجرة الخلد وإنما) بأنّ الشجرة هذه هي شجرة الخلد التي يعلم مسبقاً وجودها.

وحتى يتبين القارئ وجاهة ما نظن ندعوه إلى التفكر بالألفاظ التي وردت في الآيات التي فيها سوغ إبليس لآدم الأكل من الشجرة:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)

فإبليس يوسوس لآدم القول " شَجَرَةِ الْخُلْدِ" بصيغة المعرفة بدلالة ألـ التعريف والإضافة ولم يقل له مثلاً "شجرة خلد" بأسلوب التنكير، ونحن نعرف أنّ استخدام الـ التعريف للمرة الأولى في سياق الخطاب لا يمكن أن يتم دون اشتراك المتكلم والمخاطب بالمعرفة السابقة للاسم المعرّف (وهو ما يرغب بعض أهل اللغة بـتسميته الـ العهدية، أي اشتراك السامع والمخاطب بالمعرفة المسبقة للاسم المعرّف)، فأنت لن تتحدث مع شخص للمرة الأولى بالقول "جاء باص المدرسة" مثلاً دون أن يكون ذلك الشخص يعرف أي باص مدرسة أنت تقصد، وإلا لجاءك رده على نحو "أي باص تقصد؟ أو أي مدرسة تعني؟" ولكن عندما تكون تلك المعرفة مشتركة بين السامع والمتكلم يستمر الحديث دون الحاجة إلى زيادة في التوضيح أو الإيضاح، وهذا بالضبط ما حدث –كما نظن- في سياق الحديث الذي جرى بين الشيطان من جهة وآدم وزوجه من جهة أخرى، فلم يضطر الشيطان لزيادة التوضيح عن تلك الشجرة ولم يصدر عن آدم وزوجة أي استفسار عن ماهية تلك الشجرة، ونحن نظن أنّ السبب هو حصول العلم المسبق لدى آدم وزوجه بوجود مثل تلك الشجرة في مكان ما، فأدخل الشيطان في نفسيهما الشك أنّ هذه هي "شجرة الخلد التي يعلمون حقيقة وجودها، والسياق القرآني واضح إذا قراءنا ما جاء في سورة طه أولاّ وأتبعنا ذلك بما جاء في الأعراف:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)

"... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
 
فسهلت مهمة الشيطان في التغرير بهما، وهذا واضح جداً في السياق المحيط بآية الأعراف نفسها:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

فأدخل الشك في نفسيهما، وما كان يحتاج الشيطان سوى الإلحاح والتكرار لتأكيد فكرته وزيادة الشك الذي زرعه وبدأ ينمو ويكبر في نفسيهما وكان له ذلك:

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

فكانت النتيجة التغرير بهم ووقوعهم في شركه:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

وهنا نثير تساؤلاً كبيرا وهو: 
لماذا لم تتدخل الإرادة الإلهية وقت التغرير الذي حصل ولحظة وقوع الشك في نفسي آدم وزوجة؟ 
فنحن نعلم أنّ الله خاطب آدم قبل الوقوع في المعصية وحذره من الشيطان وعداوته بقوله سبحانه وتعالى:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ طه (117)

وخاطبهما بعد الوقوع في المعصية بقوله تعالى:

"... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

وسؤالنا هو:
 لماذا لم تتدخل إرادة الله ومخاطبة آدم وزوجه لحظة الوقوع في المعصية (أو عندما همّا بالوقوع فيها)؟ 
أي لماذا لم يخاطب الله آدم وزوجه عندما وسوس لهما الشيطان أنّ تلك شجرة الخلد والأكل منها يجلب لهم ملكاً لا يبلى بالقول بما فحواه "أنّ تلك ليست شجرة الخلد والشيطان يكذبكما القول" لينجو آدم وزوجه من الوقوع في المعصية؟

فالله سبحانه تدخّل قبل وقوع المعصية بالتحذير من الوقوع فيها وتدخّل بعد الوقوع فيها بالمحاسبة ولكنه لم يتدخل عند الوقوع فيها: فلماذا؟

جواب:
 نحن نعتقد أن سنة الله قد قضت بأنه قد دلّنا على طريق النجاة وحذرنا من الوقوع في شرك الشيطان فأرسل لنا رسله وأنزل معهم شرعة ومنهاجا، وهو يحاسبنا على أعمالنا في نهاية المطاف ولكنه لا يتدخل فيما نقوم به ونفعل، وذلك لسبب بسيط أنّ ما نقوم به هو من باب مشيئة الله (وليس من باب قوله) كما كان حال الأكل الأول من الجنة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

فلو تدخل الله في وسوسة الشيطان لآدم وزوجه لأصبح الإله يناقض نفسه (حاشاه جل وعلى)، فهو قد قال لآدم وزوجه وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، فما دام الأمر جاء من الله لآدم وزوجه بالأكل على المشيئة فيكون بذلك هو (الله) من ترك لهم حرية الاختيار في الأكل وعدمه، فكيف به يعود ليردهم عن ما شاءوا هم أن يأكلوه؟
 لقد ترك الله الأكل من الجنة لمشيئة آدم وزوجه فما كان الله ليتدخل إذاً ليردهم عن مشيئتهم التي منحهم إياه في البدء.


الخلافة في الأرض والسكن في الجنة: تناقض أم توافق؟

إنّ التناقض الظاهر الذي يتبادر إلى ذهن القارئ للنصوص القرآنية التي تتحدث عن السكن في الجنة هو: 
كيف يقضي الله بخلافة آدم الأرض في البدء ثم يأتي الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة ويحذرهم من مغبة النزول عند رغبة إبليس لأنّ ذلك سيكلفهم الخروج من الجنة؟ 

ولنبدأ بالافتراض الساذج التالي: 
تصور معي – عزيزي القارئ- لو أنّ آدم لم ينزل عند رغبة الشيطان فلم يأكل هو وزوجه من الشجرة، فهل يعني ذلك أنّ آدم وزوجه وذريتهم من بعدهم سيبقون في الجنة وإلى الأبد؟ 
وأين سيذهب الوعد الإلهي باستخلاف آدم وزوجه وذريتهم من بعدهم الأرض؟ 
أي كيف ستتحقق الخلافة في الأرض عندئذ؟

لقد راوغ الفكر الإسلامي الدارج في ذلك بالقول أنّ الله عَلِم في سابق علمه أنّ آدم وزوجه سيأكلان لا محالة من الشجرة، وبالتالي سيصدر القرار الإلهي لهم –لا محالة- بالهبوط من الجنة فتتم الخلافة؟ 

فنرد بالقول: ألا ترى - عزيزي القارئ- أنّ تلك إذاً مسرحية جاهزة؟ 
لم يضطر الإله إسكان آدم وزوجه الجنة في البدء ليتم الأكل من الشجرة وتحصل عملية الهبوط إلى الأرض ما دام أنّ خلق آدم جاء أصلاً لخلافة الأرض؟ 

وبكلمات أخرى لم جاءت تلك الحلقة الوسطى (السكن في الجنة) بين خلق آدم وسجود الملائكة له وخلافته الأرض؟ 

فهل هناك مسوغ لتلك المرحلة الانتقالية (أي السكن في الجنة) في الفكر الإسلامي؟ 

فهل لازالت الأرض (على سبيل المثال) غير جاهزة للخلافة حتى اللحظة فوضع آدم في ذلك المكان "المستأجر" ريثما يتم تأثيث "شقة التمليك للعروسين آدم وزوجه" (كما يقول إخواننا المصريون) ؟ 

أم هل كان آدم وزوجه غير مؤهلين بعد للسكن في الأرض فهما لازال بحاجة لشيء من التدريب (أي البروفات باللسان الأعجمي) ليتم الزفاف إلى عش الزوجية؟ 

إنّ ذلك أبعد ما يمكن عن الحقيقة. 

فالله أعد الأرض وما فيها حتى قبل الاستواء إلى السماء:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة 29

فالأرض إذاً جاهزة للخلافة حتى قبل إبلاغ الملائكة قراره استخلاف بشراً في الأرض، وآدم وزوجه كانا جاهزين لعمارة الأرض بدليل أنّ الله قد علم آدم كل شيء ليعده لخلافة الأرض، قال تعالى:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) البقرة 31-32


هل كانت المعصية سبباً في الهبوط

إننا نظن أن الأغرب من كل ما سبق هو أنّ جل الفكر الإسلامي قد درج على الاعتقاد أنّ الأكل من الشجرة (أو الوقوع في العصية) هو سبب الخروج من الجنة، فهم يروجوا للفكرة "الهزلية" التالية:
 أنّ الله أسكن آدم الجنة ليختبره فيها، فلما فشل آدم في ذلك الاختبار قضى الله الأمر بهبوطه إلى الأرض!
 ألا ترى عزيزي القارئ التناقض بين هذا القول والإيمان بأنّ الله خلق آدم في الأصل لخلافة الأرض؟
 فهل وقوع آدم وزوجه في المعصية أو عدم وقوعهم فيها كان سيؤثر على قرار الخلافة؟
 وكذلك ألا ترى عزيزي القارئ أنّ الاعتقاد بأن إبليس هو من أخرج آدم من الجنة إلى الأرض ينافي الاعتقاد بأنّ الله هو أصلاً من قضى بخلافة آدم الجنة:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) البقرة 30-31
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأعراف (27)



إننا نظن أنّ المعصية لم تكن السبب في خلافة آدم الأرض، وذلك لسبب غاية في البساطة وهو:
 أنّ الله قد قضى بخلافة آدم الأرض قبل أنْ يعلمه علم الأسماء ويأمر الملائكة بالسجود له، فما كان وقوع آدم في المعصية (أو عدم وقوعه فيها) سيغير شيئاً من أمر خلافته الأرض، ثم لنحتكم وإياكم إلى كتاب الله لنرى ما قضى الله من العقاب في مخالفة آدم لربه في أمر الأكل من الشجرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة (35)
 
نعم، تلك هي عاقبة الأكل من الشجرة كما قضاها الله: فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ، ولو كان الأكل من الشجرة سيترتب عليه الخروج أو الهبوط أو الطرد لجاء القضاء الإلهي على نحو: "فتكونا من المخرجين"، "فتكونا من الهابطين"، "فتكونا من المطرودين"، ونحوه، والأهم من ذلك لِمَ يقضي الله بهبوط آدم وزوجه من الجنة ما دام أنه قد تقبّل توبتهما؟ فمادام أنّ توبة آدم قد قبلت:

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة (37)

لم يعد الهبوط مبررا.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إننا نظن أنّ أمر الهبوط لا علاقة له بالمعصية أو بالتوبة، فخلافة آدم الأرض هو أمر محسوم بغض النظر عما حصل قبل أو بعد الوقوع في المعصية.


هل كان سكن آدم في الجنة مرحلة انتقالية؟

للخروج من هذه التناقضات التي نظن أن جل الفكر الإسلامي الدارج قد وقع فيها في هذا المجال نقدم الافتراضات التالية ونتابعها لنرى أيها أجدر بالتبني:

أولاً، كان سكن آدم وزوجه في الجنة مرحلة انتقالية وكان وقوع آدم في المعصية سبباً في هبوطه
ثانياً، كان سكن آدم في الجنة على سبيل الدوام وكان وقوعه في المعصية سبباً في هبوطه
ثالثاً، كان سكن آدم في الجنة مرحلة انتقالية ولم يكن الأكل من الشجرة سبباً في هبوطه
رابعا، كان سكن أدم في الجنة على سبيل الدوام ولم يكن الأكل من الشجرة سبباً في هبوطه


ولما بيّنّا أنّ الأكل من الشجرة لم يكن سبباً في هبوط آدم وزوجه لأنّ الخلافة في الأرض كانت السبب في خلق آدم في الأصل ولأنّ عملية الهبوط قد تمت بعد قبول الله توبة آدم، فإنّ الافتراض الأول والثاني يخرجان من السباق، وتنحصر المنافسة بين الافتراض الثالث والرابع حيث الأكل من الشجرة لم يكن السبب في الهبوط، ولكن الفرق هنا يكمن في إن كان الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة على سبيل الدوام أم هو فترة انتقالية يتم بعدها الانتقال إلى الأرض للخلافة.
إننا نزعم الظن أنّ الافتراض الرابع هو الأجدر بالتبني، (في حين أننا سنناقش الافتراض الثالث لاحقاً)، وبكلمات بسيطة نقول أنّ الله أصدر أمره لآدم وزوجه السكن في الجنة على سبيل الدوام ولم يكن الأكل من الشجرة سبباً في الهبوط، وقد يسبقنا البعض بالتساؤل التالي: إذا كان ما تقول صحيحاً، أي أنّ الله أمر آدم بالسكن في الجنة على سبيل الدوام فكيف إذاً ستتحقق الخلافة في الأرض؟

 كيف سينتقل آدم إلى الأرض للخلافة ما دام أنّ الله قد قضى بسكن آدم في الجنة على سبيل الدوام؟
 أليس هذا هو التناقض بعينة؟
 نقول كلا، إنّ ذلك لا يناقض بعضه بعضاً شريطة القيام بشيئين اثنين: أولهما فهم معنى الهبوط الذي يتحدث عنه النص القرآني وفهم معنى الجنة التي وردت في سياق الحديث عن سكن آدم وزوجه، وثانيهما ربط الأحداث بعضها ببعض.

افتراءات من عند أنفسنا
نلخص الفكرة التي نجهد أنفسنا الوصول إليها على النحو التالي:

(1) حصل انتقال آدم وزوجه إلى الأرض قبل وقوع المعصية لتحقيق الخلافة التي قضى الله أمره في البدء،
 
(2) سكن آدم وزوجه الجنة على الأرض، فلقد ذكرنا آنفاً أنّ الجنة التي كان يسكنها آدم وزوجه ليست جنة الخلد، فالنص القرآني بصراحة اللفظ يبيّن أنّ آدم كان يسكن "الجنة" والله أمره "بالهبوط منها"، فما هي الجنة؟ وما هو الهبوط؟

(3) استطاع إبليس أن يخرج آدم من تلك الجنة التي كان يسكنها على الأرض، ولم يكن إبليس السبب في انتقال آدم وزوجه إلى الأرض، فانتقال آدم إلى الأرض كان بقرار رباني لتحقيق أمر الخلافة، أما خروج آدم من الجنة فقد كان بسبب الشيطان
وسنتعرض بالتفصيل لهذه الافتراءات بالتفصيل في الحال


الجنة ومعنى الخلافة

قال تعالى:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119) طه 117-119

إن المتدبر لهذه الآيات الكريمة يجد ما يلي:
أنّ الله أسكن آدم في الجنة، وطلب منهما الأكل منها على سبيل المشيئة وقد حاولنا أن نبين أنّ المشيئة تقتضي الاختيار وبالتالي جاء الأمر لهما بعدم الاقتراب من الشجرة، فاختار آدم الاقتراب منها
 
أنّ الله حذر آدم وزوجه من الشيطان حتى لا يخرجهما من الجنة، فإرادة الله كانت تقضي سكن آدم في الجنة وإلى الأبد، ولكن كيف ستتم الخلافة؟
 
إنّ تلك الجنة مؤهلة لحياة لا جوع ولا عري ولا ضماْ ولا ضحى فيها
وعند الأخذ بعين الاعتبار مواصفات تلك الجنة، ندعو القارئ إلى تدبر الآية القرآنية التالية لنرى ما حصل فعلاً لآدم وزوجه لحظة الأكل من الشجرة:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ البقرة 36

وهذا يعني أنّ الشيطان قد أخرج آدم وزوجه مما كانا فيه (بصيغة التذكير وليس التأنيث)، فما الذي كان آدم وزوجه فيه (وليس فيها)؟

 إننا نعتقد أنه الوضع (أو الحال) الذي كانا فيه، ألا وهو الحياة الرغد،، فلم تعد الجنة المكان الذي لا جوع ولا عري ولا ضمأ ولا ضحى فيه، وصدر الأمر الإلهي لآدم وزوجه لا بل وللجميع الذين كانوا متواجدين في الجنة بالهبوط:
 
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الأعراف 24

وقد بينا سابقاً أن ذلك شمل أيضاً الجن الذين كانوا متواجدين في الجنة آنذاك، حيث الشيطان الذي وسوس لآدم فيها، وتحصلت العداوة بين الجنسين منذ ذلك الوقت
 
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى طه 123

والسؤال الذي نثيره هنا هو: كيف حصل الهبوط؟


كيف حصل الهبوط؟

لقد جاء الأمر الإلهي لإبليس على النحو التالي:

فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف 13
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ الأعراف 18

وجاء الأمر الإلهي للجميع على النحو التالي:

قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الأعراف 24
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى طه 123

والمدقق في ألفاظ القرآن الكريم يجد أنّ الأمر الإلهي لإبليس جاء بصيغتين وهما "فاهبط" "واخرج"، وجاء الأمر الإلهي للبقية بصيغة واحدة وهي "اهبطوا" و "اهبطا". وبكلمات أخرى، لقد أمر الله إبليس بالهبوط والخروج وأمر الجميع بالهبوط فقط، ولا أظن أنّ ذلك جاء من قبيل المصادفة وتبديل الألفاظ، لذا فإننا ندعو القارئ الكريم إلى متابعة الألفاظ لتبيان الاختلاف بحول الله وتوفيقه.


أولاً: الخروج

ما هو الخروج؟ أو كيف يتم الخروج؟
إنّ من أبسط معاني الخروج هو الانتقال من الداخل إلى الخارج، ومصداق ذلك قوله تعالى:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا مريم (11)
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ القصص (79)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
وكذلك فهي تعني التفلت من حدود مكان ما:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ البقرة (246)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ البقرة (195)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا النساء (66)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا النساء (75)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) الشعراء 53-58
ويحتمل الخروج كذلك من الباطن إلى الظاهر: من باطن الأرض إلى ظاهرها، مثلاً:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة (22)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ البقرة (267)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الأنعام (93)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل (78)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ طه (88)



ويكون بذلك الخروج في مجمله أفقياً كما في الشكل التالي:





أو عمودياً إلى الأعلى كما في الشكل التالي:





ثانياً: الهبوط

ما هو الهبوط؟ وكيف يتم الهبوط؟
أما الهبوط فهو قوسي إلى الأسفل كما في الشكل التالي:




قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ هود (48)

وكذلك هبوط بني إسرائيل من الأرض المقدسة إلى مصر:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ البقرة (61)


نتيجة مفتراة: إن مراد القول هو أنه في حالتي الخروج والهبوط هناك انتقال، ولكن ما يهمنا هو طريقة واتجاه الانتقال، فإبليس أُمر بالحركة إلى الأسفل (الهبوط) ولكنه أُمر أيضاً بالانتقال أفقياً (الخروج)، فتكون حركته على النحو التالي:






بينما أمر جميع سكان الجنة (بمن فيهم آدم وزوجه بالهبوط فقط فكانت حركتهم عامودية قوسية فقط كما في الشكل التالي:





وهكذا يكون إبليس قد خرج من حدود المكان الذي يتواجد به من هبط من سكان الجنة. 
وبكلمات أدق، فنحن نفتري الظن أن إبليس قد
 (1) هبط من الجنة و
 (2) خرج منها،

 والجديد فيما نظن ونزعم أننا إذا استطعنا أن نثبت أنّ تلك الجنة التي كان يسكنها آدم وزوجه لم تكن في السماء وإنما على الأرض يكون آدم وزوجه قد انتقلا من مكان إلى مكان آخر على الأرض، بينما يكون إبليس قد خرج منها بعد أن انتقل، وبهذا نصل إلى افتراء خطير جداً له تبعاته الجمّة التي سنتعرض لها لاحقاً بحول الله وتوفيقه.



الافتراء الجديد:
 إنّ إبليس لم يعد موجوداً على الأرض، فهو قد هبط من المكان الذي كان يتواجد فيه وهو قد خرج منه كلياً، وبهذا يتنافي – في زعمنا- تلاقي إبليس مع سكان الأرض، فلا يوجد اتصال بينه وبين البشر بعد خروجه منها. .
ولكن التواصل يبقى قائماً بين الذين هبطوا ولم يؤمروا بالخروج وهم الجن والأنس.

الدليل

لو تدبرنا جميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن التواصل بين الجنسين يكون الحديث دائماً عن الجن بعفاريتهم وشياطينهم:
 
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ الأنعام (112)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأعراف (27)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) سبأ 12-14
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ فصلت (29)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ الأحقاف (29)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) الجن 1-11
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ البقرة (14)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ البقرة (102)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الأنعام (71)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ الأنعام (121)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأعراف (27)
فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الأعراف (30)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا الأنعام (27)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا مريم (68)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا مريم (83)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
الأنبياء 81-82
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) المؤمنون 97-98
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) الشعراء 221-223
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) ص 36-38



وهذا الطرح ربما يقودنا إلى السؤال الكبير هو: هل حقاً أنّ آدم لم يهبط من السماء إلى الأرض بعد المعصية؟
 نقول نعم آدم لم يهبط من السماء إلى الأرض ولكنه هبط من أرض إلى أرض.


الدليل: أفعال الحركة (الانتقال) في القرآن الكريم
حتى نستجلي الصورة علينا أنْ نمعن النظر بأفعال الحركة التي وردت في القرآن الكريم، ففعل الهبوط يدل على حركة، وفعل الخروج يدل على حركة، وهناك فعل ثالث يهمنا في هذا المقام ويدل على الحركة كذلك وهو فعل النزول، فالقرآن الكريم يتحدث في مواطن عديدة عن الهبوط والخروج والنزول، وقد استعرضنا سابقاً بعض السياقات القرآنية التي تحدثت عن الخروج وبعض السياقات التي تحدثت عن الهبوط، ونحن الآن بحاجة إلى مقارنة تلك السياقات بالسياقات القرآنية التي تتحدث عن النزول

رأينا: إن جل القول الذي نريد توضيحه هنا هو أنّ الحركة من السماء إلى الأرض تتطلب حركة النزول (أي حركة على شكل النزول) وليس الخروج أو الهبوط.

الدليل

أولاً، لو تدبرنا آيات القرآن الكريم جميعاً لوجدنا أن الرسالة الدينية وكتب الله المصاحبة للرسالة قد نزلت نزولاً (ولم تهبط) من السماء، قال تعالى:

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ البقرة (4)
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ البقرة (176)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة (185)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ آل عمران (65)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ المائدة (67)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
الأنعام (7)

ثانياً، انظر إلى الآيات التي تصور كيف ينزل الماء من السماء نزولاً:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة (22)

ثالثاً، يصور القرآن الكريم حركة الملائكة (بمن فيهم الروح الأمين جبريل) على أنها حركة نزول (وليس خروج أو هبوط):

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ البقرة (97)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ آل عمران (124)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) الأنعام (8)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا الإسراء (95)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الفرقان (25)

رابعاً: وحتى المن والسلوى التي كانت من نصيب بني إسرائيل مع نبيهم موسى والمائدة التي ذكرت في قصة الحواريين مع نبيهم ابن مريم نزلت نزولاً:

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ البقرة (57)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) المائدة 112-115

خامساً، وكذلك النصر والعذاب من ربك ينزل من السماء:

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ البقرة (59)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الأنفال (26)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ غافر (13)



سادساً، وحتى الأشياء المادية التي مصدرها السماء (كالميزان والحديد) نزلت نزولا (ولم تخرج أو تهبط):

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ _ الجديد (25)

ولننظر إلى الدقة والروعة القرآنية التي تصور الشياطين في حركة النزول، قال تعالى:

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) الشعراء 221-223
فلعل الجميع يدرك أنّ النص القرآني يتحدث عن أولئك الشياطين الذي يلقون السمع لما يحدث في السماء كما تؤكده الآيات التالية:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) الجن 8-9

فيكون بذلك في مكان قريب من السماء (كالماء الذي ينزل من السحب) وعندما يتجهوا نحو الأرض تكون الحركة على هيئة النزول، فلب القول إذاً أنّ الحركة بين السماء والأرض هي حركة نزول (وليس هبوط أو خروج) مصداقاً لقوله تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا _ الطلاق (12)

وأخيرا، أنظر – عزيزي القارئ- إلى القول الفصل كيف تصور الآيات الكريمة التالية الحركة من وإلى السماء ومن وإلى الأرض، قال تعالى:

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ سبأ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الحديد (4)

فهاتان الآيتان تحددان شكل الحركة من وإلى الأرض ومن وإلى السماء:

فالحركة من السماء باتجاه الأرض هي نزول،
والحركة من الأرض باتجاه السماء هي خروج، فالزرع الذي ينبت من الأرض يكون في هيئة الخروج
أما الحركة إلى داخل السماء فهي العروج، فنحن نعرف مثلاً أنّ المعراج (الذي تحدث أهل العلم أنه حصل للنبي محمد) كان حركة إلى داخل السماء، وهكذا
والحركة إلى داخل الأرض فهي الولوج..
ونصل إلى ذروة مرادنا وهو التساؤل التالي: ما معنى أنّ الله أمر إبليس (على وجه التحديد) بالهبوط والخروج بينما أمر من تبقى في الجنة بالهبوط فقط؟

جواب: إذا سلمنا أنّ الهبوط هي حركة ليست من السماء إلى الأرض وإنّما من الأرض إلى الأرض، وأن الخروج هي ليست حركة من السماء إلى خارجها وإنما من الأرض إلى خارجها، وأن الحركة من السماء باتجاه الأرض هي حركة نزول، فيكون التصور على النحو التالي:

 لقد أصدر الله أمره لإبليس بالانتقال على هيئة الهبوط كما طلب من كل من تبقى في الجنة بالهبوط أيضاً فانتقلوا من مكان على الأرض إلى مكان آخر على الأرض،

 ولكنّ الله أصدر أمر آخر لإبليس على وجه الخصوص بالخروج منها، والخروج من الأرض يتطلب ليس الدخول في باطنها (لأن ذلك إيلاج وليس خروج)
 ولكن الخروج من الأرض يعني الانتقال إلى أعلى كما في حالة الزرع، أو انتقالا أفقياً، وبكلتا الحالتين تكون النتيجة الخروج منها، فلو طلبت من شخص على وجه الكرة الأرضية بالخروج من الأرض، فأين يا ترى ستكون حركته؟

 ولا تنسى - عزيزي القارئ- أنّ الأرض كروية الشكل تدور في فلك فأي حركة من الأرض إلى ذلك الفلك يعنى حركة إلى الأعلى باتجاه السماء، فالذي يتواجد في الهند أو في أمريكيا أو في القطب الشمالي أو الجنوبي إن أراد الخروج من الأرض نحو الفلك الخارجي سينظر إلى الأعلى فكل الاتجاهات من الأرض نحو السماء هي حركة خروج إلى الأعلى، وبذلك يكون إبليس قد خرج من الأرض نحو الأعلى وهو وذريته يتنقلون بين السماء والأرض وبذلك يستطيعون حتى تلقي السمع:

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)

وسؤالنا هو كيف يستطيع الجن (وخصوصاً الشياطين) لمس السماء والاستماع إلى الملإ الأعلى؟
جواب: لأنهم أُخرجوا من الأرض، فالمكان الوحيد الذي يتاح لهم التواجد فيه هو بين السماء والأرض. فالله هو رب السموات والأرض وما بينهما:

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مريم (65)

ما علاقة ذلك كله بقصة سكن آدم وهبوطه من الجنة؟
جواب: لا يتحدث النص القرآني عن الحركة من السماء إلى الأرض إلا بفعل النزول، لذا فإننا نعتقد أنه لو كان آدم وزوجة يقطنان جنة السماء وجاء لهم الأمر بالحركة إلى الأرض لجاء الأمر الإلهي لهم بالنزول وليس بالهبوط، ولجاء الأمر الإلهي لإبليس بالنزول كذلك، ولكن الأمر بالهبوط يعني الانتقال من الأرض إلى الأرض، وقد يقول قائل: وكيف يكون الهبوط من الأرض إلى الأرض؟ فنرد بالقول لنتدبر السياقات القرآنية التالية:

فعندما ضجر بنو إسرائيل من طعام واحد، جاء الرد الإلهي لهم بالانتقال على صيغة " اهْبِطُوا ":

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ البقرة (61)

وعندما انتهى طوفان نوح، وهو في الفلك التي تجري على ماء على سطح الأرض، جاء القول الإلهي على نحو:

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ هود (48)

ولا ننسى أنّ نوحاً انطلق من مكان (فإذا فار التنور) وهبط في مكان آخر (واستوت على الجودي)

ثم كيف يمكن أن يتم هبوط الحجارة من خشية الله؟ فهل تنزل من السماء إلى الأرض أم من الأرض إلى الأرض؟
 
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة (74)

فالهبوط هو انتقال من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر على سطح الأرض، فإن تخيلت عزيزي القارئ كروية الأرض وتخيلت نفسك في أي نقطه فإن الانتقال من نقطة إلى أخرى هي عملية هبوط (أي حركة محدبة (على شكل قوس)، والهبوط على سطح الأرض يتم من مكان مرتفع إلى مكان آخر أقل ارتفاعاً، فهبوط نوح بسفينته يعني انتقال من مكان مرتفع بعض الشيء إلى مكان آخر أقل ارتفاعاً، وعندما نقول بالعربية هبطت الطائرة فإنّ ذلك يعني الانتقال من أعلى إلى أسفل على سطح الأرض نفسها، وعندما تهبط المركبة الفضائية على سطح القمر أو أي جرم سماوي فهي تنتقل من أعلى إلى أسفل حتى وإن بدا لنا أننا نرسلها إلى أعلى. فهي ترتفع إلى أعلى لأنها خرجت من الأرض ولكنها تتجه إلى أسفل لأنها تهبط على كوكب آخر.

وهنا لا بد من إثارة تساؤل آخر يخص انتقال آدم وزوجه من الجنة وهو وجهة الانتقال (destination)، فالله سبحانه عندما أمر آدم وزوجه بالهبوط أمرهم بالانتقال إلى الأرض:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ البقرة (36)

معنى مفردة "الأرض" في السياقات القرآنية

نحن نزعم الظن أن هناك لبس كبير في الفهم العام (وربما عند أهل العلم) عن معنى فردة الأرض نفسها، فظن الكثيرون أن الأرض هي الكرة الأرضية بأكملها، لذا كان ظنهم على نحو أن الله عندما أمر آدم بالهبوط والاستقرار في الأرض أمره بالانتقال من مكان ما (غير الأرض) إلى مكان آخر (وهو الأرض التي نعرف). 
وبذلك يكون الانتقال من مكان غير الكرة الأرضية إلى مكان على الكرة الأرضية، وهذا ما نظن أنه كان سبباً رئيسياً في إعاقة الفهم الصحيح، لذا سنحاول في الصفحات التالية التعرض لهذه الجزئية، محاولين البحث عن المعنى الحقيقي لمفردة الأرض كما ترد في سياقات الكتاب الكريم.

السؤال: ما معنى مفردة الأرض؟


افتراء 1:
لابد أولا بد من التأكيد على أن كلمة الأرض لا تعني في كل السياقات القرآنية جميعها الكرة الأرضية، وإنما اليابسة فقط، ومصداق ذلك قوله تعالى:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ البقرة (61)

فالسياق القرآني يشير إلى أن الأرض تنبيت، فهل يحدث ذلك في المحيطات والبحار والأنهار؟
ويمكن للأرض أن تثيرها البقر:

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
فهل يمكن للبقر أن يثير المحيطات والبحار والأنهار؟

والأرض يمكن أن تموت وتحيا، ويتم ذلك بنزول الماء عليها:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

(وسنتحدث عن هذه الجزئية بتفصيل أكثر في مقالات قادمة بحول الله وتوفيقه)

افتراء 2:
 لمّا كانت الأرض – في ظننا- لا تعني الكرة الأرضية وإنما اليابسة منها، بحثنا أكثر في السياقات القرآنية، فوجدنا أن هناك سياقات القرآنية عديدة تشير بشكل لا لبس فيه أن مفردة الأرض لا تعني كل اليابسة، وإليك عزيزي القارئ بعض الأدلة على صحة هذا الافتراء الذي هو بلا شك من عند أنفسنا:

أولاً، فهذا يوسف مثلاً يطلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف (55)
فهل كان يوسف يتولى خزائن الأرض كلها أم فقط خزائن مصر؟

ثانياً، وهذا أحد إخوة يوسف (وهو كبيرهم) يقسم أن لا يبرح الأرض، قال تعالى:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)

فهل رفض كبير إخوة يوسف أن يبرح الأرض كلها أم المكان الذي يتواجد فيه وهي أرض مصر؟

ثالثاً، قال تعالى:
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا الإسراء (104)
فهل سكن من نجا مع موسى الأرض كلها أم أرض مصر؟

رابعاً، قال تعالى:
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
القصص (81)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ العنكبوت (40)

فهل خسفت الأرض كلها بقارون وبداره أم هل هي فقط تلك الأرض التي كان يقطنها وهي جزء من أرض مصر؟

ولنتدبر النص القرآني التالي الذي يتحدث عن قصة موسى مع فرعون كما وردت في سورة طه:

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ (57)

وها هي القصة تتكرر في سورة الدخان:

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)

إنّ المتدبر للسياقات القرآنية يدرك أنّ الحديث بأكمله عن قصة بني إسرائيل، وأن الخطاب الرباني جاء ليبين أن بني إسرائيل قد ورثوا الأرض التي خسرها فرعون (كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)، وأن تلك الأرض لم تبكي على بني إسرائيل عندما خسروها، ولا أخال أنّ المقصود هنا غير الأرض التي خسروها.

إن من الملفت للانتباه هنا هو التطابق القرآني في قصة بني إسرائيل عند الحديث عن الأرض وقصة آدم وزوجه على الأرض، ولنحدد السياقات القرآنية التي تظهر ذلك التطابق، ففي الخطاب السابق الموجه إلى بني إسرائيل جاء الخطاب على النحو التالي:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55)

أما في الخطاب الذي وجه لآدم ومن هبط معه فجاء على النحو التالي:

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

نستنتج أنّ الخطاب عن الأرض جاء في القران الكريم على صيغ أربع:

الخطاب عن الأرض كلها ككتلة واحدة، وتكون مفردة الأرض غير مسبوقة بحرف جر، قال تعالى:
 
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة (33)
الخطاب عن الأرض كلها، وتكون مفردة الأرض مسبوقة بحرف جر:
 
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ آل عمران (109)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)

الخطاب عن جزء من الأرض، وتكون مفردة الأرض مسبوقة بحرف جر
 
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا النساء (97)

الخطاب عن جزء من الأرض، وتكون مفردة الأرض غير مسبوقة بحرف جر، قال تعالى:
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا الإسراء (104)

والملفت للانتباه أنّ الخطاب عن الأرض إذا جاء في القرآن بالصيغة الرابعة (مفردة الأرض غير مسبوقة بحرف جر لتدل على جزء من الأرض) كان الحديث دائماً عن بني إسرائيل وبالتحديد عن قصة موسى مع فرعون، أي أرض مصر التاريخية (أي المنطقة المجاورة لضفتي البحر)، وقد حددها سبحانه وتعالى في قوله:

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ الأعراف (137)
 
وهنا يتحدث النص القرآني عن ميراث الأرض، وتتأكد فكرة ميراث الأرض في قوله تعالى:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأنبياء (105)

تلك هي – في ظننا- الأرض التي يتحدث عنها النص القرآني إذا كان المقصود جزءا من الأرض وليس الأرض بأكملها، وسؤالنا هو: هل يرث الأرض (كل الأرض) عباد الله الصالحون؟ فلو كان الأمر على هذه الشاكلة لما كان لغير عباد الله الصالحين موطئ قدم على الأرض، ولكن الأرض التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي جزء من الأرض، ونحن نزعم الظن أنها هي تلك التي تحدث عنها النص القرآني في خطاب المستضعفين في الأرض من قوم موسى.

ولتأكيد فكرة أن مفردة الأرض قد تعني جزءاً من الأرض وليس الأرض كلها نورد الدليل الدامغ من كتاب الله، قال تعالى:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ الزمر (67)

ونحن نتساءل عن سبب ورود كلمة جميعاً في هذا السياق، أي لم قال الله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ؟ أليست الأرض حينئذ بقبضة الله؟
 إن ذلك يعد من الإطناب غير الضروري إن كانت الأرض كتلة واحدة في قبضة الرحمن، إننا نظن أن الأمر ربما لا يكون على الشاكلة التي فهمها أسيادنا العلماء ونخروها في عقول العامة دون دليل أكثر مما ألفوا عليه آباءهم.

رأينا: نحن نظن أن ورود كلمة جميعاً في قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ) ربما لتدل على أنّ الأرض هي مقسمة إلى أجزاء، ولكن كل تلك الأجزاء من الأرض ستكون في يد الرحمن.

 إن مراد القول أن كل قطعة (كتلة) من الأرض هي أرض، فأرض مدين هي أرض، وأرض قوم صالح هي أرض، وأرض قوم نوح هي أرض، وقارة آسيا هي أرض وقارة أفريقيا هي أرض والمحيط المتجمد الجنوبي هي أرض، وتكون يوم القيامة جميعاً قبضة الرحمن لا ينفلت منها شيء.

في ضوء الآية الكريمة نفسها (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)، فإننا نثير تساؤلات للنقاش في مقالات قادمة
ما جمع مفردة الأرض؟
جواب: الأرض جميعاً
ما جمع مفردة سماء؟
جواب: السموات

(فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عند وأن يعلمني من لدنه علما)


التحذير من الاقتراب من الشجرة

لقد أخفق الفكر الإسلامي السائد (على ما نظن ونزعم) في شرح قصة التحريم الأولى، مدعيّاً أنّ قصة الأكل من الشجرة كانت اختباراً لآدم وزوجه في الجنة، ولمّا فشل آدم وزوجه في ذلك الاختبار أمره الله بالهبوط إلى الأرض، ونحن نظن أنّ ذلك غير صحيح للأسباب التالية:

أولاً، إنّ الخلافة التي اختص الله بها آدم على الأرض كانت ستحصل سواءً أكل آدم وزوجه من الشجرة أو لم يأكلا، فالله سبحانه قضى بخلافة آدم الأرض حتى قبل أن يسكنه الجنة، وتسلسل الأحداث جلي جداً في سورة البقرة، قال تعالى:

(1)القرار الإلهي باستخلاف بشر من طين:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

(2) تعليم الله لآدم
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

(3) الأمر الإلهي بالسجود لآدم
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

(4) الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

(5) وقوع آدم وزوجه في مكيدة الشيطان
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)

(6) قبول توبة آدم
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

(7) الأمر الإلهي للجميع بالهبوط
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

فهذه الآيات الكريمات تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ القرار الإلهي باستخلاف آدم في الأرض كان السبب وليس النتيجة للأكل من الشجرة، فالله سبحانه يخبر الملائكة بخلافة آدم حتى قبل تسويته، قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) الحجر 28-31
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) ص 71-74

ثانياً، عندما حذّر الله سبحانه بنفسه آدم وزوجه من الأكل (أو حتى الاقتراب) من الشجرة علّل هذا التحذير بالقول " فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"، قال تعالى:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

ونحن نظن أنّ الظلم في سياقه القرآني يعني ارتكاب السوء بعد حصول العلم فيه (وسنتعرض بالتفصيل لهذا المبحث عند الحديث عن تحريم الأطعمة)، فآدم عَلِمَ من الله سبحانه أنّ الأكل من الشجرة أمر خاطئ فتحصل له العلم بذلك، ولكنّه نزل عند رغبة الشيطان فأكل من الشجرة، وعندما عاد وزوجه إلى ربهما أقرا بالظلم الذي ارتكباه:
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف (23)

المهم في الموضوع أنّ الله بيّن لآدم وزوجه عاقبة الأكل من الشجرة فكانت على نحو "فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، وليس فتكونا من الخارجين أو فتكونا من الهابطين ونحوهما. فالأكل من الشجرة لم يكن عاقبته الهبوط أو الخروج من جنة الفردوس (كما يعتقد الكثيرون).

ثالثاً، علّل الشيطان لآدم الأكل من الشجرة بالحجة التالية:
"... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)
فتقبل آدم تلك الحجة، وأكل من الشجرة:
"فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ..."
" فَأَكَلَا مِنْهَا..."

رابعاً، عندما أكل آدم وزوجه من الشجرة حصل لهما مكروه:
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ طه (121)

وكان ذلك هو مقصد الشيطان من الوسوسة: حتى يتحصل لهما ذاك المكروه:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا

وليس ما تلفّظ به صراحة لآدم وزوجه:
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
(سنتناول هذه القضية بشيء من التفصيل لاحقاً)

يتضح إذاً من قصة التحريم الأولى أنّ التحذير لم يكن بداعي الاختبار ولكن لما يترتب عليه من مكروه، فالله سبحانه حذّر آدم وزوجه من الأكل من تلك الشجرة حتى لا يتحصل لهما ذلك المكروه، وهذا لا شك هو أساس التحريم في المأكولات.
 
خامساً، لقد علم الشيطان أنّ الأكل من الشجرة سيترتب عليه حصول المكروه، وكان ذلك المكروه هو أنْ تبدى لهما ما وري عنهما من سواتهما:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)

فـــ اللام في قوله " لِيُبْدِيَ" هي لام (الهدف) وليس لام التعليل (فهي تدل على ما يخفي الشيطان في نفسه عندما وسوس لآدم وزوجه)، فالشيطان كان يبطن ذلك الهدف المعلوم بالضرورة لديه، ولكنّه علّل الأمر لآدم وزوجه على غير تلك الشاكلة، فدلهما بغرور "أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" و "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ" وأصر على ذلك عندما "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ".
سادساً، أكل آدم (وزوجه) غير ناسياً الأمر الإلهي له بالحذر من الاقتراب من الشجرة، وذلك لأنّ الشيطان عندما كان يحاول إيقاع آدم في المعصية ذكره بنفسه بذلك الأمر:
"... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" الأعراف (20)


فالإنسان حتى اللحظة لا يقع في معصية إلاّ ويتذكر أمر ربه قبل الوقوع فيها، فتنازعه نفسه، ويحدث ذلك الصراع الداخلي، وفي هذه الحالة يكون الإنسان من الظالمين إن تابع هوى نفسه ووقع في المعصية، أما إذا عمل شخص عملاً ما وأخطأ فيه ولم تنازعه نفسه قبل الوقوع في الخطأ فلا يكون من الظالمين، وما يهمنا هنا هو موضوع الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه.


ما هي الشجرة التي حذر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟

فلا بد من التعريج على سؤال رئيس في قصة التحريم الأولى وهو: 
ما هي تلك الشجرة التي حذر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟ 
ولماذا حذر الله آدم وزوجه من الاقتراب منها؟ 
ولماذا كانت الشجرة أصلاً موجودة في جنة آدم؟ 
فهل لو كانت الشجرة غير موجودة كان آدم وزوجه سيقعان فريسة مكيدة الشيطان؟
لقد بينّا سابقاً أن الله سبحانه حذّر آدم وزوجه من الاقتراب من الشجرة (ليس اختباراً لهما وإنما) لما سيترتب على ذلك من المكروه الذي سيحصل لهم إن هم أكلوا منها، قال تعالى:
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)

ولكن، لماذا كانت الشجرة موجودة في الجنّة أصلاً؟ 
إنّ محاولة حل هذا السؤال يتطلب- في رأينا- إثارة سؤال آخر وهو: كيف علم الشيطان بخبر الشجرة؟ 
وكيف علم أنّ الأكل من الشجرة ستكون عاقبته على نحو ما كان؟ 
إننا ندعي -كما ذكرنا في أكثر من مكان في مقالاتنا السابقة- أنّ هذا دليل كبير على أنّ الجنّة التي كان يسكنها آدم وزوجه لم تكن جنّة الخلد إطلاقاً، وأن تلك الجنّة كانت مأهولة بجنس آخر من خلق الله وهم الجن بدليل تواجد الشيطان مع آدم وزوجه ليوسوس لهما، وبدليل أن الله عندما أمر الجميع بالهبوط قال لهم:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ طه (123)

فمفردة "جَمِيعًا" تدل على أنّ المأمور بالهبوط ليس آدم وزوجه بل جنس البشر ممثلين بآدم وحواء وكذلك الجن ممثلين بالشيطان الذي وسوس لآدم وزوجه، وكذلك بدليل العداوة في قوله تعالى "بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ"، فليس هناك عداوة بين آدم وزوجه، بل العداوة مستحكمة بين الجن (الشياطين منهم) والإنس.

فالشجرة إذاً كانت موجودة في الجنة قبل آدم وزوجه، ولهذا يعلم قاطنو المكان (الجن على وجه التحديد) ذلك التحذير الرباني من الاقتراب منها، فالله - لا شك – حذّر ساكني الجنة من الاقتراب منها قبل أن يحذر آدم وزوجه، ولهذا تحصّل للشيطان العلم بخبر الشجرة حتى قبل سكن آدم الجنة، فاستخدمها كمكيدة لوقوع آدم في المعصية.

وقد يرد البعض بالتساؤل التالي: 
لماذا حرّم الله تلك الشجرة على الجن من سكان الجنة؟ 
فنرد بالقبول لربما لنفس السبب الذي حرم الله من أجله بعض الأطعمة على بني إسرائيل مثلاً:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا النساء (160)

وهذا مثبت بدليل وجود من يعمل المكائد (الذي وسوس لآدم لمخالفة الأمر الرباني) في نفس المكان الذي كان آدم وزوجه متواجدين فيه. فسكان المكان (وأقصد الجن على وجه الخصوص) كان منهم المؤمن ومنهم الكافر.
نخلص إلى القول أن الجنّ كانوا يسكنون تلك الجنة قبل آدم ولكن بعضهم ظلموا أنفسهم، فحرّم الله عليهم بعض تلك الأطعمة (تلك الشجرة)،
 
ويبقى التساؤل الأكبر: ما هي تلك الشجرة؟
 ولماذا هي بالذات؟
 وما هي ماهية تلك الشجرة؟

إن هذا السؤال غاية في الخطورة (في نظرنا)، لأننا سنقفز إلى نتيجة قد لا يحمد عقباها لنا على وجه التحديد، فنقول بعد التوكل على الله أننا نفهم أنّ تلك الشجرة هي ما جاء في قوله تعالى:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

نعم، إننا نظن أن الشجرة التي حذر الله آدم من الاقتراب منها هي تلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء، وهنا سيسبقنا القارئ بالآلاف الأسئلة التي تثار في ذهنه، فجل ما نحتاجه هو إعطائنا فسحة من الوقت لتبرير هذا الادعاء.

أولاً، 
نطلب من القارئ الكريم أن يربط ما تنبت به هذه الشجرة (بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) بما حصل لآدم وزوجه عندما ذاقا الشجرة (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، إنّ ابسط ما تعنيه هذه العبارة أن سوءة آدم وزوجه لم تكن بادية لهما إلا لحظة الأكل من الشجرة، فنسأل كيف إذاً بدت لهما سوءاتهما؟
 
لقد ذكرنا في مقالة سابقة (علم اللغة) لنا أن السوءة تعني الجسد بأكمله بدليل قصة ابني آدم في قوله تعالى:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ المائدة (31)

ولا أخال أنّ الأخ كان يحاول تغطية عورة أخيه فقط (كما روج معظم الفكر الإسلامي السابق لمعنى السوءة)، ولا أخال أن الله بعث الغراب الذي كان يبحث في الأرض ليريه كيف يواري عورة أخيه كما ظن الكثيرون وادعوا، بل (كما نظن) لتّخلص من الجثة بأكملها بالدفن في باطن الأرض.
 
نعود إلى صلب الموضوع بالفهم أنّ سوءة أدم وزوجه (سَوْآتُهُمَا) قد بدت لهما لحظة الأكل من الشجرة، ونبادر القارئ الكريم بالسؤال التالي:
 لماذا بدت السوءة (الجسد بأكمله) عندما أكلا من الشجرة؟
 وكيف كانت إذاً أجسادهم قبل الأكل من الشجرة؟

لقد بينا في مقالة سابقة (علم اللغة) أنّ آدم وزوجه لم يكن لون بشرتهما (أي لون الجسد) باد لهما قبل الأكل من الشجرة وذلك لأنّ آدم وزوجه كانا قبل الأكل من الشجرة نورانيين بدليل أن الله الذي هو نور السموات والأرض:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور (35)

هو من نفخ بنفسه من روحه في آدم لحظة بعث الحياة فيه:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحجر 28-29
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ص 71-72

نخلص إلى القول :
لقد اكتسب آدم وزوجه ذلك النور من مصدر النور الحقيقي فكانت سؤاتهما غير بادية لأنها نور خالص، وخسر آدم وزوجه تلك النورانية لحظة أن أكلا من الشجرة، 
فكيف حصل ذلك؟
إننّا نعتقد أن ذلك لا يتم إلا إن كانت تلك الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه تنتج صبغاً يلوّن جلود الآكلين منها، وهنا تظهر في كتاب الله قصة شجرة طور سيناء التي لم تذكر في محض الحديث عن الأكل وإنما منفصلة في آية مستقلة تتحدث عن صبغ للآكلين، فتلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، فمن أكل من تلك الشجرة سيصبغ جسده، ولا شك أنّ الجسد عندما يصبغ يتغير لونه، ولا شك كذلك أنّ اللون هو أساس الرؤيا، وبكلمات بسيطة لقد اكتسب آدم النور من مصدر النور الحقيقي فكانت سؤاتهما غير بادية لأنها نور خالص، وخسر آدم وزوجه تلك النورانية لحظة أن أكلا من الشجرة لان فيها صبغ لمن يأكل منها، وعندها تلونت جلودهما وأصبحا قادرين على رؤية أجسادهما كان لزاما تغطية تلك الأجساد:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ الأعراف (22)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
طه (121)

ثانياً، للنظر إلى السياق الأوسع الذي وردت فيه قصة شجرة طور سيناء:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

ألا ترى - عزيزي القارئ- أن تلك الشجرة تنبت في الجنات التي أنشأها لنا ربنا على الأرض (وليس في السموات)؟
 ثم لندقق النظر في النص أكثر:
 ألا ترى أنّ في تلك الجنات نخيل وعنب وفواكه كثيرة نأكل منها؟ 
ولكننا لا نأكل من الشجرة التي تخرج من طور سيناء، فلقد جاء الحديث عن تلك الشجرة في الآية (20) منفصلة عن الآية التي سبقتها والتي تتحدث عن الثمار التي خصصت للأكل في تلك الجنات، أي لقد جاءت بعد الانتهاء من تلك الأطعمة التي أنشأها لنا ربنا في تلك الجنات، ثم لندقق النظر في الخطاب الإلهي لنسأل:
 لمن الخطاب موجهاً؟
 ولاحظ كذلك –عزيزي القارئ- صيغ الفعل الماضي (وَأَنْزَلْنَا، فَأَسْكَنَّاهُ، فَأَنْشَأْنَا). 
فلو ظن البعض أن الخطاب موجه للبشرية بأكملها لبرز التساؤل الكبير: 
وما دخل شجرة طور سيناء بمن يسكن القارة الأوروبية أو الاسترالية أو الأمريكيتين، الخ؟

نعم، تلك هي – في ظننا- جنات آدم وزوجه، فلقد كان فيها نخيل وأعناب وفواكه كثيرة ليأكلوا منها، وفي الوقت ذاته كان فيها تلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء والتي تنبت بالدهن وصبغ للآكلين، وعندما أكل منها آدم وزوجه صبغت جلودهم فتلونت، وبكلمات علمية لقد اكتسب آدم وزوجه من تلك الشجرة جينات اللون فتلونت جلودهم وتلونت جلود ذريتهم من بعدهم، فولدوا الأبيض والأصفر والأشقر والأسمر والأسود، بسبب صبغ تلك الشجرة التي حذرهم الله منها.

ثالثاً،
 لعلنا بحاجة أن نجلب انتباه القارئ إلى فكرة –في ظننا- وجدناها في كتاب الله فيها من الغرابة والطرافة ما يستدعي التوقف عندها، تتلخص تلك الفكرة بأن القرآن الكريم يسرد موقفين اثنين فقط تمت فيهما المخاطبة الإلهية المباشرة لخلقه، وهما خطاب الله مع آدم لحظة أن اسكنه الجنة وحذره من الاقتراب من الشجرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف (19)

وثانيهما، مخاطبة الله سبحانه نبيه موسى عليه السلام:

فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)

دقق النظر - عزيزي القارئ- بمفردات هذه الآيات الكريمات لتجد أن هناك الطور، وهناك حادثة المناداة، وهناك الشجرة. فهل ذلك كله من قبيل المصادفة؟

لقد نادى الله موسى من جانب الطور في البقعة المباركة من الشجرة، وقد نادى الله آدم وزوجه وهما في مكان مبارك وكانا عند الشجرة.
إننا نعتقد جازمين أنّ الحدثين متصلين لأنهما تمّا في نفس المكان، فمخاطبة الله لآدم ومخاطبة الله لموسى (الاتصال المباشر من البشر مع الله) تمت في نفس المكان، فالله سبحانه لم يخاطب بشراً قط غير آدم وموسى، وتلك المخاطبة تمت في نفس المكان بدليل توافر نفس عوامل الجغرافيا في الحالتين.

 ولنعقد مقارنة بين الحالتين كما ترد في السياقات القرآنية:
أ. لندقق النظر بما حصل لآدم وحواء في الجنة ثم لنربط ذلك مع ما حصل لقوم موسى في ذلك المكان:

جاء في سورة البقرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ البقرة (58)

وجاءت نفس المقارنة في سورة الأعراف:

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف (19)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ الأعراف (161)

ب. ثم انظر كيف كان موسى لحظة الخطاب:

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الشعراء (10)

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا مريم (52)

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص (46)

لاحظ –عزيزي القارئ- كيف تتكرر فكرة المناداة (مناداة رب العالمين لنبيه موسى)، والمهم في الموضوع أنّ تلك المناداة الربانية لم تتحصل إلا لآدم من قبل:

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

وقد يرد البعض بالقول ولكن تلك المناداة لآدم حصلت فقط بعد المعصية، وجاء الخطاب قبل المعصية على النحو التالي:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)

فنقول نعم، إنّ فكرة القرب والبعد المكاني للذات الإلهية واضحة في قصة آدم، فقبل المعصية جاء الخطاب من الله لآدم وزوجه على صيغة القرب المتمثلة في قوله تعالى:
"... وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" البقرة (35)
وتحول الخطاب بعد المعصية على النحو التالي:
"... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ"
الأعراف (22)

فقبل المعصية نجد القرب الإلهي في كلمة "هذه الشجرة"، ولا شك أن القريب مكانياً لا يحتاج إلى المناداة (فترد الصيغة على نحو: قال ويقول ونحوهما) ولكن المناداة تتحصل لمن كان بعيداً عن الآخر في المكان (فترد الصيغة على نحو نادى وينادي ونحوهما)، فحصلت بذلك مناداة رب العالمين لآدم لحظة البعد المكاني، وكذلك حصلت المناداة الإلهية لموسى في نفس المكان للبعد المكاني بين موسى وربه، وقد يبادرنا البعض بالقول: 
كيف ذلك ورب العالمين موجود في كل مكان ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو أقرب إلينا من حبل الوريد؟
 فنرد على ذلك بالقول بأننا نتحدث عن المكان الجغرافي (وليس عن علم الله)، فجغرافياً (مكانياً) لا شك أن هناك مسافة بين الإله والبشر، لذا فالمخاطبة تحصلت بالمناداة، فانظر كيف ترد فكرة المناداة في كتاب الله:

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ المائدة (58)
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الأعراف (44)
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ الأعراف (48)
وهذا بالفعل ما يحدث حتى عندما يكون الخطاب من البشر إلى ربهم:
فها هو نوح ينادي ربه:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ هود (45)
وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الأنبياء (76)
وها هو أيوب ينادي:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الأنبياء (83)
وذا النون ينادي:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الأنبياء (87)
وزكريا:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ الأنبياء (89)
ولكن الله نفسه هو من نادى موسى:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الشعراء (10)


ونخلص إلى القول أنه بسبب البعد المكاني بين الإله وموسى، حصل الخطاب على نحو "نادى"، وحتى يتيقن القارئ من وجود البعد المكاني بين الإله ونبيه موسى ندعوه ليدقق النظر بمفردات الآية نفسها:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) مريم 51-52

وسؤالنا هنا يتمحور حول ورود عبارة "وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا"، فما معنى ذلك؟
 أي كيف حصل القرب لموسى؟
 فإذا كان الله موجوداً فيزيائياً في كل مكان فما داعي ورود عبارة "وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا"؟ 
 وما هو أصلاً القرب الذي حصل لموسى؟ 
إننا نظن أن ذلك لا يعني أكثر من القرب المكاني لموسى من ربه؟
 وبسبب ذلك القرب تجرأ موسى فطلب الرؤيا المباشرة للذات الإلهية:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف (143)

انظر سياقات (قرب) القرآنية للتأكد أن القرب يعني القرب المكاني.


ج. وللمزيد من المقارنة بين حالة آدم وقوم موسى عليهما السلام عندما خالفا الأمر الرباني بالسكن والأكل مما شاءوا، فإننا نثير التساؤل الغريب التالي:
 ما الذي حصل بعد مخالفة ذلك الأمر الرباني؟

 إنه الهبوط:
في حالة آدم:
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ طه (123)

في حالة قوم موسى:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

لقد ظهرت فكرة الهبوط في الحالتين، ولا شك أن الهبوط في حالة قوم موسى هو تبديل المكان (من الأرض المقدسة إلى أرض مصر)، فما هو الهبوط في حالة آدم وزوجه؟
 لقد بيّنا كذلك في مقالة سابقة لنا أن هبوط آدم كان انتقالا من مكان على الأرض إلى مكان آخر على الأرض.

سادساً:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ _ طه (80)

سابعاً:
 
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص (46)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

نستنتج أنه في كلا الحالتين حصلت الأمور التالية: الحياة الرغد، تبديل الكلام، حصول الظلم، حصول العقاب، طلب الطعام الذي هو أدنى، الأمر الإلهي لهم بالهبوط،




وللحديث بقية
بقلم د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن
أيار 2007