من هي زوجة موسى؟


نحاول في هذه المقالة تقديم الأمثلة على استغلال الإشارات النصية لتوضيح التصوير القرآني للأحداث، ولنبدأ بقصة زواج موسى عليه السلام. فلقد وردت الحادثة – كما يتخيل الكثيرون- بشكل مقتضب في كتاب الله، ولكننا نعتقد جازمين أن إشغال التفكير بألفاظ القرآن الكريم ذات العلاقة في ذلك السياق ربما يسعفنا في تكوين صورة غاية في الوضوح للحدث وأشخاصه في ذهن القارئ للقرآن الكريم. فعقيدتنا تتمثل في أن هذا الكتاب لم يفرط فيه بشيء، ففيه جواب على كل شيء لأنه تفصيلا لكل شيء. وحتى لا نطيل الحديث عن الإطار النظري الذي تعرضنا له في مقالات أخرى، فلنورد بعض الأسئلة عن زوجة موسى ومن ثم نحاول الإجابة عليها.
1.     من هي زوجة موسى؟
2.     متى تزوجها موسى ؟
3.     أين تزوجها؟
4.     لماذا تزوجها؟
5.     كم كان عمر موسى عندما تزوجها؟
6.     كم كان عمرها عندما تزوجت بموسى؟
7.     الخ.

لعل الجميع يدرك أنّ بعض هذه الأسئلة ترد إجاباتها بشكل صريح في القرآن الكريم، ولكن بعضها يحتاج إلى شيء من التدقيق والتمحيص في ألفاظ القرآن الكريم واستدعاء سياقات ذات صلة في مواطن متفرقة في كتاب الله، فنحن نزعم الظن - على سبيل المثال- أن موسى عليه السلام قد تزوج من إحدى بنات شعيب عليه السلام عندما هرب من القوم الذين كانوا يأتمرون به ليقتلوه:
                   قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا                      فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ     القصص (27)
ولكن لربما تساءل البعض بالقول: كيف تدعي أن موسى تزوج بابنة شعيب وهو أمر غير مذكور صراحة في الآية الكريمة؟
فنرد على هذا التساؤل بالدعوة لامعان النظر في مفردات الآية الكريمة نفسها ليستوقفنا قول الرجل لموسى "سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ"، فذاك الرجل كان إذاً من الصالحين، أليس هذا ما تذكره الآية الكريمة صراحة؟ نعم بكل تأكيد، ولكن ما دخل ذلك بأمر شعيب؟ يرد صاحبنا مستغرباً.
نقول إنّه بعد رصد عبارة "من الصالحين" في كتاب الله لم نجد أنها تتحقق إلا لنبي، وسنعرض جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه العبارة لتتأكد عزيزي القارئ بنفسك.
قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ                                                             البقرة (130)
وجاء في حق يحيى عليه السلام:
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ                                                     آل عمران (39) 
وجاء في حق عيسى عليه السلام:
          وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ                                        آل عمران (46)
وجمع في آية واحدة زكريا ويحيى وعيس وإلياس عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام ليكونوا جميعاً من الصالحين:
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ                                  الأنعام (85)
ويتكرر التأكيد على أن إبراهيم من الصالحين في الآيات التالية:
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)                                                                                                            النحل 120-122
وكذلك كان لوط من الصالحين:
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)                                    الأنبياء 74-75
وجمع إسماعيل مع إدريس وذي الكفل:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)                                                                       الأنبياء 85-86
وتعزز لإبراهيم أنه من الصالحين في الآية الكريمة التالية:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ                                                                 العنكبوت (27)
واستجاب الله دعاء إبراهيم فكانت ذريته (إسحق وإسماعيل) من الصالحين:
                   رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)  [1]        الصافات 100-101
                   وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ                               الصافات (112)
وكذلك كان صاحب الحوت من الصالحين:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وبعد تفقد السياقات القرآنية أكثر لم نجد أن عبارة "مِنَ الصَّالِحِينَ" قد وردت بمعزل عن الأنبياء والرسل إلا في السياقين التاليين:
(1)      وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ                                               المنافقون (10)
(2)      وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
ولعلّ المدقق في هذين الموقفين يجد أن الآيات الكريمة تتحدث عن ادعاء المنافقين بأنهم "سيكون من الصالحين: أحداهما عندما ماتوا فيتمنوا أن يعودوا ليكونوا من الصالحين (كما هم الأنبياء فعلاً) والأخرى للحصول على الرزق، وفي الحالتين يكذّب الله ادعاءهم، فهم لا يمكن أن يكونوا من الصالحين، وهذا – في ظننا- يؤكد كذبهم، فهم على نيتهم الخبيثة لا يمكن أن يصلوا إلى درجة أن يكونوا من الصالحين، فما كان ذلك يتأتى إلا لنبي، فهل يمكن أن يصل مثل هؤلاء (على كفرهم ونفاقهم) إلى تلك الدرجة الرفيعة؟! لنخلص إلى الحقيقة القرآنية التالية: أن الذين هم فعلاً "مِنَ الصَّالِحِينَ" كانوا جميعاً من الرسل والأنبياء، وهنا نعود إلى فهم معنى قول الرجل لموسى " سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ" عندما خطبه لابنته:
                   قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا                      فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ     القصص (27)
وهذا – برأينا- تضمين من الرجل ليفهم موسى بنفسه أن الرجل هو "نبي"، فما ينبغي أن يكون "مِنَ الصَّالِحِينَ" إلا نبي أو رسول، ولا أظن أن موسى سيخطئ فهم مثل هذا التضمين من الرجل، ولربما ما تقبل موسى عرض الرجل بزواج إحدى ابنتيه بالسرعة التي يصورها القرآن الكريم.
ولكن يعود صاحبنا ليسأل: لنصدقك القول أن الرجل كان نبياً، فكيف تثبت أنه كان "شعيب" على وجه التحديد؟
فنرد بحول الله بالقول: نحن نعرف كذلك أنه كان من أهل مدين وذلك لأنّ مدين تلك هي المكان الذي هدى الله موسى إليه عندما هرب من فرعون وقومه:
                   وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا                     خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ                     القصص (23)
ومدين تلك ورد ذكرها في كتاب الله أكثر من مرة:
                   وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ    الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن      كُنتُم مُّؤْمِنِينَ                                                                          الأعراف (85)
                   وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ       إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ                                    هود (84)
فنبي مدين إذاً هو شعيب عليه السلام، وموسى وجد نفسه عند ذلك الرجل الصالح (من الصالحين) فلبث في بلاده عدد سنين:
                   إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ     نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى                                                                                                       طه (40)
وكان سبب البقاء تلك الفترة من الزمن هو العقد الذي حصل بين الرجلين:
                   قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ       عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ              القصص (27)
فقد اشتغل موسى عند ذلك الرجل بحرفة الرعي، ونحن نعرف ذلك من الحادثة التي حصلت له لحظة وروده ماء مدين:
                   وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ                          القصص (23)

فما كان من موسى وهو المعروف بإغاثته الملهوف إلا أنْ شمّر عن ساعديه وسقى لهما:
                   فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ           القصص (24)
          ومنذ تلك اللحظة وموسى محترفاً مهنة الرعي (رعي الأغنام على وجه الخصوص)، ولنستذكر ذلك من ذاك الخطاب الشهير الأول الذي وجد موسى نفسه فيه مع ربه يوم عودته من مدين:
                   وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا         مَآرِبُ أُخْرَى (18)                                                           طه 17-18
ففي هذا الخطاب يذكر موسى صراحة إحدى استخدامات العصا وهي "وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي"، فقد أصبح موسى في بلاد مدين راع للغنم، وكان ذاك هو مهر عروسه:
                   قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ       عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ              القصص (27)
فمكث موسى في أرض مدين فترة من الزمن متزوجاً من ابنة نبي الله شعيب، وربما أنجبت له أطفال خلال تلك الفترة، وسيرد البعض على الفور بالقول: أين يذكر النص القرآني أن موسى قد تحصل له الولد من زوجته تلك؟ فنقول أننا نقرأ ذلك من مفردة واحدة في قصة عودة موسى من أرض مدين، فنحن نعلم أنه عاد من أرض مدين بصحبة أهله:
                   فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا      لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ                      القصص (29)
فمعرفة معنى عبارة "وَسَارَ بِأَهْلِهِ" ستسعفنا في حل هذه الإشكالية، ولكن قبل الخوض في هذا الحديث نود الإشارة إلى أنه بعد هذه الآية الكريمة تبدأ قصة موسى مع فرعون ومن ثم قصته مع بني إسرائيل وعندها يكاد يغيب ذكر أهله تماماً، فيغيبوا عن مشهد الصراع كلياً، ونحن نريد أنْ نسلّط بعض الضوء على حياة موسى الخاصة، وعلى وجه الخصوص حياته مع زوجته التي ارتبط بها في أرض مدين ورجعت معه إلى بلاده التي خرج منها خائفاً يترقب.
***    ***    ***
لعلنا أولا نود أنْ نشير أنّ موسى قد خرج وحيداً لا يصاحبه أحد، تاركاً كل شيء خلفه، وهذا يعني أنّ موسى لم يكن ليهرب وحده لو كان متزوجاً قبل أنْ يخرج من أرض مصر:
                   فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                          القصص (21)
والمتابع للغة الحوار منذ أنْ خرج موسى من بلاده حتى وصل إلى مدين (أرض شعيب) يجد أنّ موسى كان وحيداً لا يصاحبه أحد، فكيف إذاً بموسى يترك بلده بهذه الطريقة لو كان متزوجاً من قبل؟! وحتى إنْ فعل، فكيف به أنْ يقبل عرض الزواج الأول دونما تردد؟! وحتى إنْ فعل، فكيف به يمكث تلك الفترة الطويلة (عشر حجج) ولا يذكرهم؟ وحتى إن فعل، فهل كان فرعون سيترك أهل موسى وشأنهم بعد أن فعل موسى فعلته التي فعل؟ من يدري!!!
لقد حصل كل ذلك لموسى يوم أنْ بلغ أشده، فوكز الرجل فقضى عليه، وكاد أنْ يقضي على رجل آخر لولا أن أدرك خطأه مباشرة بتذكير من الرجل نفسه، وخرج من بلاده على إثرها، فلب القول أنّ الأمر كله حصل بعد أن بلغ أشده:
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ                   القصص (14)
ونحن نكاد نجزم أن ذلك كان يوم أن استوى وأصبح شاباً يافعا، أي بعد أن أصبح رجلاً بالمنظور الجسدي والمعنوي، فقد بلغ مبلغ الرجال، وهذا بالضبط ما حصل مع نبي الله يوسف عليه السلام:
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ                            يوسف (22)
وعند عقد مقارنة بسيطة لآية يوسف التي تتحدث عن يوسف عليه السلام وآية القصص التي تتحدث عن موسى عليه السلام يظهر التطابق الكلي إلا بلفظة واحدة (وهي مفردة وَاسْتَوَى):
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ                            يوسف (22)
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ                   القصص (14)
إنّ المدقق يجد أنّ في حالة موسى عليه السلام وردت لفظة "وَاسْتَوَى"، ولكن لم ترد مثل تلك اللفظة في حالة يوسف، فنخلص إلى أنّ امرأة العزيز قد راودت يوسف يوم أنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، ولكنّ موسى وكز الغلام يوم أنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى، والسؤال يكون إذن على النحو التالي: ما الفرق بين بلوغ الشخص أشده (كما في حالة يوسف) وبلوغه أشده مع الاستواء (كما في حالة موسى)؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن بلوغ الشخص أشده هي المرحلة التي يصبح بها الإنسان مكلفاً بتحمل مسؤولياته ويتم ذلك عند بلوغه مبلغ الرجال، وهي المرحلة التالية مباشرة لبلوغ الحلم، فعندما بلغ يوسف مبلغ الرجال راودته التي هو بيتها عن نفسه:
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن         نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ          (23)                                                                       يوسف 22-23
          فنحن نعلم أنّ يوسف قد قضى سنين من عمره في بيتها، ولكنها لم تراوده عن نفسه حتى بلغ أشده، فهو إذاً لم يعد غلاماً بل أصبح شاباً يافعاً (أي فتى) وصل إلى مرحلة الحلم:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ                                                                           يوسف (30)
والدليل على أنّ هناك فرق بين أن يكون الشخص غلاماً (أواخر فترة الصبا) وأنْ يبلغ الشخص أشده نستنبطه من قوله تعالى:
                   وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ     أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع       عَّلَيْهِ صَبْرًا                                                                  الكهف (82)
فلقد كانا غلامين ولكنهما لم يكونا مؤهلين بعد لإستخراج كنزهما لأنهما لم يبلعا أشدهما بعد، فساعدهما الرجل على دفن الكنز حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا)، فلب القول أنّ هاتين مرحلتين عمريتين مختلفتين، فبعد أنْ يكون الشخص غلاماً ينتقل بعد "بلوغه الحلم" أو "بلوغه النكاح" إلى مرحلة "بلوغ أشده"، قال تعالى:
                   وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ       نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ                                                                                             الأنعام (152)
                   وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً                                                                                                           الإسراء (34)
وفي حالة يوسف فقد كان غلاماً يوم أنْ وجده السيارة في البئر:
                   وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا        يَعْمَلُونَ                                                                               يوسف (19)
          ولكن لنتذكر أيضاً أنّ بلوغ الحلم أو النكاح تختلف عن بلوغ أشده، فبلوغ أشده تأتي بعد بلوغ الحلم، والسبب أنّ الشخص حتى لو بلغ الحلم فقد لا يكون قد بلغ أشده بعد بدليل قوله تعالى:
                   وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا     وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ    أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا                                            النساء (6)
فحتى لو بلغ اليتيم الحلم لا يدفع له ماله إلاّ بشرط آخر وهو "فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا"، ويكون بذلك بلوغ النكاح مرحلة مبكرة من الرجولة والرشد، فلب القول أنّ من بلغ أشده قد (وقد لا) يكون راشدا، ولكن من بلغ أشده فهو بالضرورة راشد.
          افتراء من عند أنفسنا: بلوغ الحلم مع الرشد ربما يمكن اليتيم من حصوله على ماله ولكن بلوغ اليتيم أشده لا شك يمكنه من الحصول على ماله.
وقد قسّم الله عمر الإنسان بعد ولادته إلى ثلاث مراحل رئيسة في قوله:
                   هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا       شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ            غافر (67)
فبعد الولادة مباشرة يكون الإنسان طفلاً، ثم يبلغ أشده، ثم يكون شيخاً، ومرادنا هنا القول أنّ مرحلة بلوغ أشده هي الفترة الزمنية التي تأتي بين الفترتين: الطفولة من جهة والشيخوخة من جهة أخرى، وهذه هي التقسيمات الرئيسية:
- الطفولة         ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا
- بلوغ أشده       ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
- الشيخوخة      ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
ولكن لا شك أنّ هناك تقسيمات فرعية تنطوي ضمن هذه المراحل الثلاث الرئيسة، ولكن بالنسبة لبلوغ أشده – وهو ما يهمنا في طرحنا الحالي- فنستطيع أنْ نتحدث عن المراحل الفرعية التالية:
-        بلغ أشده
-        بلغ أشده واستوى
-        بلغ أشده وبلغ أربعين عاما
وقد وردت هذه التقسيمات الثلاث في كتاب الله، فجاء في خضم الحديث عن يوسف عليه السلام:
           وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن         نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ                  (23)                                                                  يوسف 22-23
وجاء عند الحديث عن موسى قوله تعالى:
                   وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ                   القصص (14)
وجاء عن الإنسان المؤمن قوله تعالى:
                   وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى       إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ        وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ                                                                                                              الأحقاف (15)
افتراءات من عند أنفسنا: إذا ما افترضنا أنّ مرحلة بلوغ أشده تأتي بعد مرحلة بلوغ النكاح كما حاولنا أن نبين من خلال قصة يوسف مع امرأة العزيز، يكون بذلك الشخص أقرب إلى سن العشرين عاماً، وإذا كانت فترة بلوغ أشده وبلغ أربعين عاماً واضحة تماماً بأنها سن الأربعين تكون، فترة بلوغ أشده واستوى هي المرحلة المتوسطة بين المرحلتين، فيكون التقدير على النحو التالي:
-        بلوغ أشده (حوالي العشرين)
-        بلوغ أشده واستوى (حوالي الثلاثين)
-        بلوغ أشده وبلغ أربعين عاما (حوالي الأربعين)
فلقد راودت امرأة العزيز فتاها وهو في شبابه المبكر ولكنه كان قد أُعطي من الله حكما وعلما في تلك المرحلة العمرية:
           وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن         نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ                  (23)                                                                  يوسف 22-23
ولكن موسى لم يؤتى حكماً وعلماً إلا بعد أن بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى:
           وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ          القصص (14)
فلقد هرب موسى إلى مدين وهو في شبابه المتوسط. ولكنه كما أسلفنا قد هرب ولم يكن متزوجاً، وقد يسأل القارئ لِمَ لَمْ يتزوج موسى وقد بلغ أشده واستوى؟ فنرد على ذلك بالقول لأنّه كان منشغلاً بأمر آخر في ذلك الوقت وهو مقارعة فرعون وحاشيته، فقد كانوا له أعداءً في تلك الفترة:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ         فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)                                                                                 القصص 14-15
فلقد كان موسى عدواً لفرعون ومن التف حوله حتى قبل أنْ يؤتى حكماً وعلماً، فموسى كما يتضح من الآية نفسها كان هارباً قبل أن يقتل ذلك الرجل الذي هو من عدوه، وذلك بدليل قوله تعالى "وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا" فلقد دخلها متخفياً حتى لا يكتشف أمره فرعون وملئه، فمسألة هروب موسى من فرعون حصلت قبل أنْ يهرب إلى أهل مدين، فهروبه إلى مدين كان بعد هروبه الأول من فرعون، والدليل على ذلك أنه لحظة أنْ دخل المدينة كان الناس ينقسمون (بالنسبة لموسى) إلى طائفتين:
(1) هَذَا مِن شِيعَتِهِ و
(2) وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه
فهل تحصلت هذه الحال فوراً لحظة دخوله المدينة؟
رأينا: كلا، لقد كان موسى مطارداً حتى قبل وكزه الرجل، ولمّا جاءه الرجل محذراً قال:
                   وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ       مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فما تمت المؤامرة وعلم بها الرجل في تلك اللحظة حتى يعلم بوجود موسى ويأتيه محذراً في الحال، بل لقد أُتخذ القرار ليس بسبب قتل الرجل فقط وإنما من أفعال موسى السابقة، وما كان قتله للرجل إلاّ الذريعة التي اتخذها ملأ فرعون ليسوغوا للعامة (ولبني إسرائيل خاصة) قرارهم بقتل موسى. لذا نخن نظن أن الوضع السياسي العام ما كان يتيح الفرصة لموسى ليتزوج في خضم تلاطم تلك الأحداث المتسارعة، فحتى اللحظة كان موسى لازال عازباً مطارداً من فرعون وملئه.
ولكن السؤال هو: لماذا؟ ما الذي فعله موسى حتى يستحق القتل أو المطاردة؟ فقد يظن البعض بأنّ قرار فرعون وملئه بقتل موسى كان بسبب قتل موسى رجلا من قوم فرعون، فنقول كلا، إننا نزعم الظن أنّ موسى كان قبل ذلك هارباً من فرعون لأنّه فعل أموراً جعلت قتل موسى من الناحية السياسية مبررا، فلو كان الأمر بسبب قتل الرجل وكفى لقلنا لقد كان موسى أصلاً يعيش في كنف فرعون، فهل من ارتكب جريمة قتل من جماعة فرعون يعاقب بالقتل؟ كلا، فلقد عاث آل فرعون (وحتى ملأه) فساداً في الأرض وقتلوا حتى الأطفال، فلو قتل موسى ألف نفس ولم يعارض فرعون "سياسياً"، لما تجرأ الملأ – نحن نفتري الظن- أنْ يأتمروا به، ولكنّنا نعتقد جازمين أن موسى قد فعل أمراً عظيماً أغضب فرعون نفسه، وسنح الفرصة لملأ فرعون أن يأتمروا به. ولا أخال أنّ قتل رجل يغضب فرعون وهو الذي ما انفك عن قتل الأطفال، فيكون بذلك السؤال المهم هو: ماذا فعل موسى حتى يغضب فرعون ليستحق عقوبة القتل؟
رأينا: نحن نظن إنّ الجواب على هذا التساؤل موجود في السياق القرآني نفسه، فها هو الرجل الثاني الذي همّ موسى بقتله يرد على موسى قائلاً:

                   فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ       مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ    نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
نعم، ذلك هو سبب غضب فرعون وذلك هو سبب هروب موسى الأول ودخوله المدينة متخفياً حتى قبل أن يقتل الرجل: لقد كان موسى يريد أن يكون "مِنَ الْمُصْلِحِينَ"، وباللغة السياسية لقد كان موسى يشكل رأس المعارضة السياسية لفرعون، فانقسم الناس إلى فريقين: الفريق الأول يمثله فرعون وملائه بينما يمثل الفريق الثاني موسى وشيعته، ولنرقب الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ، فالفريق الثاني ليس موسى وبني إسرائيل (وإن كان أغلبهم من بني إسرائيل) وإنما هو و شيعته، أي من كان يناصر موسى بغض النظر عن عرقه (كالذي جاءه محذراً من أقصى المدينة وكالرجل الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون)
الدليل
عندما نسب الله إبراهيم إلى نوح (ولنلحظ الفارق الزمني بينهم) قال:
                   وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ                                                     الصافات (83)
فلا أخال أنّ إبراهيم هو من قوم نوح وإنما من شيعته (أي على منهجه وأسلوبه وملته)، وكذلك قال تعالى:
                   إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ         يَفْعَلُونَ                                                                      الأنعام (159)
                   ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا                       مريم (69)
                   مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ    الروم (32)
صحيح أنّ فرعون قسّم الناس في الأرض شيعاً (وليس فريقين) ولكنه استضعف طائفة (وهي بني إسرائيل)، فلب القول أنّ موسى عندما دخل المدينة متخفياً وجد رجلين يقتتلان هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ، ولم يجد رجلين هذا من طائفته وهذا من عدوه، قال تعالى:
                   إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
فالناس انقسموا سياسياً إلى شيع (بسبب عقيدتهم) وانقسموا عرقياً إلى طوائف، وقد كان لموسى شيعته الذين يناصروه ضد فرعون (وإن كان بعضهم من آل فرعون)، فنصّب موسى من نفسه خصماً عنيداً لفرعون مما استوجب هروبه من المدينة فلم يكن يستطيع أن يدخلها إلا خفية، فسنحت بذلك الفرصة للملأ من آل فرعون أنْ يأتمروا به ليوقعوا به فينفذوا قرارهم به بالقتل. فلا شك أن ملأ الحاكم الفاسد هم الأكثر استفادة من فساده، ولا يهدد مصالحهم إلا من أراد الإصلاح الحقيقي.
والدليل الأكبر على أنّ موسى كان زعيماً لشيعته السياسية ضد فرعون هو ذاك الرجل الذي جاءه يسعى من أقصى المدينة (أي من طرفها التي يحكم عليها فرعون قبضته)، فكيف بذلك الرجل أنْ يعلم بالمؤامرة التي تحاك ضد موسى في بلاط فرعون إن كان من طائفة موسى (أي من بني إسرائيل) وهم المستضعفون أصلاً في تلك البلاد.
السؤال: هل كان لأحد من بني إسرائيل (وهم المستضعفون في أرض مصر) أنْ يتواجدوا في بلاط فرعون؟ كلا، لقد جاء لموسى من يحذره من داخل بلاط فرعون، ولا ننسى أنّ موسى قد تربى في ذلك البلاط، ولا ننسى كذلك أنّ زوجة فرعون هي من أحبت موسى وآمنت بدعوته وكفرت بفرعون وعمله، فلب القول لقد كان من شيعة موسى من هم من آل فرعون نفسه.
وترد في كتاب الله ألفاظ أخرى تستحق أن تُسْبر لنفهم الأمر على حقيقته، فلقد ذكرنا أنّ الطائفة تعني المجموعة العرقية كبني إسرائيل في أرض مصر، والشيعة هم الطائفة السياسية التي كانت تناصر موسى ضد فرعون (حتى وإنْ كان سراً)، ولكن هناك ألفاظ مثل آل فرعون وآل موسى وأهل موسى وبني إسرائيل وملأ فرعون وقوم موسى وقوم فرعون. ولنبدأ بها تباعاً:
***    ***    ***
الأهل: من هم أهل الرجل؟
نحن نعتقد أن أهل الرجل هم عائلته الذين يسكنون معه (سواء قبل الزواج أو بعده):
                   وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا     إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا                                                                    النساء (35)
وأهل البيت هم سكانه:
                   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ        لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ                                                                        النور (27)
وأهل المدينة هم سكانها:
                   فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ    فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
وحتى أهل السفينة هم من يركب على ظهرها:
                   فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
ولنرقب الاستخدام التالي، ففي حين يرد في كتاب الله أنّ لموسى أهل لا ترد مثل تلك العبارة لفرعون:
                   إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ                                                                                                           النمل (7)
بينما يرد في كتاب الله عبارة آل موسى وآل فرعون:
                   وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ       هَارُونَ[2] تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ                    البقرة (248)
                   فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
وترد عبارة بني إسرائيل بحق موسى ولا ترد لفرعون:
                   حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ                                                                                                 الأعراف (105)
بينما لفرعون ملأ وموسى لا ملأ له:
                   وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ          رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ       يونس (88)
ولكن لفرعون قومه ولموسى قومه:
                   وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
فيكون الترتيب على النحو التالي:
-       الأهل
                   إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ                                                                                                           النمل (7)
فلقد ذكرنا أنّ أهل الرجل هم من يسكنون معه في بيت واحد، وأهل المدينة يسكنون في مكان واحد، وأهل السفينة يركبون جميعاً على ظهرها، ولكن السؤال البسيط هو لِمَ لَمْ يرد في كتاب الله أنّ لفرعون أهل؟ إننا نعلم أنّ فرعون كان متزوجا، فلِمَ لَمْ يرد ذكر لأهله؟ إننا ندعي أنّ الرجل لا يكون له أهل إلاّ إذا كان له (بالإضافة لزوجته) ذرية من البنين والبنات:
     قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)
     وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ       إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

فلقد ركب نوح وأهله في السفينة ولم تكن زوجته معهم:     
     حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ          الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
ونجا لوط وأهله من العذاب ولم تنجو زوجته:     
     وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ      إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
افتراء من عند أنفسنا: نخن نفتري الظن بأن أحد الفروق الرئيسة بين الأهل والآل يكمن في الزوجة، فالله وعد لوط أن ينجيه وأهلع أجمعين إلا امرأته:
وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ      إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
ولكن عندما حصلت النجاة حصلت لآل لوط:
     إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ ۖ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ القمر (34)
ففي حين أنه لم ينجو جميع أهل لوط إلا أن جميع آل لوط كانوا من الناجي:
     إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ                                  الحجر (59)
لنخلص إلى نتيجة مفادها أن امرأة لوط كانت من أهل لوط (فلم تنجو) ولكنها لم تكن من آل لوط (لأنها لو كانت من آل لوط لنجت من العذاب الذي نزل بالقوم مادام أن الله قد نجىّ آل لوط أجمعين).    
أما في حالة فرعون، فإذا ما استثنينا امرأته (وإن كانت على النقيض من امرأة نوح وامرأة لوط) فأين أهله؟ نعم لقد كان فرعون بلا أهل (أي بلا ذرية يقطنون معه في نفس البيت)، ولهذا جاء طلب امرأة فرعون عندما وقع الغلام (موسى) في يدها:
     وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ                                                                                                  القصص (9)
فلم يرد فرعون طلبها على الرغم من شكّه (لا بل من يقينه) بأن الغلام من بني إسرائيل الذي كان يقتّل أبنائهم، وقد يقول قائل: كيف تدعي أنهم كانوا يعلموا أنّ الغلام من بني إسرائيل وهم قد وجدوه في اليم؟ فنقول أن ذلك واضح من الكلام الذي ورد على لسان زوجة فرعون، فقد قالت "قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"، ونتساءل هنا عن سبب ورود عبارة "لَا تَقْتُلُوهُ"، أي لم اضطرت المرأة إلى القول لا تقتلوه لو أنهم لم يهموا أصلاً بقتله؟ ولم يهموا بقتله لتتدخل هي وتنقذه من ذلك القتل بتدبير ربها لو لم يكن الغلام من بني إسرائيل؟ فهل كان فرعون يقتل أطفالا من غير بني إسرائيل؟ فكلام امرأة فرعون هذا يبين أنها هي نفسها تعلم أنّ الغلام من بني إسرائيل، فقالت "لَا تَقْتُلُوهُ" (وهو ما كان مصير أبناء بني إسرائيل على يد فرعون وآله)، فلو كان القوم غير موقنين أن الغلام من بني إسرائيل لما همّوا أصلاً بقتله ولكان ردها على النحو التالي:
     وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ... عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ولكنها "منعتهم من قتله" بقولها لهم "لَا تَقْتُلُوهُ"، وأتبعت طلبها هذا بالحجج التالية:
-        عَسَى أَن يَنفَعَنَا
-        أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
فعندها سكت فرعون وألجم حتى عن الرد، وما كان أحد من الملأ سيتجرأ على رفض طلبه بعد أن سكت فرعون وأُخرس، والسؤال هو لم استسلم الرجل- وأقصد فرعون- بهذه السهولة لطلب زوجته على الرغم من شدته المعهودة وبالرغم من جدية الأمر؟ فيأتي الجواب –حسب ظننا- في قوله تعالى "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ". فمن الذين كانوا لا يشعرون؟ وما المقصود بذلك؟
رأينا: إننا نعتقد أنه التهديد المبطن من الزوجة لزوجها دون علم الحاضرين، نعم لقد هددت امرأة فرعون زوجها بما لا يشعر به الحاضرون، ولكن ماذا كان ذلك التهديد؟ فلنعيد ردها كاملاً ولنتأمله بدقة وتمهل:
     وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ                                                                                                  القصص (9)
لقد قالت للملأ أنْ يتركوا الغلام "موسى" فلا يقتلوه "عَسَى أَن يَنفَعَنَا" وهنا وقف والتفاف، وقالت لزوجها دون أنْ يشعر الحاضرون "أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"، فسكت الرجل وما نطق، فلا نجد في كتاب الله رداً لفرعون على كلام زوجته، ولكن لماذا؟ فلقد حدث الحوار بينها وبين زوجها دونما معرفة الحاضرين من القوم، والدليل قوله تعالى على لسانها "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، فها هي قصة النملة التي طلبت من بقية النمل الاختباء حتى لا يحطمهم جنود سليمان:
حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ                                                                           النمل (18)
وها هو يوسف يتلقى البشرى من ربه بوجود إخوته ولكن "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ":
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ                                                                             يوسف (15)
وها هي أخت موسى نفسه تقص أثر أخيها (يوم ألقته أمه في اليم) وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)   القصص 10-11
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أنّ زوجة فرعون اختارت أن يكون ذلك حديثاً جانبياً مع زوجها دون علم الحاضرين (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) لأن الأمر غاية في الخصوصية: إنه ما يخص الحياة الزوجية، وهي العلاقة الجنسية بين الزوجة وزوجها على وجه التحديد، فنحن نظن أنّه حتى لو كانت وسائل التعرف على العقم متوافرة في ذلك الزمن، لما كانت زوجة فرعون بحاجة لها لأنّ زوجها لا يستطيع حتى أنْ يطلب الإنجاب من غيرها (وهو فرعون ذاك الزمان)؟ فهل يا ترى من كان في جبروت فرعون يعجزه أنْ يطلب الولد من غيرها؟ لم يسمح لها أنْ تتبنى غلاما؟ ولنفترض أنها كانت هي سبب العقم وعدم الإنجاب، فلم يقبل أنْ ترد بقولها "قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ"، فإن كان الغلام قرة عين لها لأنها لا تنجب فلِمَ يكون قرة عين لفرعون إنْ كان يستطيع الإنجاب؟ ولو كان الأمر يتوقف عند هذا الحد فلم لا يرد عليها بتبني من ليس من بني إسرائيل؟ ألم يكن قادراً على أنْ يحضر لها ما تشاء من الغلمان من غير بني إسرائيل؟
رأينا: كلا، لقد كان ذلك مطلب امرأته ورغبتها وما كان يستطيع أنْ يرده في تلك اللحظة خوفاً من أنْ يتكشف أمر أدهى وأخطر يخص فرعون نفسه؟ فما هو؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أنّ فرعون كان يفتقد ما يستطيع أنْ يقدمه الرجل لزوجته حتى تنجب، نعم لقد كان فرعون يفتقد الرجولة التي يسكت بها امرأته، فما كان أحد يعلم سر فرعون وضعفه هذا سوى امرأته، ولم يكن فرعون يحتمل أنْ يتفشى ذلك السر بين القوم، لأن هذا لا شك سيهز صورة الرجل الذي هو فرعون مصر بلا منازع.
افتراء من عند أنفسنا: ونحن نظن أن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، لا بل لم يكن الرجل (وأقصد فرعون) سوياً في فراشه مع زوجته فاستخدم الأساليب التي ضجرت منها الزوجة نفسها حتى آثرت الموت على الحياة:
     وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن        فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
والسؤال هو: ماذا كان عمل فرعون الذي طلبت الزوجة النجاة منه؟ لربما ظن البعض أنه ظلم فرعون، ولكن هل كان فرعون فعلاً يظلم امرأته؟ ألم يكن طلبها مجاب؟ وأي شيء أعظم من أنْ يقبل فكرة أنْ لا يقتل وليد بني إسرائيل الذي سيقف له نداً عنيدا يسلبه ملك مصر كله[3]؟! كلا، لقد عاشت زوجة فرعون مع زوجها فترة طويلة من الزمن وتحملت ما لا تستطيع امرأة أخرى أنْ تتحمله من رجل لا يقدم لزوجته حقها في فراشه، لا بل على العكس لربما تحملت منه ما لا يجب أنْ يكون، ما يمكن أنْ يفعله رجل يعجز أمام زوجته أنْ يثبت لها رجولته بالطريقة الطبيعية المشروعة.
ويثبت هذا التصور الحقيقة القرآنية وهي عدم ورود لفظة بني فرعون، فنحن نفهم أنّ هذه اللفظة تعني الذرية:
              يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ                           آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
              لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا                            وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78)
فبني آدم هم ذرية آدم وبني إسرائيل هم ذرية إسرائيل، ولكن لم يكن لفرعون ذرية وذلك لأنه يعجز عن إنجابها، ولكن كان لفرعون آل:
              فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ                            (8)
فبالرغم أنّ موسى وهارون هم إخوة إلاّ أنّ لكل منهم آل:
              وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ                            مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
لقد كان لفرعون أقرباءه ولكن لم يكن له أهل أو بني، وهذا ربما يفسر إصرار فرعون على الكفر والتجبر: إنها عقدة العجز (عجزه أنْ يكون زوجاً طبيعياً وعجزه أنْ يكون رجلاً وعجزه أنْ يكون أباً)، فخرج على قومه بعد أن حشرهم قائلاً:
              فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ                                              النازعات (24)
 والدليل القرآني الآخر الذي نقدمه على عجز فرعون الجنسي وبالتالي عقدته التي كان يخفيها ويحاول أن يتكبر ويتجبر وهو يعلم بقرارة نفسه ضعفه الحقيقي هو ما ورد في الآيات الكريمات التالية:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وهنا نطلب من القارئ الكريم إمعان النظر بأحد الفروق بين ما ورد في الآية (10) التي تتحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط وما ورد في الآية (11) التي تتحدث عن امرأة فرعون، ففي حين جاء عند الحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط أنهما كانتا تحت زوجيهما (وهنا أركز على مفردة تحت) لم ترد تلك المفردة عند الحديث عن امرأة فرعون، وسؤالنا هو: لماذا؟ أي لماذا لا يذكر القرآن الكريم أن امرأة فرعون كانت تحت زوجها كما كان الحال بالنسبة لـ امرأة نوح وامرأة لوط؟
رأينا: لقد درج جل الفكر الإسلامي على تفسير ذلك مجازياً، ومراد قولهم أنه لا يستساغ أن يكون المؤمن تحت الكافر، ولكننا نرد على مثل هذا التصور بأن هناك الآلاف (بل ملايين) الحالات التي يكون المسلم مستضعفاً مقهوراً،ً ولا أود الدخول في جدلية هذا المنطق، ولكن ما أود إثارته هنا هو أن نقرأ الآيات على الحقيقة وليس على سبيل المجاز فنقول: يذكر القرآن الكريم بصريح اللفظ أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت زوجيهما ولم تكن امرأة فرعون تحت زوجها، أليس كذلك؟ ولنربط هذا الأمر بموضوع العلاقة الزوجية الحميمة، ألا تكون الزوجة تحت زوجها في الفراش؟ ألا يتطلب إنجاب الأطفال أن تكون الزوجة تحت زوجها؟ بكل تأكيد، لقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط تحت زوجيهما فكانت النتيجة أن كان لنوح أهل وأن كان للوط أهل:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ                                                           هود (40)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ                                                                                           المؤمنون (27)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ                                                           العنكبوت (33)
ولكن لم يكن لفرعون أهل (ذرية من صلبه) لأن امرأته لم تكن يوماً تحته، والنتيجة أن فرعون كان عاجزاً جنسياً أن يجعل من امرأته منجبة للأطفال، لذا طلبت منه (دون أن يشعر القوم) أن يبقي على حياة طفل من بني إسرائيل لتتبناه، فما كان منه أن يرد طلبها خوفاً أن يفتضح المستور.
وعندما نربط هذه النتيجة مع عودة موسى من أرض مدين بصحبة أهله ندرك أن موسى عاد ومعه زوجه وأطفاله (أي أهله)، فلقد أنجبت زوجة موسى فأصبح لموسى أهل عاد بهم إلى أرض مصر بعد أن قضى الأجل في مدين.

- آل
ونلحظ في كتاب الله أنه في حين لم يكن لفرعون أهل كان له آل، وآل فرعون كانوا هم جزءاً من قومه، وذلك لأنّ الهلاك لم يقع على قوم فرعون كلهم وإنما على آل فرعون بشكل خاص:
     وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
     وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)
وكذلك وقع العذاب على ملئه:
     فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا (103)
إذاً فالذين غرقوا هم من آل فرعون وكذلك من كان معه من ملئه وجنده:
     فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ                         طه (78)
     فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ         القصص (40)
     فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ                                 الذاريات (40)
-شيع
أما بالنسبة للفظة "شيعاً" فقد جاء في كتاب الله:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وإذا كان لموسى نفسه واحدة منها:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ   عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ                                    القصص (15)
فتكون أرض مصر في زمن فرعون منقسمة سياسياً إلى شيع، ولكنها قومية واحدة.

- القوم
وهنا نتوقف لنؤكد أن لفظة "القوم" هي الأشمل، فقوم النبي (أي نبي) لا تعني أهله ولا تعني بنيه ولا تعني آله ولا تعني طائفته ولا تعني ملأه ولا تعني شيعته، بل هم مجمل القوم الذين أرسل إليهم:
                   وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ     لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ                                                                      هود (89)
                   وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ     الْحَكِيمُ                                                                               إبراهيم (4)
ولنتذكر أنّ موسى نفسه قد أرسل (ليس فقط لبني إسرائيل كما يظن البعض خطأ) وإنما إلى قوم فرعون على وجه العموم:
                   وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ                                       الدخان (17)
                   اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَىٰ أَنْ تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ
(19)                                                                                 النازعات 17-19
والأهم من ذلك هو: كيف بفرعون يترك رجلاً يصل إلى مرحلة الثراء العظيم إنْ كان هو من بني إسرائيل؟
                   إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي       الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
ألم يكن بنو إسرائيل مستضعفين في الأرض؟
     وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ                     الشعراء (22)
نعم، لقد كان قوم موسى (كما كان لكل نبي ورسول) هم مجمل الذين أرسل إليهم ذاك النبي؟ فحتى لوط الذي نزل بتلك الديار بعد أنْ هاجر مع إبراهيم أصبحوا قومه:
     فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)                         
ولكن عندما وقع العذاب وقع على أهل تلك القرية:
                   وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ     (74)
ولا شك أنهم هم أنفسهم قوم لوط:
                   فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ         
                                                                                                          هود (70)
ولهذا يجب أن لا تفهم الآية التالية أنّ الذين آمنوا مع موسى هم فقط من بني إسرائيل:
                   فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي      الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ                                                                        يونس (83)
          وإلاّ لأصبح التضارب واضحاً مع قوله تعالى:
                   وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ       مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ          هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)                                                                                
فحتى آل فرعون وملأه وشيعته هم من قوم موسى لأنه أرسل إليهم، وكلهم كانوا معنيين ومدعوين للإيمان برسالته، وسنتحدث عن هذا الأمر بشيء من التفصيل عند الحديث عن رسالة أولي العزم من الرسل وهم حسب الترتيب الزمني: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم وعلى جميع رسل الله وأنبياءه أفضل السلام وأتم التسليم، والفكرة الرئيسة التي سنتطرق لها حينئذ هي أن رسالة هؤلاء الرسل على وجه التحديد كانت عالمية، فهي إن حصلت في إطار زماني ومكاني محددين إلا أنها دعوة التوحيد للبشرية بأكملها.
ويأتي السؤال هنا على نحو: لم تزعّم موسى المعارضة السياسية لفرعون وهو الذي تربى في بلاطه؟ لقد كان ذلك بسبب فرعون وعمله:
                   إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
فما كان ذلك ليرضي من قال الله في حقه:
                   وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ     فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي      (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ    وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى           (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)                                                      طه 37-41
وما كان ليرضي موسى ما كان يعمل فرعون ببني إسرائيل:
              وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ                     الشعراء (22)
ولا شك أنّ موسى كان يعلم أنه هو نفسه من بني إسرائيل، فلقد رده الله إلى أمه منذ اليوم الأول:
                   فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                                                                                              القصص (13)
وما كان ليرضى أنْ يستمر فرعون في استضعاف بني إسرائيل، فبنص القرآن كان فرعون "مِنَ الْمُفْسِدِينَ" وكان موسى "مِنَ الْمُصْلِحِينَ". فلقد وقف المصلح (كما هي الحال على مر التاريخ) في وجه المفسد، وأصبح صراعاً بين الخير (ممثلاً بموسى وما يؤمن به) والشر (ممثلاً بفرعون وما يفعله).
***    ***    ***
لقد خرج موسى من أرض مصر في حوالي الثلاثين من عمره، غير متزوج، داعياً ربه النجاة من القوم الظالمين:
                   فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                          القصص (21)
وكان ذلك في صبيحة الليلة التي دخل فيها المدينة متخفياً فقتل فيها الذي من عدوه:
                   فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ       مُّبِينٌ                                                                                 القصص (18)
لقد مكث موسى ليلة واحده في المدينة بعد أنْ دخلها متخفياً، فوكز رجلا من عدوه بعد أنْ استنصره الذي من شيعته، وفي الصباح كان موسى بين حالتي الخوف والترقب، وخرج من مصر وهو لا زال كذلك "خَائِفًا يَتَرَقَّبُ".
فقصد أرض مدين طالباً من ربه أن يهديه سواء السبيل:
                   وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ             القصص (22)
فاستجاب الله طلبه أن هداه إلى أرض مدين، وكان أول خبرته بالمكان تلك الحادثة التي لم يكن يعلم بعد حكمة الله في تدبيرها:
                   وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ                          القصص (23)
وأول تساؤل مثير نطرحه هنا يتعلق بقوله تعالى "وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ"، ونحن نعلم أنّ موسى عما قريب سيتزوج إحداهن، فكيف بموسى يتزوج من امرأة؟ أليست لفظة "امرأة" تطلق على المتزوجة من النساء، فهل فعلاً تزوج موسى بامرأة كانت متزوجة من ذي قبل؟!
يذكر القرآن الكريم أنّ المرأة هي المتزوجة من النساء:
                   وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ       خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا                                                                                                                    النساء (128)
واقترنت المرأة دائماً باسم زوجها، فجاء ذكر امرأة عمران:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ                                                                                                        آل عمران (35)
وامرأة العزيز:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ                                                                                            يوسف (30)
وكذلك امرأة نوح وامرأة لوط:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ             التحريم (10)
وفي المقابل امرأة فرعون:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                       التحريم (11)
وجاءت "المرأة" غير مقترنة بالزوج:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ           النمل (23)
أما إن كانت غير متزوجة فما أطلق عليها القرآن لفظ امرأة أبدا، فها هي مريم عليها السلام تذكر في القرآن مرات ومرات ولا تنعت بهذا اللفظ إطلاقاً، فلقد نوديت باسمها "مريم"
                   وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ     اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)                    آل عمران 42-43
                   وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا                   مريم (16)
ونسبت إلى أخيها:
                   يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا                 مريم (28)
ونسبت إلى أبيها:
                   وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ   وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ                                                         التحريم (12)
ونحن نعلم أنّ مريم قد أنجبت مولوداً ولكنها لم تتزوج:
                   فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)                                                                                                      مريم 22-24
فنسبت في آية أخرى إلى ابنها الذي أنجبته:
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ                               المائدة (75)
فحتى تكون الأنثى امرأة فلا بد لها أنْ تكون متزوجة، فنحن نعلم بنص القرآن أنّ مريم من النساء ولكنها ليست امرأة:
                   وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ                                                                                                                    آل عمران (42)
فاللواتي وقعن إذا في غيبة امرأة العزيز لم يكنّ كلهن متزوجات، واللواتي حضرن المائدة الشهيرة لم يكنّ كلهن متزوجات، ولم يكن من وقع في حب يوسف – كما يظن البعض-كلهنّ من المتزوجات، لذا جاء في كل هذه المواقف لفظ "النسوة":
                   وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ                                                                                    يوسف (30)
ونحن نعرف أن المرأة التي وهبت نفسها للنبي كانت متزوجة من ذي قبل:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الأحزاب (50)
فنعود إلى صلب الموضوع بالقول أنّ موسى وجد على بئر الماء امرأتين، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل يطلب المساعدة من خالقة:
                   فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ           القصص (24)
فكانت الاستجابة الإلهية مباشرة:
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                  القصص (25)
وهنا نتوقف عند موضوع زواج موسى من إحدى بنات شعيب، فلحظة وصول موسى إلى أرض مدين كانت المصادفة الأولى على النحو التالي:
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
وهنا يبرز التساؤل الأول الذي أثرناه سابقاً وهو: لماذا جاء النص القرآني بصيغة "امرأتين"؟ فلقد ذكرنا سابقاً أن لفظة امرأة تطلق على المتزوجة من النساء، أي من كان لها بعلاً:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا                                                                                                       النساء (128)
فكيف بموسى يتزوج بإحداهما؟ فأين زوجيهما؟ وكيف نعرف أنهن كن حقاً متزوجات؟
فلو دققنا النظر في الآيات التي تتحدث عن قصة موسى في أرض مدين لوجدنا أشارات نصية تفضي إلى هذا الادعاء، فلقد ورد في الآيات السابقة على لسان المرأتين السبب الذي من أجله يسقون: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
فهما يوضحا لموسى سبب انشغالهم برعي الأغنام: إنها الحاجة، فأبوهما شيخ كبير لا يستطيع إذاً القيام بالمهمة، وإذا ما ربطنا هذا الأمر بقصة شعيب مع قومه تتبين لنا أمور عديدة.
أولهما، أن بنتيه كانتا متزوجتين، ولكن زوجيهما قد هلكوا بسبب ما حل بالقوم من العذاب يوم أن وقع عليهم عذاب ربهم:
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
ثانياً، أنَ لقاء موسى ببنات شعيب على بئر الماء كان بعد هلاك قوم شعيب، فشعيب الآن شيخ كبير يعجز حتى عن القيام برعي الغنم لتتولى بناته المهمة
ثالثاً، لم يكن لنبي الله شعيب ذرية من الذكور يقومون بالمهمة، فعندما حضر موسى جاء طلب شعيب الأول أن يستأجره ليرعى له الغنم، فلو كان للأب ذرية من الذكور لربما لم يكن بحاجة لاستجار من يرعى له الغنم، ولما أضطر إلى أن يعهد تلك المهمة لبناته عندما أصبح شيخاً كبيرا، وربما يرد البعض بالقول: لربما كان له ذرية من الذكور ولكنهم ربما لم يؤمنوا برسالة أبيهم فهلكوا مع القوم، نقول أن ذلك غير ممكن لسبب بسيط وهو لو كان الأمر على تلك الشاكلة لذكره الله في كتابه كما كان الحال بالنسبة لابن نوح، ولو كانت زوجته هلكت مع القوم لذكر الله ذلك في كتابه كما كان الحال بالنسبة لمرأة لوط. فنحن نؤمن أن هناك قاعدة مطلقة في السرد القرآني وهي: أن الحقيقة هي الأمر الطبيعي ما لم يرد نص صريح بعكس ذلك، فأهل النبي هم جميعاً من المؤمنين دائماً ما لم يرد نص بخلاف ذلك كحالة نوح في ابنه وامرأته وكحالة إبراهيم في أبيه أو لوط في امرأته، وأهل الكافر هم من الكافرين ما لم يرد نص صريح بخلاف ذلك كحالة امرأة فرعون، فالقرآن يقدم الحقيقة كما هي غير منقوصة، فأنا لا أستطيع أن أعلم بكفر ابن نوح أو والد إبراهيم أو امرأة لوط ما لم يذكر ذلك صراحة، وبالمقابل كيف لي أن أخمن أن امرأة فرعون كانت مؤمنة إن لم يرد نص صريح بذلك؟ وسنتعرض لهذا المبحث عند الحديث عن أساسيات القص القرآني.
رابعاً، لا شك أن الذين نجوا مع شعيب كانوا (رهط) ممن آمن معه وهم قليلو العدد، ونحن نظن أن أزواج بناته كانوا من بين القوم الذين هلكوا بتلك الصيحة، فما دام شعيب قد بلغ الشيخوخة فبناته لا شك قد جاوزن عمر الزواج بكثير، فنحن نعرف أن البنت البكر ربما تتزوج بعد عامها الخامس عشر، ويستحيل أن بنات شعيب لازلن دون عمر الزواج ووالدهم قد أصبح شيخاً كبيرا، ولا أخال أن بنات شعيب ربما لا زلن من بين العوانس، وإلا لما جاء النص القرآني على صيغة "امرأتين"، فلقد كان شعيب – بلا شك- رجل موثوق بين قومه، له مكانته الشخصية والعامة، ولا بد أن الرجال كانوا يسعون (لا بل يتسابقون) لنيل شرف نسبه:
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ                                                                            هود (87)
وما حصلت القطيعة بينه وبين قومه إلا بعد أنّ جهر بدعوته:
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ                                                   الأعراف (88)
ونحن نتصور الموقف على النحو التالي: كان لشعيب ذرية من البنات (أكثر من اثنتين على أقل تقدير بدليل أن شعيباً قد حدد لموسى أي من بناته سيزوجه بإحداهن:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فوجود مفردة "هَاتَيْنِ" تدل على أن شعيباً كان عنده أكثر من البنتين اللتان عرض على موسى الزواج بإحداهن، ولما بلغن مبلغ الزواج تم زواجهم على رجال من قوم شعيب، ثم يحدث أن يجهر شعيب بالدعوة إلى الله، فيجد المعارضة الشديدة وحتى الأذى من قومه، فيقع العقاب على قوم شعيب بعد أن تمادوا في الظلم، وينجي الله شعيب ومن آمن معه:
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
 فنجد شعيبا الآن شيخاً كبيرا مع ابنتيه ترعيا الغنم، ولا شك كذلك أن زوجته كانت قد توفيت من ذي قبل، فلو كانت لازالت على قيد الحياة لكانت مسنة في العمر ولذكرت ابنتيها ذلك لموسى يوم أن وجدهم على البئر، أي لتحدثن لموسى عن أمهن كما تحدثن عن أبيهن، فما دامت المرأة ترعى الغنم (بدليل أن ابنتي شعيب كانتا ترعيا الغنم) فما المانع أن تكون أمهم معهم ترعى الغنم لو كانت لا زالت على قيد الحياة، ولو كانت طاعنة في السن لذكرت المرأتان ذلك لموسى كما تحدثن عن شيخوخة أبيهن، ولو كانت من بين القوم الذين هلكوا لذكر ذلك صراحة في كتاب الله كما كان الحال بالنسبة لمرأة نوح وامرأة لوط مثلاً.
والدليل الأكبر الذي نقدمه لإثبات أن بنات شعيب كن متزوجات (من الأرامل) قبل قدوم موسى يأتي من صيغة الطلب الذي طلبته إحداهن من أبيها، فلقد جاء طلبها على النحو التالي:
          قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ        (26)
ونحن نفهم هذا الطلب على أن البنت تطلب من أبيها أن يزوجها موسى، (فهي تخطب موسى لنفسها)، فلقد فهم على الفور مقصد ابنته، فنبي الله شعيب يمتاز -لا شك- بالنباهة ورجاحة العقل، لا بل وقدرته اللغوية الفائقة، والمتتبع لحجج شعيب على قومه يجد البلاغة الفائقة في استخدامه الألفاظ، فالرجل يفهم الكلام كما يجب أن يفهم، لذا جاء رد أبيها بعد طلبها مباشرة على النحو التالي:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
          وقد يرد البعض بالقول: وما علاقة ذلك بموضوع النقاش: أي أن زوجة موسى كانت متزوجة من قبل؟ فنرد بالقول متى يمكن أن تطلب الأنثى الزواج لنفسها؟ فهل يمكن أن تطلب البكر من أبيها أن يزوجها؟ إننا نفهم أن المرأة لا يمكن أن تتجرأ وتطلب الزواج لنفسها إلا إذا كانت ثيب (أي قد تزوجت من قبل)، فلو كانت بنت شعيب لا زالت بكراً لما تجرأت وطلبت من أبيها أن يستأجره، أليس كذلك؟ ثم لندقق النظر أكثر في حجتها:
                   قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ        (26)
ويأتي سؤالنا على النحو التالي: كيف عرفت تلك المرأة أن موسى قوي أمين وهي لم تره إلا مرة عند البئر ومرة عندما عادت تدعوه لبيت أبيها؟ ربما يرد البعض بالقول لأنها رأت قوته الجسدية وربما أمانته على البئر عندما سقى لهما؟ ولكننا نعيد السؤال بطريقة أخرى: لماذا جلبت قوة موسى الجسدية وأمانته تلك المرأة؟ أي كيف انتبهت المرأة لفتوة موسى وأمانته؟ ثم ما هي أمانته التي يتحدث عنها النص القرآني؟ فهل كانت المرأة قد استأمنت موسى على مالٍ فرده إليها فعلمت بعد ذلك أنه أمين؟ كلا وألف كلا، إننا نعتقد أن القوة والأمانة التي يتحدث عنها النص القرآني في هذا السياق لا تعني أكثر مما جلب انتباه المرأة في تلك اللحظة، إنها معرفة المرأة بالرجل من اللحظة الأولى، ولا أخال أن ذلك يمكن أن يجلب انتباه الفتاة إلا إذا كانت تعرف الرجال من قبل، فهي قد عاشرت رجلاً من قبل وتعرف كيف يكون الرجل قوياً أميناً، إنها الخبرة السابقة التي تحصلت لها من زواجها الأول، فعندما يجلب جسم الرجل (أي رجولته الجسدية) المرأة تكون المرأة قد خبرت ذلك من قبل، فتستطيع تميز الرجل ويجلب ذلك انتباهها، أما إن كانت البنت لازال بكراً فذلك لا يكون ضمن اهتماماتها أو على الأقل ضمن الأمور التي يمكن أن تجلب انتباهها في الرجل، وتعرف المرأة كذلك أمانة الرجل بمجرد النظر، فنتيجة لما تحصل لها من خبرة سابقة استطاعت تلك المرأة أن تختبر أمانة موسى، فلقد عادت المرأة لوحدها تطلب موسى القدوم إلى بيت أبيها بدليل قوله تعالى:
          فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

ولكنها جاءته كما يذكر النص القرآني "تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء"، وسؤالنا هو: لماذا على استحياء؟ وإن كان ذلك حياءً من موسى فلم لم تعد بصحبة أختها؟ إننا نفهم الموقف على النحو التالي: لقد أثارت فتوة موسى "قوته" (أي رجولته الجسدية) على البئر تلك المرأة، فعادت إلى بيت أبيها مفتونة به، ونحن نعلم أن نبي الله موسى كان من الناحية الجسدية على هيئة أحسن ما خلق الله بدليل أن الله قد برأه من تهمة وأذى بني إسرائيل، قال تعالى:
                   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا                                                                                         الأحزاب (69)
ونحن نطلب من القارئ الكريم البحث عن مناسبة نزول هذه الآية والحديث النبوي الشريف المفسر لها، أما ما يهمنا هنا هو أن موسى من الناحية الجسدية كان قوياً، فأثار ذلك انتباه المرأة، ولما عادت إلى البيت دبرت المسألة مع أختها فعادت وحدها لتختبر أمانته، لذا عادت "وهي تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء"، ولا شك أن المرأة تستطيع بنظراتها غير المباشرة التأكد من نوايا وتطلعات الرجل إليها، فما وجدت تلك المرأة من موسى إلا الأمانة، لذا بادرت أبيها بالحجج البالغة التي تسوغ استجار الرجل: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ"، ولا أخال أن نبي الله شعيب بفطنته وذكاءه كان سيفوّت تلك الفرصة، أو أن يخطئ مقصد وطلب ابنته، ثم للنظر إلى رد موسى على طلب أبيها:
                   قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
 فموسى لم يتردد لحظة واحدة في قبول العرض، ولربما ظن البعض أن ذلك كان بسبب حاجة موسى، فنقول لقد توجه موسى إلى أرض مدين وهو على يقين أن الله سيهديه سواء السبيل، وجلس عند بئر الماء يناجي ربه بحاجته لخير ينزل له من ربه فكانت الاستجابة الربانية فورية:
فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
ولا أظن أن موسى قَبِل الزواج بهذه السرعة لولا يقينه بتدبير ربه لهذا الزواج،  فيقبل موسى الزواج ويقضى أحد الأجلين عند شعيب:
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

(لاحظ عزيزي القارئ كيف تسرق المسلسلات البدوية الأردنية فكرة ملاقاة الرجل أو ما يرغبوا بتسميته "البطل" الفتاة الجميلة على عين الماء، وبعدها تستمر قصة الحب التي تنتهي غالباً بالزواج، فهي إذاً فكرة مسروقة من قصة موسى مع بنت شعيب على عين الماء، ولكن الفرق الوحيد هو في حين أن المسلسلات البدوية تفضل تعقيد القصة ليحدث الصراع ويكملوا حلقات عديدة من المسلسل التلفزيوني كانت قصة موسى مع تلك المرأة أكثر يسراً وسهولة لأن ذلك لم يكن هو المغزى الأكبر من حكاية موسى، فيتم الحب والقبول في زمن قياسي)

موسى يمكث عشر حجج في أرض مدين يرعى الغنم
ولا أشك لحظة واحدة أن موسى قد أتم عشرة حجج عند شعيب، فدين موسى وخلقه لا يمكن إلا أن يهديانه إلى رد المعروف للرجل الذي وجده "من الصالحين"، وخلال تلك الفترة لا يكون من شأن موسى سوى عائلته (زوجته وأطفاله) وشغله (رعي الأغنام)، فموسى عاد إلى مصر من مدين بصحبة أهله، وقد بينّا سابقاً أن الأهل تعني الزوجة والأطفال معاً:
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فلو كان موسى عائداً فقط بصحبة زوجته لما تركها وحدها ليستطلع خبر النار في تلك الأرض المقفرة، ولكنه ذهب وحده وترك زوجته مع أطفالها ربما لعدم قدرة المرأة اللحاق بزوجها مع أطفالها إلى ذلك المكان، فنحن نعرف أن موسى كان يترك من معه ليستطلع الأمر بنفسه، فقد ترك قومه وتعجل للقاء ربه وحيداً:  
          وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (84)
                                                                                                          طه 83-84
فـ عنفوان موسى وبطشه وشدته تجعله من النوع الذي يقدم على المخاطر وحيداً، فقد ترك أهله (زوجته وأطفاله) ليستطلع خبر النار، ونحن نعلم أن الفترة التي قضاها في أرض مدين كانت عشر حجج، وبالتالي لم يتجاوز أكبر أطفاله سناً الثامنة أو التاسعة من العمر على أكثر تقدير، ولو حسبنا عمر موسى حتى اللحظة لوجدنا أنه قد أصبح في الأربعين من العمر، فهو كما ذكرنا سابقاً قد هرب إلى مدين عندما "بلغ أشده واستوى"، وقد ذكرنا أنّ ذلك يكون في حوالي الثلاثين من العمر، ومكث في أرض مدين عشر حجج فيكون قد بلغ أو قارب سن الأربعين، وهذا كما نعلم هو عمر التكليف بالدعوة، فلقد تلقى سيدنا محمد خبر السماء قبل أن يصل سن الأربعين ولكنه أمر بالتبليغ في الأربعين من العمر، لذا عندما بلغ موسى ذلك العمر وهو قافل العودة إلى مصر ذهب إلى ذلك الواد يستطلع الخبر (خبر النار) فكان التكليف الإلهي له بالدعوة في ذلك المكان والزمان:
                   وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ                                                        طه (13)
فيطلب منه ربه دعوة فرعون أولاً وقبل كل شيء:
                   اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ                                                          طه (24)
                   وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الزخرف (46)
وهذا رد قوي على من يظن أن موسى كان نبياً لبني إسرائيل، بل كان نبيا لقومه وهم مجمل من أرسل لهم ذاك الرسول (وكانت رسالته هي رسالة التوحيد فهي إذاً عالمية لا تقتصر على عرق أو فئة أو طائفة)، وقد كان ذلك يوم أن بلغ الأربعين من العمر.
فنبي الله موسى قد تلقى من ربه حكماً وعلما يوم أن كان في الثلاثين من العمر:
                   فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
          وتلقى الأمر الإلهي بالدعوة بعد أن مكث عشر حجج في أرض مدين:
                   وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13)
ونتوقف هنا لنثبت عدة أمور توصلنا لها من خلال السرد السابق:
أولاً، عاش موسى فترة من الزمن متخفياً في أرض مصر نتيجة لمعارضته السياسية لفرعون
ثانياً، حصل موسى من ربه على علم وحكم يوم أن بلغ أشده واستوى وكان ذلك وهو في الثلاثين من العمر
ثالثاً، هرب موسى من ارض مصر إلى أرض مدين يوم أن قتل الرجل
رابعاً، تزوج موسى بابنة شعيب يوم وصل أرض مدين
خامساً، كانت زوجته يوم أن تزوجها امرأة (أرملة)
سادساً، قبل موسى بزواجه من بنت شعيب ورعى الغنم لأبيها عشرة حجج
سابعاً، أنجب موسى ذرية من زوجته فأصبح له أهل:
ثامناً، رجع موسى إلى أرض مصر بصحبة أهله
تاسعاً، تلقى موسى الأمر الإلهي بالدعوة عندما كان في الأربعين من العمر
عاشراً، حصل ذلك في الواد المقدس
وقبل الانتقال بموسى إلى أرض مصر ومقارعته فرعون، وأخيراً خروجه وبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، تظهر بعض الإشارات القرآنية التي تستوجب التوقف عندها وتجليتها لما سيترتب عليها من أمور جمة يصعب فهم القصة بدونها، ونعرض بعض هذه الإشارات على شكل تساؤلات مر عليها الفكر الإسلامي مرور (الكرام)، ومنها:
1.     الفرق بين الأهل والآل
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هناك فرقاً جوهرياً بين أهل الرجل وآل الرجل، ففي حين أن الزوجة هي من أهل الرجل إلا أنها قد لا تكون من آل الرجل.
(وهذا ما سنتناوله في مقالة منفصلة بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم)
2.     أين كان موسى متجها بعد أن غادر أرض مدين
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن موسى قد غادر بأهله من أرض مدين ولم يكن ينوي الذهاب إلى مصر حيث بلاد فرعون، لأن موسى يعلم أن للقوم عليه ذنب، كما أن موسى أكد على خوفه من القوم حتى يوم أن بعثه الله إلى فرعون:
          وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ                                 الشعراء (14)
          قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ                  القصص (33)
فهل كان موسى يجازف بنفسه وأهله ليضع نفسه بين يدي فرعون ليقتص منه؟
السؤال: أين إذن كان موسى متجهاً بأهله؟
(هذا ما سنحاول النبش فيه بحول الله وتوفيقه في مقالاتنا الخاصة بقصة موسى. فالله أسأل أن يقضي أمره وينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو العليم الحكيم)

بقلم      د. رشيد الجراح





 [1]  لاحظ عزيزي القارئ أن الله قد بشر إبراهيم مرتين كما يرد في سورة الصافات: (1) مرة بغلام حليم وهو الذي تلّه للجبين بعد أن رأى في منامه أنه يذبحه و (2) مرة أخرى بإسحق بصريح اللفظ القرآني، وكلاهما كان من الصالحين، اقرأ الآيات كما ترد في سورة الصافات لتتأكد بنفسك:
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
والمدقق في قصة ضيف إبراهيم يجد السياق القرآني التالي:
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
والملفت للنظر أن تلك الزيارة كانت بسبب قوم لوط الذين أوكل لضيف إبراهيم مهمة تدميرهم، وفي تلك الزيارة حدثت بشرى لإبراهيم وزوجته بإسحق، وحصلت البشرى لزوجته في سورة هود على النحو التالي:
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
والمدقق بالألفاظ يجد أن البشرى لإبراهيم كانت في النصين اللذين يتحدثان عن نفس الزيارة ب "غلام عليم" بينما كانت البشرى الأولى بإسماعيل ب "غلام حليم"، لنخلص إلى القول أنه في حين كان إسماعيل حليماً كان إسحق عليماً.


[2] وهنا قد يتساءل البعض عن سبب ورود قوله تعالى "آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ" ونحن نعلن بنص القرآن أنّ موسى وهارون هم إخوة، فهل يعني ذلك أنّ آل موسى ليسوا آل هارون؟ ألم نقل أنّ آل الرجل هم أقرباءه؟ نقول نعم إنّ آل الرجل هم أقرباءه ومع ذلك فآل موسى ليسوا أنفسهم آل هارون، وقد يرد البعض على الفور بالقول وكيف يكون ذلك؟ فنقول دعنا نتذكر شيئاً يخص بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال تعالى بحق نبيهم الذي ينتسبوا له ويسمون باسمه وهو إسرائيل (يعقوب) نفسه:
            قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ         النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ                               البقرة (136)
            أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ           شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ                                         البقرة (140)
            قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن       رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ                                                    آل عمران (84)
            إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ         وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا                                                 النساء (163)

[3] وقد يرد البعض بالقول ولكن فرعون لم يكن يعلم أنْ الغلام من بني إسرائيل، فنقول كلا، فحتى لو افترضنا أنه لم يكن يعلم ذلك، فكيف يمكن اكتشاف الأم الحقيقية لطفل ما؟ أليست هي الرضاعة؟ فلب القول أنه عندما رفض الطفل تقبل الرضاعة من النساء جميعاً، وقبل رضاعة امرأة بعينها من بني إسرائيل، فهل كان ذلك سينطلي على متكبر جبار مثل فرعون؟ ألم يكن سيساوره الشك ليتحقق من الأمر بنفسه؟ ثم لندقق في قول زوجته "لا تقتلوه"، وسؤالنا هو: لماذا طلبت منهم أن لا يقتلوا الطفل؟ إننا نظن أن طلبها هذا جاء بعد أن استقر لدى فرعون وملئه أن هذا الطفل من بني إسرائيل، ولو كانوا على يقين أنه ليس من بني إسرائيل لما كان هناك داع لإثارة موضوع قتله حتى تتدخل الزوجة لتنقذه، لقد قبل فرعون السكوت على ما لا يسكت عليه فقط تلبية لرغبة امرأته؟ ولكن السؤال الأكبر هو: هل كان فرعون مضطراً لتلبية رغبة امرأته؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، يأتي السؤال الذي لا مفر منه والذي نحاول الإجابة عليه في هذا الطرح وهو: لماذا؟