يطرح هذا المقال فرضية جدلية مفادها أن علم الله المطلق يحيط بـ "الأشياء" الموجودة، ولكنه ليس مطلقًا فيما يتعلق بأفعال البشر التي لم تقع بعد. يستند الكاتب إلى التفريق بين القلب (مركز اتخاذ القرار) والدماغ (مستودع المعلومات)، ويجادل بأن الله يختبر البشر "ليعلم" أفعالهم المستقبلية لأنها لم تصبح "شيئًا" بعد. ويدعم طرحه بتحليل آيات قرآنية تفرق بين علم الله الشامل بالموجودات، والآيات التي تشير إلى أن الله يعلم أفعال الناس بعد وقوعها، رافضًا فكرة "المعجزات" لصالح "الآيات البينات" التي تدعو للتفكر.
ملاحظة: نحن نرى ضرورة قراءة هذه المقالة في ضوء ما ورد في مقالتنا السابقة تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير
ملاحظة: نشير للقارئ الكريم أنّنا لا نكتم ما نظن أنه علماً علمنا الله إياه مهما بلغ درجة غرابته في نطر الآخرين، لذا ما يهمنا هو انتشار العلم بين الناس ليكون سببا في تحريك الجمود الفكري الذي أصاب الأمة منذ قرونا من الزمن، سائلين الله أن يكون من باب العلم الذي ينتفع به، وتسأله تعالى أن يكون ذلك خالصاً لوجهه فلا نريد منكم جزاء ولا شكورا. فمن أحب أنْ يشارك الكاتب بأفكار تساعد في تطوير مقالتنا هذه (التي نطن أن فيها من الافتراءات غير المسبوقة) فله من الله الأجر ومنا الشكر والثناء، ومن أراد أنْ ينسب هذه الأفكار له، فهو لن ينال إلا عقوبة السارق (فنحن نؤمن أنّ الله يعلم من دفع ثمن الأضحية)، أما نحن فلا نلاحقه قضائياً ولا أكاديمياً، وأما من ظن أنّ كلامنا لا يعدو أكثر من هراء فهو بلا شك لم يجاوز الحقيقة وليرسل هذا الملف بأكمله إلى recycle bin على جهازه. وأما من أراد أن لا يتزعزع إيمانه بعقائد آباءه وأجداده فإننا ننصحه أن لا يتابع القراءة بعد هذا السطر.
مقدمة الافتراءات: القلب والعقل
نظن أن ما أثرناه في بعض مقالاتنا السابقة (خاصة تلك تحت عنوان "مقالة في التسيير والتخيير" و "جدلية الحقيقة والمجاز") قد جلبت فضول كثيرين وهم يتساءلون عن موقع "العقل" (أو ما يعرفونه هم بالمخ أو الدماغ الموجود في الرأس) في السياقات القرآنية، فمراد قولهم: لِمَ لَمْ يُذكر الدماغ – على الرغم من أهميته كوحدة عضوية (كالقلب واليدين والرجلين، الخ)- في القرآن الكريم؟
رأينا: نحن نظن أنه غالباً ما حدثت الفوضى في استخدام الألفاظ حتى على لسان أهل العلم والاختصاص، ولوى الكثيرون أعناق النصوص لتتكيّف مع تصوراتهم للأمور المطروحة، وغالباً ما ضاعت الحقيقة بين من يؤيد الاستخدامات والمعاني الحرفية للنصوص القرآنية من جهة ومن يحلق في سماء الاستعارات والمجازات اللغوية من جهة أخرى، فأين يا ترى تكمن الحقيقة؟[1]
نحاول في هذا البحث تسليط الضوء على هذا الجانب بمحاولتنا ربط مجموعة من السياقات القرآنية بعضها مع بعض، وفي الوقت الذي نجزم أننا لم نتوصل إلى الحقيقة الثابتة، نعتقد أنّ في دراستنا هذه إضاءات قد تسعف في البحث الحقيقي عن تلك المعاني. ولنبدأ بالافتراء الكبير التالي الذي هو بلا شك من عند أنفسنا:
افتراء 1: إننا نفتري الظن بأنّ القلب (الذي في الصدر) هو المحرك الرئيسي للتفكير وليس الدماغ (الذي في الرأس) الذي لا يعدو دوره أكثر من مخزن للمعلومات. فالدماغ – برأينا- لا يتعدى دوره أن يكون أكثر من "سدة البيت" (أو attic باللسان الأعجمي) التي تدّخر فيها ما جمعته لعائلتك وتسترجعه منه عند الحاجة إليه، أما وحدة إصدار الأوامر فهي القلب، (ولا نقصد به مضخة الدم الموجودة في داخل جسم الإنسان) بل هو ذلك العضو الذي بحجم المضغة الموجود في أعلى مضخة الدم الموجودة داخل صدر الإنسان.
افتراء 2: كما أننا نزعم الفهم أنّ القرآن الكريم يثبت أنّ حياكة الأمر تحصل أولاً - وقبل كل شيء- في القلب الذي هو – في ظننا- محرك الجسد كله (decision-making organ) بأوامره التي يصدرها إلى الدماغ الذي يخاطب بدوره أعضاء الجسم كلها، فالأمر يذهب من القلب إلى الدماغ وليس العكس كما ظن الكثيرون وزعموا.
الدليل
إن ما افترينا بخصوص القلب والدماغ يعني بمفردات القرآن الكريم – حسب فهمنا- أنّ القلب هو المستقر والدماغ هو المستودع، قال تعالى:
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن التشابه بين الإنسان من جهة والدواب والطيور التي تطير بجناحيها من جهة أخرى يكمن بوجود المستقر والمستودع، لذا فإن كل كائن يملك المستقر والمستودع سيتم حشره إلى ربه ومحاسبته على ما عمل في حياته.[2]
وسنحاول في شرحنا التالي تباين ليس فقط آلية التنفيذ هذه (أي إصدار الأوامر من القلب إلى الدماغ)، بل الخوض أيضاً بتبعات هذا الإدعاء. وبحثنا هذا يؤطر لمفردات متعددة مثل الجسم والجسد والنفس والصدر والفؤاد والروح والعقل والقلب، الخ. وضرورة التفريق بينهم.
الله يعلم وانتم لا تعلمون
تتكرر فكرة أن الله يعلم ونحن لا نعلم كثيراً في كتاب الله، قال تعالى:
ولكن هل يعني ذلك أننا نحن البشر لا نعلم إطلاقاً؟ وإن كان كذلك فكيف يمكن التوفيق بين مثل هذه الآيات الكريمة مع ما ورد في أماكن أخرى تثبت حصول العلم لنا نحن البشر؟
فالله سبحانه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وقد وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، وهو كذلك قد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، أليس كذلك؟
وهنا أتوقف مع القارئ الكريم لطرح فكرة غاية في الغرابة والصعوبة، ولا أتصور أن يتقبلها الفكر الإسلامي بسهولة (لأنها بلا شك افتراء من عند نفسي، لا أطلب من القارئ الكريم الترويج لها ما لم يصبح هو نفسه مقتنعاً بها، مدركاً لتبعاتها)، لكني أعتقد أنها (إن صحت) ستحل قضايا شائكة أعيت الفكر الديني لعقود طويلة من الزمن، وستفتح –لا شك عندنا- أفاقاً عظيمة من البحث والدراسة، وجل ما أرجوه هو إعطائي فسحة من الوقت لطرح الفكرة بأقل جهد ممكن، وإن تعذر علىّ ذلك وأخطأت الفهم فإني أسأل الله أولاً المغفرة وإخواني المسلمين بعد ذلك أن يلتمسوا لي العذر، فأنا ليست أكثر من طالب علم، باحث عن الحقيقة أينما وجدت وفي أي صورت وجدت.
أما بعد،
تتلخص الفكرة في محاولة جلب الانتباه إلى الصيغ القرآنية التي وردت بها الآيات السابقة التي تتحدث عن إحاطة الله العلم بكل شيء، فلو دققنا النظر في تلك الصيغ جميعاً لوجدناها قد وردت بصيغة أن الله عليم، وقد وسع، وقد أحاط بـ "كُلَّ شَيْءٍ" علماً، أليس كذلك؟ نعم، ربما يرد البعض بالقول، ولكن ما المشكلة؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لو دققنا النظر في جميع السياقات الخاصة بعلم الله المطلق لوجدناها مرتبطة جميعها بالأشياء، فعلم الله متعلق بـ "كُلَّ شَيْءٍ"، ولو حاولنا التمسك بحرفية مفردات النص كما هي، لربما صح لنا الافتراء بأن علم الله مطلق إذا كان الأمر متعلقاً بعلمه بـ الأشياء، فالله قد أحاط علمه بـ كُلَّ شَيْءٍ بنص الآيات نفسها.
الافتراء الخطير: حدود العلم الإلهي
الافتراء الخطير جداً: نحن نفتري الظن بأنه إن كان الأمر يتعلق بالأشياء فعلم الله مطلق لا محالة، ولكننا نظن أنه إذا كان الأمر يتعلق بـ "غير الأشياء"، فالمسألة فيها وجهة نظر أخرى. كلام غاية في الخطورة، أليس كذلك؟
الدليل
إننا نظن أن لب القول هنا سؤال خطير جداً، ألا وهو: هل علم الله مطلق إذا كان الأمر يتعلق بغير العلم بالأشياء؟
- وكيف يكون ذلك؟ سيرد الكثيرون بالقول.
رأينا: نقول دعنا نعمل التفكير بعض الشيء في الآيات الكريمة التالية:
وسؤالنا هو ما معنى مفردة "شيء" التي ترد في السياقات القرآنية؟ ومتى يكون هناك "شيء"؟ فهل يمكن أن نتحدث عن شيء وهو غير موجود أصلاً؟ فهل يمكن أن تسأل عن شيء لا أساس له في الوجود؟ فهل –مثلاً- يمكن أن تبخس الناس شيئاً غير موجود أصلاً؟ وهل يمكن السؤال عن شيء لا يمكن تصوره؟
رأينا: إن الجواب يكون – في ظننا- بالنفي قطعاً، ولنتدبر الآية الكريمة التالية:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿٥﴾
سورة آل عمران
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الفهم لهذه الآية الكريمة على النحو التالي: أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء كموجودات الأرض والسماء، فحتى يكون هناك شيء لا بد أن يكون له أصل أو وجود، أليس كذلك؟ وإن لم يكن له أصل أو وجود فهو لم يصبح شيئاً بعد. ونحن نفتري القول أنه إن صحّ زعمنا هذا، فإننا نفهم أن الله قد أحاط بكل شيء علماً على نحو كمال علمه بالموجودات، فإن كان جزءً من الموجودات أصبح شيئاً، وأصبح علم الله فيه مطلق، وإن لم يصير بعد جزءً من الموجودات فذلك لا ينطبق عليه مطلق علم الله.
قد يقول البعض على الفور: وكيف يمكن أن يكون من غير الموجودات؟
جواب: أن لا يكون "شي"؟
- هذه فلسفة هزيلة لا نرغب فيها، ربما يرد البعض بالقول.
- نقول نعم، ولكن بغض النظر عن الركاكة في صياغة الفكرة، إلاّ أننا لا زلنا نظن (ربما مخطئين) أن الأمر قد يكون كذلك، ولنمعن النظر بالآيات الكريمات التالية في ضوء هذا الزعم:
فكما تشير الآيات السابقة لم يكن الإنسان قبل خلقه شيئاً، فمتى خلق الإنسان أصبح جزءاً من الموجودات وأصبح العلم به جزءاً من العلم بالموجودات لأنه عندئذ أصبح شيئا. فمن ذهب إلى السراب وظن أنه ماءً لا شك لن يجده شيئاً لأنه ببساطة غير موجود، إما إن كان هناك شيء فعلاً فسيجده.
إننا نود من خلال النقاش السابق التمييز بين نوعين من العلم:
العلم بالموجودات (أي الأشياء)
والعلم "بغير الموجودات"، (أي إن لم تكن قد أصبحت شيئاً بعد)
وبناء على ذلك نقدم الافتراء الخطير التالي: أما العلم بالموجودات فهو العلم بالأشياء وعلم الله بها لا شك كامل، أما العلم "بغير الموجودات" فهو ليس جزء من علم الأشياء وعلم الله فيها ليس مطلقاً. كلام خطير، أليس كذلك؟
ما الذي سيعلمه الله؟
فلنستعرض بعض آيات القرآن الكريم ولنمعن النظر بسؤال واحد هو: ما الذي سيعلمه الله إن كان علمه مطلق بالأشياء وبغير الأشياء؟
فلقد وردت لام التعليل "أو الغاية" بصيغة الحصر على نحو "إِلَّا لِنَعْلَمَ":
والملفت للانتباه أن الله سبحانه وتعالى يحدث أمراً ما، ليتحصل العلم بأمر آخر، فها هو يبعث أهل الكهف من رقدتهم تلك " لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا" :
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿٣١﴾
سورة محمد
والمدقق في اللفظ القرآني في الآية التالية يجد أن استخدام "حتى" تدل على الغاية من الابتلاء، أليس كذلك؟
والمدقق في الآية الكريمة التالية يجد أن علم الله في هذا الأمر لم يكن سبباً لحصوله بل نتيجة له، بدليل وجود ظرف الزمان الذي يدل على وقت حصول العلم بالأمر:
وهنا نصل إلى ذروة ما نود طرحه: كيف يمكن التوفيق بين قول الله أنه قد "أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" في أكثر من مكان في كتابه الكريم وقوله " الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا" أو قوله "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" وقوله "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا"، ونحوهم، كما ورد في جميع الآيات السابقة؟
وقبل الانتقال إلى نقطة جوهرية أخرى لا بد أن نجلب انتباه القارئ الكريم إلى ملاحظة بسيطة ربما استطاع الكثيرون الوصول إليها بعد هذا السرد، ألا وهي أن جميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن علم الله المطلق كانت تتحدث عن الأشياء على نحو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، و وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، و أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، أما صيغ لِنَعْلَمَ، أو حَتَّىٰ نَعْلَمَ، أو فَلَيَعْلَمَنَّ فقد وردت عند الحديث عن الناس. وهنا – في ظننا- يكمن الفرق. ولكن كيف؟
افتراء من عند أنفسنا: بناءً على ما سبق من افتراءات من عند أنفسنا، فإننا نزعم القول أن علم الله مطلق كامل شامل بالأشياء، أما علمه بالناس فهو ليس كذلك. كلام جد خطير، أليس كذلك؟
نعم، ولكن لهذا الظن تبعاته الجمة التي لا بد من الوقوف عليها، وأهمها أن مثل هذا الفهم (على علاّته) يمكن أن يساعد – في رأينا- في حل إشكالية الخلق والحساب والثواب والعقاب.
ولكن قبل الولوج في خضم ذاك الحديث لابد من إثارة بعض التساؤلات التي ربما يثيرها الكثيرون، وأولها ألا يعلم الله الغيب؟
إنّ المدقق في هذه السياقات القرآنية جميعها يجد حقيقة جلّية لا لبس فيها مفادها أن جميع الآيات السابقة تتحدث عن الأشياء، ولا تتحدث عن ما يفعله البشر. فالله يعلم مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ، وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، و عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَام، وهو كذلك يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وهكذا، وهذه جميعها تقع ضمن دائرة الأشياء التي أحاط الله بها علما، لهذا نخلص إلى نتيجة مفادها أن علم الله بالغيب يتعلق بالأشياء، أما ما يخص ما سيفعله البشر عن محض اختيار منهم (ولم يصبح بعد جزءاً من الأشياء) فالله لا يعلمه.
وهنا قد يرد البعض بالقول ولكن الله يعلم ما نخفي وما نعلن، أليس كذلك؟
الله يعلم السر والجهر
نعم، الله يعلم ما نخفي وما نعلن، ما نبدي وما نكتم، ويعلم سرنا وجهرنا، ويعلم سرنا ونجوانا:
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴿٧﴾
سورة الأعلى
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿٢٦﴾
سورة محمد
نعم، هذه أمور تتعلق بالبشر ويعلمها الله، ولكن ألم تلاحظ – عزيزي القارئ- أن جميع هذه السياقات تتحدث عن أمور قد حصلت فعلاً؟ وهنا نود التميز بين نوعين من العلم الخاص بالبشر:
علم يتعلق بما حصل فعلاً
علم يتعلق بما لم يحصل بعد
إننا نزعم القول أن الله قد أحاط علمه بالنوع الأول من العلم المتعلق بالبشر، وهو ما قد حصل فعلاً، لكن علم الله لا يحيط بأمور الناس التي لم تكن قد حصلت بعد (أي لم تك شيئاً بعد)، وربما لهذا يُحْدِثُ الله أموراً معينة ليستجليها ويعلمها، ولنعيد هنا بعض الآيات السابقة لتوضيح الفكرة:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿٣١﴾
سورة محمد
فالله يُحْدِثُ البلاء ليعلم المجاهدين والصابرين، فالأمر لم يتحقق بعد، أما علم الله بما نخفي وما نعلن فيكون محيطاً فقط بما حدث فعلاً، وليس بما لم يحدث بعد. وهنا سيرد الكثيرون بالقول أن هذا محض هراء، فالله يعلم ما نخفي وما نعلن، ما نسر وما نعلن، ما نبدي وما نكتم، فإن كان الله يعلم ما نسر وما نكتم، أليس ذلك من باب ما سيحصل؟
رأينا: كلا وألف كلا، إن ذلك من باب ما قد حصل فقط، ونحن لا نجد عناءً في إثبات صحة ما نزعم من كتاب الله تعالى نفسه، وما نحن بحاجة إليه هو إمعان التفكير في معاني هذه المفردات كما ترد في كتاب الله لا كما نظنها نحن البشر.
الكتمان
لتبيان الأمر فإننا نقدم الآيات الكريمة التالية لنثبت أن الكتمان مثلاً لا يمكن أن يتم إلا لشيء قد حصل، فبنو إسرائيل قد قتلوا نفساً وكتموا الأمر:
نتيجة مفتراة: نحن نظن بناء على فهمنا لهذه السياقات القرآنية أن الكتمان يعني معرفة الأمر مع عدم البوح به، فالذين يكتمون ما أنزل الله من البينات يعرفونها ولكنهم لا يبوحون بها، والمطلقة لا يجب أن "تكتم" (أي لا تبوح) بما خلق الله في رحمها، ولم يبح ذاك الرجل المؤمن بإيمانه.
الإخفاء
ونحن نظن أن المنطق نفسه ينطبق على الإخفاء ("تخفون")، فعندما تخفي شيئاً فلا بد أن يكون موجوداً أصلاً:
فالمرأة تخفي زينتها ولكنها لا تكتمها،، فالكتمان (أي عدم البوح) لا يكفي وحده، ولا بد من استخدام حاجز أو وسيلة لتغطية الأمر، فالمرأة تستخدم جلبابها (أو ثوبها أو خمارها، سمّه ما شئت) لإخفاء زينتها
ولهذا نجد الروعة القرآنية في استخدام مفردة الإخفاء، لتتلخص بأمرين اثنين:
أنك عندما تريد أن "تخفي"، لا بد أن يكون هناك شيء لكي تخفيه، قال تعالى:
ويتضح من السياقات القرآنية السابقة أنه عندما يستخدم الإنسان وسيلة لإخفاء الأمر يتم ذلك إما في النفس أو في الصدر.
افتراء من عند أنفسنا: نجن نظن أن الدقة تستلزم جلب انتباه القارئ إلى ملاحظة ربما تكون غريبة ولكنها برأينا مفيدة جداً تتمثل في ظننا بأن الأشياء لا تخفى في القلب، فلم يرد في كتاب الله أن الإنسان يخفي شيئاً في قلبه، وسنتعرض لتبعات هذا الأمر لاحقاً، وستكون هذه الملحوظة حينئذ هي محرك البحث في الحديث عن حدود علم الله.
من خلال الطرح السابق، نخلص إلى النتيجة التي مفادها أن علم الله يتمثل في أمرين اثنين:
الإحاطة بالأشياء كلها مصداقاً لقوله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، و وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، و أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
الإحاطة بما صدر عن الإنسان من أفعال سواء أعلنها الإنسان أو كتمها، أظهرها أو أخفاها، أبداها أو أسرها.
وهذا المعنى الأخير واضح من مجالات علم الله، فالله يعلم ما نفعل:
وهذه أفعال تكون قد صدرت جميعها عن الإنسان سواء أسرها أو كتمها، أخفاها أو أظهرها، أبداها أو أعلنها.
السؤال: ما الجديد في هذا الطرح؟ أو كيف يختلف هذا الطرح عن كل ما سبقه؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم القول أنّ علم الله (وإن أحاط بكل شيء علماً و بما عمل الإنسان) لا يحيط بما لم يصدر عن الإنسان من أفعال (أعمال) بعد، فما لم تفعل وما لم تعمل وما لم تصنع وما لم تقل وما لم تسمع وما لم تصف بعد لا يحيط الله به علماً ولا يعلمه. كلام خطير خطير خطير، أليس كذلك؟
نعم، ولكننا نود فقط أن نجلب انتباه القارئ إلى سؤالين اثنين:
أولهما، ما المقصود "بالعلم" كما يرد في كتاب الله؟
وثانيهما، كيف يتم العلم؟
ما المقصود بالعلم؟
إن المتتبع للسياقات القرآنية يجد أن العلم يعنى حصول المعرفة بأمر موجود من ذي قبل، فعلى سبيل المثال عندما تفضل الله تعالى على آدم "بعلم الأسماء" في بداية الخلق لا شك كان ذلك العلم موجودا قبل أن يعلمه الله لآدم:
وبتدبر الآيات الكريمات التالية نجد أنّ العلم لا يتم إلا بالنقل، فالعلم لا يأتي من فراغ، بل لا بد من وجوده مسبقاً ليتم بعد ذلك نقله من .... إلى... . فالإنسان يولد لا يعلم شيئاً، مصداقاً لقوله تعالى:
أما ما يتلقاه من المصادر الأخرى فقد تكون غير صادقة، وبالتالي قابلة للخطأ والصواب، فالمعرفة المتحصّلة من العلم البشري مهما عظمت تبقى قابلة للتعديل مع الوقت، ولكن المعرفة المتحصلة من المصدر الإلهي فهي غير قابلة للتبديل أو التعديل لأنها معرفة صحيحة، مطلقة الحقيقة.
ونحن نزعم القول أنه لا ترد السياقات القرآنية الخاصة بالعلم إلا بشيء قد حصل، ولنعمل التفكير في الآيات التالية
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴿٣٠﴾
سورة محمد
ألا تدل هذه السياقات القرآنية على أن علم الله (الخاص بما يفعله البشر) قد أحاط بما كان قد حصل فعلا؟ وقد يرد البعض على الفور بالقول ولكن الله يعلم المصلح والمفسد والمؤمن والكافر، الخ.، مصداقاً لقوله تعالى:
ألا يعني ذلك أن الله قد علم بهم قبل أن يهتدوا أو يؤمنوا أو يعتدوا، وهكذا؟ نقول كلا، فالمصادر وصيغ التفضيل وأسماء المفاعيل (الفاعل والمفعول) في اللغة العربية مجردة من عنصر الزمن كما يعلم الجميع، فعندما تقول- مثلاً- فلان مؤمن، فذاك لا يشير إلى زمن إيمانه، فلمعرفة زمن ذلك الإيمان لابد من وجود قرينة لفظية أو سياقية توضح ذلك. ولنطرح المثال التالي لتوضيح الصورة:
فهل تدل لفظتي "لكاذبون" في الآية 42 و "بالمتقين" في الآية 44 على الزمن الماضي أم الحاضر أم المستقبل؟ وبكلمات أخرى هل نفهم من الآية الكريمة أن علم الله يتمثل بما كان أم بما يكون أم بما سيكون من أمر الفئتين؟
رأينا: لا شك أن الآية بمجملها تتحدث عن علم الله بحالهم لما كان من أمرهم وما هو كائن نتيجة لذلك، ولكنها لا تتحدث عن استباق علم الله لحالهم، فالله قد علم أنهم كاذبون لما صدر منهم من أفعال (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ)، فهم إذاً لم يخرجوا مع النبي وبالتالي ثبت أنهم من الكاذبين، فاستحقوا أن ينعتوا إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وعلم كذلك بحال المتقين لما صدر منهم من أعمال (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ).
وتتجلى الصورة بشكل لا لبس فيه عندما ترد هذه المعاني على صيغ الأفعال التي تدل على الزمن، ولنتدبر مثل هذه المعاني في سياقات أخرى:
ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ ﴿٣٠﴾
سورة النجم
فعندما نتدبر مفردات ضَلَّ و اهْتَدَىٰ و اتَّقَىٰ في الآيات السابقة نجد أنّ الله يعلم من ضل (وليس من سيضل) وهو أعلم بمن اهتدي (وليس من سيهتدي) وهو أعلم بمن اتقى (وليس من سيتقي)، وهكذا.
وتتضح الصورة أكثر عند اجتماع الفعل مع المصدر أو اسم الفاعل في الآية الواحدة:
فهل المقارنة في قوله تعالى (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) بين من جاء بالهدى ومن سيضل أم بين من جاء بالهدى ومن ضل؟ وهل المقارنة في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بين من ضل ومن سيهتدي أم بين من ضل ومن اهتدى؟!
افتراء من عند أنفسنا: نستنتج بناء على فهمنا لهذه السياقات القرآنية أن علم الله بالمهتدين والمتقين والمؤمنين، والمنافقين والكافرين، الخ. هو علم بما كان من أمرهم وليس بما سيكون عليه حالهم. وبكلمات بسيطة فإننا نقول أن الله يعلم ما كان من أمرهم من الإيمان والهدى والضلالة ولكنه لا يعلم بما سيكون من أمرهم من الإيمان والهدى والضلالة.
تبعات هذا الظن
أولاً: ربما بهذا الفهم يمكن تجلية معنى الخلق وسبب الحساب والعقاب، لأننا نظن أن الله لم يُعِد مسبقاً مسرحية هزلية محتومة الأحداث ومحسومة النتائج.
ثانياً: ربما بهذا الفهم تتجلى أفضلية الناس على بقية الخلق. ومعنى الخلافة وحقيقة التسيير والتخيير (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير).
ولكن قبل الولوج في خضم تلك المجالات نجد لزاماً أن نحاول طرح السؤال الكبير التالي: ما الذي يعلمه الله وما الذي لا يعلمه؟ ولماذا؟
ما الذي لا يعلمه الله؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أن الجواب على هذا التساؤل الكبير يكمن في مكان وجود المعلومة. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نعتقد أن العلم المتعلق بالإنسان مكنون في مواقع أربعة لدى الإنسان:
ونحن نفتري الظن أن علم الله بأمر الإنسان مرتبط بشكل كبير بمكان وجود المعلومة، وما هو مطلوب هو أن نمعن التفكير بما ورد في كتاب الله بكيفية علم الله بما لدى الإنسان في كل موقع من هذه المواقع الأربعة، ولنبدأ بها الواحدة تلو الأخرى، ونحن نفهم الموضوع على النحو التالي:
افتراء من عند أنفسنا: إن أول ما تتولد المعلومة يكون محلها في القلب، ثم تنتقل بعدها إلى الصدر ومن ثم إلى النفس وأخيراً تظهر بين يدي الإنسان ومن خلفه.
وهذا بالضبط ما سينقلنا إلى الشق الآخر من الموضوع وهو موضوع جدلية القلب والعقل
وللحديث بقية
دعاء: أسأل الله رب أن يؤتيني من لدنه علماً لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع العليم
بقلم د. رشيد الجراح
د. رشيد الجراح – مركز اللغات- جامعة اليرموك
الهوامش
للحديث عن موضوع الحقيقة والمجاز، انظر مقالتنا تحت عنوان: جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم ↩
وهذا يتطلب – في ظننا- ضرورة الفصل بين الدواب من جهة والأنعام من جهة أخرى، لأن الدواب لها مستقر ومستودع بينما الأنعام ليس لها مثل هذا المستقر والمستودع. كما يجب الفصل بين الطيور التي تطير بجناحيها التي لها – في ظننا- مستقر ومستودع والطير التي لا تطير بجناحيها التي ليس لها مستقر ومستودع. للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان لحم الخنزير 1 و لحم الخنزير 2 ↩
لاحظ أن الله تحدث عن يعقوب بصيغة أنه ذو علم، بينما جاء الحديث عن يوسف على أنه عليم، ولو حاولنا ربط ذلك بما جاء في قوله تعالى:
سنخلص إلى نتيجة أن يوسف أعلى مرتبة في العلم من والده يعقوب، فالعليم (يوسف)هو فوق كل ذي علم (يعقوب) مصداقاً لقوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، وسنتعرض لهذا في مبحثنا عن قصة يوسف لاحقاً بحول الله وتوفيقه (لذا فالله رب أسأله أن يعلمني من لدنه علماً إنه هو السميع العليم) ↩
📖 شروط قراءة المقالات:
❌ المقالة ليست فتوى.
💭 هي رأي فكري شخصي قابل للخطأ والصواب.
📝 يُمنع تلخيصها أو إعادة صياغتها.
📚 يُسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر وعدم تحريف المعنى.
⚖️ لا يحق مقاضاة الكاتب بسبب اختلاف الآراء.