لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه2؟







لقد كان جلُّ البحث في الجزء الأول من هذه المقالة منصباً حول الآيات الكريمة التالية:


وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ هود (78)


قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ الحجر (71)


محاولين - بطريقة التحليل السياقي للنص القرآني- ايجاد إجابة أفضل مما هو متوافر في كتب التفاسير حول سؤال واحد وهو: لماذا قدمّ نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه يوم أن جاءه قومه يهرعون إليه؟


وقد حاولنا تفنيد بعض الإدعاءات التي ساقها أهل العلم لتبرير تفسيراتهم التي حاولنا إلقاء ظلال الشك عليها وذلك بطرح جملة من الأسئلة حول تفاصيل القصة كما يفصّلها كتاب الله. وقد خلصنا إلى جملة من الإفترات من عند أنفسنا نذكر منها:


1. لم يكن لوط سيضحي ببناته بهذه السهولة لو كان جازماً أمره بأن هؤلاء البنات هن من صلبه


2. لم يكن لوط ليضحي بالبنات (حتى لو كن من غير صلبه) إلا لحاجة وحكمة عظيمة في نفسه، فهو بكل بساطة لن يزر وازرة وزر أخرى، وهو على علم بأن كل نفس بما كسبت رهينة. فهو لن يضحي بالبنات لذنب اقترفته والدتهن.


3. لم يكن لوط ليضحي بالبنات وقد أخبرته رسل ربه من ذي قبل بحتمية هلاك القوم أجمعين لولا حاجة في نفسه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، فهو لم يكن ليترك القوم يذهبوا بالبنات مادام أن الهلاك مصيرهم جميعاً


4. لم يكن لوط ليضحي بالبنات لولا يقينه بأن القوم لن يقبلوا مبدأ المبادلة، فلوط مأمور بأن يسر بجميع أهله بقطع من الليل، وهو يعلم علم اليقين أنهم جميعاً من الناجين باستثناء امرأته


5. أن لوط لم يقدم بناته للقوم للزواج بهن وذلك لأن عدد بناته لم يكن يساوي عدد القوم، فلقد جاءه القوم يهرعون إليه ولا أظن أن الكثير منهم سيقبل العودة خالي الوفاض.


(للتفصيل انظر مقالتنا السابقة لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه1؟)








وقد كان افترائنا بأن التعليل الحقيقي لما حصل يمكن الوصول إليه إن نحن جهدنا في الالتزام بالنص القرآني كما هو بلا زيادة ولا نقصان، (والابتعاد عن تحريفات يهود)، وكان نتيجة هذا المنهج، الإفتراء المتمثل في أنّ مفتاح الإجابة على كل التساؤلات التي طرحت حول القصة بأكملها يكمن في كلمة واحدة وهي الخيانة: لقد كانت امرأة لوط خائنة لنبي الله بفرجها، فلم نستثني بداية احتمالية (نقول احتمالية لا أكثر) أن تكون بنات لوط اللواتي قدّمهن للقوم لسن من صلبه.


ولكن لا يجب أن يفهم من كلامنا هذا أن لوطاً كان سيضحي باولئك البنات بتلك السهولة أو من باب الانتقام، أو ليتخلص منهن، أو ... أو...، فتلك ظنون سيئة لا يمكن أن تكون من أخلاق الأنبياء.


لكننا نظن أن نبي الله لوط كان يعلم يقيناً أن امرأته كانت خائنة الفرج، لذا لا نظن أنه قد استبعد احتمالية أن تكون البنات لسن من صلبه، وقد ترك أمر ذلك إلى ربه (فالله قد وعده بنجاة أهله جميعاً إلا امرأته)، فأمر امرأته محسوم من ذي قبل، وهو ينتظر ما سيحل بالبقية الباقية من أهله بعد نزول العذاب، فإن هم نجوا فهم لا شك من أهله (فذاك وعد الله له)، ومن يهلك منهم فهو بكل تأكيد ليس من أهله[1]، فالرجل قد فوّض الأمر إلى ربه العالم بكل شيء الذي قال له:


وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ العنكبوت (33)


لكن لوط أقدم على التضحية بهن بدلاً من ضيوفه لحاجة في نفسه، نسأل الله أن نكون من القليل الذين يعلمون تلك الحاجة، وسنحاول في الصفحات التالية تفصيل القصة كما نفهمها نحن من النص القرآني. سأئلين الله أن يهدينا سواء السبيل، طالبين المغفرة من ربنا إن نحن افترينا عليه الكذب أو إن نحن قلنا عليه ما ليس لنا بحق، وملتمسين العذر من عند السادة القراء إن نحن أخطأنا (فما نقوله لا يخرج عن نطاق الظن والإجتهاد، ولا يمكن أن يصل إلى درجة العلم اليقيني)


















أما بعد،


سنحاول في هذا الجزء من البحث التصدي لاستنباط المعاني حول قصة لوط مع بناته التي يمكن أن يحتملها النص القرآني نفسه، ويتمحور كلامنا حول الظن بان كلام لوط مع قومه – كما ذكرنا سابقاً- يكتنفه الغموض، فهو عبارة عن شيفرة من الرموز تحتاج إلى النبش في تركيبها. ولنبدأ بقوله تعالى:






وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)


فلقد جاء أهل المدينة "يستبشرون"، أليس كذلك؟ فما معنى أن يأتي أهل المدينة يستبشرون؟


إننا نظن أن البشرى في السياق القرآني تعني ورود خبر:


وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)


سواء كان ذلك خيراً أم شرا.:


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ التوبة (124)


وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الزمر (45)


أما في حالة قوم لوط فقد كان خبراً لما سيحصل لاحقاً، لذا فهم "يستبشرون"، إن ما يهمنا من الأمر هنا هو ورود خبر للقوم بوجود الضيوف في بيت لوط، فهم لم يأتوا عن طريق الصدفة أو التخمين، ولكنهم جاءوا متيقنين من وجود الضيوف في بيت لوط.


نتيجة: لقد سبقت رسل الله إلى بيت لوط، ومن ثم حضر القوم بعد أن علموا خبر وجود ضيوف في بيت لوط


ولم يكن الخبر خاصاً باناس معينين، بل كان خبراً في المدينة كلها، فالذين جاءوا هم أهل المدينة، وقد جاء القوم يهرعون إليه، طالبين الظفر بالغنيمة:


وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) الحجر


وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)


ولو تدبرنا النص القرآني في هذه الآيات الكريمة جيداً لوجدنا أن أول ردة فعل للوط كانت عرضه مبدأ المبادلة:


قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي


وكان السبب في نظر لوط هو أن ذلك من باب الطهارة:


هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ


والنتيجة ستكون:


1. تقوى الله (فَاتَّقُوا اللَّهَ)


2. حفظ ماء وجه الرجل مع ضيوفه (وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)


وينهي لوط كلامه باستفسار عن رجل رشيد من بين القوم:


أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ


وهذا يدلنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الهارعين كانوا رجالاً، ولوط يبحث عن رجل رشيد منهم يستطيع أن يفهم الرسالة، وكان ذلك جل خطاب لوط.


نتيجة: لوط يبحث عن رجل رشيد من القوم


إن أكثر الذي استوقفنا وأثار دافعيتنا في البحث هو رد القوم على كلام لوط الذي جاء على النحو التالي:


قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)


فمما لا شك فيه أن "الرجل الرشيد" الذي كان يطلبه لوط هو – في نظرنا- من انبرى من بين القوم ليرد على كلام نوح، فهو قد قال هذا الكلام متحدثاً باسمه وبالنيابة عن كل من حظر من القوم (ويمكن أن يكون هناك أكثر من رجل انبرى ليرد على كلام لوط، فقال كل منهم جزء من الكلام الذي سيأتي بعد قليل على لسانهم)، ونحن مدعوون الآن لتدبر رد القوم (على لسان خطيبهم أو خطبائهم أو الرجل الرشيد الذي كان يبحث عنه لوط من بين القوم) بشكل تفصيلي، لأننا نظن أن فيه رسائل كثيرة ودقيقة يجب الوقوف عندها والتفكر فيها.






الرسالة الأولى: لَقَدْ عَلِمْتَ


يوكد القوم حصول العلم عند لوط بشيء معين، فيبادروه بالقول " لَقَدْ عَلِمْتَ"، ويكملون حديثهم بالقول "مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ"


فنحن هنا نثير التساؤل التالي: من أين جاء العلم (أقول العلم) للوط بأن ليس للقوم حق في بناته؟ فلماذا لم يأتي رد القوم على نحو "مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ" وكفى، دون وجود عبارة " لَقَدْ عَلِمْتَ" في بداية الخطاب؟


إنّ أبسط ما يمكن أن نستنبطه من هذا الخطاب هو وجود علم (حسب قولهم) عند لوط بأن لا حق للقوم في بناته؟ فمن أين جاء ذلك العلم للوط؟ أو كيف تحصّل العلم للوط بذلك الخبر (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ).






الرسالة الثانية: "مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ"


فالتساؤل الذي نود إثارته حول هذه العبارة القرآنية هو: لم لا يكون للقوم حق في بنات لوط؟ ومتى لا يكون لقوم بأكملهم حق في بنات من أهل المدينة؟ فالذين جاءوا هارعين هم رجال ومن أهل المدينة، فمتى – نحن نسأل- لا يكون للرجال حق في الزواج (أو نكاح) بعض النساء من المدينة نفسها؟






الرسالة الثالثة: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ


فما الذي يريده القوم ويعلمه لوط تمام العلم؟






إن تدبر هذه الرسائل التي أراد القوم أن يوصلوها إلى لوط في ذلك الموقف تتطلب منّا التدبر والتفكر، ولنبدأ بتفصيل هذه الرسائل بشكل مقلوب، منطلقين في تعليقنا من الرسالة الثالثة: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ.


فما الذي كان يريده القوم ويعلمه لوط تمام العلم؟


لقد كانت دعوة لوط للقوم منصبّة (بعد أن يقبلوا أمر التوحيد) على تركهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين:


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) الأعراف


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) النمل


أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ


(166) الشعراء


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ۖ


فالقوم إذاً كانوا يمارسون اللواط ويذرون ما خلق الله لهم من أزواجهم[2]، فذاك إذاً ما كان يريده القوم ويعلمه لوط تمام العلم.


وقد جاءت ردة فعل القوم على دعوة لوط لهم لترك تلك الفاحشة على ثلاث مراحل:


1. التهديد له بإخراجه من المدينة:


قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ الشعراء (167)






2. طلب العذاب كدليل على صدق رسالته:


فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)






3. الأمر بإخراج لوط وأهله من المدينة:


وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)


السؤال: ما دام أن لوطاً كان يعلم طلب القوم، ويعلم إصرارهم على فعل ذلك النوع من الفواحش، ألا يكون من باب الغرابة أن يطلب منهم أن يأخذوا بناته بدلاً من الغلمان؟!


إننا نظن أن لوطاً كان على يقين بأن القوم لن يقبلوا مبدأ المبادلة لسببين، أولهما إصرارهما على فعل ذلك النوع من الفاحشة، وثانيهما لأنهم يعلمون (كما يعلم لوط نفسه) بأن لا حق لهم في بنات لوط.


أما بالنسبة للسبب الأول فذاك لا يحتاج إلى كثير عناء لتسويقه للقارىء والاقتناع به، فالقوم قد جبلوا أنفسهم على حب ذاك النوع من الفاحشة، وهم على غير استعداد للتخلي عنها، والنصوص القرآنية التي تؤكد تعلقهم بذاك النوع من الفواحش كثيرة في كتاب الله.






أما الجديد في طرحنا هذا فيتمثل في تفسيرنا للرسالة الأولى والرسالة الثانية التي أراد القوم إيصالها للوط في ذلك الموقف والمتمثلة في قولهم "قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ"، فقد ذكرنا أن هذا الكلام يحمل في ثناياه رسالتين اثنتين وهما:


1. عدم وجود حق للقوم ببنات لوط (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)


2. علم لوط في أن ليس للقوم حق في بناته. (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)


وهذا يدعونا إلى طرح سؤالين اثنين وهما:


1. لِمَ ليس للقوم حق في بنات لوط؟ ما الذي يمنعهم أن يكون لهم حق في بنات لوط على وجه التحديد؟


2. كيف علم لوط بأن ليس للقوم حق في بناته؟ فهم قد خاطبوه بصيغة أن له علم بذلك (لَقَدْ عَلِمْتَ)، فلم يكذّب قولهم ذلك بالقول بأن ليس له علم بذلك، فكان سكوته على قولهم تأكيد من طرفه بأن له علم بالأمر.


جواب السؤال الأول: لِمَ لا يكون للقوم حق في بنات لوط على وجه التحديد حق (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ


إننا نقدم الإفتراء التالي كمحاولة للإجابة على هذا التساؤل: لا يكون للرجل حق في أي امرأة إذا كانت من محارمه.


فالرجل (أي) رجل) له الحق في نكاح المرأة (أي مرأة) ما دامت ليست من محارمه. ولا يصبح للرجل حق في نكاح المرأة إن كانت من محارمه، فلو دققنا التفكر في النص القرآني لوجدنا أن القوم لم ينفوا حاجتهم أو رغبتهم أو قدرتهم على نكاح بنات لوط، ولكنهم نفوا حقهم في ذلك. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه:


لم لا يوجد للقوم حق في نكاح بنات لوط


الجواب: إنها الخيانة، ولكن كيف؟


لقد ذكرنا سابقاً أن امرأة لوط خانت الرجل بفرجها، ولكن مع من كانت تلك الخيانة؟


لا شك أن ذلك كان مع رجال من المدينة، وبعضهم ممن جاءوا يطلب الغلمان مع من جاء من الهارعين من أهل المدينة، وهم من كان لوط يعنيهم بقوله "أليس منكم رجل رشيد"، وهم – بلا شك- من تصدوا للوط بالكلام وقالوا "ما لنا في بناتك من حق".


فالذي كان قد جامع امرأة لوط من ذي قبل، لا يمكن أن يتجرأ على الزواج بذرية من تلك المرأة لخوفه أن تكون تلك الذرية من صلبه، ولما كانت خيانة امرأة لوط متكررة وربما مع أكثر من شخص، ولما كانت قد انجبت أكثر من فتاة، كان من الصعب (وربما من المستحيل) عليهم معرفة الأب الحقيقي لكل واحدة من البنات، أو حتى التكهن بذلك.


ويجدر الاشارة إلى أن القوم لم يكونوا ممن يقعون في فاحشة نكاح المحارم، فالقوم لا شك كانوا لا يتقبلون فكرة أن يقع الرجل في زنا المحارم، فلقد كانوا متزوجين (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، لذا كان من غير الممكن أن يجزموا أمرهم في نكاح بنات لوط، فهم بمثل هذا الكلام يريدون أن تصل رسالتهم إلى لوط واضحة: ويكأنهم يقولون يا لوط إنك تعلم قصتنا مع زوجتك، فنحن لا نستطيع أن نقبل مبدأ المبادلة لأنه ليس لنا في هؤلاء البنات من حق، فقد يكون بعض من في القوم والد احداهن، أو أخ الأخرى وهكذا.


ولم يقف القوم عند هذا الحد، بل يقولون للوط " قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ"، فهم بذلك يوجهون رسالة إلى لوط فحواها: إنك تعلم يا لوط أنه ليس لنا من حق في بناتك".


وهنا نثير التساؤل التالي: كيف بهم يؤكدون حصول العلم للوط بهذا الأمر؟ أي من أين علم لوط بأن ليس للقوم حق في نكاح بناته؟


رأينا: لقد حصل علم للوط من ذي قبل بأن ليس للقوم حق في بنات لوط. وبهذا الفهم نستطيع تصوير القصة على النحو التالي:


لوط يعلم حقيقة وطبيعة خيانة امرأته، فلا يستثن أن تكون بناته لسن من صلبه (فيسكت عن الأمر حتى لا يجرح شعور البنات، وليترك لربه أمر الفصل بشأنهن)، فيخاطب القوم بطريقة لا تخلو من التستتر على أمر جلل، ليوصل لهم رسالة واضحة بأنه على علم بكل ما كانوا يفعلونه مع امرأته، وأنه ليس من النوع الذي يمكن أن يستغفل في هذا الشأن، فيعرض عليهم مبدأ المبادلة بالقول "هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين" وهو يعلم أنهم لن يستطيعوا تقبل هذا المبدأ، وليأخذ اعترافاً حقيقياً من القوم باقترافهم الفاحشة مع امرأته، فهو لا شك قد سأل نفسه عن سر أن تكون امرأته على وجه التحديد من الهالكين (وأن لا تكون من الناجين)، فها هو يعلم السبب من تقدير الله لها بالهلاك:


فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ


فلا نجد أن لوطاً قد سأل ربه (أو أنه قد نادى ربه)، أو أنه قد جادل الملائكة بشأن امرأته، فلو كان لوط يعلم أن امرأته من الصالحين لما تردد أن يجادل الملائكة بشأنها (كما فعل إبراهيم بشأن لوط نفسه)، أو أن ينادي ربه بشأنها (كما فعل نوح بشأن ابنه أو كما فعل زكريا بشأن امرأته).


وما دام أن القوم لن يستطيعوا أن يقعوا بفاحشة زنا المحارم، فتلك فاحشة لا نجد لها ذكراً بين القوم، فهم لا يستطيعون أن يجزموا صحة نسب أولئك البنات ما داموا أنهم قد وقعوا في الفاحشة مع امرأة لوط من ذي قبل، فيردوا على لوط بما يشبه الألغاز التي لا يعلمها سوى المتحاورون بالقول:


" قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ،


ونحن على يقين بأن مثل هذا الرد لن يفوت لوطا مغزاه، فلقد فهم لوط الرسالة على الفور، الرسالة التي مضمونها بأن القوم لا يستطيعون قبول مبدأ المبادلة لأنهم لا حق لهم في بناته، فيزيدوا على ذلك القول "وإنك لتعلم ما نريد"، ويكأنهم يقولولون له: لا تحاول يا لوط أن تكون أذكى من اللازم، أو أن تحاول أن تصدنا عن ضيوفك بحيلتك هذه، فنحن نعلم أنك تعلم ما فعلنا مع امرأتك، لذا ليس لنا في بناتك على وجه التحديد حق، فدعنا لا نضيع الوقت في مثل هذا الجدل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولنركز على ما هم أهم بالنسبة لنا وهو " وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ".






كيف يمكن تفسير حوادث أخرى من هذا المنظور؟


إن علاقة الانبياء بأزواجهم كانت على الدوام واحدة من الألغاز التي يجب أن تفهم، ولكن كان السكوت عنها السمة الأبرز في الفكر الديني الذي غالباً ما نظر إليها من باب المحرمات التي لا يجب العبث بها، فقد كان تعلق الناس بأنبيائهم يثنيهم عن الخوض في تفاصيل حياتهم الخاصة، ولكن لما كانت تلك القصص مفصلة في كتاب الله، فإننا لا نجد ضيراً في تناولها، فوجودها في كتاب الله لم يكن عبثاً وإنما لحكمة بالغة، لا بد من الخوض فيها في محاولة لفهم سر طرحها في كتاب الله.


إن المبدأ الذي ننطلق منه يتمثل في الزعم بأن تلك القصص كانت سبباً (ونتيجة) لأحداث جسام في الفكر الديني، نحاول في الصفحات التالية التطرق إلى اثنتين من هذه الأحداث التي نظن أنها غيرت مجرى الأحداث على مر الزمن، وهما


1. اسكان إبراهيم عليه السلام من ذريته بواد غير ذي زرع


2. تغير اتجاه القبلة للمسلمين إلى البيت الحرام بعد أن كانوا يصلون باتجاه بيت المقدس في بداية الدعوة.






القضية الأولى: لماذا اسكن إبراهيم من ذريته بواد غير ذي زرع؟



إن الجرأة في طرح السؤال وتناول القضية من جوانبها المختلفة – لا شك- يساعد في النظر إلى القضية نفسها من زوايا جديدة ربما تسعف في خلق أفهام جديدة وربما مغايرة لما نشأ عليه الناس لقرون طويلة من تفسيرات لم تكن مرضية للباحثين عن الحقيقة. ونحن نتجرأ هنا (حتى لو أغضب هذا الكثيرين) لنطرح سؤالاً غاية في الخطورة وهو:


لماذا حمل إبراهيم زوجته وولده إسماعيل واسكنهم بواد غير ذي زرع؟


ظانين أنه لو فعل مثل هذه الفعلة رجل غير إبراهيم، لربما لن يسكت الناس عن توجيه التهم له، وربما لرفض الكثيرون مثل هذا التصرف تحت جميع الضروف والأحوال، خصوصاً إذا ما كنا نعلم أن الرجل كان متزوجاً باثنتين من النساء، يسكن واحدة مع طفلها في واد غير ذي زرع ويقفل راجعاً إلى فراش الأخرى التي تنتظره مع طفله الآخر، ولكن لما كان من قام بهذا العمل هو نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام، سكت الكثيرون ظانين أن الأمر لم يكن عبثاً، وبالرغم من أننا نتفق معهم في تصورهم هذا، إلا أننا لم نجد حتى الساعة تفسيراً مقنعاً يبرر هذا التصرف من نبي الله إبراهيم عليه السلام.


فلعل الغالبية المطلقة من علماء الإسلام قد غلّفوا تصرف نبي الله إبراهيم بالطابع العقائدي، ظانين (أو محاولين الإشارة إلى الإعتقاد) بأن إبراهيم قد فعل ذلك بدافع ديني، فنرد عليهم بالقول: ربما يكون الأمر على تلك الشاكلة، ولكننا لم نجد في كتاب الله إشارة واحدة بأن إبراهيم قد فعل ذلك بأمر من ربه (ومن يستطيع أن يدلنا على تلك الإشارة إن هو وجدها سنكون مدنين له وللقراء جميعاً بالاعتذار والإعتراف بالخطأ). فنحن لا زلنا نعتقد أن إبراهيم قد فعل ذلك من تلقاء نفسه، ولندرس السياق القرآني الذي جاء على لسان نبي الله إبراهيم نفسه في هذا السياق، علّنا نخرج ببعض الاستنباطات التي ربما ستشكل أرضية مشتركة للحوار الذي سيأتي بعد قليل بحول الله وتوفيقه.






أما بعد،


يقول الله في كتابه الكريم على لسان إبراهيم متحدثاً عن تلك القصة:


رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) إبراهيم 37-39


إن أول ما يمكن استنباطه من هذه الآيات الكريمة هو الاعتقاد اليقيني بأن إبراهيم هو من قام بذلك الفعل من تلقاء نفسه، وليس بأمر رباني، ويثبت هذا الظن قول الحق على لسان إبراهيم:


رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ


فإبراهيم هو من أسكن من ذريته في ذلك الواد، أليس كذلك؟


وقد كانت حجة إبراهيم من وراء فعلته تلك قوله:


رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ


وقد دعا لهم بشيئين اثنين:


- فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ


- وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ


ولكن هذا لا يثنينا عن طرح السؤال الكبير وهو: هل إقامة الصلاة في ذلك المكان سبب مقنع لأن يترك إبراهيم زوجته وولدها الصغير في ذلك الواد غير ذي الزرع حيث لا حياة ولا جار فيه ويقفل عائداً إلى موطنه الأول؟ وكيف تجرأ إبراهيم على تلك الفعلة؟


إننا نظن أن في الأمر سراً أعظم من ذلك بكثير، لا شك أن هناك سببا أكثر وجاهة هو ما دفع بنبي الله إبراهيم ليتجرأ على ترك زوجته وولدها في ذلك الواد المقفر، ويؤكد ظننا ذلك ما جاء في السياق القرآني نفسه، فإبراهيم بعد أن ترك زوجته وولده في ذلك المكان ودعا لهما بأن تهوي إليهم أفئدة من الناس ودعا لهما بالرزق أيضاً، لم يتوقف عند ذلك الحد، بل تابع كلامه بالقول:


رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)


إننا نظن أن السبب الذي قدّمه إبراهيم لتركه من ذريته بواد غير ذي زرع وصرح به وهو (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) يقع فقط في باب ما أعلن إبراهيم (وَمَا نُعْلِنُ)، ولكن هناك شيء أخفاه إبراهيم، ولم يتلفظ به صراحة (مَا نُخْفِي) - نظن أنه - السبب الأقوى الذي دفع بإبراهيم إلى تركه زوجته وطفله في ذلك المكان المقفر. والمدقق بالنص القرآن يجد أن ما أخفاه إبراهيم أهم مما أعلنه بدليل تقديمه ما أخفى على ما أعلن عند خطابه من ربه الذي يعلم السر وأخفى:


رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ


فإبراهيم لا ينقصه اليقين بأن ربه يعلم السر وأخفى، لذا تابع القول صراحة:


وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ


فهو إذاً لا يستطيع أن يخفي على ربه ما الله أعلم به من إبراهيم نفسه، وبناءً على ذلك فإننا نتصور أن الموقف كان على النحو التالي:


كان عند إبراهيم أكثر من سبب دفعه ليسكن من ذريته في ذلك الواد الذي لا زرع فيه، فأظهر بعضه وأخفى بعضه، فكان الذي أظهره يتمثل في رغبة إبراهيم أن يقيم نفر من ذريته الصلاة في ذلك المكان عند بيت الله المحرم:


رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ


ولكن كان هناك -لا شك لدينا- سبب آخر أخفاه إبراهيم في نفسه (ولم يعلنه) على الناس، ولكنه لم يستطع ألا أن يعترف به لربه، فكان على يقين بأن الله يعلمه، لأن الله لا يخفى عليه شيء:


رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)






ونحن هنا نحاول أن نبحث عن ذلك السبب الذي من أجله ترك إبراهيم من ذريته عند ذلك البيت الحرام حيث لم يكن هناك جار ولا زرع، ولم يعلنه على الملأ وإن كان قد أعترف به لربه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.










أما بعد،


افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن السبب الذي أخفاه إبراهيم يتمثل في علاقته بزوجاته، فالنساء كن على الدوام لاعباً اساسياً في تغيير مجرى أحداث التاريخ. وسنحاول في الصفحات القليلة التالية اثبات زعمنا هذا.






عودة على بدء: علاقة إبراهيم بــ لوط






كيف كانت علاقة إبراهيم بلوط؟



لعل الجميع لا يختلفون في أنّ لوطاً كان أول من آمن مع إبراهيم وصدّق دعوته، وجاء ذلك واضحاً بصريح اللفظ القرآني:


فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)


فبعد أن آمن لوط بدعوة إبراهيم هاجر معه من أرض العراق (كما يذكر التاريخ) إلى الأرض التي باركنا حولها (كما جاء في النص القرآني)[3]:


قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) الأنبياء


ولا شك أن إبراهيم ولوطاً هاجرا ولم يكونا قد رزقا بالذرية بعد، فإبراهيم قد رزق الذرية على الكبر:


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)


وبالرغم من أن الرجلين هاجرا معاً إلى الأرض التي بارك الله فيها، إلا أننا نجد القرآن الكريم يتحدث بعد ذلك بصريح اللفظ القرآني عن قوم إبراهيم وعن قوم لوط:


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) الحج


وهنا نجد أن لا مناص من طرح التساؤل التالي: كيف أصبح هناك قوم لإبراهيم يختلفون عن قوم لوط؟ أو بكلمات أخرى من هم قوم لوط؟ ومن هم قوم إبراهيم؟


لقد تطرقنا في مقالة سابقة لنا عن الفرق بين الفاظ وردت في القرآن الكريم مثل أهل، وآل، وقوم، وبني، وطائفة، وشيع، الخ، ونجد من الضروري التعرض لهذه الألفاظ هنا مرة أخرى لما قد تفيدنا في فهم الوقائع من جديد. ولنبدأ بمفردة الأهل.














من هم الأهل في السياق القرآني؟



لقد ذكرنا أن أهل الرجل هم عائلته الذين يسكنون معه (سواء قبل الزواج أو بعده)، فالمرأة قبل الزواج يكون أهلها عائلتها التي تنتسب لها بالعرق (والدها ووالدتها وأخوانها من الذكور والإناث وأحفاد والدها)، وكذلك بالنسبة للرجل (والده، وأمه وإخوانه من الذكور والإناث وأحفاد والده):


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا النساء (35)


وعندما تتزوج المرأة برجل ويكونون بيتاً جديداً (يكون لهم فيه ذرية جديدة) يصبح سكان ذلك البيت أهل لذرية جديدة، فأهل البيت هم سكانه:


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النور (27)


فالسكن والذرية هما – في رأينا- جزءان لا يتجزأن من معنى الأهل، فأهل المدينة هم سكانها:


فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)


وحتى أهل السفينة هم من يركب على ظهرها:


فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)


ولنرقب الإستخدام التالي الذي يؤيد ما ذهبنا إليه من معنى لمفردة الأهل، ففي حين يرد في كتاب الله أنّ لموسى أهل لا ترد مثل تلك العبارة لفرعون:


إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ النمل (7)


بينما يرد في كتاب الله عبارة آل موسى وآل فرعون:


وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ[4] تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ البقرة (248)


فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)


وترد عبارة بني إسرائيل بحق موسى ولا ترد لفرعون:


حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الأعراف (105)


بينما لفرعون ملاء وموسى لا ملاء له:


وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ يونس (88)


ولكن لفرعون قومه ولموسى قومه:


وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)


النتيجة: إنّ أهل الرجل هم من يسكنون معه في بيت واحد، وأهل المدينة يسكنون في مكان واحد، وأهل السفينة يركبون جميعاً على ظهرها (للتفصيل حول هذه القضية وللإجابة على استفسارات كثيرة بهذا الخصوص نرجوا قراءة مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى مع مراعاة تغيير مفردة زوجة إلى مفردة امرأة عند الحديث عن نوح ولوط وفرعون على وجه التحديد، لما تحصل لنا من فهم جديد للتفريق بين مفردة امرأة وزوجة في مقالتنا تحت عنوان ماذا ستفعل النساء في الجنة؟)


النتيجة: لقد كان للوط أهل (امرأة وذرية).






- القوم


أما ما يخص لفظة القوم في النص القرآني، فإننا نزعم أن لفظة "القوم" لها معناها الذي غالباً ما أخطأ الناس في فهمه، وذلك لأنهم أسقطوا ما يعلمون هم من عند أنفسهم على الفاظ القرآن دون دليل من الكتاب نفسه، فنحن نظن أن مفردة القوم غالباً ما جاءت مصاحبة لأنبياء الله، فهناك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم صالح وقوم إبراهيم وكذلك قوم لوط:


وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ هود (89)


فقوم النبي (أي نبي) لا تعني – برأينا- أهله ولا تعني بنيه ولا تعني آله ولا تعني طائفته ولا تعني ملائه ولا تعني شيعته[5]، بل هم مجمل الناس الذين أرسل إليهم ذلك النبي (حتى وإن لم يكن ينتسب إليهم في العرق والنسب):


وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ابراهيم (4)


ولنتذكر أنّ موسى نفسه قد أرسل (ليس فقط لبني إسرائيل كما يظن البعض خطأ) وإنما إلى قوم فرعون على وجه العموم:


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ الدخان (17)


اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَىٰ أَنْ تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19) النازعات 17-19


والأهم من ذلك هو: كيف بفرعون يترك رجلاً يصل إلى مرحلة الثراء العظيم إنْ كان هو من بني إسرائيل؟


إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)


ألم يكن بنو إسرائيل مستضعفين في الأرض؟


وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الشعراء (22)


نعم لقد كان قوم موسى (كما كان لكل نبي ورسول) هم مجمل الذين أرسل إليهم ذاك النبي، ولهذا يجب أن لا تفهم الآية التالية أنّ الذين آمنوا مع موسى هم فقط من بني إسرائيل:


فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ يونس (83)


وإلاّ لأصبح التضارب واضحاً مع قوله تعالى:


وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)


فحتى آل فرعون وملائه وشيعته هم من قوم موسى لأنه أرسل إليهم، وكلهم كانوا معنيين ومدعويين للإيمان برسالته،


لذا فعندما نتحدث عن قوم لوط يصبح لزاماً أن نفهم أن أهل المدينة التي استقر فيها لوط هم من أصبحوا قوم لوط الذي نزل بتلك الديار بعد أنْ هاجر إليها مع إبراهيم:


فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)


وعندما وقع العذاب وقع على أهل تلك القرية:


وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)


ولا شك انهم هم أنفسهم قوم لوط:


فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ  هود (70)


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) الحج


نتيجة: يميزالقرآن الكريم بين قوم لوط (الذين نزل عليهم العذاب) وقوم إبراهيم الذين لم ينزل عليهم ذلك


العذاب.


وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا كان هناك قوم للوط يختلف عن قوم إبراهيم وكلاهما هاجرا معاً إلى الأرض التي باركنا فيها:


قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) الأنبياء 68-71


الجواب: إن تلك الأرض التي بارك الله فيها كانت قرى كثيرة وليست قرية واحدة، والدليل على ذلك ما جاء في قوله تعالى:


لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)


فتلك القرى التي بارك الله فيها هي قرى عديدة، لذا يصبح لزاماً الفهم بأن إبراهيم لم يكن يسكن نفس القرية التي كان استقر فيها لوطاً، فقد وقع العذاب على قرية لوط ولم يقع على قرية إبراهيم، ووقع العذاب على قوم لوط ولم يقع العذاب على قوم إبراهيم، فأهل قرية إبراهيم لم يكونوا تعملوا الخبائث التي كان يقترفها أهل قرية لوط، وهكذا.


السؤال: أين كان إبراهيم يسكن؟ وأين استقر لوط؟


الجواب: لقد سكن إبراهيم في واحدة من قرى الأرض التي باركنا فيها بينما استقر لوط في المدينة؟


والدليل على افتراءنا هذا ما استنبطناه نحن من قوله تعالى:


وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)


نتيجة: لقد سكن إبراهيم في واحدة من القرى (الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) بينما استقر لوط في المدينة.


سؤال: ما الفرق بين القرية والمدينة في النص القرآني؟


الجواب: كل مدينة هي قرية ولكن ليس كل قرية هي مدينة؟


رأينا: إنّ ما يميز المدينة عن القرية في النص القرآني - حسب ظننا- ليس عدد السكان أو المساحة الجغرافية (كما يفضل الكثيرون الآن الفصل بينهم)، ولكنها المكانة السياسية، فالقرية هي قرية والمدينة هي قرية كذلك، فعندما تحدث عن مكان سكان قوم لوط الذين أنزل الله عليهم العذاب تحدث عنهم تارة بلفظة القرية:


وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ العنكبوت (31)


وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) العنكبوت 33-34


وتارة أخرى بلفظة المدينة:


فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) الحجر 65-67


إفتراء من عند أنفسنا: متى كانت القرية هي نفسها العاصمة السياسية للدولة، أصبحت (بالإضافة إلى أنها قرية) مدينة. فلا نجد في كتاب الله لفظة المدينة ترتبط بقرية إلا إذا كانت تلك القرية هي العاصمة السياسية للدولة.


الدليل: لنقرأ النصوص التالية:


فها هي قصة موسى مع فرعون تحصل أحداثها في المدينة (وليس فقط في قرية عادية):


قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)


وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)


فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)


وها هي قصة يوسف مع امرأة العزيز تحصل في المدينة:


وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)


وها هم أهل الكهف وقد هربوا من ذلك الظالم الذي يحكم المدينة خوفاً على دينهم يبعثوا من مرقدهم، فيحاولوا إرسال أحدهم متخفياً إلى المدينة (فلو كان في قرية أخرى غير المدينة التي هربوا منها لما كانوا بحاجة أن يخفوا هويتهم):


وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)


وها هو موسى مع رفيقه يرفعون جدار في القرية يملكها يتيمين في المدينة:


فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)


وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)


وها هو رسول الله محمد يستقر في يثرب فتصبح على الفور مدينة (بعد أن كانت قرية):


وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)


مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)


لذا فإننا نعتقد جازمين أن السبب في تسمية يثرب بالمدينة كان بسبب مكانتها السياسية التي اكتسبتها بعد أن هاجر إليها محمد واتخذها عاصمة سياسية للدولة الناشئة. فقد تكون مكة في ذلك الوقت أكثر أهمية من الناحية السياسية أو الأقتصادية أو حتى السكانية (من حيث العدد)، إلا أن مكة لم تصبح يوماً مدينة ولكنها بقيت أم القرى:


وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ الأنعام (92)[6]


النتيجة: لقد أرسل الله أنبياءه إلى القرى فاستقر بعضهم في القرى واستقر آخرون في المدينة.


فها هو نبي ثمود صالح يستقر في المدينة:


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)


وكذلك كان استقرار لوط – محط بحثنا - في قرية كانت هي المدينة (أي العاصة السياسية للحكم آنذاك):


فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)


ولكن إبراهيم لم يستقر في تلك المدينة التي استقر فيها لوط، فكان يتواجد في غير المكان الذي تواجد فيه لوط، ولكن لماذا؟


الجواب: ما دام أن كل نبي مكلف بدعوة قوم، فقد توكل لوط بأمر دعوة الناس في المدينة فأصبح أهل تلك القرية (المدينة) هم قومه، بينما توكل إبراهيم بأمر الدعوة في مكان آخر فأصبح أهل ذلك المكان هم قوم إبراهيم.


السؤال: لماذا استقر لوط في المدينة على وجه التحديد؟ ولماذا استقر إبراهيم في غير المدينة (العاصمة السياسية لتلك الدولة)؟






نظرة جديدة


نقدم في هذا الجزء من المقالة تصورنا عن سبب إنفصال إبراهيم عن لوط بالرغم أنهما هاجرا معاً إلى الأرض التي بارك الله فيها لينتهي الأمر بكل واحد منهم في مكان غير المكان الذي كان يسكنه الآخر.


أما بعد،


نحن نتصور المشهد على النحو التالي:


إبراهيم يدعو قومه للعبادة الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام، فلا يجد منهم إلا الصد لا بل والعذاب، فينصبوا له العذاب، فينجيه الله من نار قومه:


وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)


فيؤمن له لوط ويهاجرا معاً إلى الأرض التي بارك الله فيها:


فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)


وينجيه الله من عذاب قومه وينجيه ولوطاً إلى الأرض المباركة:


قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) الأنبياء


ولا شك عندنا أنهم عندما تركوا بلادهم توجهوا غرباً (فتلك كانت على الدوام وجه الرحلات البشرية: من الشرق إلى الغرب، انظر مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات)، واستقر بهم الأمر في المدينة (عاصمة الدولة السياسية للبلاد الجديدة)، وهنا تحصل قصة إبراهيم مع ملك تلك البلاد التي تناقلها كثير من علماء المسلمين من أخبار يهود (والتي لا أحب أن أتطرق لها)، ولكن جل ما أود الإشارة إليه من النص القرآني أن لوطاً (الذي هاجر بمفرده مع إبراهيم) يستقر في تلك البلاد (أي في المدينة)، فيتزوج ويصبح له أهل (امرأة وذرية)، فيؤثر البقاء في ذلك المكان الذي تزوج منه (فأهل المدينة يعرفون امرأة لوط ويعرفون بناته)، ويخرج إبراهيم من تلك المدينة فاراً بزوجته الأولى (فهي ليست من أهل تلك الديار)، ولكنه ربما يخرج متزوجاً بأخرى من أهل تلك المدينة (زوجة إبراهيم الثانية)، فيصبح عند إبراهيم زوجتان: سارة (الزوجة الأولى) وهاجر (الزوجة الثانية)، ويجدر الإشارة أننا لا نقبل هذه التسمية إلا من أجل التفريق في النقاش بين الزوجتين فقط.


ويحصل أن يرزق إبراهيم بذرية من الزوجة الثانية هاجر التي ربما تزوجها من المدينة نفسها التي استقر فيها فترة قصيرة من الزمن مع لوط قبل أن يتركها ويرحل، فتكون النتيجة ذلك الغلام الحليم (إسماعيل). وما هي إلا أشهر أو ربما سنوات قليلة حتى يرزق إبراهيم بذرية من زوجته الأولى سارة بخبر من رسل الله الذين جاءوا لايقاع العذاب على آل لوط، فتكون النتيجة ذلك الغلام العليم (إسحاق)[7].


وعندما يرزق إبراهيم بذرية من الزوجة الثانية ويصبح عنده إسماعيل ثم يرزق بعدها بذرية من الزوجة الأولى ويصبح عنده إسحق، يتخذ قراراً من تلقاء نفسه أن يأخذ الزوجة الثانية وابنها الحليم (اسماعيل) ليسكنهما في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم.


وهنا ربما يستوقفنا البعض لطرح التساؤل التالي: هل فعلاً قرر إبراهيم اسكان هاجر وولدها اسماعيل بعد أن رزق بإسحق؟ أليس من الممكن أنه فعل ذلك قبل أن يرزقه الله باسحق؟


رأينا: نظن أننا نملك الدليل القاطع من كتاب الله أن إبراهيم قد أسكن زوجته هاجر وابنها اسماعيل في الواد غير ذي الزرع عند بيت الله المحرم بعد أن رزقه الله بإسحق وليس قبل ذلك.


الدليل: لنقرأ قول الحق على لسان إبراهيم في الآية الكريمة التالية:


رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ إبراهيم (37)


إن الدقة تستدعي الوقوف ملياً عند قول إبراهيم "مِنْ ذُرِّيَّتِي"، فإبراهيم يسكن في ذلك الواد من ذريته (أي بعضاً من ذريته) وليس كل ذريته، وهذا يدلنا على أنه لو كان إبراهيم قد أسكن هاجر وإسماعيل في ذلك الواد قبل أن يرزق باسحق لجاء قوله على نحو "اسكنت ذريتي" وليس " أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي"، لأنه حينها سيكون إسماعيل هو كل ذرية إبراهيم حتى ذلك الوقت، ولكن لما كانت ذرية إبراهيم حتى اللحظة تشمل إسماعيل واسحق:


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)


فقد أسكن بعضهم (إسماعيل في ذلك الواد) وترك بعضهم (اسحق في موطنه الأصلي)، فلقد كان اسماعيل وإسحق هم كل ذرية إبراهيم، ولما كان إبراهيم قد اسكن من ذريته (وليس كل ذريته) فلابد أنه ترك من ذريته في موطنه الأصلي


السؤال: لماذا أخذ إبراهيم اسماعيل وأمه هاجر على وجه التحديد إلى ذلك المكان؟ ولماذا ترك اسحق وأمه سارة على وجه التحديد معه في موطنه الأصلي؟ لماذا لم يكن العكس هو واقع الحال؟


للحديث بقية في الجزء الثالث من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه


6 شباط 2012


المدّكرون: رشيد سليم الجراح &  علي محمود سالم الشرمان


بقلم: د. رشيد الجراح















[1] لاحظ كيف انتظر نوح حتى حصول الطوفان وانقضاء الأمر برمته ليتأكد ظنه بأن ابنه ليس من أهله، فبعد أن استوت السفينة على الجودي وبلعت الأرض ماءها وأقلعت السماء، وهلك القوم جميعاً، نادى نوح ربه بشأن ابنه قائلاً:


وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)


وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)


حتى جاءه التأكيد الإلهي بأنه ليس من أهله


قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)


ونحن نظن أن لوطاً كان سيتصرف بالطريقة نفسها التي تصرف فيها نوح، فلو هلكت أحدى بناته مع القوم لنادى لوط ربه قائلاً:


رب إن ابنتي (بناتي) من أهلي


وذلك لأن الله قد وعده من قبل بنجاة أهله جميعاً إلا امرأته


وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ العنكبوت (33)


بالضبط كما كان قد نجىّ الله نوحاً وأهله (بالرغم من هلاك ابنه وذلك لأنه ليس من أهله):


وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الأنبياء (76)


لذا، فإننا نعتقد أنه لما نجت بنات لوط مع والدهم، تأكد للرجل أن البنات من صلبه، فلو لم تكن البنات من أهله لما نجوا معه لأنّ الله وعده بنجاة أهله إلا امرأته.


[2] لاحظ كيف يؤكد النص القرآني على أن القوم لم يتركوا نكاح النساء بسبب اللواط، فهم متزوجون بدليل قوله تعالى:


أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ


[3] للتفصيل حول الموطن الأصلي لأنبياء الله انظر مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات.


[4] وهنا قد يتسآءل البعض عن سبب ورود قوله تعالى " آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ" ونحن نعلن بنص القرآن أنّ موسى وهارون هم إخوة، فهل يعني ذلك أنّ آل موسى ليسوا آل هارون؟ ألم نقل أنّ آل الرجل هم أقرباءه؟ نقول نعم إنّ آل الرجل هم أقرباءه ومع ذلك فآل موسى ليسوا أنفسهم آل هارون، وقد يرد البعض على الفور بالقول وكيف يكون ذلك؟ فنقول دعنا نتذكر شيئاً يخص بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال تعالى بحق نبيهم الذي ينتسبوا له ويسمون باسمه وهو إسرائيل (يعقوب) نفسه:


قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ البقرة (136)


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة (140)


قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران (84)


إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا النساء (163)


لكن لما كان لكل منهم زوجة، كانت تلك الزوجة تشكل مع زوجها أهل بيت جديد، فأصبح أهل ذلك البيت بما فيهم الزوجة هم آل الرجل، فزوجة موسى لم تكن من آل فرعون، وزوجة هارون لم تكن من آل موسى، ولكن آل موسى وآل هارون يشكلون معاً آل والدهم. فيوسف كان ولد يعقوب، وكذلك كان ليعقوب أبناء آخرين، لكنهم جميعاً يشكلون آل يعقوب:


وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يوسف (6)


فكانت كل ذرية يعقوب هم من آله (ولكنهم ليسوا جميعاً من آل يوسف أو آل أي من إخوانه) حتى وصل الأمر إلى زكريا:


يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا مريم (6)


فنحن نستطيع أن نجزم بأن زكريا وولده يحيى هم من آل يعقوب ولكنا لا نستطيع أن نثبت بأنهم من آل يوسف أو أي من إخوانه.


وباختصار فإننا نرى أن مفردة الآل تشمل (الأهل والبني) معاً. فأهل الرجل هم ذريته وزوجته، وبني الرجل هم ذريته دون زوجته، وآل الرجل هم الذرية والزوجة معاً.





[5] - آل


ونلحظ في كتاب الله أنه في حين لم يكن لفرعون أهل كان له آل، وآل فرعون كانوا هم جزءاً من قومه، وذلك لأنّ الهلاك لم يقع على قوم فرعون كلهم وإنما على آل فرعون بشكل خاص:


وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)


وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)


وكذلك وقع العذاب على ملائه:


فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا (103)


إذاً فالذين غرقوا هم من آل فرعون وكذلك من كان معه من ملائه وجنده:


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ طه (78)


فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ القصص (40)


فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ الذاريات (40)


-شيع


أما بالنسبة للفظة "شيعاً" فقد جاء في كتاب الله:


إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)


وإذا كان لموسى نفسه واحدة منها:


وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ القصص (15)


فتكون أرض مصر في زمن فرعون منقسمة سياسياً إلى شيع، ولكنها قومية واحدة.






[6] صحيح أن نيويورك أكثر أهمية من الناحية الإقتصادية والعمرانية والسكانية من واشنطن إلا أن نيويورك بمفردات القرآن ليست المدينة لأن العاصمة السياسية للدولة واشنطن هي فقط ما يمكن أن يطلق عليه اسم المدينة، فتبقى نيويورك قرية (وربما أم القرى) في السياق القرآني بينما تصبح واشنطن هي القرية المدينة


[7] لأحظ عزيزي القارىء أن الله قد بشر إبراهيم مرتين كما يرد في سورة الصافات: (1) مرة بغلام حليم وهو الذي تله للجبين بعد أن رأى في منامه أنه يذبحه، و (2) مرة بإسحاق بصريح اللفظ القرآني، وكلاهما كان من الصالحين، إقرأ الايات كما ترد في سورة الصافات لتتأكد بنفسك:


فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)


والمدقق في قصة ضيف إبراهيم يجد السياق القرآني التالي:


وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)


والملفت للنظر أن تلك الزيارة كانت بسبب قوم لوط الذين أوكل لضيف إبراهيم مهمة تدميرهم، وفي تلك الزيارة حدثت بشرى لابراهيم وزوجته باسحق، وحصلت البشرى لزوجته في سورة هود على النحو التالي:


فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)


والمدقق بالألفاظ يجد أن البشرى لإبراهيم كانت في النصين اللذين يتحدثان عن نفس الزيارة ب "غلام عليم" بينما كانت البشرى الأولى باسماعيل ب "غلام حليم"، ففي حين كان اسماعيل حليماً كان اسحق عليماً