علم اللغة


تمهيد
لقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع الحديث عن "اللغة"، فورد فيه عن كيفية نشأة اللغة وتغيرها ووظيفتها والأهم من ذلك كله "كنهها" أي جوهرها، وهو ما نقحم أنفسنا الخوض فيه في هذا البحث، فجاء ذكر اللغة في القرآن الكريم


بمصطلح لسان "وهو ما يستخدمه الفكر الغربي "Mother tongue":

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ آل عمران 78

مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً النساء 46

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم 4

وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ النحل 62

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ النحل 103

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ النحل 116

وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا مريم 50

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا مريم 97

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي طه 27

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ النور 15

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ النور 24

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ الشعراء 13

وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ الشعراء 84

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ الشعراء 195

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ القصص 34

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ الروم 22

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الدخان 58

وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ الأحقاف 12

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا الفتح 11

إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ الممتحنة 2

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة 16-19
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) البلد 8-10





وجاءت كذلك بذكر الأسماء "Naming Theory":

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ البقرة 31

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة 33

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ الأعراف 71

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يوسف 40

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى النجم 23




وجاءت بمعنى النطق (والمنطق)[1]:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ الأنبياء 63

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ الأنبياء 65

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ المؤمنون 62

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل 16

وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ النمل 85

مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ الصافات 92

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فصلت 21

هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية 29

فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ الذاريات 23

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى النجم 3

هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ المرسلات 35




واختص الله سبحانه اللغة العربية بالذكر في أكثر من موضع:


إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف 2

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ الرعد 37

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ النحل 103

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا طه 113

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) الشعراء 193-195

قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الزمر 28

كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فصلت 3

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ فصلت 44

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ الشورى 7

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) الزخرف 2-4

وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ الأحقاف 12




وبحثنا هذا يستند على جميع الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر اللغة.




أ ـ نشأة اللغة

إنّ جميع النظريات اللغوية المادية ذات الأصول الغربية تدعى بأنّ اللغة ليست أكثر من حاجة اجتماعية (social need)، وهي بالتالي كانت نتيجة حتمية لتكون المجتمعات الإنسانية، وهم يدعون بذلك أنّ اللغة قد نشأت إذاً بعد تكوّن المجتمعات الإنسانية (انظر المراجع التالية)، وهنا ربما نصل إلى أول فرق جوهري بين الفكر الغربي والتصور الإسلامي المرتكز على القرآن الكريم لنشأة اللغة،
فالقرآن الكريم يثبت أنّ ما حصل هو العكس تماماً، فقد وجدت اللغة قبل أنْ يتكون المجتمع الإنساني ودليلنا على ذلك ما ورد في كتاب الله:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) البقرة 30-32

نحن نؤمن أن القرآن الكريم يثبت لنا حقيقة جلية تتمثل في أنّ تعليم اللغة (الأسماء) في البدء جاء مباشرة من الخالق، لا بل لقد كان تعليم "الأسماء" هي المعرفة الأولى التي تلقاها الإنسان (ممثلاً بآدم) مباشرة من ربه. وتبين الآيات الكريمة أنّ تلك المعرفة كانت منحة من الله سبحانه للمخلوق الجديد، ولم تكن حتى الملائكة على دراية بمثل هذه المعرفة، وسنبين لاحقاً تبعات هذا الأمر.
أما بالنسبة لتكون المجتمع البشري، فلنتابع القراءة في كتاب الله:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة 35-36

تُصوِّر هذه الآيات الكريمة تكوّن المجتمعات الأولى: مجتمع الجنة ومن ثم مجتمع آدم الأول خارج الجنة الذي كان نواته الأولى يتألف من آدم عليه السلام وزوجه، والجدير بالملاحظة هنا - كما يتضح من تسلسل الأحداث في الآيات السابقة جميعها- هو أنّ اللغة وجدت أولاً ثم تبعها تكون المجتمع البشري ممثلاً بآدم وزوجه سواء في الجنة أو على الأرض. وسنتعرض لتبعات هذا الافتراض بعد قليل.

ب _ أين وجدت اللغة

يثبت القرآن الكريم أنّ اللغة وجدت أولاً في فضاء مجرد عن عنصر المكان الذي نعرف نحن بنو البشر أو حتى أنْ نتخيله، فلا يأتي ذكر الجنة أو الأرض في قصة الخلق الأول في كتاب الله إلا بعد حصول التعلم والتعليم، وبكلمات أخرى فإن المدقق في الآيات السابقة يدرك أن الأمر بدخول الجنة لم يحصل إلا بعد ثلاثة أحداث رئيسة:

أ- تعليم أدم الأسماء

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ البقرة 31
 

ب- إخبار آدم الملائكة بتلك الأسماء

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة 33

ج- سجود الملائكة لآدم

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ البقرة (34)


فهذا – برأينا- يشير إلى أنّ تعليم اللغة جاء غير متأثرٍ بأي عوامل بيئية محيطة، وربما يتضح هذا الآية الكريمة حيث جاء الأمر بالسكن في الجنة بعد التعليم:
 
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)
 
نتيجة: نحن نظن أن القرآن الكريم لا يذكر أي فعل قام به آدم قبل تعلّمه اللغة، وكان هذا – حسب اعتقادنا- سبباً في نقاءها، فكانت "علماً خالصاً" محكوماً بقوانين وقواعد ثابتة، ولهذا جاءت الدقة القرآنية بكلمة "علّم"، فعندما منح الله آدم هذا الشيء "تلقاه آدم من ربه كعلم"، أي لم يستنبطه آدم من تلقاء نفسه بناءً على تجربته الشخصية، وهذا ما يحفزنا لافتراض أنّ العلاقة بين الاسم والمسمى كانت موجودة أصلاً ـ وهو ما سيشكل جل النقاش في هذا البحث.


ج ـ ما قبل إيجاد اللغة

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هنا هو: مادامت اللغة قد جاءت بتعليم أدم، أي أنّ الله سبحانه قد علمها أولاً لآدم، فكيف كان الملائكة إذاً يعبدون الله قبل مجيء آدم وتميزه بتلك الخاصية عن بقية الملائكة والمخلوقات؟ أو بكلمات أخرى، كيف كانت وسيلة المخاطبة بين الخالق والملائكة قبل آدم؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن طريقة الخطاب بين الله والملائكة قبل تعليم آدم الأسماء كانت بالكتمان
الدليل
إن الجواب على هذا السؤال موجود – برأينا- في الآية القرآنية نفسها التي تتحدث عن تعليم الله تعالى لآدم الأسماء كلها، فجاء في قوله تعالى:
 
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة 33
 
والقراءة المتأنية لهذه الآية الكريمة تظهر الروعة القرآنية في هذا التصوير، فهي تشير إلى أنّ اللغة هي طريقة جديدة في العبادة وهي لا تتأتى إلا بالإظهار، أما طريقة الملائكة قبل تعليم آدم فقد كانت بالكتمان، وربما لهذا جاء في نهاية الآية الكريمة قول الحق على النحو التالي:
 
"... وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة 33
 
فلقد درج معظم الناس على فهم هذه الآية على قدرة الله تعالى على معرفة ما يظهر الإنسان وما يخفي، ولكن لو كانت الآية الكريمة تشير إلى هذا القصد فقط، لربما جاء قول الله تعالى على نحو:
"ما تبدون وما تكتمون"
ولكننا ندعو القارئ إلى تدبر الدقة القرآنية في قوله "وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ"، فلماذا جاءت مفردة " كُنتُمْ " مع الفعل "تَكْتُمُونَ"؟
رأينا: نحن نظن أن المعنى يدعونا إلى مقارنة بين ما هو موجود الآن (الحالة الجديدة المتمثلة بقوله تعالى مَا تُبْدُونَ) وما كان موجود سابقاً (الحالة القديمة المتمثلة بقوله تعالى وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)، وذلك واضح باستخدام لفظ "كُنتُمْ"، ولو كانت المقارنة بين حالتين موجودتين الآن معاً لربما ما استدعت الحاجة أن ترد لفظة " كُنتُمْ"، وذلك لأن مثل هذه المقارنة قد تكررت في آيات كريمة كثيرة التالية:
 
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ آل عمران 71
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ المائدة 99
لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ النور (29)
 
فعندما جاء الحديث في معرض قدرة الله على معرفة ما يبدي الإنسان وما يكتم، وردت الصيغة على النحو "مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ"، ولكن في حالة خطاب الله للملائكة بخصوص آدم جاءت الصيغة على نحو "مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ".
وذلك لأن المقارنة هذه المرة – كما أسلفنا- تجري بين حالة موجودة الآن (مَا تُبْدُونَ) وأخرى سابقة (مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)، ولذا وردت –في ظننا- لفظة "ما كنتم"، وهو بالضبط ما نجده في الموطن التالي من كتاب الله عند الحديث عن ما كان في نفس القوم الذين طلب منهم أن يذبحوا بقرة لإخراج ما كانوا يكتمون:
 
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة 72

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد أصبح لدى الملائكة طريقتان في العبادة: (1) الطريقة الجديدة وهي طريقة آدم باستخدام ما علمه الله من اللغة "الأسماء" (ممثلةً بـ "مَا تُبْدُونَ") والتي أنبأها آدم بدوره إلى الملائكة، و (2) الطريقة القديمة التي كان يتبعها الملائكة في العبادة (ممثلةً بـ "وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ").
وتتجلى كذلك الدقة القرآنية باستخدام كلمة "وَأَعْلَمُ"، فالخالق سبحانه يمتلك العلم بكيفية عبادة الملائكة بالطريقة القديمة: "وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" كعلمه بكيفية عبادة الملائكة بالطريقة الجديدة "مَا تُبْدُونَ"، ومصداق ذلك في قوله تعالى:
 
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ الأنبياء 110
 
فهذه الآية الكريمة توضح أنّ المقابل للجهر من القول (وهو ما يبديه آدم الآن) هو كتمان القول (وهو ما كانت الملائكة تعلمه قبل تعليم آدم). فبعد أنْ علّم الله تعالى آدم اللغة "الأَسْمَاء كُلَّهَا"، وبعد أنْ أنبأ آدم الملائكة بأسمائهم "فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ" (أسماء الأشياء كلها)، أدرك الملائكة أنّ هذا أمر عظيم أكبر من مقدرتهم، تجعل هذا المخلوق جديراً بما اختصه الله به، فما كان بوسعهم إلاّ أنْ يعترفوا أنّ هذا من علم الله وحده، فقالوا عندها:
 
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"[2] البقرة 32
 
ولنتذكر أنّ الملائكة لا تعرف سوى عبادة الله، فما دام أنّ هناك من يعبد الله بطريقة أفضل من طريقتهم، فلِمَ لا يكون إذاً جديراً بالخلافة؟![3] ومن هنا جاء – برأينا - تسليمهم بالأمر دون مجادلة إضافية.
نتيجة مفتراة: إن جل القول الذي نريد أن نفتريه هنا هو أنّ الله تعالى يعقد في هذه الآية الكريمة مقارنة بين طريقة العبادة ما قبل تعليم آدم اللغة وطريقة العبادة ما بعد تعليم آدم اللغة وعرضهم على الملائكة، فكانت أولاً بالكتمان ثم تحولت إلى الإظهار.


د ـ ما الذي علمه الله تعالى لآدم

 
باستعراض أمهات كتب التفسير[4] في هذا المجال، وأقوال السلف الصالح والعلماء الأجلاء، نجد أنّ أهل التأويل اختلفوا في معنى الأسماء التي علمها الله لآدم، فنجد مثلاً ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير يظنون
"أنّ الله قد علم آدم أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها‏".‏ وجاء عن ابن خويز منداد‏ قوله أن‏ "في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا"‏.‏‏ و روى شيبان عن قتادة قال‏:‏ "علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه‏".‏ قال النحاس‏:‏ "وهذا أحسن ما روي في هذا"‏.‏ والمعنى علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ "علمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله ‏ثم عرضهم على الملائكة‏ وقال ابن زيد‏:‏ "علمه أسماء ذريته، كلهم"‏. وقال‏ الربيع ابن خثيم‏:‏ "أسماء الملائكة خاصة‏".‏ وقال القتبي‏:‏ "أسماء ما خلق في الأرض"‏.‏ وقيل‏:‏ أسماء الأجناس والأنواع‏".‏
 
ونستميح السادة العلماء (أهل الدراية منهم وأهل الرواية) العذر مرة أخرى لمخالفتهم الرأي لنفتري قولا من عند أنفسنا مفاده أنّ الله قد علَّم (ولم يلقن) آدم "علم اللغة"، لقد أودع الله سبحانه بنص الآية الكريمة في آدم علماً: وهذا يعني بالضرورة أن آدم يستطيع باستخدام العلم الذي يملكه الآن أن يعرف حقيقة مسميات الأشياء: أي كيفية التعرف على الأسماء بمجرد رؤيتها؛ وهذا يعني بمفهومنا المفترى أنّ الله قد أودع بآدم العلم الذي يمكنه من معرفة الأشياء عند رؤيتها، وهو ما يسمى بعلم اللغة الحديث "العلاقة بين الاسم والمعنى" وما نسميه في إطار هذا البحث "بالحكمة" لأسباب سيرد ذكرها لاحقاً. وبكلمات أخرى، لقد تعلم آدم كيفية ربط الشكل بالمضمون. وهذه الحكمة هي بالضبط ما يحاول علم اللغة الغربي إنكاره معتبراً أنّ العلاقة بين الكلمة ومعناها هي علاقة اعتباطية (arbitrary)، ولكن القرآن الكريم يثبت أنّ اللغة هي علم له قوانينه وقواعده وإلاّ لانتفت حتى إمكانية تعلمه.
 
وفي هذا السياق أوضح علماء الغرب أنّ اللغة تتشكل من مستويين من التمثيل (two levels of representations)، أحدهما يمكن صياغته على شكل قوانين منتظمة ويسمى (allophonic level of reprsentation) وهو ما يجعل اللغة قابلة للاكتساب، أما المستوى الآخر فلا يمكن صياغته على شكل قوانين منتظمة ويسمى (phonemic level of representation) وهو ما يعطي لكل لغة خصوصيتها، ولما كان ما تلقاه آدم في الجنة هو علم ولما كانت لغة آدم مجردة عن عنصر المكان يكون ما تلقاه أدم إذاً هو (allophonic level of representation) [5]؛ فقد تلقى آدم القوانين التي بها تصاغ اللغة النقية غير المشوبة، المجردة عن كل التأثيرات المتعلقة بعناصر الزمان والمكان، أو حتى تلك المرتبطة بخوالج النفس البشرية. وهذه اللغة هي التي تكون فيها العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة مباشرة (one-to-one)؛ أي مرتبطة بالحكمة. فآدم كان يمتلك الأسماء الحقيقية للأشياء، وهي بكل تأكيد غير تلك التي نمتلكها نحن بنو البشر الآن، ودليلنا على ذلك بسيط ورد أكثر من مرة في كتاب الله:
 
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ الأعراف 71


وعند عقد مقارنة بسيطة هنا بين الأسماء التي علمها الله لآدم والأسماء التي سميناها نحن وآباؤنا (مقارنة بين الأسماء التي تعلمها آدم بتعليم من ربه وهذه الأسماء التي هي من صنعنا نحن بنو البشر)، نرقب الدقة القرآنية في ذلك لنجد أن الأسماء التي من صنعنا هي أسماء (مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)، وهذا يعني بالضرورة أنّ الأسماء التي علمها الله سبحانه لآدم قد جعل الله فيها سلطانا، وسؤالنا يكون إذاً كالتالي: ما هو السلطان الذي يتنزل أو لا يتنزل مع الأسماء؟
 
رأينا: إنه العلم "علم الأسماء". فهناك إذاً نوعان من الأسماء:
1. الأسماء التي من عند الله وهي مبنية على علم كما هو واضح في آية تعليم آدم الأسماء
2. الأسماء التي من صنعنا نحن البشر والتي لا تكون مبنية على علم وإنما إتباعا" للهوى" والظن، قال تعالى:
 
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى النجم 23
 
ونخلص إلى القول أنّ الأسماء التي من عند الله أسماء حقيقية لأنها مبنية على علم خالص، وأسماؤنا وهمية اعتباطية لأنها مبنية على الظن وإتباع الهوى، فالله سبحانه يعلم الاسم الحقيقي لذاك الشيء الذي نجلس عليه ونظن أنَه كرسي ويظن الانجليز أنَه chair ويظن الفرنسيون أنّه..., وهكذا. ويأتي السؤال الحتمي: فما هي تبعات هذا الافتراض إذاً؟
 
نحن نظن أن لهذا التصور تبعات جمة، أهمها يتعلق بطبيعة الحياة لمن يمتلك الأسماء، ولكن كيف؟
جواب: لقد ذكرنا سابقاً أنّ من امتلك تلك الحكمة يستطيع تنفيذ ما يريد بالحال ودون الرجوع إلى أحد، وهذا بالضبط ما كان آدم بحاجة إليه ليعيش في الجنة، ويختلف هذا القول اختلافاً جذرياً عن ما قاله السادة العلماء السابقون، فنحن نفترض أنّ الله قد أودع آدم "الحكمة" (أي القدرة على ربط الاسم بالمسمى) مجردة عن عنصر المكان، فكان التطبيق بعد التعليم، والآية القرآنية غاية في الوضوح في هذا المجال، فيقول الله تعالى:
 
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ البقرة 31
 
فالآية القرآنية تثبت أنّ عرض الأشياء قد تمّ بعد تعليم آدم الأسماء كلها، وهذا دليل آخر أنّ آدم قد تلقى علماً، ولم يكتسب اللغة من البيئة المحيطة، (فلو حصل التعليم بعد العرض لكان الافتراض أنّ آدم قد تعلمها واحدة تلو الأخرى، ولكن الذي حصل هو أنّ آدم قد امتلك المعرفة بالأشياء حتى قبل عرضها، فكيف يمكن أنْ يتم ذلك إلا إذا كان ما يمتلكه آدم هو علم حقيقي به يتعرف على الأشياء؟
وقد يظن البعض أنّ هذا العرض كان للملائكة. 

نقول نعم، إنّ ذلك كان عرضاً للملائكة وكان أيضاً عرضاً لآدم بنفس الوقت، ولكن خيرية آدم كانت تتمثل بمقدرته على المعرفة (دون الملائكة) لامتلاكه ذلك العلم الذي اختصه الله به، فآدم لم تعرض عليه تلك الأشياء في البداية عرضاً بل أُعطي العلم الذي به يستطيع معرفتها وإلا لكان آدم قد لُقِّن تلقيناً. 

وشتان بين من يملك العلم بالشيء ومن تعرض عليه الأمور عرضاً، والفرق في الحالتين هو أنّ الملائكة لم يعطوا إلا المحصلة من تلك المعرفة "Product"، بينما حصل آدم على التجربة "Process" التي تمكنه من الوصول إلى النتيجة "Product" بنفسه، فالملائكة لا يستطيعون بذلك مجاراة آدم.

 وخلاصة القول أنّ آدم حصل على علم والملائكة تلقوا عرضاً لذلك العلم. 

وبمقارنة هذه الآية الكريمة بآية أخرى في القرآن الكريم يتبين الفرق بين من يعلم الشيء فيتحمل تبعاته ومن يعرض عليه الشيء عرضاً فلا يكون مسئولا ولا محاسباً على تبعاته، يقول تعالى:
 
"إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا الأحزاب 72

فالسموات والأرض والجبال ليسوا محاسبين على الأمانة لأنّهم لم يعرفوها إلا بطريقة العرض، ولكن الإنسان محاسباً عليها لأنّه قبلها.
 
وهنا يمكن تصوير المشهد على النحو التالي، فبعد أنْ علّم الله تعالى آدم علم الأسماء كلها جاءت الخطوة التالية وهي تطبيق هذا العلم على أرض الواقع، وهو ما يسمى باللغة الانجليزية "Demonstration" وتختصر (Demo)، فالملائكة لم يكونوا أكثر من متفرجين على عرضٍ اللاعب الأهم فيه آدم.
 
والدليل على ذلك أنّنا نعرف أنّ تعليم اللغة قد حصل قبل السكن في الجنة، أي أنّ اللغة كانت مجردة عن عنصر المكان، وهذا يعنى أنّ الأشياء لم تكن موجودة من الناحية الحسية عند تعليم آدم اللغة، فلم توضع تلك الأشياء أمام آدم واحدة تلو الأخرى ليتعرف عليها بهذه الطريقة كما يمكن أنْ يتصور الشخص، (وإلاّ لكان ذلك تلقيناً أو عرضاً كما أسلفنا)، ولكن جل ما حصل لآدم هو اكتساب العلم، وشتان بين المتلقي للمعرفة و العالم المتمرس فيها، وتأتي الدقة القرآنية بالقول "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا" ولم تأتي على نحو "وتلقى آدم الأسماء كلها" مثلاً.

وما دام أنّ الذي حصل هو "علم" فإن آدم كان يملك إذاً أدوات العلم، فعندما نقول فلان عالم رياضيات فإن ذلك يعنى أنّه يملك أدوات ذلك العلم، وهو بهذا العلم أصبح إذاً مؤهلاً للممارسة الحقيقية، فكان المكان الأفضل لآدم ليتمتع بما حباه الله به من علم الأسماء ذلك هو "الجنة"، فعندها قال تعالى لآدم وزوجه:

" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ..." البقرة 35
" وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ..." الأعراف 19



فكانت حياتهما رغدا، واستمرت على ذلك النحو حتى خسرا هذا العلم بسبب وسوسة الشيطان لهما وقبولهما بنصيحته (وسنتعرض لهذا بحول الله في مقالات قادمة منفصلة، خاصة بإبليس والشيطان)


إن جل القول هنا هو أنّ عرض الأشياء لآدم والملائكة كان في آن واحد، ولكن في حين أنّ الملائكة لم تكن تعرف أسماء تلك الأشياء التي تعرض عليهم، كان آدم يتعرف على تلك الأشياء بمجرد عرضها كالشريط السينمائي، والسبب في ذلك أنّ الله قد أودع في آدم علماً لم يودعه في الملائكة وهو علم الأسماء، ولهذا جاء البيان – في ظننا- في نهاية الآية القرآنية على لسان الملائكة بالقول "إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ" متطابقة مع العلم الذي حصل عليه آدم، 

ولكنّا نزيد هنا فنطرح تساؤلاً أكثر إثارة وهو: لماذا ختمت الآية القرآنية بكلمة "حكيم"؟ فقد قال تعالى على لسان الملائكة:
"... إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" البقرة 32
 
إن الجواب الذي نقترحه هنا يتمثل بأنّ آدم لم يكن يمتلك العلم كمتلقي بل كان لديه ما هو أكثر من ذلك، فهو يعلم مكنون العلم أو سر ذلك العلم وهو "الحكمة"، فالحكمة أرفع درجة من العلم، وهو ما نقصده بقولنا "سر العلاقة بين الشيء واسمه"، "فالحكمة" هي ما بعد امتلاك العلم بإدراك كينونته، ولذلك جاءت الآية القرآنية غاية في الدقة والإتقان ربما لتبين لنا أنّ آدم لم يكن متلقي للمعرفة فقط بل كان متمرساً فيها، لا بل كان لديه القدرة على تطبيقها حتى في ظل ظروف وأحوال جديدة كالجنة مثلاً.
 
ومما لا شك فيه أنّ من يملك الحكمة ويدرك كينونة الأشياء يسهل تعامله معها، وهذا بالتالي ما جعل حياة آدم وزوجه في الجنة حياة رغد، فقال تعالى:
 
" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا...". البقرة 35
 
فحياة آدم في الجنة سهلة وميسرة بسبب امتلاكه لهذا العلم، وفقدان ذلك العلم يعنى الشقاء والتعب، لأنّ الحصول على الأشياء لن يكون ميسراً، ولهذا قال تعالى في نصحه لآدم:
 
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى طه 117
 
والشقاء هو عكس الرغد، فلما كان آدم ممتلكاً للعلم كانت حياته رغداً، وإنْ خسر هذا العلم أصبحت الحياة شقاء وتعب، وهذا بالضبط الفرق بين الحياة في الجنة التي كلها نعيم خالص "رغدا" وحياة الدنيا التي جلها تعب و "شقاء".
 
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35
 
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) طه 117-121
 
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27

 
وسبب هذا الشقاء هو البعد (حقيقياً و مجازياً) عن الله، ففي اللحظة التي كان فيها آدم قريباً من الله كانت حياته كلها رغدا، وفي اللحظة التي ابتعد فيها عن الله انقلبت حياته لتصبح شقاءً وتعبا، وهذا القرب والبعد من الله واضح في خطاب الله لآدم، ولنرقب الدقة المتناهية في استخدام اسم الإشارة عند الحديث عن الشجرة:
 
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35
 
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف 19
 
ولكن لنرى كيف أصبحت صيغة الخطاب بعد ارتكابهما المعصية؟
 
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ الأعراف 22
 
فابتعاد آدم عن الله تعني بالضرورة قربه من الشيطان، ولنمعن النظر مرة أخرى باستخدام اسم الإشارة ولكن هذه المرة على لسان الشيطان:
 
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
 
*** *** ***
 
وهنا لا بد من التعرض لأمور ربما لم يحسمها علماء الدين حتى اللحظة سيما ونحن نعتقد أنّ هناك الكثير الذي يمكن إضافته في هذا المقام، وسنتعرض لها بطرح الأسئلة على التوالي:
 

1. لماذا طلب الله من آدم عدم الأكل من الشجرة؟

لعل الفكر الإسلامي درج على الاعتقاد أنّ ذلك كان من قبيل الاختبار والتجريب لآدم (انظر كتب التفسير)، ولكننا نعتقد أنّه من غير المفهوم أنْ يسكن الإله من قضى له بالخلافة ثم يمنعه عن أكل نوع من الشجر، إننا نعتقد أنّ ذلك غير مسوغ إلا ضمن الشروط التالية:
 
أ‌. أنّ الأكل من تلك الشجرة له عواقبه السيئة على آدم (فليس لله حاجة في أنْ يختبر آدم وهو الأعلم بآدم من نفسه، فالله قضى لآدم بخلافة الأرض حتى قبل سكنه الجنة، فما الذي سيتغير سواءً أكل آدم من الشجرة أم لم يأكل؟ فهل لو لم يأكل آدم من الشجرة سينجح حينها بالاختبار وسيبقى في الجنة وللأبد؟ وعندها كيف ستكون قراءتنا لقول الله للملائكة "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"؟
 
رأينا: إنّنا نزعم الظن أنّ النهي الإلهي لآدم وزوجه عن أكل الشجرة لم يكن اختباراً لهما ولكن حتى لا يصيبهما مكروه إنْ هما أكلا منها)
 
ب‌. أنّ آدم كان يعلم تبعات الأكل من الشجرة (فقول الله يؤخذ على الجد وليس على الهزل أو التشكيك)، فما دام الله قد منع آدم عن تلك الشجرة، فالأكل منها إذاً يسبب ما لا يحمد عقباه، فما يكون من آدم (ولا غيره) أنْ يصدق إلا الله ولا يحق له أنْ يحمل كلام غير الله بمصداقية أكبر من تلك التي يحمل عليها كلام الله.
 
فـ الإله لم يكن ليقضي بشيء لآدم إلا ما كان في صالح آدم نفسه (كما أن الله لا يرضى للناس إلاّ الخير كل الخير)، ونحن نعتقد جازمين أنّ الله منع آدم عن تلك الشجرة لمصلحة آدم وليس اختباراً لآدم، وهذا الاعتقاد نقرأه في الآية نفسها، فعندما أكل آدم من الشجرة حصل ما كان يجب أنْ لا يحصل:
 
"... فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا..." الأعراف 22
 
والقراءة الدقيقة لهذه الجزئية تثبت افتراضنا السابق وهو أنّ الله منع آدم وزوجه عن الشجرة حتى لا يحصل لهما ما لم يكن ليحمد عقباه وهو أنْ تبدوا لهما سوءاتهما، ولعل البعض يقول وما الجديد في ذلك؟
جواب مفترى
 
أولاً، يجب أنْ نفهم أنّ منع آدم الأكل من الشجرة لم يكن إلاّ لخير أراده له ربه وليس اختباراً له،
وثانيا،ً يجب أنْ نفهم المعنى المقصود من "بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا". أي كيف بدا لآدم وزوجه سوءاتهما؟


ما معنى السوءة؟

لعنا نتفق أنّ كلمة "بدت" تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن الشيء كان موجودا أصلاً ولكنه لم يكن ظاهرا فقط، وهذا يعني هنا أن سوءة آدم وزوجه لم تخلق لحظة أكلهما من الشجرة، وذلك بدليل أن سوءاتهما قد بدت فقط:
 
"... فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا..." الأعراف 22
 
فعندما يبدو لك شي يعني أنّه يتكشف لك كونه أصلا موجود من قبل، أليس كذلك؟


أما الجدل الأكبر فهو يتعلق بكلمة "سوءاتهما"، فما معنى المفردة في السياق القرآني؟
رأينا: لقد درج الكثيرون من علماء الفكر الإسلامي على تسويق فكرة أنّ السوءة تعنى "العورة" أي أنّ عورة آدم وزوجه قد بدت لحظة الأكل من الشجرة، ونحن نظن أن هذا من البلاء الذي أوقع الأمة كلها في إشكالية عدم فهم قصة الخلق الأول كما يصورها كتاب الله أحسن تصوير.

 لذا سنتجرأ على تقديم مفهوم للسوءة نظن أنه أكثر دقة وتميزاً عن ما هو مألوف عند العامة وأهل العلم.
 
افتراء من عند أنفسنا: نقول نعم لقد بدت لها سوءاتهما لحظة الأكل من الشجرة، ولكن الذي بدا ليس العورة (بمفهومها عند العامة) وإنما الجسد بأكمله.

 فنحن نرى أنّ كلمة سوءاتهما لا تعني على الإطلاق العورة وإنما تعني الجسد بأكمله، وسنحاول الآن الدفاع عن هذا الفهم، كما سنحاول التعليق على تبعات هذا الفهم، ثم ربط ذلك بما بدأنا به في هذا المقام وهو أنّ الله لم يمنع آدم عن الشجرة اختباراً له وإنما لخير آدم، وسنحاول كذلك إثبات أنّ ذلك كله تم وآدم على علم ودراية به.
 
أما فيما يخص معنى كلمة سوءاتهما، فإنّنا نعيد التأكيد أنّها لا تعني العورة كما فهمها جل الفكر الإسلامي وإنما الجسد بأكمله، وإثباتنا لذلك يأتي على النحو التالي:
لعلنا جميعاً على دراية ولو بسيطة بقصة ابني آدم:
 
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
المائدة 27-30
 
ولكن ما الذي حصل بعد أنْ طوعت له نفسه قتل أخيه؟ إنه الندم (لا شك)، ولكنّ الأمر قد فات فلا يستطيع أنْ يعيد أخاه إلى الحياة، ولكن جل ما يستطيع فعله هو عمل شيء بـ جثة أخيه، أليس كذلك؟
لذا نحن نتخيل الموقف على نحو أن الأخ القاتل قد وقف حائراً لا يعلم ما يفعل حتى بعث الله ذلك الغراب ليريه ما يفعل بسوءة أخيه:
 
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ المائدة 31
 
ولعل القارئ الكريم قد أدرك ما نجهد أنفسنا الوصول إليه، فهل تعني هنا عبارة " سَوْءةَ أَخِيهِ" – يا سادة-"عورة أخيه"؟ أي هل كان ابن آدم القاتل يبحث عن مواراة عورة أخيه المقتول فقط؟
رأينا: كلا وألف كلا، لقد كان يقصد مواراة الجثة بأكملها، فلربما أنّ عورة أخيه لم تكن مكشوفة لحظة أنْ قتله. وهنا لا بد أنْ نطلب من القارئ الكريم إمعان النظر بتطابق الألفاظ في حالة الحديث عن سوءة ابن آدم المصروع (يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ)، وما كان لآدم وحواء في مكان آخر من القرآن الكريم:
 
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
 
فهل تعني مفردة "سوءة" العورة في هذه الآية الكريمة؟ وإنْ كان كذلك، ألا ترى إذن أن المقصود بالمواراة هو ليس العورة وإنما جزء منها بدليل قوله تعالى "لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا"؟ أي هل تكشف جزء من العورة ووري جزء آخر؟
الجواب: النفي بكل تأكيد. 
ولعل الروعة في هذه الآية القرآنية أنّها تشير إلى مواراة (ولنقل مجازاً تغطية) الجسد ولكن ليس كل الجسد وإلا لفهمنا أنّ آدم وحواء قد غطوا أجسادهم بأكملها بما فيها الوجه والكفين وهكذا. 
وحتى لا يبدأ البعض الدفاع بالقول أن الحالتين مختلفتين (حالة آدم وزوجه من جهة وحالة ولديهما على الأرض من جهة أخرى) فقد لا نحتاج أن نرد بأكثر من التأكد من تطابق الألفاظ، ففي كلتا الحالتين استخدمت لفظة سوءة واستخدم الفعل "المواراة"، وفي كلتا الحالتين جاء الحديث عن السوءة "أي الجسد" بعد الوقوع في المحظور (كما يقال على لسان العامة)، فآدم يأكل من الشجرة وولده يقتل أخاه، أليس كذلك؟

فنخلص إلى القول بأنّ كلمة "سوءاتهما" تعني إذاً أجسادهم، وبهذا نعتقد أنّ الله سبحانه قد حذر آدم وزوجه من الأكل من الشجرة حتى لا تبدوا أجسادهم الفيزيائية، وهذا يعني بالضرورة أنّ آدم وزوجه كانا يقطنا الجنة بدون تلك الأجساد التي نراها، لقد كانا في هيئة وماهية على غير هذه التي نعرف، وما بدت تلك الأجساد إلا لحظة الأكل من الشجرة، وهنا سيرد البعض بالسؤال: هل فعلاً كان آدم وحواء يقطنان الجنة بلا أجساد "سوءة"؟
 
جواب: نقول كلا، 
لقد كانا يسكنان الجنة بأجساد ولكنها لم تكن بادية "أي ظاهرة". وقد يقول البعض وكيف ذلك؟ فنرد على هذا التساؤل بتساؤل آخر أكثر إثارة ربما وقع في خاطر أحدكم في يوم ما وهو:
 لماذا لا نرى نحن الآدميون الجن بينما الجن يرانا؟
 ولماذا لا نرى نحن الملائكة بينما هم يرونا؟
 لماذا نحن الجنس البشري فقط نُرى ولا نَرى؟
 
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27
 
رأينا: نعم، لقد كان آدم وزوجه يقطنان الجنة بأجساد غير بادية كأجساد الجن أو الملائكة في كيفيتها ولكنها مختلفة في ماهيتها.

 فالشيطان بفعلته تلك نجح في أنْ ينزع عن آدم وزوجه لباسهما الذي كان يسترهما حتى لا يكونا عرضة للأذى، وبدلاً من ذلك اللباس أصبح آدم وحواء بحاجة إلى لباس جديد يواري سوءاتهما: ... "وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ".
 
تبعات هذا الافتراء
ولعل لهذا الفهم تبعات جمّة، يتمثل أبرزها في أنه يمكننا من خلاله تسليط الضوء من جديد لفهم مواقف أخرى من القرآن الكريم تضاربت الآراء فيها، ولعلني أجد من المفيد مقارنة ما سأزعم بعد قليل مع ما جاء في كتب التفسير بخصوص الآية الكريمة التالية:
 
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى طه 22
 
فكيف كان موسى يخرج يده من جيبه؟ 
هل حقاً كان يخرجها من غير برص كما جاء في كتب التفسير الرئيسة؟ 
وهل فعلاً كان موسى يعاني من البرص حتى تخرج يده من غير برص؟ 
فهل كان بقية جسمه كذلك؟
 
رأينا: إنّنا نعتقد أنّ في ذلك الرأي المنقول عن أكاذيب بني إسرائيل تجنى على موسى عليه السلام وهو الذي قال فيه رب العالمين:
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا الأحزاب 69
 
وهم من يدعى مثل هذا الكلام يقتبسون في الوقت ذاته حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على أنّ نبي الله موسى كان في جسمه على أحسن ما خلق الله.

 إننا نعتقد أنّ هناك تفسيراً ربما يكون أكثر وجاهة وأليق بمقام نبي الله موسى. فما هو؟
رأينا: إنّنا نزعم الظن أنّ موسى كان إذا أدخل يده في جيبه أو إذا ضم يده إلى جناحه، كانت تخرج بيضاء "مِنْ غَيْرِ سُوءٍ" أي بيضاء "من غير جسد"، ويكأنها نور ساطع. 

وكذلك كان – في ظننا- آدم وزوجه في الجن، لقد كانت أجسادهم " بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ". فكان آدم وزوجه في الجنة بلا شك على غير الحالة التي أصبحوا عليها في الدنيا وذلك بسبب التحول والتغير الذي حصل على أجسادهم، وهذا بالضبط ما كان الله قد حذر آدم من الوقوع فيه وذلك لأنّ:
 
اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة 257
 
فمهمة الطاغوت ليست أكثر من إخراج الناس من النور إلى الظلمات، كمل فعل مع آدم يوم أنْ أوقعه في شركه.
 
وقد لا يزال القارئ مستغرباً أنَ آدم كان في الجنة جسداً أبيضاً خالصاً "كالنور"، وحتى يتبين القارئ وجاهة ما نقول، فليحاول معنا ربط الآيات القرآنية التالية مع بعضها بعضا:
 
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ الحجر (29)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ص (72)
 
فمن أين جاء ذلك النور إلى جسد آدم وهو المخلوق أصلاً من تراب؟
 أليس في هذه الآيات الكريمة بيان لمصدر هذا النور؟
 ألم ينفخ الله في آدم من روحه بعد أن سواه، وإذا كان كذلك، ألا يحق لنا أن نسأل: ما الذي اكتسبه آدم من هذا النفخ المباشر من الذات الإلهية؟
 
رأينا: إننا نؤمن يقيناً أنّ شيئاً عظيماً تحصّل لآدم لحظة أنْ نفخ الله فيه من روحه، فلقد تحصّل لآدم شيء من روح الله، فالنفخ كان مباشراً ولا يمكن تحت أي حال من الأحوال أنْ يكون من حصل على الحياة بنفخة مباشرة من الله كمن حصل عليها بأي طريقة أخرى، ولكن السؤال البسيط الذي لابد من طرحه هنا أيضاً هو:
 ما هو ذلك الشيء؟ 
ما الذي اكتسبه آدم من النفخة الإلهية بعد أن سواه الله بيديه؟
جواب: لنقرأ الآيات الرائعة التالية:
 
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور 35
 
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ الزمر 69
 
نعم، ذلك ما اكتسبه آدم من تلك النفخة، لقد أصبح جسده "أبيضاً من غير سوء" وما تبدَّ ذلك السوء إلا بعد أن ذاق الشجرة التي حذره الله من الأكل منها.
 
وقد يحتج البعض بأنّ الله قد خلق آدم من طين:
 
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ص 71
 
ويكأن في قولهم هذا سؤال مفاده: 
كيف تدعي أن آدم كان في الجنة "أبيض من غير سوء" وخلقه جاء أساساً من طين؟
جواب: نرد على ذلك بالقول: 
ألم يثبت الله سبحانه أننا نحن البشر خلقنا من طين؟
 
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ الأنعام 2
 
فهل نحن إذاً نظهر لبعضنا البعض على أنّنا طينا؟ إنّ مادة الطين كانت أساس الخلق ولكن تجلى ذلك الطين للناظر "أبيضاً من غير سوء في حالة آدم" بسبب نفخة الله فيه، وأصبح دماً ولحما لمّا أكل آدم من تلك الشجرة. 

ولنلاحظ هذا المعنى في الآية القرآنية التالية:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ السجدة 7
 
ألا يعني ذلك إذاً أنّ الطين كان بداية الخلق؟ 
ولعل النقطة التي يجب ملاحظتها كذلك أنّ الأكل من تلك الشجرة سبّب لآدم تحولاً في جسمه، فكيف يمكن تفسير ذلك التحول؟
 
نقول: نعم،
 لقد كانت مادة الخلق هي الطين ولكنّ ذلك الطين اكتسب تلك الخاصية "أي النورانية" بسبب نفخة الله فيه، وحتى يتقرب المعنى لذهن القارئ فنقول (ولله المثل الأعلى)
 أليس القمر مثلاً طيناً خالصاً؟ 
ولكن كيف يبدوا لنا ونحن ننظر إليه؟ 
وكيف نفسر الآية الكريمة التالية؟
 
"وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا نوح 16
 
وحتى يستيقن القارئ الكريم ووجاهة ما ندعي بأنّ آدم اكتسب خاصية النور بعد النفخ فيه من روح الله نذكركم بحال المؤمنين في الجنة بعد العرض والحساب، قال تعالى:
 
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الحديد 12
 
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ الحديد 13
 
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الحديد 19
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التحريم 8


نعم تلك هي ما ستكون عليه هيئة المؤمنين في الجنة في نهاية المطاف وتلك كانت هيئة آدم وزوجه في بداية الأمر وقبل الوقوع في الذنب، فلقد كان آدم وزوجه حواء (كما سيكون المؤمنون بعد الحساب) نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ.

 وإذا صح هذا الافتراء الذي هو من عند أنفسنا، فيحق لنا أن نطرح التساؤل: 
كيف يمكن للناظر لذاك النور أنْ يرى العورة (أو أي جزء من الجسم إنْ كان هو نورا) فيه؟ 
ولهذا نرى الدقة في التصوير القرآني أنّ نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ونحن نعتقد أنّ في هذا الفهم ربط طبيعي بين بداية الخلق ومنتهاه، فالخلق بدأ بآدم في الجنة في كيفية وماهية سينتهي العباد كلهم إليها بعد الحساب والثواب، وربما لهذا السبب قال الله في موقع آخر عن تكشف جسد آدم وزوجه:
 
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
 
ولعل في هذا رد أيضاً (كما أسلفنا) على من اعتقد أنّ السوءة تعني العورة، لأن ذلك يعني بالضرورة ويكأنّنا ندعي أنّ جزءاً من العورة كان بائن وجزء كان مخفي بدليل قوله مِن سَوْءَاتِهِمَا، وعندها يكون المعنى أنّ السوءة بأكملها تبدّت لحظة أنْ ذاقا الشجرة، وهذا ما لا يمكن تعقله، فلا يمكن القول أنّ جزءا من العورة كانت ظاهرة لآدم وزوجه قبل الوسوسة حتى يتبدى الجزء المتبقي بعد الوسوسة، أما إمكانية أن يكون جزء من الجسد كان ظاهر (كالوجه مثلا) قبل المعصية ثم تبدى ما كان قد وري عنهما بعد الوقوع في الذنب فهذا – برأينا- أكثر منطقية وأجدر بالفهم.
 
ولعلي أجد من الضروري التنويه أيضاً إلى أن ذلك النور كان هو لباس آدم في الجنة، فهل كان آدم يلبس من القطن والصوف ونحوهما؟ كلا، لقد كان ذلك النور هو لباسه وزوجه، إنّه النور الذي يكفي لستر ما لا يحبب أنْ يظهر من الجسم، ولتأكيد هذه النتيجة فلنقرأ قوله تعالى:
 
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27

فيكون السؤال المشروع إذاً على نحو: 
ما هو ذلك اللباس الذي استطاع الشيطان بفعلته أنْ ينزعه عن أبوينا آدم وزوجه؟
 نعم، لقد كان لآدم وزوجه لباس في الجنة يستر ما لا يجب أنْ يظهر من الجسد فتمكن الشيطان من نزعه، فماذا كان ذلك اللباس؟ 
وما دام أنّ آدم كان نورانياً في الجنة، واقتبس ذلك النور من ربه الذي نفخ فيه، فما يكون لذلك النور أنْ يبقى مادام أنّ شيئاً من الشر (الشيطان دخل في آدم)، فابتعد ذلك النور عندما ابتعد آدم عن مصدر ذلك النور (وقد تحدثنا سابقاً عن كيفية استخدام أسماء الإشارة "هذه" و"تلك" قبل وبعد المعصية)، ولقد كان ذلك هو هدف الشيطان ومن التف حوله من الجن والإنس:
 
"يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ..." التوبة 32
 
ولكنّ الله تقبل توبة آدم (كما يتقبل دائماً توبة عباده كلهم) لأنّه كما جاء قوله في سورة التوبة تكملة للآية السابقة:
 
"... وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" التوبة 32


*** *** ***
 
ويبرز هنا تساؤل غاية في التحدي مفاده كالتالي: 
إذا كان الله لم يرد لآدم إلا الخير فحذره من الأكل من الشجرة حتى لا يحصل له مكروه بسبب الأكل منها، فلِمَ كانت الشجرة أصلاً موجودة؟ 
لِمَ لَمْ يبعد الله الشجرة عن آدم بدلاً من أنْ يطلب من آدم وزوجه عدم الاقتراب منها؟
 
نقول أولاً وقبل كل شيء لربما سنرى لاحقاً أنّ هذا سيكون دليلاً على أنّ تلك الجنة التي كان يسكنها آدم لم تكن جنات الخلد وذلك لأنّ من صفات تلك الجنان:
 
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) الواقعة 32-33
 
فآدم إذاً كان يعيش في جنان الأصل في الأشياء فيها الإباحة (فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) 
ولكن كان هناك بعض الضوابط (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، 
وهذا يدل أنّ الوقوع في المعصية فيها أمر وارد كما حصل فعلاً، 
ونحن نعتقد أنّ وجود تلك الشجرة هو العدل الإلهي، 
فلو لم تكن الشجرة موجودة في المكان الذي كان يسكنه آدم لما تأتى لآدم الاختيار ولأصبح الوقوع في المعصية من الأمور المستحيلة ويكون بذلك آدم وزوجه (ومن بعدهم ذريتهم) مسيرين كما هي حال الملائكة (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، 

وهذا يعني أنّ الله قد منح آدم إرادته الخاصة المستقلة عن إرادة ربه كما نحمل نحن ذرية آدم إرادتنا الخاصة المستقلة عن إرادة الله، 

فآدم إذاً كان يسكن في مكان لا يسير كله بإرادة الله وحده (كلام خطير جداً، أليس كذلك؟)، 

نعم إننا ندعي أنّ ذلك العالم -كما هو عالمنا- لا يسير كله بإرادة الله وحده. وحتى يستبين القارئ معنى ما نقول ننتقل مباشرة للحديث عن أمر أوقع الفكر الإسلامي قديماً في إشكالية تعذر معها إفهام الأمر للعامة، حتى غدا ذلك أمراً يخص فلسفة خاصة الخاصة: إنها إشكالية التسيير والتخيير، فهل الإنسان مسير أم مخير؟


بقلم د. رشيد الجراح





[1] نجلب انتباه القارئ إلى القول أن هذه (اللسان والنطق والأسماء) وإن دلت جميعها على اللغة لا تعني الشيء نفسه، فلكل منها مدلولاته التي لا تتطابق تماما مع الأخرى وهذا ما سنتعرض له لاحقاً، ولكن حتى يتبين القارئ وجاهة ما نقول ندعوه إلى تدبر الآيات الكريمة التي تتحدث عن النطق مثلاً ليجد أن جميعها تتحدث عن ما يسميه البعض "بالجمادات" "والحيوانات" كأصنام قوم إبراهيم، والكتاب، والطير والجلود وهكذا، ولكنها تتحدث عن البشر في حالات قليلة جدا وهي:
فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ الذاريات 23
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى النجم 3
هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ المرسلات 35
وتساؤلنا البسيط هو لماذا؟ 
ما الذي يجمع بين هذه الآيات التي تتحدث عن البشر وتلك التي تتحدث عن غير البشر حتى يستخدم لفظ "النطق" على وجه التحديد؟

 نقول أنّ المتفحص لهذه الآيات يدرك أنّ الذي "ينطق" سوف يقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. 
فالكتاب ينطق بالحق، ونبينا لا ينطق عن الهوى، ولو تحدثت أصنام قوم إبراهيم لنطقت بالحق كما ستنطق جلودهم يوم أنْ يأذن الله لها:
 
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فصلت 21
 
وهم لا يستطيعون النطق لأنهم لا يستطيعون قول الحق، فمن لا يقول الحق لا يستطيع النطق:
 
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ النمل 85
مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ الصافات 92
 
هذا وسنتعرض لهذه المعاني لاحقاً للتفريق بين الألفاظ والاستفادة منها



([2] ) القارئ مدعو هنا للتفكير باستخدام كلمة حكيم في هذه الآية، فكلمة عليم واضحة لأن آدم قد أخذ من علم الله فلماذا استخدمت كلمة حكيم عطفا على كلمة حكيم؟! سنتعرض لهذا الأمر لاحقاً لتبيان حقيقة العلم الذي تلقاه آدم من ربه.


[3] وسنتعرض لاحقاً لموضوع الخلافة على الأرض التي أساء الكثيرون فهمها، فهم يحتجون بالمنطق التالي: 
لماذا استخلفنا الله على الأرض ما دام أنه يعلم في سابق علمه المؤمن والكافر منا؟ 
وبالتالي لماذا سيعذب بعضنا لذنوب مقدرة عليه في الأزل؟ 
والأهم من ذلك لماذا اختار الله الإنس (ممثلاً بآدم وزوجه) لخلافة الأرض؟ 
ولماذا لم يكن ذلك للملائكة أو للجن؟ 
وما فائدة الخلافة إن كان سيترتب عليها الشقاء والعذاب لاحقاً؟ 
أسئلة كثيرة سنحاول تسليط الضوء عليها من جوانب جديدة علها تسعف في فهم ماهية الخلافة التي يتحدث عنها النص القرآني.


[4] -انظر:
-تفسير الجلالين ، محمد بن أحمد + عبدالرحمن بن أبي بكر المحلي + السيوطي ، دار الحديث ، القاهرة ، رقم الطبعة الأولى، ج1 ص9.
- تفسير القرآن العظيم ، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء ، دار الفكر ، بيروت ، ج 1 ص 74-75-76.
-جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر ،دار النشر دار الفكر ، بيروت ، 1405 ج1 ص 215-220.
-الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله ، دار النشر دار الشعب ،القاهرة ، 1372 الطبعة الثانية ، اسم المحقق أحمد عبد العليم البردوني، ج1 ص279-285.
-الدر المنثور ، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي ، دار الفكر ، بيروت، ج1 ص 120-122.



[5] انظر Kenstowics 1994 (59-60)
أنظر Broomberger and Halle 1989