تستكمل هذه المقالة الطرح الجدلي بأن علم الله المطلق يحيط بـ"الأشياء" الموجودة، لكنه ليس مسبقًا بأفعال الإنسان التي لم تقع بعد. يجادل الكاتب بأن القلب هو مركز اتخاذ القرار، وليس الدماغ، وأن الله يستخدم الابتلاء والفتنة "ليعلم" ما في القلوب، أي ليُخرِج النوايا المكنونة إلى حيز الوجود الفعلي. ويحلل المقال مصطلحات قرآنية مثل الكتمان والإخفاء والسر، ليخلص إلى أن علم الله المطلق يتعلق بما هو كائن، بينما تظل اختيارات القلب خاضعة للاختبار الإلهي.
ملاحظة: نحن نرى ضرورة قراءة هذه المقالة في ضوء ما ورد في مقالتنا السابقة تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير
لقد زعمنا في الجزء السابق من هذه المقالة أن علم الله ينقسم إلى نوعين:
علم الله بالأشياء، وقد أحاط الله به علما
علم الله بالإنسان، وهذا النوع من العلم ينقسم بدوره إلى نوعين من العلم:
علم بما صدر عن الإنسان
علم بما لم يصدر عن الإنسان من أفعال بعد
وكان الزعم الأخطر الذي افتريناه من عند أنفسنا يتمثل في ظننا بأن الله لا يعلم ما لم يصدر عن الإنسان من أعمال بعد. فبالرغم أن علم الله قد أحاط بمجمل الخيارات المتوافرة للإنسان، إلا أنه لا يعلم أي من هذه الخيارات سيختارها الشخص عن محض إرادة منه مستقلة عن إرادة خالقه[1].
وقد زعمنا في نهاية المقالة السابقة أنّ علم الله بأمر الإنسان مرتبط بشكل كبير بمكان وجود المعلومة، وقد بينّا أن المعلومة ممكن أن تتوافر عند الإنسان في أربعة أماكن رئيسة وهي (1) قلبه، و (2) صدره، و(3) نفسه، و(4) بين يديه وخلفه. وهذا بالضبط ما نقحم أنفسنا فيه هنا محاولين – بحول الله وتوفيقه- تبيان الفرق في هذه المقالة، لذا فالله أسأل أن ينفذ مشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو السميع البصير.
أما بعد،
إننا نظن أن ما هو مطلوب منا هو أن نمعن التفكير بما ورد في كتاب الله بكيفية علم الله بما لدى الإنسان في كل موقع من هذه المواقع الأربعة، ولنبدأ بها الواحدة تلو الأخرى، ونحن نفهم الموضوع –كما ذكرنا سابقاً- على النحو التالي: إن أول ما تتولد المعلومة يكون محلها في القلب، ثم تنتقل بعدها إلى الصدر ومن ثم إلى النفس وأخيراً تظهر بين يدي الإنسان ومن خلفه.
كيفية علم الله لما في القلب
أولاً: نحن نظن – بادئ ذي بدء- أن القلب هو أداة التفكير لدى الإنسان مصداقاً لقوله تعالى:
ولكن لِمَ يشك البعض (نحن نتساءل فقط) بأن القلب- على وجه الخصوص- هو أداة التعقل، فلو استعرضنا ألفاظ "التعقل" في القرآن الكريم لوجدناها مرتبطة ارتباطاً لا انفكاك فيه مع القلب، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
وقد تعارف الناس أن مضخة الدم هي ما يعرف باسم القلب، ولكننا نزعم أن القلب هو فقط عضو التفكير الموجود في أعلى مضخة الدم وهو المسئول عن إرسال الإشارات والأوامر إلى الدماغ الذي يخاطب بدوره أعضاء الجسم لتنفيذ أوامر القلب، وهذا الفهم هو ما نستنبطه من قوله تعالى:
ويكون ذلك بالفتنة، وبهذا الفهم نعود إلى السياقات التي تتحدث عن أن الله يحدث الفتنة ليميز الخبيث من الطيب، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، وهكذا:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿٣١﴾
سورة محمد
وهنا نجد من الضروري إعادة الآيات القرآنية التي تتحدث عن علم الله لما في قلب الإنسان ومقارنة ذلك مع علم الله لما في صدر الإنسان أو نفسه أو حتى ما بين يديه وخلفه. فعند الحديث عن ما بين يدي الإنسان وما خلفه جاء علم الله مطلق:
ولكن تأتي المفارقة العجيبة عند الحديث عن علم الله لما في قلوب الناس، فلا ترد في كتاب الله عبارة مثل "والله أعلم بما في قلوب العالمين" أو عبارة مثل " والله يعلم ما تخفي القلوب" أو عبارة والله أعلم بما في قلوبكم"، أو عبارة "والله عليم بذات القلوب"، وهكذا. وجل ما ورد في كتاب الله عن علمه لما في القلوب كان محدداً لفئة من الناس بذاتها، فجاءت الصيغة على نحو يعلم (الفعل المضارع) أو عَلِمَ (الفعل الماضي):
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف تأتي صيغة علم الله مطلقة عندما ترتبط مع الصدور أو النفوس أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، ولا ترد مثل هذه الصيغ عند ارتباط علم الله لما في قلوب الناس. ولكنها تأتي للحديث عن واقعة بعينها بصيغة الفعل الماضي:
افتراء خطير جداً: إن مراد القول هنا هو أن علم الله لما في القلوب ليس علماً مطلقاً.
والمفارقة الغريبة جداً التي ربما لا يتقبلها الناس بيسر وسهوله، ولكنها تتردد في الأذهان، وتسلب العقول، وتجنب أهل العلم الخوض فيها (ربما بسب الحرج الذي سيقعون به) هي وجود ما يدل على التشكيك بعلم الله في مواطن معينه:
والسؤال المشروع هو: لماذا جاءت صيغة "قَدْ يَعْلَمُ" إذا كان علم الله مطلقا؟
رأينا: نحن نظن أن الكثيرين من أهل الدراية ما انفكوا عن ليّ أعناق النصوص ليضفوا على الأمر تصوراتهم العقائدية المسبقة، فهم قد قالوا أنّ "قد" التي تفيد التشكيك مع الفعل المضارع في العربية كلها لا تعمل على ذلك النحو إن جاءت مقترنة بعلم الله.
```
تفنيد الفكر السائد
سؤال: إذا كان الحال كذلك، فلِمَ ترد "قد" مع الفعل الماضي؟ فهل يحتاج الله أن يؤكد لنا أنه يعلم؟!
فهل فعلاً تفيد قد التشكيك إذا دخلت مع الفعل الماضي سواء كان الحدث متعلقاً بالله نفسه أو بالناس بينما تفيد التشكيك إذا دخلت مع الفعل المضارع وكان الحدث متعلقاً بالناس وليس بالذات الإلهية؟ أليست هذه انتقائية غير مبررة في فهم القواعد (كما يحب أهل اللغة أن يسمونها)؟
رأينا:نحن نرى أن عنصر التشكيك موجود مع الفعل المضارع الذي يصاحبه قد بغض النظر عن ماهية صاحب الفعل. لذا نحن نفهم أن علم الله كما تصوره الآيات القرآنية التالية غير مطلق:
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن علم الله غير مطلق في هذه الأحداث لأنها أحداث لازالت تحاك في القلب وهي لم تخرج بعد من القلب لتصبح في علم الله المطلق. لذا فإن علم الله مطلق لما في النفوس ولما في الصدور ولما بين أيدينا وما خلفنا ولكن علم الله غير مطلق لما في قلوبنا.
ونعيد السؤال التالي لتبيان الافتراء التي نحاول تسويقه هنا: لماذا علم الله مطلق لما في النفوس والصدور وما بين أيدي الناس وخلفهم بينما علم الله غير مطلق لما في قلوب الناس؟
جواب: راقب عزيزي القارئ ما جاء في الآية الكريمة التالية:
ألا تدلنا هذه الآية الكريمة أن عطاء الله لنا بخير مما أخذ منا ومغفرته مشروطتان بأن يعلم الله أولاً أن في قلوبنا خيرا؟ لماذا ينتظر الله أن يعلم أولاً لكي يؤتينا خيراً مما أخذ منا أو ليغفر لنا؟ وكيف يحصل علم الله لما في قلوبنا؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن علم الله لما في قلوبنا يتحقق بإحداث الابتلاء. فعندما يحدث الله الابتلاء والفتنة والتمحيص لا يكون ذلك لإخراج ما في نفوس أو صدور الناس وإنما لإخراج ما في قلوبهم.
وهنا نطرح السؤال التالي: لماذا لا يحدث الله الابتلاء لإخراج ما في صدور الناس أو ما في نفوسهم؟ الجواب لانّ الله يعلمه، وما دام علم الله قد أحاط به فلا حاجة لتبيانه أكثر:
فليس لله حاجة أن يمحّص ما في صدور العالمين لأن علمه قد أحاط بذلك سواءً أبداه الإنسان أو أخفاه. فنحن نفهم أن الصدر أو النفس ليستا بأكثر من حاجز أو حاجب، ولا أخال أن حاجباً أو أن حاجزاً قد يصد أو يحدد علم الله. ولكن هل القلب حاجز كالصدر أو النفس؟
جواب: لا أظن ذلك، فالقلب أكبر من كونه حاجز، فما هو يا ترى؟
رأينا: نحن نظن أن القلب هو كتلة واحدة متماسكة شديدة الصلابة مصداقاً لقوله تعالى:
وهنا أطلب من القارئ الكريم التفكر في قوله تعالى "سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ"، ليجد أمرا نظن أنه غاية في الغرابة وهو أن الله نفسه لا يدخل إلى قلب الإنسان وإنما يبقى بعيداً عنه، والدليل على ما زعمنا هذا موجود في الآية الكريمة نفسها، وهو ما تحمله مفردة "سَأُلْقِي" من معنى في ثناياها، فالله عندما يريد إدخال شيء إلى قلب الإنسان يتم ذلك عن بعد بطريقة الإلقاء، فالإلقاء لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الملقي (الفاعل) بعيد بمسافة معقولة عن مكان الإلقاء، فها هي أم موسى تلقي وليدها في اليم:
وها هم ملائكة العذاب يلقون من يستحق العذاب في جهنم:
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴿٢٤﴾
سورة ق
وها هم أخوة يوسف يتخذوا قرارهم بإلقاء أخيهم في غيابت الجب:
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴿١٠﴾
سورة يوسف
ولنتوقف قليلاً مع هذه الصورة الأخيرة على وجه التحديد لتوضيح فكرة الإلقاء شيئاً قليلاً، فهل يمكن أن يقوم أخوة يوسف بفعل "الإلقاء" لو كانوا متواجدين في نفس المكان مع أخيهم في داخل تلك غيابت الجب (أي بئر الماء كما يحب أهل التفسير أن يسمونه[4])؟
رأينا: كلا وألف كلا، فحتى يكون ذلك إلقاءً لابد أن يكونوا هم خارج "البئر" ومن ثم يلقوا بأخيهم إلى داخله، ولو تصورنا عملية الإلقاء على تلك الشاكلة (ولله المثل الأعلى) لقلنا أن الله لا شك يكون خارج القلب عندما يلقي في داخله الرعب، ولكن الله لا يدخل إلى داخل قلب الإنسان لينظر ما يحاك في داخلها.
والجميل في التصوير القرآني أن الشيطان لا يستطيع كذلك الولوج إلى قلب الإنسان، لذا فعندما يقوم الشيطان بعمله (وهي الوسوسة) فإن ذلك يتم على النحو التالي:
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿٥﴾
سورة الناس
لذا فعندما وسوس الشيطان لآدم وزوجه، لم يدخل إلى قلبهم لأن وسوسة الشيطان لا تكون في الصدر فلا تتجاوزه إلى أبعد من ذلك:
فما يحدث في صدر الإنسان وما يحدّث الإنسان به نفسه فذاك لا شك واقع في علم الله، لأن النفس أو الصدر ليست أكثر من حاجز أو حاجب تخفي فيها المعلومة بعد أن تكون قد تشكلت في القلب وخرجت منه. ويبقى هنا أن طرح السؤال الكبير التالي: هل هناك آية كريمة واحدة تتحدث عن علم الله لما يحدّث في قلب الإنسان؟
رأينا: نحن ننتظر من أحد أن يدلنا عليها، وله من الله الجزاء ومنا الشكر والثناء.
تبعات هذا الافتراء
ربما لهذا نستطيع أن نفسر لم يحدث الله البلاء والفتنة والتمحيص لما في قلوب العالمين،فما هو سبب الابتلاء والفتنة والتمحيص؟
افتراء خطير جداً جداً: لأن الله لا يعلم ما في قلب الإنسان، وحتى يعلم الله ما يحيك الإنسان في قلبه فلابد من اختباره وتمحيصه وابتلاءه ومن ثم إخراجه، وهذا بالضبط ما نفهمه (نحن) من الآيات الكريمة التالية
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿٣١﴾
سورة محمد
وعندما تحصل الفتنة للإنسان فإنه يخرج ما في قلبه ليسجل على الإنسان الدليل الدامغ على ما هو موجود فعلاً في قلبه، فلو لم يخرج الله ما في قلوبهم لما كفوا عن المجادلة، ولما افترق الناس إلى جنة أو إلى نار. ولننظر إلى الموقف التالي كما يصوره القرآن الكريم:
فالله سبحانه وتعالى يعفو عن نبيه على ما بدر منه من عدم التيقن من صدق أو كذب تلك الفئة، والذي يحيّر الألباب – في رأينا- هو طرح التساؤل التالي: إذا كان الله يعلمهم ويعلم صدق قلوبهم أو كذبها قبل تمحيصها، فلم لم يخبر نبيه بهم دون الحاجة أن يتيقن النبي بنفسه من أمرهم؟ فما الحاجة أن يتبين النبي من ذلك الأمر إن أخبره الله بأمرهم؟ لاحظ - عزيزي القارئ- أنه بالرغم من العتاب الرباني للنبي بذلك إلا أنه لم يخبره من هو الصادق منهم أو الكاذب، وذلك لأن سنة الله هي على النحو التالي:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴿٢٩﴾
سورة محمد
نتيجة مفتراة: لا شك أن الله يبقي الإنسان في حالة ابتلاء إذا لم يخرج الإنسان حقيقة كل ما في قلبه، فإذا ما بقي الإنسان متكتماً على ما في قلبه لا يخرجه ليعلمه الله (بخصوص أي شيء في حياته) فلينتظر البلاء والفتنة من الله نفسه ليتم تمحيص ما في قلبه حتى يخرج على حقيقته، فيعلمه الله ويكون حينئذ دليلاً دامغاً على صدقه أو كذبه، إيمانه أو كفره، وهكذا.
وللحديث بقية
بقلم د. رشيد الجراح
د. رشيد الجراح – مركز اللغات- جامعة اليرموك
الهوامش
للحديث عن موضوع الإرادة والمشيئة والقول، والتفريق بينهم انظر مقالتنا تحت عنوان: مقالة في التسيير والتخيير. ↩
ما دام أن الأيدي هي أداة البطش، نستطيع أن نخلص إلى القول أن موسى قد استخدم يده عندما همّ أن يصرع الرجل الذي من عدوه مصداقاً لقوله تعالى:
📖 شروط قراءة المقالات:
❌ المقالة ليست فتوى.
💭 هي رأي فكري شخصي قابل للخطأ والصواب.
📝 يُمنع تلخيصها أو إعادة صياغتها.
📚 يُسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر وعدم تحريف المعنى.
⚖️ لا يحق مقاضاة الكاتب بسبب اختلاف الآراء.