يقدم هذا البحث تطبيقًا لغويًا لنظريات تحليل الخطاب على النص القرآني، بهدف استكشاف العلة وراء تحريم لحم الخنزير في ثقافات متعددة كالمصرية القديمة واليهودية والإسلامية. باستخدام منهجية تحليلية تربط بين السياقات المحلية والكلية في القرآن، تفترض الدراسة أن التحريم ليس لأسباب صحية أو ثقافية، بل هو عقائدي متوارث. ويخلص البحث إلى أن أصل التحريم يعود إلى حادثة "مسخ" بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، مما أدى إلى اختلاط الدم البشري بالحيواني وجعل أكل لحمه محرماً في الشرائع السماوية المتعاقبة.
فهرس المقال
من تطبيقات نظريات تحليل الخطاب (2): ما يؤكل وما لا يؤكل
ملخّص
تناقش الدراسة الحالية مسألة تحريم باقي الأطعمة في ضوء ما تحصل لنا من استنباطات في المقالة السابقة التي تعرضت لـ سبب تحريم لحم الخنزير على وجه التحديد، فلقد دلّت الإشارات النصية في القرآن الكريم (كما نفهمها نحن) على أن تحريم لحم الخنزير جاء بشكل قاطع في الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام بعد حادثة المسخ التي تعرض لها الذين اعتدوا من بني إسرائيل في السبت، فاختلط بعد ذلك المسخ الدم البشري بالدم الحيواني، وانتقل بسب ذلك المسخ رجس من رجس الكافرين إلى ذلك النوع من الحيوانات. وقد أثار طرحنا هذا سؤالاً يتعلق بوجاهة عدم الأكل من الأنواع الأخرى من الحيوانات كالحمير والبغال وغيرها، وبعد متابعة الإشارات النصية في القرآن الكريم وجدنا لزاماً التفريق بين نوعين من الحيوانات وهي الأنعام والدواب، وقد تبين أن الأطعمة الحيوانية التي لا يُختَلف في أكل لحومها هي من فصيلة الأنعام، والدراسة الحالية تناقش بداية الفرق بين هذين الصنفين من الحيوانات كما تجليها السياقات القرآنية، ثم تنتقل لتحاول التمييز بين الأنعام مع فصيلة أخرى وهي النعم، وأخيراً تتعرض الدراسة لمشروعية أكل لحوم الطيور.
تحريم لحم الخنزير وباقي الأطعمة
كيف ولماذا حرمت بقية الأطعمة في ضوء النظرة الجديدة في تحريم لحم الخنزير؟
ننطلق من المبدأ الذي ورد في كتاب الله بخصوص ما يؤكل وما لا يؤكل كما ورد في الآية الكريمة التالية:
الأنعام ﴿١١٩﴾
فهذه الآية الكريمة تؤكد على المبدأ التالي: أن الله قد فصّل ما لا يؤكل ولكنّه لم يفصّل ما اضطررنا له، فعند الضرورة يمكن الأكل من أي شيء وإن لم يذكر مفصلاً في كتاب الله. ولكن عند الحديث عمّا لا يؤكل فهو مفصل في كتاب الله، ولنرقب الدقة القرآنية في قوله تعالى:
المائدة ﴿٣﴾
فتلك الأطعمة المحرمة جميعها هي بنص القرآن الكريم "فسق". ويرد في سياق قرآني آخر السبب الآخر لتحريم بعض الأطعمة:
الأنعام ﴿١٤٥﴾
فتلك الأطعمة جميعها هي بنص القرآن الكريم رجس أو فسق، ولكن المدقق في سياق الآية الكريمة (الأنعام 145) يجد غرابة في التركيب في قوله تعالى فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا، فكلمة "فسقاً" - لا شك عندنا- ليست معطوفة على فسق وذلك بدليل اختلاف الحركة الإعرابية، ففي حين أن (فِسْقًا) في الآية الكريمة منصوبة بتنوين الفتح (أَوْ فِسْقًا) جاءت مفردة (رِجْسٌ) في السياق القرآني نفسه مرفوعة بتنوين الضم فَإِنَّهُ رِجْسٌ، فلا يمكن أن تكون فِسْقًا معطوف و رِجْسٌ معطوف عليه، ونحن نفهم الآية الكريمة على النحو التالي:
ُقلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ... أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فتكون المحرمات جميعها معطوفة على بعضها بأداة العطف "أو"، وأداة الإعراب هي الفتح كونها جميعاً خبر "يكون"، ولكن أين ذهبت عبارة (فَإِنَّهُ رِجْسٌ)؟ نقول إن تلك الجملة هي جملة اسمية تصف فقط لحم الخنزير، فلحم الخنزير على وجه الخصوص هو الرجس ( أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ).
نستنتج إذاً أنّ تلك الأطعمة قد جرى تحريمها لسببين اثنين وهما الفسق والرجس، ونحن بحاجة لتتبع السياقات القرآنية التي تتحدث عن الفسق والرجس كحلقات ذهنية يجب ملاحقتها لتتبين ماهية التحريم.
الرجس
من أين جاء الرجس إلى الخنازير على وجه التحديد؟ وبكلمات أخرى إذا كان الخنزير في الأصل من المأكولات كما زعمنا في الجزء السابق من هذه المقالة، فكيف أصبح بعد ذلك رجس؟ لنمعن الآن التفكير في قوله تعالى:
التوبة ﴿٩٥﴾
التوبة ﴿١٢٥﴾
إنّ هاتين الآيتين الكريمتين تؤكدان أن الرجس جاء من أصل بشري، فالذين في قلوبهم مرض زادتهم آيات الله رجساً إلى رجسهم الذي هو أصلاً جزء من طبيعتهم. فالكافرون بطبيعتهم رجس وذلك بنص القرآن الكريم: إِنَّهُمْ رِجْسٌ ولا يحتاج ذلك إلى تأويل، ولهذا عندما مسخ الله الذين اعتدوا من بني إسرائيل قردة وخنازير انتقل – نحن نفتري القول- ذلك الرجس إلى فصيلة الخنازير، فأصبحت رجساً بدليل قوله تعالى:
لتتأكد بذلك صلة القرابة بين الظالمين (الذين في قلوبهم مرض) من جهة والخنازير من جهة أخرى، ولهذا فإن الظالمين الذين هم على دراية بالعلم ولكنهم يؤثرون إتباع خطوات الشيطان يصيبهم ذلك الرجس:
يونس ﴿١٠٠﴾
وتكون مهمة الإنسان هي التخلص من ذلك الرجس بتوفيق الله وإرادته مصداقاً لقوله تعالى:
الأحزاب ﴿٣٣﴾
الفسق
لقد حصلت قصة الفسق الأولى عندما رفض إبليس الأمر الإلهي بالسجود لآدم، قال تعالى:
الكهف ﴿٥٠﴾
لقد حصل الفسق من الشيطان عندما رفض السجود، فالفسق هو إذاً عدم الانصياع لأمر الله، وتتكرر مثل هذه الحادثة على الأرض، عندما رفضت مجموعة من بني إسرائيل الانصياع لأمر خالقها بأن لا يعدوا في السبت:
الأعراف ﴿١٦٥﴾
فكان عاقبة ذلك الفسق هو المسخ:
الأعراف ﴿٦٠﴾
فأصبحت تلك من سنن الله الكونية: عندما يحصل الفسق من قبل الخلق يقع العقاب الرباني على الفاسقين:
الإسراء ﴿١٦﴾
الأعراف ﴿١٦٥﴾
وكانت النتيجة الحتمية أن الذين فسقوا لا يؤمنون:
يونس ﴿٣٣﴾
ومن هذا المنطلق فإننا نصل إلى النتيجة التالي والتي هي بلا شك مفتراة من عند أنفسنا: إنّ الأطعمة التي هي فسق تنتمي إلى مجموعة الذين لا يؤمنون (أي حزب الشيطان).
وربما يبادرنا البعض بالقول: وأين الدليل على ذلك؟ فنرد بالقول لنقرأ معاً قوله تعالى:
الأنعام ﴿١١٨﴾
الأنعام ﴿١١٩﴾
الأنعام ﴿١٢٠﴾
الأنعام ﴿١٢١﴾
إن أساس تناول الطعام هو ذكر اسم الله عليه، فالأطعمة التي لا يذكر اسم الله عليها تكون فسقاً مصداقاً لقوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، ولا يكون الشيء فسقاً إلا إذا تدخل به الشيطان، فارتبط الفسق من الطعام بالشياطين، فالميتة والدم والمنخنقة والموقوذة والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وما ذبح على النصب جميعها لم يذكر اسم الله عليها، فتنتهز الشياطين الفرصة لدخولها، فتصبح بذلك فسقاً. ولهذا جاء التحذير لنا من ربنا أن لا نتبع خطوات الشيطان:
الأنعام ﴿١٤٢﴾
البقرة ﴿١٦٨﴾
البقرة ﴿١٦٩﴾
خطوات الشيطان: الزنا (الفحشاء والمنكر)
النور ﴿٢١﴾
وربما نحن بحاجة هنا أن نفهم كيف تدخلها الشياطين. قال تعالى في محكم التنزيل عن سبب رفض إبليس الأمر الإلهي بالسجود لآدم:
الكهف ﴿٥٠﴾
فإبليس وذريته (وليس مجمل الجن) فسقوا عن أمر الله، فتكون النتيجة في الحياة الدنيا على النحو التالي:
الأنعام ﴿٤٩﴾
وتكون النتيجة في الآخرة على هذا النحو:
الأحقاف ﴿٢٠﴾
فالفسق إذاً يذهب الطيبات، فالله سبحانه أحل لنا الطيبات من الرزق:
الأعراف ﴿٣٢﴾
وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن:
الأعراف ﴿٣٣﴾
وكانت إحدى مهمات الرسول هي أن يحل لنا الطيبات وأن يحرم علينا الخبائث:
الأعراف ﴿١٥٧﴾
قد يبدو زعمنا أن الشياطين تنتهز الفرصة لتدخل تلك الأطعمة التي لم يذكر اسم الله عليها من باب الغرابة في القول، ولكننا نود أن نلفت الانتباه إلى تساؤل أكثر غرابة قلما يلتفت إليها الكثيرون، سؤال يحتاج إلى توضيح يتحصل من المشهد التالي: تخيل أنك قمت بقطع شجرة في طرف بستانك، وفي الطرف الآخر من البستان قمت بإلقاء جثة أحد حيوانات مزرعتك التي نفقت، مما لاشك فيه أن الشجرة المقطوعة والجثة الهامدة ستتعرضان لعوامل التحلل، أليس كذلك؟ ولكن الغرابة في المشهد هو: لم لا تصدر عن الشجرة المقطوعة رائحة يتأذى منها المارّة، بل على العكس فقد تفوح منها رائحة عطرة زكية بالرغم من تعرضها لعوامل التحلل؟ وفي المقابل فإن الرائحة التي تصدر عن الجثة المتحللة لا تطاق، والسؤال المشروع هو: لم ينتج عن عملية تحلل النباتات روائح لا تؤذي الناس بينما يصدر عن تحلل جثث الحيوانات روائح كريهة؟ إن طرحنا هذا يقدم التعليل التالي: إن هذه الأطعمة التي دخلتها الشياطين قد أصبحت من الخبائث فصدرت عنها تلك الروائح التي تؤذي الناس.
الأنعام
وهنا نقف عند السؤال الكبير التالي: إذا كان ذلك هو سبب تحريم لحم الخنزير، فلماذا لا نأكل لحم الحمير مثلاً أو لحم الكلاب والقطط؟ فهل اختلطت دماء هؤلاء بدماء الذين اعتدوا في ---- من بني ---- مثلاً؟ أي هل ينطبق المنطق نفسه على هذه المخلوقات؟
لو تدبرنا السياقات القرآنية ووقفنا عند اللفظ القرآني كما يجب أن نقف، لوجدنا السبب الذي من أجله لا نأكل لحوم هذه الحيوانات. ولنبدأ تصورنا لسبب التحريم منطلقين من الآيات القرآنية الكريمة التالية:
فاطر ٢٧-٢٨
دعنا نجلب الانتباه إلى بداية الآية (28) في قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ"، فالله سبحانه يتحدث عن ثلاث مجموعات: الناس والدواب والأنعام، أليس كذلك؟ وإذا كنا جميعاً نتفق على أن الناس (المجموعة الأولى) تختلف عن المجموعتين الأخريين، إلاّ أن القليل منّا ربما يميزون بين المجموعة الثانية (الدواب) والثالثة (الأنعام)، ولكنني أميل إلى الاعتقاد أن هذه تصنيفات ربانية يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وهي ليست كما جرت عليه ألسنة العامة شيئاً واحدا بتسميات مختلفة، إننا ننشد القول أنّ الدواب دواب وأن الأنعام أنعام، ولا يمكن أن تكون الواحدة هي الأخرى، وكفى.
ولكن ما دخل ذلك بموضوع التحريم؟ إننا نظن أن السياقات القرآنية التي سنستقصيها تؤيد الاستنتاج الكبير التالي:
الدواب هي الحيوانات التي لا تُؤكل بينما الأنعام هي فقط التي ذلّلها الله لنا لنأكل منها. وهذا ما سنبينه في الحال. فنحن لا نأكل الكلاب لأنها من الدواب، ولكننا نأكل الإبل لأنها من الأنعام. وهذا هو الافتراض الذي سنتابعه في الجزء القادم من المقالة.
ما يؤكل وما لا يوكل من لحوم الحيوانات
تتجلى الدقة القرآنية في هذا الموضوع على النحو التالي: عندما يتحدث النص القرآني عن الأكل من الطعام الحيواني ترد فقط لفظة الأنعام، قال تعالى:
المائدة ﴿١﴾
الأنعام ١٣٨-١٣٩
الأنعام ﴿١٤٢﴾
النحل ﴿٥﴾
طه ﴿٥٤﴾
الحج ﴿٢٨﴾
الحج ﴿٣٠﴾
المؤمنون ﴿٢١﴾
يس ٧١-٧٢
غافر ﴿٧٩﴾
أما عند الحديث عن الدواب، قال تعالى:
الأنفال ﴿٢٢﴾
الأنفال ﴿٥٥﴾
الحج ﴿١٨﴾
فاطر ﴿٢٨﴾
البقرة ﴿١٦٤﴾
الأنعام ﴿٣٨﴾
هود ﴿٦﴾
النحل ﴿٤٩﴾
النحل ﴿٦١﴾
النور ﴿٤٥﴾
النمل ﴿٨٢﴾
العنكبوت ﴿٦٠﴾
لقمان ﴿١٠﴾
سبأ ﴿١٤﴾
فاطر ﴿٤٥﴾
الشورى ﴿٢٩﴾
الجاثية ﴿٤﴾
والآن دعنا بعد استعراض سياقات لفظة دابة (واشتقاقاتها) في القرآن الكريم أن نطرح التساؤل التالي: هل ترد لفظة الدواب (ولو مرة واحدة) عند الحديث عن الطعام؟
الجواب: كلا، فهل هذا إذاً من قبيل المصادفة؟
رأينا: ربما نستطيع أن نقدم الاستنباط التالي: إذا جاء الحديث عن الطعام ترد لفظة الأنعام ولا ترد لفظة الدواب إطلاقاً، وربما لهذا جاءت الحقيقة المذهلة الأولى بخصوص الطعام في الآية الأولى في سورة المائدة على النحو التالي:
المائدة ﴿١﴾
وهو أمر ربما غفل عنه علماؤنا الأجلاء لقرون من الزمن، فأوقعوا العامة في إشكالية كبيرة بخصوص ما يؤكل وما لا يؤكل، كان يكفي سادتنا العلماء الأجلاء – نحن نظن- الوقوف عند اللفظ وتجليته للعامة فقط لتبين الحقيقة كما ينبغي لها أن تبين، وهذا ما سنحاول تبيانه في الحال بحول الله وتوفيقه.
إننا نؤطر للافتراض التالي: تنقسم الحيوانات إلى نوعين: ما يؤكل وما لا يؤكل، فالحيوانات التي تؤكل هي من فصيلة الأنعام والحيوانات التي لا تؤكل هي من فصيلة الدواب. وإن صح هذا الافتراض، فإن علينا التصدي لسؤالين اثنين لا ثالث لهما، أولهما: ما هي الأنعام أو وما هي الدواب؟ فمعرفة صنف يغني عن معرفة الصنف الآخر، فإذا استطعنا أن نحدد فصيلة الأنعام تكون باقي الحيوانات من فصيلة الدواب، والعكس صحيح، وثانيهما: لماذا يؤكل لحم الأنعام ولا يؤكل لحم الدواب؟
ما هي الأنعام؟
قال تعالى:
الزمر ﴿٦﴾
نعم، لقد ورد صراحة في كتاب الله أن الأنعام هي ثمانية أزواج، قال تعالى:
الأنعام ١٤٣-١٤٤
فالأزواج الثمانية هي: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، فيصبح المجموع ثمانية أزواج، وهو ما أنزل الله لنا من الأنعام، فالزوج هما الذكر والأنثى من الصنف، لهذا جاءت الدقة القرآنية لتتجلى في قوله تعالى:
النحل ﴿٦٦﴾
المؤمنون ﴿٢١﴾
فترد نفس الآية الكريمة مرة بالتذكير ومرة بالتأنيث، فلحوم الأنعام من ذكورها وإناثها قابلة للأكل، فهذه هي الأنعام التي تؤكل فقط، ولكن يبقى السؤال: لماذا هذه بالذات؟
لماذا نأكل لحم الأنعام من الحيوانات ولا نأكل لحم الدواب؟
فنرد على ذلك بالقول أنّ الجواب موجود في الآية السابقة نفسها، فنذكركم بالآية نفسها لندقق معاً بمفرداتها:
الزمر ﴿٦﴾
فالمدقق بالآية الكريمة يجد دقة عجيبة في اللفظ تتمثل بالقول أن هذه الأنعام أنزلها الله لنا، ففي هذه الآية نجد أن الله ينزل لنا الأنعام إنزالاً "أَنْزَلَ لَكُمْ"، ولقد بينا في مقالة سابقة لنا أنّ فعل النزول يعني الحركة من السماء باتجاه الأرض[1]، فهذه الآية الكريمة تبين أن هذه الأنعام نزلت من السماء بعد أن خلقها لنا ربنا بيديه مصداقا لقوله تعالى:
يس ٧١-٧٢
فالمدقق باللفظ القرآني يجد عبارة مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا لتصف تلك الأنعام التي خلقها لنا ربنا، فذللها لنا لنركب عليها ونأكل منها، أما باقي الحيوانات الأخرى فإنها لا تنعت بالقرآن بمثل هذا الوصف "مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا، فعند الحديث عن الدواب وهي الحيوانات التي لا تؤكل تتكرر الفكرة التالية:
البقرة ﴿١٦٤﴾
لقمان ﴿١٠﴾
الشورى ﴿٢٩﴾
الجاثية ﴿٤﴾
فالله قال عن الانعام "مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا" وبعد ذلك أنزلها من السماء إنزالاً، ولكنه بث الدواب في الأرض بثا، وقد يقول أحدهم: لماذا؟
للإجابة على هذا التساؤل نحن بحاجة إلى الخوض في هذا التصنيف لتجلية الفرق بين الأنعام التي خلقها الله بيديه لنأكل منها ونركب عليها من جهة والدواب التي بثها في الأرض من جهة أخرى. ونحن نؤكد في البدء أن هذا التصنيف سيكون له تداعياته وانعكاساته وتجلياته الكبيرة جداً والتي قد تدخل في جذور العقيدة التي نؤمن بها.
الدواب
لنتدبر الآية الكريمة التالية أولاً:
النحل ﴿٦١﴾
وتكرر الفكرة في سورة فاطر:
فاطر ﴿٤٥﴾
وسؤالنا هو: ما العلاقة بين الحديث عن الدواب و الحديث عن الناس وعذابهم واستعجال عذابهم أو تأخيره؟ فهل لو هلكت الدواب التي على الأرض جميعاً فهل سيكون ذلك نهاية حياة الإنسان؟ فهل ظلم الإنسان ستكون عاقبته نهاية الدواب؟ فهل هذا عدل؟ أي هل من العدل الإلهي أنه إذا وقع الظلم من الإنسان تهلك الدواب؟ إنّ هذا هو التناقض بعينه، فما دخل الدواب بما كسبت أيدي الناس؟ نقول ربما يكون الأمر على هذه الشاكلة إن كان الفهم أن الدواب هي الحيوانات التي في ذهننا، وظن الكثيرون أنها مسخرة فقط لخدمة الإنسان، ولكن السؤال الحقيقي هو: هل فعلاً هذه هي الغاية من وجود تلك الدواب؟ وهنا تبرز الحقيقة الماثلة في الآيات الكريمات التالية:
الأنفال ﴿٢٢﴾
الأنفال ﴿٥٥﴾
يا الله!! ما علاقة الدواب بالشر؟ نعم، الدواب التي على الأرض (وليس الأنعام) تعمل الشر كما يمكن أن تعمل الخير، وهي بالتالي محاسبة على أعمالها، كلام - لا شك- خطير جداً، أليس كذلك؟ ولكن أليس هذا ما تؤكده الآية الكريمة التالية:
الأنعام ﴿٣٨﴾
فالدواب هي بالتالي أمم أمثالنا، أليس هذا ما تتضمنه هذه الآية الكريمة؟ ولنربط ذلك بالطرح السابق الذي يخص تحريم الأطعمة، فنعيد السؤال على النحو التالي: لماذا لا تؤكل لحوم الدواب؟
الجواب: لأنها أمم مثلنا خلقت لعبادة الله، فسجد بعضها:
النحل ﴿٤٩﴾
وغفل بعضها:
الأنفال ٢٢-٢٣
الأنفال ﴿٥٥﴾
لربما يثير مثل هذا الطرح حفيظة البعض ليسألوا: كيف تعبد هذه الكائنات ربها؟ ولماذا تكفر؟ وكيف تكلف هذه الحيوانات بالعبادة لتحاسب عليها؟ فنرد بالقول أننا نفهم أن الجواب موجود في الآية الكريمة التالية:
الأنعام ﴿٣٨﴾
إذا سلّمنا بالفهم أنّ هذه الحيوانات هي أمم أمثالنا، فكيف تكون هذه الحيوانات (الدواب أقصد) مثلنا؟ فما هو وجه الشبه بين الدواب من جهة والبشر من جهة أخرى حتى تستطيع أن تكون مؤمنة أو تكون كافرة؟ فنقول إننا نرى أن الإجابة على هذا السؤال ميسرة بحول الله في قوله تعالى:
هود ﴿٦﴾
نعم الدواب، كما البشر، لها مستقر ومستودع، وهو ما يمكّنها من العبادة أو الكفر، وهذا الأمر ينقلنا على الفور إلى جدلية كبيرة (لا بل كبيرة جداً) ألا وهي: جدلية المستقر والمستودع (القلب والدماغ)، ويكفي القول هنا أن من يملك المستودع والمستقر يمكنه أن يعقل ومن لا يملكهما فهو غير محاسب ولا يتحمل المسؤولية.
ولو حاولنا ربط هذا الموضوع بما توصلنا له من سبب حرمة تحريم لحم الخنزير لوجدنا التطابق العجيب التالي:
لقد ذكرنا أن سبب تحريم لحم الخنزير هو صلة القرابة فقد جرت في عروق الخنازير دماء بشرية وأصبح الخنزير (والقردة بالطبع) الأقرب إلى الجنس البشري. والدواب هي أمم مثلنا، فهي إذاً قريبة من الجنس البشري، فتصبح حكمة التحريم هي القرب من البشر ولا أخال أن البشر سيأكلون لحماً إن اكتشفوا أنّ فيه دماء بشرية أو أنه يشبه لحم البشر.
ولكننا قبل الانتقال إلى جدلية المستقر والمستودع لا بد من التعريج على السؤال المعاكس وهو: ما هي الأنعام وهل تحاسب هي الأخرى على أفعالها؟ وهل للأنعام مستقر ومستودع مثلنا أو حتى مثل الدواب؟
الأنعام
لنبدأ أولاً بآية ترد في كتاب الله تُذكر فيها الأنعام:
الأنعام ﴿١٤﴾
فالأنعام إذاً هي من متاع الحياة الدنيا، والله سخرها لنا:
ولكن ما هي ماهية التسخير هذا؟ جاء في سورة النحل بعض استخدامات الأنعام:
الأنعام ٥-٨
فالأنعام (1) دفء و (2) منافع و (3) منها نأكل و (4) جمال و (5) تحمل الأثقال للناس في سفرهم، فحتى يصنف حيوان ما ضمن فصيلة الأنعام لا بد من توافر هذه الشروط مجتمعة، والمثير للانتباه في هذه الآيات الكريمات أنّ الخيل والبغال والحمير ليست من الأنعام بدليل أنها ذكرت منفصلة في آية مستقلة (الآية 8)، فهذه من الدواب وإن تقاطعت مع الأنعام في بعض الاستخدامات[4]، فهي ليست من فصيلة الأنعام لسبب أنها قد لا تفيد في بعض الاستخدامات السابقة، والدليل القاطع الذي نستقصيه من كتاب الله على أنها ليست من الأنعام التي تؤكل هو ما جاء في الآية التالية:
النحل ﴿٦٦﴾
فللأنعام إذاً استخدام خاص جداً ربما لا تختلف فيه كثير من الأمم: إنّه اللبن[5]، المهم بالموضوع أن الأمم جميعها تشرب لبن الأنعام ولا تشرب لبن الدواب، فمن من الأمم تشرب لبن الكلاب أو الحمير أو حتى البغال والخيل؟ فما لم يسخره الله لنأكل لحمه لا نشرب لبنه، وإلاّ لأصبح التناقض واضحا: أن تأكل لحم الكلاب ولكن لا تشرب لبنه، أو أن تشرب لبن البقر ولكن لا تأكل لحمه، إن القاعدة القرآنية سهلة ميسرة لا تناقض فيها: ما يشرب لبنه يؤكل لحمه مصداقاً لقوله تعالى:
النحل ﴿٦٦﴾
ولا شك أنّ التباين بين الأمم حصل على اللحم، وقلما وقع خلاف بخصوص اللبن. ولو أمعنا التفكير في المسألة لوجدنا أن الخلاف بين الناس بخصوص ما يؤكل وما لا يؤكل يختلف من حيوان إلى حيوان، فقلما اختلف المسلمون مثلاً حول لحم الكلاب ولكن هناك خلاف بخصوص الحمير أو الخيل، وهكذا، ويأتي سؤالنا على النحو التالي: لم يتباين الاختلاف من حيوان إلى حيوان؟ إن الجواب هو في جملة الخصائص التي ذكرها لنا ربنا عن الأنعام، فقد ذكرنا آنفاً أن الأنعام تستخدم في (1) دفء و (2) منافع و (3) منها نأكل و (4) جمال و (5) تحمل الأثقال للناس في سفرهم، والاستخدام الفيصل السادس ذكر منفصلاً في آية خاصة وهو اللبن:
النحل ﴿٦٦﴾
ونحن نظن أنه كلما قرب الحيوان من هذه الصفات كلما تزايد الاختلاف في مشروعية الأكل منها، وكلما بعد عن هذه الصفات كلما قل الاختلاف، فالمسلمون مثلاً يختلفون حول الحمير لأنها تختلف عن الأنعام فقط في خاصية اللبن، ولكن الكلاب تختلف في خصائص اللبن وحمل الأثقال (وربما الدفء)، ويكاد يتفق المسلمون جميعاً على حرمة لحم الأسود مثلاً لأنها لا تستخدم في حمل الأثقال ولا في اللبن ولا في المنافع، وهكذا.
وأخيراً لا ننسى أن الأنعام قد ذللها لنا ربنا:
يس ٧١-٧٢
ونحن نفهم أن التذليل يتمثل في أن هذه الحيوانات لا تمانع ولا تشط عن هذه الاستخدامات، فبالرغم أنه يمكن تذليل الكلاب ولكن ليس جميع أصناف الكلاب يمكن تذليلها لهذه الاستخدامات، فهي متفاوتة في درجة التذليل، وكذلك القطط، وحتى الحمير والخيل، ولكن الأنعام على وجه التحديد (المعز والضأن والبقر والإبل) لا تتفاوت في درجة التذليل إطلاقاً، فجميعها حيوانات مدجنّة، ذللها الله سبحانه لاستخدامات البشر، ويمكن استغلال كل ما فيها: اللحم واللبن وحتى أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها:
النحل ﴿٨٠﴾
(وسنتحدث بشي من التفصيل بعد قليل عن الفرق بين التذليل والتسخير)
وهنا تأتي آية كريمة تثبت هذا التذليل ألا وهي قوله تعالى:
يس ﴿٧١﴾
فالأنعام هي التي يملكها الإنسان، ولكنه – بالمقابل- لا يملك الدواب، ويأتي سؤالنا على النحو التالي: هل يمكن أن تجد الماعز أو الضأن أو البقر أو الإبل غير مملوكة من قبل الناس؟ ولكن كم من الكلاب والقطط وحتى الخيل والحمير أو الأسود والوحوش يمكن أن تعيش في البرية بلا مالك؟ (وسنتعرض لهذه الجزئية بشيء من التفصيل بعد قليل عند محاولتنا التمييز بين الأنعام من جهة والنعم من جهة أخرى)
لذا جاءت الآيات المكملة للآية السابقة التي تثبت ملكية الناس للأنعام على النحو التالي:
يس ٧٢-٧٣
ويبقى السؤال التالي: لماذا نأكل لحوم الأنعام ونشرب لبنها؟ إن هذا السؤال يعيدنا إلى موضوع المستقر والمستودع، ويتمثل الجواب الذي نستنبطه عند استدعاء بعض السياقات القرآنية في ظننا أنّ الأنعام (على عكس الدواب) ليس لها مستقر ولا مستودع، فهي لا تكون مؤمنة ولا تكون كافرة، وليس أدل على ذلك من ما جاء في قوله تعالى:
الفرقان ﴿٤٤﴾
ففي هذه الآية الكريمة تصريح واضح أنّ الأنعام لا تسمع ولا تعقل، فهي كما النباتات لا تحاسب على أفعالها، فحتى وإن كان لها أعين فهي شكلية معطلة الوظيفة، وحتى وإن كان لها أذان فهي شكلية معطلة الوظيفة، وحتى وإن كان لها قلوب فهي معطلة كذلك، قال تعالى:
الأعراف ﴿١٧٩﴾
ونصل إلى ذروة مبتغانا بالقول: إن المحرم من الحيوانات هي الدواب لأنّ لها آذان وأعين وقلوب تميز بها كما البشر، فمنها المؤمن ومنها الكافر:
النحل ﴿٤٩﴾
الأنفال ﴿٥٥﴾
أما الأنعام –بالمقابل- فلها آذان وأعين وقلوب، ولكنها معطلة الوظيفة، وبالتالي فقد ذلّلها الله لنا كما النباتات، فنأكل لحمها ونشرب لبنها ونستخدم أصوافها وأوبارها وجلودها، ولنا فيها منافع أخرى. والملفت للانتباه أنّ الله أنزل الأنعام من السماء ولكنه بثّ الدواب في الأرض.
والسؤال الأخير الذي ربما يثيره البعض هو: كيف تؤمن الدواب وتكفر؟ نقول إن ذلك بسبب أنها تملك (كما البشر) مستقراً ومستودعاً، وللنظر إلى التماثل العجيب بين البشر من جهة والدواب من جهة أخرى كما ورد في سورة الأنعام وهود:
الأنعام ﴿٩٨﴾
هود ﴿٦﴾
فنحن البشر لنا مستقر ومستودع، وكذلك الدواب لها مستقر و مستودع، وجل ما نحتاجه هو تجلية معنى المستقر والمستودع الذي ورد في هاتين الآيتين الكريمتين.
ونحن نعرف بالدليل القرآني القاطع أن الخلق بدأ كله من نفس واحدة وخلق منها زوجها بعد ذلك، قال تعالى في الآية الأولى من سورة النساء:
ولكن الأمر الذي يسلب الألباب ويصعق العقول هو تكملة الآية نفسها:
ولو حاولنا ربط ذلك مع خلق الدواب على وجه الخصوص (وليس الأنعام) كما ورد في الآيات القرآنية التي ذكرناها آنفا لوجدنا العجب العجاب:
البقرة ﴿١٦٤﴾
لقمان ﴿١٠﴾
الشورى ﴿٢٩﴾
فالله بثّ من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء، وهو كذلك خلق السموات والأرض وبثّ فيهما من كل دابة، ولهذا عقدت المقارنة العجيبة بيننا نحن البشر من جهة والدواب من جهة أخرى:
الجاثية ﴿٤﴾
نعم إننا من الموقنين أنّ خلقنا وخلق الدواب متشابه، وهي آية من آيات الله ستتجلى للبشر حتى بعد حين. وبهذا ندرك سبب أن الدواب (وليس الأنعام) والبشر سيحشرون إلى ربهم يوم القيامة
الأنعام ﴿٣٨﴾
وأخيراً لا بد من التعريج على آية عظيمة في كتاب الله تبين لنا التشابه العجيب بين البشر والجن والدواب، والتي ربما تنير لنا حقيقية أخرى في كتاب الله، قال تعالى:
النور ﴿٤٥﴾
فإذا عُدنا إلى أساس الخلق، وجدنا أن الله خلق الجن من نار:
الحجر ﴿٢٧﴾
وخلق الإنسان من تراب:
الروم ﴿٢٠﴾
وخلق الدواب من ماء:
النور ﴿٤٥﴾
والنتيجة المفاجئة التي نصلها أنّ هذه الأصناف الثلاث من الخلائق سوف تحشر لتحاسب على أعمالها
الأنعام ﴿٣٨﴾
ولربما يسعفنا هذا في فهم ردة فعل الملائكة عندما تلكأت بقبول خلافة آدم الأرض في بداية الأمر، فعللوا ذلك بالقول:
البقرة ﴿٣٠﴾
فكثيراً ما أثير التساؤل التالي: كيف علمت الملائكة بخبر الإفساد وسفك الدماء؟ فنرد على ذلك بالقول: مما كانت تعمل المخلوقات التي جعل الله لها مستقرا ومستودعا، وكانت متواجدة على الأرض (الجنة) قبل سكن آدم، إنها الجن والدواب.
وربما يفسر هذا الطرح قضية لغوية في كتاب الله ألا وهي الأمر الإلهي لسكان الجنة بالهبوط، فقد جاءت على النحو التالي:
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
البقرة ﴿٣٨﴾
طه ﴿١٢٣﴾
فلقد جاء الأمر بصيغتين: صيغة الجمع (اهْبِطُوا) وصيغة المثنى (اهْبِطَا)، فلقد قلنا سابقاً أن صيغة المثنى جاءت هنا لتعود على جنس البشر ممثلين بآدم وزوجه من جهة وجنس الجن من جهة أخرى وذلك بدليل ورود مفردة جميعاً (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا)، فالعربية لا تستخدم هذه الصيغة عند الحديث عن تثنية للشخصين كان تقول "جاء علي وسالم جميعاً" أو "هبط آدم وحواء جميعاً"، ولكن يمكن استخدامها عند الحديث عند التثنية لمجموعتين، فتقول مثلاً "جاء طلبة الصفين جميعاً" أو "هبط سكان القريتين جميعاً"، وهكذا[7].
وهناك ما يستدعي الانتباه حول الموضوع وهو ما جاء في سورة البقرة بخصوص الأمر الإلهي بالهبوط، ونعيد الآيات هنا ليتمكن القارئ الكريم من إمعان النظر والتفكر بحرفية الآيات:
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
البقرة ﴿٣٨﴾
فكما ترى يصدر الأمر الإلهي في الآية (36) بالقول: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ، ثم يتلقى آدم من ربه كلمات فيتوب عليه، ثم يعود الأمر الإلهي بالهبوط مرة أخرى على النحو التالي: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، وتساؤلنا هو لماذا يعود الأمر الإلهي بالصدور مرة أخرى ما دام أنه قد صدر من ذي قبل، فنرد بالقول أن حل هذه المسألة يصبح ميسراً ضمن الإطار الذي نطرحه هنا وهو على النحو التالي:
كان يسكن الجنة التي سكنها آدم الجن والدواب والبشر (ممثلين بآدم وزوجه) فصدر الأمر الإلهي بالهبوط، فظن الحضور أن الأمر يخص آدم وزوجه عندما جاء على النحو التالي:
ولما تلكأت الجن عن الهبوط جاء الأمر الإلهي لهم:
طه ﴿١٢٣﴾
وعندما تلكأت الدواب عن الهبوط صدر الأمر الإلهي القاطع بالهبوط للجميع:
البقرة ﴿٣٨﴾
وعندما كانت الدواب غير معنية بما أحدث آدم وزوجه (البشر) والجن من المعصية بخصوص الأكل من الشجرة جاء التطمين الإلهي في الآية نفسها للجميع بالقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فالله سبحانه أمر الجميع (البشر والجن والدواب) بالهبوط، وفي الوقت ذاته خط لهم النهج الذي لا جدال فيه على نحو: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، ولكن الحساب والشقاء سيكون لمن اتبع غير هذا المنهج.
ربما يثير مثل هذا الطرح حفيظة البعض لطرح قضية تخص أكل لحوم الحيوانات البحرية والبرية والطيور، فهم يثيرون التساؤل التالي: كيف يمكن ربط التصور الذي تطرحه مع حقيقة أكل لحوم الحيوانات البحرية والبرية وبعض أنواع الطيور؟ فنرد على ذلك بالقول أن هذا يتطلب استدعاء سياقات قرآنية كثيرة لخلق حلقات ذهنية مترابطة يتم من خلالها الوصول إلى استنباطات عديدة، وفي هذا السياق نود التركيز على ثلاثة أسئلة متداخلة وهي:
- لماذا نأكل لحوم جميع الحيوانات البحرية؟
- لماذا لا نأكل لحوم جميع الحيوانات البرية؟
- وهل نستطيع أن نأكل لحوم جميع أنواع الطيور؟
الحيوانات البحرية
أما بالنسبة للحيوانات البحرية، فربما لا نجد كثير عناء في تمرير الرأي بأن الله قد أحل لنا أن نأكل لحوم جميع الحيوانات البحرية، لأن هذا هو الفكر السائد أصلاً:
النحل ١٤
لكن السؤال الأكثر إثارة هو لماذا لا ينطبق المنطق نفسه على الحيوانات البرية؟ وأين الدليل على أن الله قد حرم علينا جزءاً من الحيوانات البرية وفي الوقت ذاته لم يحرم علينا شيئاً من حيوانات البحر؟
نحن نزعم الظن أن الإجابة على هذا التساؤل يمكن استنباطها من الآية الكريمة التالية:
المائدة ٩٦
ولكن كيف؟
جواب: لقد استوقفتنا هذه الآية الكريمة طويلاً لأنها أثارت تساؤلاً كبيراً جداً يتعلق بعبارة "صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ"، فأثارت التساؤل التالي: ما هو صيد البحر وما هو طعامه؟ والأهم من ذلك في رأينا هو لِم لَم تأت مفردة وَطَعَامُهُ مع صيد البر، فهناك صيد البر ولكن ليس هناك طعامه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) كما الحال بالنسبة للبحر (صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)؟ فما المقصود بعبارة وَطَعَامُهُ التي جاءت في سياق الحديث عن صيد البحر ولم تأت في سياق الحديث عن صيد البر؟
رأينا: نحن نظن أن فهماً صحيحاً لهذا التركيب غير المتوازن بين سياق الحديث عن صيد البر من جهة وصيد البحر من جهة أخرى ربما (نحن نفتري القول) تحل إشكالية عظيمة في الفكر الديني تخص كل ما يؤكل وما لا يؤكل من الكائنات الحية، ولكن كيف؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن كلمة الصيد التي وردت في هذه الآية هي المفتاح في هذا السياق القرآني الكريم، لأنها تدل على الفعل الذي نقوم به في البر والبحر، ففعل الصيد يقع في الحالتين في البحر وفي البر، ولكن في حين أنه يقع في البحر على كل ما فيه من كائنات حية، لا يقع فعل الصيد على كل الكائنات الحية المتواجدة في البر، فالصيد يقع على الفريسة التي يتم اصطيادها، لذا نحن نفتري الظن أن كل ما في البحر يمكن أن يكون فريسة، ولكن ليس كل ما في البر يمكن أن يكون فريسة، ولكن كيف؟
رأينا: لو تأملنا ما يجري في البحر لوجدنا أن الكائنات الموجودة في البحر تتغذى على بعضها البعض، فهناك الكائن المفترس (كالحوت مثلاً) وهناك الفريسة (كبقية الأسماك)، فالأسماك في البحر هي – دون أدنى شك- طعام للحيتان، ولكن العكس ليس صحيحاً، فالحيتان (مادامت حية) ليست طعاماً للأسماك الصغيرة، أليس كذلك؟ وهنا يأتي منطقنا الذي نحاول تسويقه على النحو التالي: لقد أحل الله لنا الفريسة والمفترس في البحر، وهو ما يمكن أن نفهمه نحن من عبارة (صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)، فالآكل والمأكول من كائنات البحر يمكن أن نأكله.
ولكن الصورة ليست كذلك في البرية، حيث تكون بعض الكائنات الحية فريسة لغيرها ولكنها لا تفترس غيرها، فالغزال لا يفترس الأسد، ولكن الأسد يفترس الغزال، وهنا يأتي القانون الإلهي –كما نزعم- على نحو أن الله قد أحل لنا صيد البر فقط (أي الفريسة التي يمكن اصطيادها) ولكنّه لم يحل لنا طعامه، فالفريسة تكون طعاماً لحيوان مفترس (يقوم هو أيضاً كما نقوم نحن بفعل الصيد في البرية)، فنحن البشر وتلك الكائنات الحية المفترسة نبحث في البرية عن فريسة لنصطادها، لتكون طعاما لنا وطعاما لهم، والفائز بالجائزة هو من يسبق إليها[8] ، فالله لم يحل لنا من تكون تلك الفريسة طعاماً له (أي الحيوان المفترس كالأسد والنمر ونحوها)، ولكنه أحل لنا فريستها التي يمكن اصطيادها فقط، لذا جاء قول الحق على نحو (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)، فما أن نفرغ من الإحرام حتى يصبح الصيد (أي الفريسة من تلك الكائنات) حلالا أكله، ولكن لا يجوز أن نأكل ما كانت تلك الفريسة طعاما له. ولهذا ربما تصبح الصورة على نحو الافتراء التالي: لا يجوز أكل المفترس من الكائنات البرية لأنها ليست من النعم.
فنحن لا نأكل الكلب مثلاً لأنه ليس صيداً ولكن الصيد طعام له، فهو يقوم بفعل الصيد، وكذلك الحال بالنسبة للقطة (الهرة)، والأسد، والنمر، ونحوها. ولكن هذا لا ينطبق على الأرنب أو الغزال أو الحمار الوحشي ونحوها، فهذه كائنات يمكن أن تصطاد ولكنها لا تفترس غيرها، فغيرها من الكائنات الحية ليست طعاما لها. والله أعلم.
إن هذا الافتراض يقودنا على الفور للتفريق بين مفردتين قرآنيتين وردتا عند الحديث عن الطعام (حلاله وحرامه) وهما مفردتا "الأنعام" والنعم. لنطرح التساؤل التالي: ما الفرق بين الأنعام والنعم؟
جواب: مادام أن منهجيتنا تنبني على الافتراض القائل بأن الاختلاف في اللفظ يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في المعني، فلابد من الوصول إل النتيجة التي لا مفر منها والتي تتلخص بأن الأنعام شيء والنعم شيء آخر، ولا يجوز الخلط بينهما.
الدليل
جاء الحديث عن "النعم" على وجه الخصوص في الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن قتل الصيد وقت الإحرام في الحج:
المائدة ٩٥
ونحن إذ نقرأ هذه الآية الكريمة لنستغرب (ربما لجهلنا) أن تكون فتوى علماء المسلمين لمن قام بفعل الصيد وهو في حالة الإحرام أن يقوم بذبح شيء من الأنعام كالماعز أو الضأن أو البقر أو الإبل ككفارة عن ما فعل، فالآية الكريمة تدل بما لا لبس فيه أن الجزاء هو من مثل ما قتل من "النعم" (فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وليس من الأنعام، فمادام أن النعم هي المقتولة التي تم اصطيادها، فكيف تكون الكفارة من الأنعام التي تكون مملوكة؟ أليست الكفارة من مثل ما قتل من النعم؟ فهل يمكن أن يعود الحاج المعتمر ببقرة أو ماعز أو شيء من الضأن أو الإبل ليدعي أنه قام باصطياده؟ فهل تصطاد تلك الكائنات (أي الأنعام) اصطياداً؟ من يدري!!!
إن مراد القول هنا هو أن "النعم" ليست "أنعاماً" لأن النعم يتم اصطيادها اصطياداً، ولكن الأنعام بالمقابل فهي حيوانات لا تصطاد لأنها مملوكة:
يس ﴿٧١﴾
وهي كائنات قد ذللت ويتم استخدامها في الركوب، فلا تتواجد في البرية:
يس ﴿٧٢﴾
وبالإضافة إلى أنها كائنات يؤكل منها، فهي كائنات ننتفع بها ونشرب لبنها (أو حليبها كما يرغب أهل الشام أن يسموه):
يس ﴿٧٣﴾[9]
ثانياً، لو دققنا بالآية الكريمة جيداً لوجدنا أن الكفارة تكون بمثل ما قتل من النعم، فأنت إن اصطدت شيئاً من البرية فكفارته بمثله، فلو اصطدت أرنباً فكفارته بـ "مثل الأرنب"، وإن أنت اصطدت غزالاً فكفارته بـ "مثل الغزال"، وإن أنت اصطدت حماراً وحشياً، فكفارته بـ "مثل الحمار الوحشي"، وهكذا، فهل يعقل أن تصطاد عصفوراً لتكون كفارته من الضأن أو الماعز أو البقر أو الإبل؟ فكيف يتم ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الكفارة تكون على نحول "مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ"، وهذا – بكل تأكيد- لا يكون باصطياد نعما أخرى مثل التي قتلها المحرم لأن الحاج لا زال في مرحلة الإحرام، فكيف به أن يقوم بفعل القتل مرة أخرى، فإن هو فعل، فهذا يعني أنه يقوم بالاصطياد مرة أخرى وبالتالي الوقوع في المحظور من جديد، وهكذا. لذا نحن نفتري الظن أن الكفارة تكون بدفع قيمة المثل كما يحكم به ذوا عدل "فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ"، أي إن قام الحاج المحرم باصطياد أرنب بري مثلاً، فإن كفارة ذلك – في رأينا- لا تكون بأن يقوم باصطياد أرنب مثله، ولكن تكون بأن يقدر ذوا العدل قيمة ذلك الأرنب تقديرا (ويكون ذلك بالنقد أو بالطعام) يتم دفعه هدياً بالغ الكعبة أو لإطعام المساكين (أو الصيام إن تعذر دفع المثل). ولو كانت الكفارة بقتل شيء من الأنعام (الماعز والضأن والبقر والإبل) لما كان هناك حاجة لتدخل ذوي عدل منا للقيام بعملية الحسبة.
والحكمة من ذلك - كما نظنها - تتمثل في أن تلك الثروة البرية (النعم) وإن لم تكن ملكية فردية لشخص بعينه إلا أنها ملكية خاصة لأهل تلك الديار التي يمر بها الحاج المحرم، ومادام أن الحجاج يأتون من كل فج عميق، فليس لهم الحق في التعدي على ممتلكات الآخرين، لذا إن قام الحاج المحرم بقتل شيء من تلك النعم، فعليه أن يدفع تعويضاً لأهل تلك المنطقة لأنه تعدّى على ممتلكاتهم، وخاصة لفقرائهم الذين غالباً ما يعتاشون على ما تجني أيديهم ورماحهم لتوفير قوتهم وقوت عيالهم من تلك النعم.
ولكن - بالمقابل- نجد الرخصة بالنسبة لصيد البحر مفتوحة (حتى وقت الإحرام) وذلك لأنّ البحر في رأينا- ليس ملكية فردية لأحد، وهو ليس ملكية خاصة لأهل منطقة معينة، وإنما هو ملكية عامة للجميع، لذا عندما تقوم أنت باصطياد شيء من البحر، فأنت لا تعتدي على ملكية الآخرين، والله أعلم.
الطيور
بعد تدبرنا لبعض آيات الكتاب الكريم، أصبح لزاماً أن نتفكر بماهية الطير كما ترد في كتاب الله، لا كما تعودنا على فهمه من حياتنا وثقافتنا اليومية، ونزعم الظن أننا استطعنا الخروج بالاستنباط التالي الذي هو أيضاً من عند أنفسنا: هناك نوعان من الطير وهما:
- طيور تطير بجناحيها
- طيور لا تطير بجناحيها
الدليل
لنمعن التفكير في الآية الكريمة التالية:
ما الذي يمكن أن تستنبطه- عزيزي القارئ- من هذه الآية الكريم بالنسبة للطير؟ هل الطير موجودة في السماء؟ هل الطير موجودة في الأرض؟
رأينا، كلا وألف كلا، لو كانت الطير من مخلوقات الأرض أو من مخلوقات السماء لما كان هناك حاجة أن يكون هناك تكملة للآية الكريمة ولربما جاءت على النحو التالي:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿٤١﴾
ولكن لمّا كانت الطير مخلوقات ليست أرضية وليست سماوية كان لزاماً أن يأتي ذكرها في الآية الكريمة لتكون مشمولة بخطاب التسبيح:
فالمسبحون لـ لله هم (1) من في السموات و (2) من في الأرض و(3) الطير
نتيجة: لابد من التفريق بين ثلاث كينونات حسب مكان تواجدها:
- مخلوقات متواجدة على الأرض
- مخلوقات متواجدة في السماء
- مخلوقات متواجدة في "جو السماء" وهي الطير موضوع حديثنا هنا.
وهذا الزعم ينقلنا على الفور إلى الغوص في ماهية تلك الطيور كما ترد في الآية الكريمة التالية:
الأنعام ٣٨
فالدواب التي على الأرض هي بنص الآية الكريمة أمم أمثالنا، ولكن هناك – حسب صريح الآية نفسها- أمة أخرى مثلنا، ولكنها غير متواجدة على الأرض: إنها الطير التي تطير بجناحيها. ولكن الاستنباط الذي لابد من الخروج به أيضاً من هذه الآية الكريمة هو الإيحاء لنا أن للتفريق بين الطير التي تطير بجناحيها (والتي نظن أنها متواجدة في جو السماء) والطير التي لا تطير بجناحيها (والتي نظن أنها موجودة على الأرض).
فالطير التي لا تطير بجناحيها ومتواجدة على الأرض تقع في –حسب ظننا- ضمن فئة الدواب، وبشكل أكثر دقة فهي من فصيلة النعم التي يمكن أن تصطاد اصطياداً:
المائدة ٩٥
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الطير المتواجدة في جو السماء ليست من النعم وبالتالي لا يجوز اصطيادها وأكلها. وهذا ما سنحاول الخوض فيه في الصفحات التالية
باب الطيور التي تطير بجناحيها
نتيجة: لو أمعنا النظر في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن خصائص تلك الطير تتمثل في أنها: (1) متواجدة فوقنا، وهي (2) من الصافات، وهي (3) ممن يقبضن، وهي (4) ممن ما يمسكهن إلا الله (الرحمن)، وهي (5) بلا شك ممن قد علم صلاته وتسبيحه كما في الآية الكريمة التالية:
وهي (6) بلا شك تقع ضمن نطاق الكائنات المسخرة كما في الآية الكريمة التالية:
لذا لابد من الخوض في كل هذه الصفات للخروج باستنباطات (نسأل الله أن تكون) صحيحة حول ماهية هذه الكائنات.
1. الطير فوقنا
أي ما بين السماء والأرض. فالله أكد في أكثر من موضع على ما بين السماء والأرض:
المائدة ١٧
المائدة ١٨
الحجر ٨٥
مريم ٦٥
طه ٦
الأنبياء ١٦
الفرقان ٥٩
الشعراء ٢٤
الروم ٨
السجدة ٤
الصافات ٥
ص ١٠
ص ٢٧
ص ٦٦
الزخرف ٨٥
الدخان ٧
الدخان ٣٨
الأحقاف ٣
ق ٣٨
النبأ ٣٧
نتيجة: لابد من التفريق بين ثلاث كينونات حسب مكان تواجدها:
- مخلوقات متواجدة على الأرض
- مخلوقات متواجدة في السماء
- مخلوقات متواجدة في "جو السماء" وهي الطير موضوع حديثنا هنا.
الخاتمة
ناقشت الدراسة الحالية جدلية التحريم في الأطعمة من المنظور القرآني باستخدام أدوات النظرية اللغوية، وخلصت إلى أن الحكمة الأولى من التحريم كانت تتمثل بأن لا يحصل للإنسان السوء (كما كان الحال في تحريم الشجرة على آدم وزوجه)، وحرمت بعد ذلك بعض الطيبات بسبب ما أحدث الإنسان من الظلم (كما كان الحال في تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل)، وحصل في فترة زمنية محددة أن عاقب الله الذين اعتدوا في السبت من بني إسرائيل بأن جعلهم قردة وخنازير فاختلطت الدماء البشرية بدماء الخنازير فانتقل الرجس من تلك الفئة من الناس إلى الخنازير فأصبحت- حسب النص القرآني- رجساً، وتولدت بسبب ذلك صلة قرابة بين الناس من جهة والخنازير من جهة أخرى، ولما أصبح من المتعذر التمييز بين الاثنين جاء التأكيد القرآني المتكرر على حرمة هذا النوع من الأطعمة على وجه التحديد، أما الأنواع الأخرى من الحيوانات فتصنف - حسب النص القرآني- إلى دواب وأنعام، وقد أحل الله لنا الأنعام ولم يحل لنا الدواب، وقد قرأنا في النصوص القرآنية أنّ الأنعام لها قلوب لا تعقل بها ولها آذان لا تسمع بها ولها أعين لا تبصر بها، لذا فلا ضير أن تذبح وتؤكل، فهي بذلك كالشجرة التي تهتز عندما تقطف منها ثمرة لكنك لا تشعر بالذنب أنك قد اعتديت عليها، أما حرمة الدواب فقد جاءت بسبب أنّ تلك المخلوقات هي أمم أمثالنا، فهي محاسبة على أعمالها ومكلفة بالعبادة، لذا فإنك إن قمت بقتلها وأكلت منها فلا بد أنك تشعر بالذنب لأنك قد اعتديت عليها، ولما كانت الأنعام غير مكلّفة وقد خلقها الله فقط ليستفيد منها الإنسان، كانت النتيجة على النحو التالي: أكل الإنسان لحمها وشرب حليبها واستفاد من أصوافها وأوبارها وأشعارها، فكانت كلها طيبة وذلك لأن الله خلقها بيده وذللها لنا للاستفادة منها في كل شيء. فكانت القاعدة الذهبية التي نحاول الترويج لها على نحو: نأكل لحوم الحيوانات التي نشرب حليبها، لذا فإننا نسأل كل من يأكل لحم الخنزير مثلاً سؤالاً بسيطاً: إذا كنت لا تجد ضيراً في أن تأكل من لحم الخنزير، فما الذي يمنعك عن شرب حليبه؟!
وحاولنا في الجزء الثاني من هذه المقالة التفريق بين الأنعام والنعم كـ كينونتين مختلفتين، فزعمنا الظن أن الأنعام هي فقط ثمانية أزواج أنزلت إلينا إنزالا، وهي حيوانات مملوكة لا يجوز الاعتداء عليها بالصيد، بينما النعم –بالمقابل- هي حيوانات البر والبحر التي تكون هدفاً للصيد لأنها غير مملوكة ملكية فردية. وحاولنا التمييز بين صيد البحر وطعامه من جهة وصيد البر من جهة أخرى وانعكاسات هذه الافتراءات التي نقدمها من عند أنفسنا على الحاج المحرم.
وفي الجزء الثالث والأخير تعرضنا لقضية الطير، فحاولنا التميز بين الطير الذي يطير بجناحيه، والذي هو أمم أمثالنا، والطير الذي لا يطير بجناحيه وإنما يسعى على الأرض، وزعمنا القول بأنه في حين أن النوع الأول أمم أمثالنا فهو مسخر لنا، لكن لا يحق لنا أن نعتدي عليه بالأكل، ولكن الطير الذي يسعى على الأرض فهو ليس أمم أمثالنا، وإنما كائنات مذلّلة لنا نستطيع أن نصطادها وننتفع منها بالأكل. هذا والله أعلم.
REFERENCES
Bardovi-Harlig, K. (1983). “Pronouns: When ‘Given’ and ‘New’ Coincide.” In A. Chukerman, M. Marks, & J. F. Richardson (eds.). Papers from the Nineteenth Regional Meeting. Chicago: Chicago Linguistic Society.
Wilson, D. (1998). Discourse, coherence and relevance: a reply to Rachel Giora. Journal of Pragmatics 29, 57-74.
الهوامش
^ [1] لمزيد من التفصيل في هذا الباب انظر مقالتنا تحت عنوان: أين كانت جنة آدم؟
^ [2] لاحظ عزيزي القارئ كيف يرد ذكر الخيل المسومة منفصلة عن الأنعام، وهذا دليل واضح جداً أن الخيل المسومة ليست من الإنعام... للاستطراد في هذا الموضوع ندعو القارئ الكريم إلى قراءة مقالتنا تحت عنوان جدلية الذكر والأنثى.
^ [3] لاحظ عزيزي القارئ كيف تبين هذه الآيات أن الخيل والبغال والحمير وإن تقاطعت مع الأنعام في بعض الاستخدامات إلاّ أنها ليست من فصيلتها بدليل استقلاليتها في الذكر (الآية 8) عن الأنعام (الآيات 5-7).
^ [4] فإذا كانت الخيل والبغال والحمير من الدواب، فإن ذلك يدلنا على أن الدواب بمجملها لا تقع ضمن متاع الحياة الدنيا، ولكن ربما يكون بعضها جزءاً من متاع الحياة الدنيا (كالخيل والبغال والحمير) ولا يكون غالبيتها كذلك (كبقية الدواب).
^ [5] أو الحليب كما يحب أن يسميه أهل بلاد الشام وإن كانت التسمية الحقيقية له هي اللبن، فما يخرج من بطون الأنعام من بين فرث ودم كشراب سائغ للشاربين هو لبن في كتاب الله، والعرب يقولون حلبت الناقة لبناً وليست حلبت حليباً كما قد يخطئ البعض.
^ [6] فهل سننتظر حتى يفاجئنا أحد علماء الغرب ليفرق بين نوعين من الحيوانات بعد إجراء التجارب المخبرية والميدانية ليخلص أنّ الأنعام تختلف عن الدواب، وعندها ننبري لنتغنى بما جاء في كتاب الله من علم سبق المعرفة البشرية؟ لم لا نكون نحن المبادرين بمثل هذه الحقائق العلمية ما دامت أصولها مثبتة في كتاب الله؟
^ [7] لمزيد من التوضيح انظر مقالتنا: أين كانت جنة آدم؟
^ [8] وربما لهذا – حسب رأي صديقي الدكتور هيثم العزام- نشأت العداوة بيننا وبينهم، فنحن جميعاً نتنازع على الحصول على الغنيمة نفسها، فتلك الكائنات تكرهنا (نحن البشر) لأننا ننازعها في رزقها.
^ [9] ولا ننسى كذلك أن الأنعام كما ذكرنا سابقاً هي قد خلقت بأيدي الرحمن وأنزلها من السماء إنزالا...
^ [10] وأظن أنها طريقة الحركة التي يقوم بها الحاج أو المعتمر بين الصفا والمروة.