قصة يونس الجزء الأول



قصة يونس – الجزء الأول

نحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على قصة يونس من منظور نظن أنه فيه الشيء الجديد الذي قد يرضي بعض من كان هدفه البحث بعيدا عن موروثات الآباء والأجداد، فنحن نزعم القول أن كلامنا قد يختلف بشكل جذري عن كل ما وصلنا من عند أهل الدراية من سادتنا العلماء كما نقله لنا أهل الرواية في بطون أمهات كتب التفسير. فمن كان هدفه أن لا يناقش موروثاته، فليغلق هذه الصفحة على الفور وليرجع إلى صفحات كتبه الصفراء العتيقة لينهل من غزير العلم فيها. أما من كان يظن أنه ربما ترك لنا الأجداد بعض المتردم الذي يستحق أن ننفق فيه وقتنا، فهذه فسحة من المكان لينظر في تخريصات ربما تطرق مسامعه للمرة الأولى.

لكننا نوجه التحذير لهؤلاء الراغبين في التخريص معنا بأن ما نقوله لا يعدو أكثر من أفهام مفتراة من عند أنفسنا للنص القرآني. فليس بالضرورة أن تكون صحيحة، لأننا لازلنا بشرا ربما نصيب وقد نخطئ. فإن أصبنا فهذا من فضل ربنا علينا، وإن أخطأنا فهذا من سوء ما عملت أيدينا. فكلامنا هذا دعوة للتفكر وليست عقائد ومسلّمات ليسكت عليها وترقى إلى درجة القدسية كقدسية النص الذي استنبطت منه. فشتان بين قول الله الذي هو الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقولنا (نحن البشر) الذي غالبا ما يخطئ المقصد وقليلا ما يصيب كبد الحقيقة.

وسيكون الهدف الرئيس في هذه المقالة هو محاولة إيجاد بعض الإجابات على التساؤلات التالية التي نثيرها حول قصة هذا الرسول الكريم (يونس)، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأعوذ به وحده أن أكون ممن وقع عليهم القول فهم لا ينطقون، إنه هو السميع المجيب – آمين.

التساؤلات

- من هو يونس؟
- لماذا سُمِّي بذي النون؟
- أين عاش؟
- متى عاش؟
- من هم قومه؟
- لماذا ترك قومه؟
- لماذا ركب الفلك المشحون؟
- وما هو الفلك المشحون؟
- لماذا ساهم؟
- لماذا كادت تكون نهايته على تلك الشاكلة (في بطن الحوت)؟
- كيف التقمه الحوت؟
- وما هو ذلك الحوت الذي التقمه؟
- وأين حصل ذلك؟
- كم لبث في بطن الحوت؟
- لماذا نجّاه الله من ذلك الغم؟
- لماذا نبذ بالعراء؟
- لماذا تداركته رحمة ربه بعد أن نبذ في العراء؟
- ما هي شجرة القطين التي أنبتت عليه؟
- وأين هي تلك الشجرة؟
- لماذا رجع إلى قومه بعد ذلك؟
- كيف رجع إليهم؟
- كيف آمنوا كلهم؟
- لماذا كان عددهم مئة ألف أو يزيدون؟
- الخ

وفي محاولة منا لجمع إجابات غير متنافرة على هذه التساؤلات التي غالبا ما اجتزءت من سياقها العام (وهو ما نظن أن أهل الدراية من قبلنا قد فعلوه)، فإننا نقدم افتراءات من عند أنفسنا عن قصة يونس، متخيلين أحداث قصة هذا الرسول الكريم (يونس) الرئيسية وقد حصلت على النحو التالي:

- كان يونس في قومه من المسبحين

- كان يظن أن الله سيجتبيه بالرسالة، فما حصل له ذلك

- بعث الله رسولا إلى قوم يونس يدعوهم إلى الإيمان

- كان ذلك سببا كافيا ليسبب الغضب عند يونس نفسه، فكان مغاضبا

- عندما لم يحصل الاجتباء الإلهي ليونس ليكون رسولا، خرج مغاضبا وذلك لأن الرسالة قد جاءت غيره

- ظن يونس أن الله لن يقدر عليه

- خرج يونس مع نفر من قومه مطاردا ذلك الرسول والذين آمنوا معه

- حصل اللقاء بينهم في البحر

- ركب يونس الفلك المشحون مطاردا المؤمنين

- حصلت مواجهة في البحر بين يونس من جهة وأولئك النفر الذين خرج مطاردا لهم من المؤمنين

- انتهت المواجهة بهزيمة يونس ومن معه

- غرقت سفينة يونس بمن فيها من الرجال وما فيها من الأسلحة

- التقم الحوت يونس عندما غرق

- عندما استقر يونس في بطن الحوت، تذكر هناك أن المنجي هو الله وحده

- عاد يونس إلى رشده

- نادى في الظلمات مقرا بوحدانية الله

- نجّاه الله من ذلك الغم

- كانت النجاة الإلهية مكافئة له على ماضيه، أي لأنه كان من المسبحين

- أُخرج يونس من بطن الحوت، فنُبذ في العراء وهو سقيم

- اُنبتت عليه شجرة من يقطين

- شُفِي يونس من سقمه

- جاءته الرسالة هناك، فاجتباه ربه وجعله من المرسلين

- أرسله الله إلى قومه أنفسهم

- آمنوا ومُتعوا إلى حين

- لما آمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا

- الخ

إن هذا الطرح الذي قد يبدو غريبا للوهلة الأولى دعانا إلى تقديم افتراء خطير جدا هو لا شك من عند أنفسنا مفاده أن قصة يونس في خطوطها العريضة تشبه تماما قصة فرعون. ونحن نتجرأ على افتراء الظن بأن فرعون كاد أن يكون رسولا مثل يونس لو أنه تذكر أو خشي. وكادت أن تكون نهاية يونس كنهاية فرعون لولا أنه كان في ماضيه من المسبحين. فكيف حصل ذلك؟

أما بعد،

دعنا نبدأ القصة من نهايتها طارحين التساؤل الكبير التالي: ما الفرق بين ما حصل مع يونس وما حصل مع فرعون في حادثتي الغرق؟
جواب: لو تدبرنا النص القرآني جيدا لوجدنا أن نهاية الرجلين كادت تكون بالغرق في الماء.

فرعون        &          يونس


فرعون


- يخرج ملاحقا موسى ومن معه فيدركه الغرق

- يحاول اللحاق بموسى ومن معه داخل الماء

- يدركه الغرق، فيدخل في الماء، فيتذكر أن الله وحده هو القادر على أن نجيه

- يطلب النجاة بالإيحاء وليس بالتصريح

- عندما يدركه الغرق ينطق بكلمة الإيمان

- عندما نطق بكلمة الإيمان جاءته النجدة الإلهية بالنجاة

- كانت نجاته ببدنه

- كان في ماضيه من المفسدين


يونس

- يخرج مغاضبا

- يساهم

- يدركه الغرق، فيدخل في بطن الحوت، فيتذكر أن الله هو وحده القادر أن ينجيه

- يطلب النجاة بالإيحاء وليس بالتصريح

- يقر بذنبه بأنه كان من الظالمين، فيستغفر ربه

- جاءته النجدة بالنجاة

- ينجو كله

- كان في ماضيه من المسبحين

والآن دعنا نبحث عن الدليل الذي ربما يدلّل على صحة افتراءاتنا هذه من كتاب الله الكريم، مبتدئين النقاش بالآيات الكريمة جميعها التي جاءت في كتاب الله عن قصة هذا الرسول الكريم، قال تعالى:


وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

بناء على ما في هذه الآيات الكريمة من القول الحق، فربما نتجرأ على طرح التساؤلات المثيرة والغريبة بعض الشيء تباعا. فلنبدأ بالتساؤل الأول الذي تثيره مفردات الآية الكريمة التالية كما نفهمها:

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
سؤال 1: لماذا ذهب ذو النون مغاضبا؟ فما الذي أغضبه؟ أو من الذي أغضبه؟

سؤال 2: كيف ظن أن لن نقدر عليه؟ ومن المقصود في هذا الخطاب؟ ولماذا ظن أن لن نقدر عليه؟

نتيجة مفتراة 1: لا شك أن ذا النون كان مغاضبا، أليس كذلك؟

السؤال: ما معنى أن ذا النون كان مغاضبا؟ أو ما معنى مفردة مغاضبا؟ وكيف تختلف عن كلمة غضبان مثلا؟ ألم يرجع موسى إلى قومه غضبان آسفا؟

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)


السؤال: لماذا رجع موسى غضبان؟ ولماذا ذهب ذو النون مغاضبا؟ فما الفرق؟

رأينا المفترى: لو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بفعل الغضب (غَضِبَ) لوجدناها محصورة جميعا بالذات الإلهية:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)


قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81)

وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

وما ورد هذا الفعل (غضب) مصاحبا للناس إلا في موطن واحد من الكتاب الكريم في الآية الكريمة التالية:

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
كما أن "الغضب" (كصفة وليس كفعل) لم تصاحب إلا شخصا واحدا في كتاب الله، ألا وهو نبي الله وكليمه موسى:

وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)

السؤال: لماذا كان موسى فقط (من بين رسل الله جميعا) هو من اتسم بصفة الغضب؟ لِم لَم ترد هذه الصفة مصاحبة لنوح مثلا أو لإبراهيم أو لعيسى بن مريم أو حتى لمحمد؟ فلم كان موسى من بين جميع أولي العزم من الرسل من حصل عنده الغضب؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الغضب وقع عند موسى لأنه كان يحاول أن ينقذ بني إسرائيل من أن يحل عليهم الغضب الإلهي. فكيف كان ذلك؟

الدليل

لعلنا جميعا نعلم الخطوط العريضة لما فعله موسى ليخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ويعود بهم إلى الأرض التي كتب الله لهم:

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
ولكن، لو تدبرنا السياق القرآني التالي لوجدنا أنه كان متوقعا أن يحل عليهم غضب من ربهم (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى). فلننظر السياق القرآني ثم نحاول تدبره بعد ذلك:

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)

ولكي نفهم كيف كانت إمكانية أن يحل عليهم غصب من ربهم واردة، فعلينا بداية أن نتذاكر معا ما حصل في ميعاد موسى مع ربه عندما كُتِب له في الألواح. فهناك جاء موسى الخبر اليقين من ربه بحصول الفتنة الإلهية لقومه من بعده، بسبب ضلالة السامري:

وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)
راقب – عزيزي القاري- هذا النص جيدا لتجد أن موسى قد رجع إلى قومه غضبان آسفا بعدما جاءه العلم اليقين من ربه بحصول الفتنة الإلهية لقومه (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ)، وكان ذلك بسبب ضلالة السامري لهم (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، فكان أول ما نبههم موسى منه عندما عاد إليهم هو أن التذكير باحتمالية أن يحل عليهم غضب من ربه (أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ). السؤال لماذا؟

لو دققنا في هذه الحادثة جيدا لوجدنا أن ما حصل من بني إسرائيل هي الفتنة بدليل أن الله هو من فتنهم كما جاء الخبر لموسى من ربه:

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
ولما كان القوم قد وقعوا في الفتنة، فهم لم يرتدوا تماما عن دينهم الذي هُمْ عليه، فجلّ ما حصل أنهم أجلوا اتخاذ القرار حتى يرجع إليهم موسى بنفسه:

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كان القوم لازالوا في مرحلة الفتنة، فهم قد فتنوا ولكنهم لم يرتدوا بعد.

السؤال: ما الفرق؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لو ارتد القوم عن دينهم، لوقع عليهم غضب من ربهم، ولأصبح العذاب واقع بهم لا محالة. وذلك لأن الغضب لا يحصل إلى بعد الارتداد عن الإيمان.

الدليل

لجلب الدليل على هذا القول المفترى من عند أنفسنا، وجدنا أنه من الضروري أن نطرح التساؤل التالي مرة أخرى: لماذا كان موسى من بين جميع رسل الله هو من غضب؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا سيرة أنبياء الله جميعا لوجدنا أن القوم الذين كانوا يدعونهم إلى رسالة التوحيد لم يصدّقوا رسالة ربهم عن طريق رسلهم، فأقوام هؤلاء الأنبياء لم يؤمنوا برسالات رسلهم إليهم أساسا، فلم يؤمن مثلا قوم نوح برسالة نوح (إلا قليل)، وكذلك كان حال قوم لوط وشعيب وصالح وهود، الخ. لذا لم يكن وقوع العذاب عليهم سببه ارتدادهم عن دينهم بعد إيمانهم. فما كان ذلك (أي وقوع العذاب عليهم) سيسبب الغضب عند رسلهم، كما جاء على لسان شعيب مثلا:

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
نتيجة: مادام أن القوم لازالوا في مرحلة الكفر، فإن وقوع العذاب عليهم لم يكن ليسبب الأسى عند نبيهم.

لكن القصة بالنسبة لموسى على وجه التحديد كانت مختلفة تماما. فالقوم الذين خرجوا معه كانوا مؤمنين برسالته (فهم بنو إسرائيل)، وما أن تركهم موسى مستعجلا لقاء ربه حتى كادت ضلالة السامري أن تردهم عن دينهم، فوقعت الفتنة. فما الذي كان يمكن أن يحصل لو أن القوم فعلا ارتدوا عن دين موسى؟

رأينا المفترى: نحن نكاد نجزم الظن (مفترينه من عند أنفسنا بالطبع) أنه لو ارتد القوم فعلا عن دينهم (دين التوحيد) لوقع عليهم العذاب من عند ربهم لأن ذلك كان سيجلب عليهم غضب من ربهم. وانظر – إن شئت- في كيفية خطاب موسى لقومه بعد أن رجع إليهم:

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)
نتيجة مفتراة: الغضب الإلهي لم يحل عليهم، ولكنه كاد أن يحل عليهم بدليل قول موسى (أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ). فبقي ذلك في طور الإرادة ولم ينتقل إلى حيز التنفيذ (للتفصيل في هذه الموضوع انظر مقالتنا في التسيير والتخيير)

فما الذي حصل فعلا؟
تخيلات من عند أنفسنا: ما أن استعجل موسى للقاء ربهم، حتى سنحت الفرصة للسامري أن يضل القوم من بعده عندما أخرج لهم عجلا جسدا له خوار:

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
عندها، حصلت الفتنة الإلهية للقوم، فأصبحوا في حيرة من أمرهم مادام أنها فتنة حصلت لتميز الخبيث من الطيب، ليحصل العلم الإلهي فيهم

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: هل لعلم الله حدود؟)

فكانت الغالبية الساحقة منهم في صف السامري، ولم يستطع هارون على فصاحته أن يردهم عن هذه الضلالة. (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان قصة موسى: باب السامري). فكان القرار هو انتظار عودة موسى إليهم:

قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
السؤال المثير: إن صح ما تقول، فلماذا لم يقع على من ضلّ منهم (كالسامري ومن اتبعه منهم مثلا) العذاب؟ يستغرب صاحبنا قائلا.

رأينا: نحن نظن أن هذا كان تدبيرا حكيما من هارون

السؤال: وكيف ذلك؟

جواب: لأنه بقي متواجدا بينهم بالرغم من أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلوه.

السؤال: لماذا بقي هارون بينهم؟ لماذا لم يلحق بموسى كما جاء على لسان موسى عندما عاد إليهم؟ ما الذي كان يدفع هارون أن يبقى بين ظهرانيهم فلا يلحق بموسى مادام أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلوه؟ أليس هذا ما سأل موسى هارون عنه عند عودته؟

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) 

جواب: لأن هارون لم يريد أن يفرّق بين بني إسرائيل. وانظر – إن شئت- رد هارون على سؤال أخيه:

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
نتيجة مفتراة: كان السبب الذي منع هارون أن يتبع أخاه موسى بالرغم من استضعاف القوم له وبالرغم أنهم كادوا يقتلوه هو حتى لا يفرق بين بني إسرائيل.

السؤال: ما الذي كان من الممكن أن يحصل لو أن هارون اتبع أخاه موسى؟ أو ما الذي كان يمكن أن يحصل لو أن هارون فرّق بين بني إسرائيل، فاتبع أخاه موسى بمن بقي مؤمنا معه؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن العذاب كان – لا محالة- سيحل على من ضلّ من بني إسرائيل كالسامري ومن اتبعه جميعا.

سؤال: هل تهذي يا رجل؟ أتعي ما تقول؟ هل كان بقاء هارون بينهم هو ما منع نزول العقاب الإلهي على القوم بعد أن أضلهم السامري؟ أتريدنا أن نصدق ما تقول؟

جواب: نعم بكل تأكيد. لقد تحمل هارون أذى القوم (عندما استضعفوه وكادوا يقتلوه) رأفة بحالهم حتى لا يحلّ عليهم العذاب من ربهم. فبقاء هارون بينهم (ومن معه من المستضعفين من بني إسرائيل) هو (نحن نفتري القول) ما حال دون أن يحلّ الغضب الإلهي عليهم، وبالتالي منع بقاؤه فيهم نزولَ العذاب الإلهي عليهم.

السؤال: وأين الدليل على مثل هذا الافتراء ربما غير المسبوق؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

جواب: دعنا نقرأ الآيات الكريمة التالية:

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا لوجدنا أن ما يمنع حصول العذاب الإلهي على القوم هما أمران اثنان، لا ثالث لهما:

1. وجود الرسول فيهم (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)

2. أن يكونوا مستغفرين (وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)

نتيجة مفتراة: لذا، نحن نفتري الظن بأن وجود هارون (كرسول الله) فيهم، ووجود بعض المستغفرين منهم (وهم اللذين استضعفوا معه) هو الذي (نحن نفتري القول) حال دون حدوث الغضب الإلهي وبالتالي نزول العذاب على القوم في غياب موسى.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كان بقاء هارون فيهم بالرغم من استضعاف القوم له وبالرغم أنهم كادوا يقتلوه حتى لا يفرق بين بني إسرائيل، فيقع العذاب على من ضل منهم مع السامري لو أن هارون تركهم واتبع أخاه موسى بمن بقي معه من المؤمنين.

تخيلات: نحن نتخيل الأمر وقد حصل على النحو التالي: يستعجل موسى للقاء ربه، فيترك هارون فيهم كخليفة له. يستغل السامري غياب موسى فيُخرِج للقوم عجلا جسدا له خوار، فتكون تلك هي ضلالته لهم، تحصل نتيجة هذه الضلالة الفتنة، فينقسم القوم (بني إسرائيل) إلى فريقين غير متكافئين في العدد. يحاول هارون أن يردهم عن ضلالة السامري بفصاحته، فلا يفلح. تصبح الغلبة للسامري ومن اتبعه. يتم استضعاف هارون، ويكاد القوم أن يقتلوه. يجد هارون نفسه في مأزق (ورطة): أن يبقى بين ظهرانيهم ويتحمل استضعافهم له أو أن يتبع أخاه موسى ويترك اللذين أضلهم السامري مع عجلهم وراءه! كان قراره الذي اتخذه هو أن يبقى بين ظهرانيهم ويتحمل أذاهم. ولو أنه اتبع أخاه موسى بمن بقي مؤمن من بني إسرائيل لكان هارون بمثل هذا الفعل قد فرّق بين بني إسرائيل، أي جعلهم فريقين ولم يرقب قول موسى في ذلك. آثر هارون أن يبقى هناك ليرقب قول موسى فيهم قبل أن يفرق بين بني إسرائيل، وذلك لأن قرار كبيرا جدا كهذا يتطلب انتظار قول موسى نفسه، فلم يقدر هارون أن يتخذ قراره الفردي بهذا الشأن لأن الأمر على خطورة بالغة قد لا يقدر هارون بمفرده أن يتحمل عواقبها.

وما أن عاد موسى، حتى أصبح حصول الغضب الإلهي غير وارد مادام أن فيهم الآن رسولان (هارون وموسى)، ولكن المفارقة الغريبة جدا هي أن موسى هو من رجع إليهم غضبان آسفا؟

تساؤلات

- لماذا رجع موسى غضبان؟
- فما الذي أغضبه؟
- فكيف يرجع من كان في لقاء مباشر مع ربه غضبان؟
- ولماذا كان آسفا؟
- وكيف يختلف الغضب عن الأسف؟
- الخ.

باب الأسف

رأينا المفترى: في سلسلة مقالاتنا عن قصة موسى تحت عنوان باب السامري، زعمنا الظن بأن أسف موسى كان سببه العصا. فموسى كان آسفا لأنه ترك العصا في يد خليفته في قومه وهو أخوه هارون الذي لم يدرك تماما قيمتها، فأهملها، وانتهز السامري الفرصة، فاستطاع بقبضة من تلك العصا أن يخرج لهم ذاك العجل الجسد الذي كان له خوار، وهو الذي أحدث الضلالة فيهم. (للتفصيل انظر تلك المقالة).

لكن ما يهمنا إضافته هنا هو أن الآسف عادة ما يكون (نحن نظن) بسبب فقدان شيء مادي دنيوي. فهذا يعقوب يفقد ولده يوسف، فيأسف عليه:

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
لذا، نحن نتجرأ على افتراء الظن بأن أسف موسى كان سببه التفريط في العصا.

باب الغضب

لكن يبقى التساؤل التالي قائما: لماذا رجع موسى غضبان؟ فما الذي أغضبه خاصة إذا ما علمنا أنه كان راجعا من لقاء ربه وهو يحمل الألواح التي كُتب له فيها من كل شيء؟ ولماذا ألقى الألواح بمجرد وصوله القوم؟ ولماذا أخذ برأس أخيه يجره إليه؟

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
رأينا المفترى: لأن الغضب (نحن نظن) لا يحصل إلا لسبب عقائدي. فأنت لا تغضب بسبب فقدان شيء مادي، ولكنك تغضب لله. ولو تدبرنا السياقات القرآنية السابقة الخاصة بالغضب الإلهي لوجدنا أن الإله نفسه يغضب عندما يرتد الناس عن الإيمان:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)


قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81)

وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
السؤال: لماذا عاد موسى غضبان إذن؟

جواب: مادام أن موسى قد عاد غضبان فإننا نتجرأ على تقديم الافتراءات التالية:

- كان الذي سبب الغضب عند موسى هو سبب عقائدي، وهو ضلالة السامري لقومه بعد أن تركهم مؤمنين

- مادام أن موسى عاد غضبان ومكث في قومه ولم يتركهم، فهو كان بذلك يمنع نزول العذاب الإلهي (كما فعل هارون من قبله)

- مادام أن موسى كان غضبان، فهو إذا من سيتولى بنفسه إيقاع العذاب على من ضل من القوم كالسامري، ولنرقب ما قاله موسى للسامري بملء الفم:

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
ألا ترى - عزيزي القارئ- أن موسى هو من تكفل بإيقاع العذاب على السامري عندما خاطبه بالقول المباشر:

- قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ

- وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ

ثم ألم يتكفل هو بنفسه مهمة التخلص من العجل نفسه:

- وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لو تدبرنا صيغة ضمير المتكلم في هذه الآيات الكريمة، لربما تجرأنا على افتراء الظن بأن ما فعله موسى هو إيقاع العذاب بنفسه على السامري الذي أضل القوم في غياب موسى. وسنتحدث لاحقا بحول الله وتوفيقه عن هذه العقوبات الثلاث بالتفصيل في سياق متابعة حديثنا عن قصة موسى، سائلين الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو الواسع العليم – آمين).

أما هنا، فإننا مهتمون الآن بمسألة غضب موسى عندما رجع إلى قومه من لقاء ربه يحمل الألواح التي كتب الله له فيها موعظة وتفصيلا لكل شيء. فلو دققنا في السياق القرآني التالي الذي يبرز أيضا غضب موسى، لوجدنا أن ذاك الغضب لم يسكت عن موسى إلا بعد أن أوقع العذاب بالسامري:

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
مؤكدا في الوقت ذاته على أمرين اثنين:

- أن الذين اتخذوا العجل ولم يعودوا إلى صوابهم لن ينجو من العذاب الإلهي:

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
- أن الذين عملوا السيئات منهم ثم تابوا من بعد ذلك وآمنوا بربهم سيجدون ربهم غفورا رحيما:

وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153)
وهناك فقط سكت عن موسى الغضب، فعاد ليأخذ الألواح، ويتابع مسيرته (والذين آمنوا معه من بني إسرائيل) صوب الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.

نتيجة مفتراة: كان موسى هو من غضب بسبب ضلالة السامري لقومه بعد أن كانوا مؤمنين، ولما كان هو من غضب تولى بنفسه مهمة إيقاع العذاب على من سبب الضلالة للقوم، فكان بذلك يعمل على إنقاذ بني إسرائيل من أن يحل عليهم غضب من ربهم:

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)
الافتراء الخطير: نحن نظن أنه لولا تدارك موسى الأمر بعد عودته، ولولا حكمة هارون ببقائه بين ظهرانيهم حتى لا يفرّق بين بني إسرائيل من قبل، لكان العذاب الإلهي لا محالة سيحل بمن ضل منهم بعد أن كان مؤمنا.

والله أعلم

عودة على بدء

نحن نعود من مناقشة بعض جوانب مفردة "الغضب" في النص القرآني إلى صلب النقاش عن قصة يونس بالافتراء الكبير التالي: أن الغضب يحصل بدافع عقائدي، وليس من أجل شيء دنيوي مادي. لذا نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن حصول الغضب عند يونس كان سببه عقائدي بحت وليس مادي دنيوي، ولو ذهب يونس بسبب دافع مادي لربما جاء النص القرآني على نحو أنه كان آسفا. الأمر الذي يدعونا إلى الطرح التساؤل التالي على الفور: ما الذي أغضب يونس؟ أو ما هو الأمر العقائدي الذي بسببه حصل الغضب عن يونس، فذهب مغاضبا؟

رأينا: لو دققنا في السياق الخاص بنبي الله يونس لوجدنا أن هناك فارق كبير بين حالة موسى وحالة يونس، ففي حين أن موسى قد رجع غضبان (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا)، ذهب ذو النون (يونس) مغاضبا (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا). فما الفرق بين من رجع غضبان (كموسى) ومن ذهب مغاضبا (كذي النون)؟

رأينا المفترى: عندما يحصل الغضب فهو يحصل - لا شك- من طرف باتجاه طرف آخر. فأنا قد أكون غضبان منك ولكن ليس بالضرورة أن تكون أنت غضبان مني، والعكس صحيح.

ولو تفقدنا سياقات الفعل (غضب) التي لازمت الإله نفسه في النص القرآني كله لوجدنا على الفور أن الله هو من غضب على من ارتد عن دينه مثلا، ولكن اللذين ارتدوا لا يغضبون على الله، أليس كذلك؟ وانظر – إن شئت- في تلك السياقات جميعها مرة أخرى:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81)

وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

وبالمنطق نفسه، فإننا نتجرأ على الظن بأن موسى هو من عاد غضبان على من ضل من قومه، لكن لم يحصل غضب من اللذين ضلوا (كالسامري) على موسى. لذا كان الغضب من طرف واحد باتجاه طرف آخر.

لكن – بالمقابل- نحن نتجرأ على افتراء الظن بأنه في حالة من كان مغاضبا (كيونس)، فإن الغضب يكون متبادلا، أي أنه يحصل من قبل الطرفين اتجاه بعضهما البعض. فإذا ما حصل الغضب من طرفي باتجاهك، وفي الوقت ذاته حصل الغضب من طرفك باتجاهي، فإن كل منا يغضب على الآخر، فيكون هو سبب غضب الآخر، ويكون هو من وقع عليه غضب الآخر، وفي هذه الحالة (نحن نفتري الظن) يكون كل منا مغاضبا، فيكون الفعل تبادليا (أو reciprocal باللسان الأعجمي).

السؤال: لماذا؟

رأينا: لأن المسؤولية تكون مشتركة. فأنا أغضب منك عندما تسبب أنت لي ما يغضبني، وأنت تغضب مني عندما أسبب أنا لك ما يغضبك. فيكون كل منا سبب في حصول غضب الآخر. وهذا ما نظن أنه كان في حالة ذي النون عندما خرج مغاضبا.

السؤال: من الذي سبب الغضب لذي النون حتى ذهب مغاضبا؟

جواب مفترى: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب النبش في كيفية ذهاب ذي النون، لنطرح السؤال الآن على النحو التالي: لماذا ذهب ذو النون ذهابا؟ لماذا لم يخرج خروجا؟ وأين ذهب الرجل؟ ومن أين جاء أصلا؟ وإلى أين كان متجها؟ ولماذا؟

باب ذَهَبَ
عندما حاولنا تفقد معنى هذه المفردة في السياقات القرآنية، وجدناها مصاحبة للناس في الآيات الكريمة التالية التي بعد أن حاولنا أن نتدبرها خرجنا بالاستنباطات المفتراة التالية التي هي لا شك من عند أنفسنا:

- الذهاب يعني وجود مشكلة ما:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا النساء (133)

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الأنعام (133)

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ يوسف (13)

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يوسف (15)

- أو يمكن أن ينتج عنه مشكلة ما:

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ يوسف (17)

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63)

وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41)

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ (33)

- الذهاب يمكن أن يكون بناء على طلب الغير كما جاء في طلب موسى من السامري:

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
أو كما جاء في طلب بني إسرائيل من نبيهم موسى نفسه:

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
أو كما جاء في الطلب الإلهي من موسى:

اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)

اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)

فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)

قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15)

اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)

اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)

- ويكون ذلك في مهمة محددة

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (15)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

 قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63)

قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ (63)

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)

اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)

- وقد يتطلب الذهاب طلب الإذن (أي الاستئذان):

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62)
- وإذا لم يكن ذاك بالاستئذان، تطلب ذلك وقوع دفع البدل:

وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)- وقد يحصل في فعل الذهاب نوع من التشويش على ما حصل فعلا، فيقع أمر ما في باب الحسبة (الظن):

يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
عودة على بدء: لماذا ذهب ذو النون؟ وكيف ذهب؟ ومن أين ذهب؟ وإلى أين ذهب؟

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)

بناء على ما سبق، فإننا نتجرأ على تقديم الافتراءات التالية:

- كان ذهاب ذو النون بسبب مشكلة ما

- حصل نتيجة ذهابه مشكلة ما

- لم يذهب ذو نون بناء على طلب من أحد، ولكنه كان قرارا شخصيا

- ذهب ذو النون في مهمة محددة

- حصل نتيجة ذلك تشويشا على الهدف من ذهابه.

- الخ

السؤال: كيف حصل كل ذلك؟

افتراءاتنا: نحن نفتري الظن بأن مشكلة عقائدية حصلت آنذاك، سببت الغضب لدى ذي النون، فاتخذ قراره الشخصي بالذهاب، ولم يأتيه الأمر من أحد، ولم يستأذن أحدا في ذلك، فنتج عن ذلك مشكلة ما.

تفنيد الفكر السائد

لعل أكثر الذي أشكل في قصة ذي النون هو الفهم المغلوط بأن ذا النون كان رسولا عندما خرج مغاضبا. فدعنا نجلب ما وجدناه في بطون أمهات كتب التفسير عن قصة هذا النبي الكريم كما وصلنا عن طريق أهل الرواية من عند أهل الدراية في تفسير الطبري مثلا للآية الكريمة التالية التي تتحدث عن ذهاب ذي النون:

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)

 وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه

القول في تأويل قوله تعالى : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد ذا النون , يعني صاحب النون . والنون : الحوت . وإنما عنى بذي النون : يونس بن متى , وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع , وقوله : { إذ ذهب مغاضبا } يقول : حين ذهب مغاضبا . واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا , وعمن كان ذهابه , وعلى من كان غضبه , فقال بعضهم : كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب . ذكر من قال ذلك : 18698 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا } يقول : غضب على قومه . 18699 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إذ ذهب مغاضبا } أما غضبه فكان على قومه . وقال آخرون : ذهب عن قومه مغاضبا لربه , إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه . ذكر من قال ذلك : وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم : 18700 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن يزيد بن زياد , عن عبد الله بن أبي سلمة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : بعثه الله - يعني يونس - إلى أهل قريته , فردوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه . فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه : إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا , فاخرج من بين أظهرهم ! فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم , فقالوا : ارمقوه , فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم . فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم , فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم , وفرقوا بين كل دابة وولدها , ثم عجوا إلى الله , فاستقالوه , فأقالهم , وتنظر يونس الخبر عن القرية وأهلها , حتى مر به مار , فقال : ما فعل أهل القرية ؟ فقال : فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم , عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب , فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض , ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها . وعجوا إلى الله وتابوا إليه . فقبل منهم , وأخر عنهم العذاب . قال : فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا , وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم ! ومضى على وجهه مغاضبا . 18701 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا عوف , عن سعيد بن أبي الحسن , قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب , انطلق مغاضبا لربه , واستزله الشيطان . 18702 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة , عن مجالد بن سعيد , عن الشعبي , في قوله : { إذ ذهب مغاضبا } قال : مغاضبا لربه . 18703 - حدثنا الحارث , قال : ثنا عبد العزيز , قال : ثنا سفيان , عن إسماعيل بن عبد الملك , عن سعيد بن جبير ; فذكر نحو حديث ابن حميد , عن سلمة , وزاد فيه : قال : فخرج يونس ينظر العذاب , فلم ير شيئا , قال : جربوا علي كذبا ! فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر . 18704 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن وهب بن منبه اليماني , قال : سمعته يقول : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا , وكان في خلقه ضيق . فلما حملت عليه أثقال النبوة , ولها أثقال لا يحملها إلا قليل , تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل , فقذفها بين يديه , وخرج هاربا منها . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } 46 35 { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت } 68 48 أي لا تلق أمري كما ألقاه . وهذا القول , أعني قول من قال : ذهب عن قومه مغاضبا لربه , أشبه بتأويل الآية , وذلك لدلالة قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } على ذلك . على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه , إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه واستعظاما له . وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم ما أنكروا , وذلك أن الذين قالوا : ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك , فقال بعضهم : إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم , واستحيا منهم , ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء . وقال بعض من قال هذا القول : كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جربوا عليه الكذب , عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب , فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك . وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس , فكرهنا إعادته في هذا الموضع . وقال آخرون : بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه , فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم , فقيل له : الأمر أسرع من ذلك ; ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا ليلبسها , فقيل له نحو القول الأول . وكان رجلا في خلقه ضيق , فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلا فذهب مغاضبا . وممن ذكر هذا القول عنه : الحسن البصري . 18705 - حدثني بذلك الحارث , قال : ثنا الحسن بن موسى , عن أبي هلال , عن شهر بن حوشب , عنه . قال أبو جعفر : وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا : ذهب مغاضبا لقومه ; لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم , وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم , ليبلغهم رسالته ويحذرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه . ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة , لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها , فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم } 68 48 ويقول : { فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } . 37 142 : 144 وقوله : { فظن أن لن نقدر عليه } اختلف أهل التأويل في تأويله , فقال بعضهم : معناه : فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه . من قولهم قدرت على فلان : إذا ضيقت عليه , كما قال الله جل ثناؤه : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } . 65 7 ذكر من قال ذلك : 18706 - حدثني علي , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } يقول : ظن أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه . 18707 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { فظن أن لن نقدر عليه } يقول : ظن أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره . وعقوبته أخذ النون إياه . 18708 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , عن شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , أنه قال في هذه الآية : { فظن أن لن نقدر عليه } قال : فظن أن لن نعاقبه بذنبه . * - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي , قال : ثنا زيد بن حباب , قال : ثني شعبة , عن مجاهد , ولم يذكر فيه الحكم . 18709 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } قال : يقول : ظن أن لن نعاقبه . * - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة والكلبي : { فظن أن لن نقدر عليه } قالا : ظن أن لن نقضي عليه العقوبة . 18710 - حدثت عن الحسين . قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فظن أن لن نقدر } يقول : ظن أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه وفراقه إياهم . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن منصور , عن ابن عباس , في قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } قال : البلاء الذي أصابه . وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه . ذكر من قال ذلك : 18711 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا عوف , عن سعيد بن أبي الحسن , قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب , انطلق مغاضبا لربه , واستزله الشيطان , حتى ظن أن لن نقدر عليه . قال : وكان له سلف وعبادة وتسبيح . فأبى الله أن يدعه للشيطان , فأخذه فقذفه في بطن الحوت , فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم , فأمسك الله نفسه , فلم يقتله هناك . فتاب إلى ربه في بطن الحوت , وراجع نفسه . قال : فقال : { سبحانك إني كنت من الظالمين } قال : فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته بما كان سلف من العبادة والتسبيح , فجعله من الصالحين . قال عوف : وبلغني أنه قال في دعائه : وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي . 18712 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا هوذة , قال : ثنا عوف , عن الحسن : { فظن أن لن نقدر عليه } وكان له سلف من عبادة وتسبيح , فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان . 18713 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن عبد الرحمن بن الحارث , عن إياس بن معاوية المدني , أنه كان إذا ذكر عنده يونس , وقوله : { فظن أن لن نقدر عليه } يقول إياس : فلم فر ؟ وقال آخرون : بل ذلك بمعنى الاستفهام , وإنما تأويله : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ ذكر من قال ذلك : 18714 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } قال : هذا استفهام . وفي قوله : { فما تغني النذر } 54 5 قال : استفهام أيضا . قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب , قول من قال : عنى به : فظن يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه , عقوبة له على مغاضبته ربه . وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة , لأنه لا يجوز أن ينسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوته , ووصفه بأن ظن أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه , ووصف له بأنه جهل قدرة الله , وذلك وصف له بالكفر , وغير جائز لأحد وصفه بذلك . وأما ما قاله ابن زيد , فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن , ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك . والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلا على أنه مراد في الكلام , فإذا لم يكن في قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد , كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان , صح الثالث وهو ما قلنا .
إن أول ما يهمنا رده في هذا التفسير "العظيم" هو افتراؤهم القول بأن الله قد بعث بيونس رسولا إلى قومه قبل ذهابه، فلعل جمهور أهل العلم قد أجمعوا أمرهم أن يونس قد ذهب من قومه بعد أن كان الله قد اجتباه بالرسالة، أي بعد أن أصبح رسولا. وهذا الظن – في رأينا- لا يستطيع أن يصمد أمام الحقيقة الماثلة في الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن الاجتباء الإلهي ليونس بالرسالة بعد أن نبذ بالعراء من بطن الحوت وأنبتت عليه شجرة من يقطين:

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
رأينا المفترى: نحن نفتري القول إذن بأنه من غير الممكن إطلاقا أن تكون الرسالة قد جاءت ذي النون قبل هذا الوقت (أي قبل أن ينبذ بالعراء وهو سقيم وينبت عليه شجرة من يقطين)، ونتجرأ على افتراء الظن بأن يونس عندما ذهب مغاضبا لم يكن الله قد اجتباه بالرسالة بعد. وربما يؤكد ظننا هذا ما جاء بصريح اللفظ في الآيات الكريمة التالية:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

نتائج مفتراة من عند أنفسنا:

- لم يحصل الاجتباء الرباني لذي النون بالرسالة قبل ذهابه مغاضبا

- ما حصل الاجتباء الإلهي له بالرسالة إلا بعد أن نبذ بالعراء وانبتت عليه شجرة من يقطين

- أرسله ربه بالرسالة إلى قومه بعد هذه الحادثة

الدليل

نحن نفتري الظن بأنه لو كان ذو النون رسولا قبل أن يذهب مغاضبا، لما خرج دون أمر من ربه، ولما كان مغاضبا، مادام أن القوم لم يؤمنوا إلا بعد أن رجع إليهم بعد حصول الاجتباء الإلهي له بالرسالة، ولربما تولى عنهم غير آسفا عليهم كما حصل في حالة شعيب مثلا:

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
فما الذي سبّب له الغضب؟ فهل كان ذو النون هو الرسول الوحيد الذي لم يصدق قومه رسالته؟ ألم يحصل ذلك مع نوح وشعيب وصالح وهود، وغيرهم؟ فلم لم يخرجوا مغاضبين إذن؟

ثانيا، لو أن ذا النون كان رسولا في قومه قبل أن يخرج مغاضبا، لخرج بأمر من ربه، ولكان العقاب الإلهي لا محالة نازل بهم كما حصل مع نوح وشعيب وصالح ولوط وهود وغيرهم؟ فنحن نعلم من مجمل السياقات القرآنية أنه عندما يخرج رسول من بين ظهراني قومه اللذين كذبوا رسالته، فإنه يخرج من بينهم، يصحبه في خروجه هذا الذين آمنوا معه (وهم في العادة قليل)، وهناك يقع عليهم العذاب الإلهي مباشرة. فلم إذن لم يقع العذاب على القوم (في حالة ذي النون) مادام أن نبيهم قد خرج من بينهم مغاضبا؟ نحن نتساءل فقط.

دعنا ننهي الجزء الأول من هذه المقالة بالافتراء الخطير التالي الذي نكاد نخالف فيه جمهور أهل العلم، ألا وهو: لم يكن ذو النون قد اجتباه الله بعد بالرسالة عندما خرج مغاضبا، لأن الاجتباء بالرسالة جاءه في نهاية رحلته التي ذهب فيها. واقرأ – إن شئت- آيات الكتاب الحكيم:

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

والله أعلم

وسنعاود في الأجزاء القادمة بحول الله وتوفيقه النبش في تفاصيل القصة من منظورنا – كما فهمناه- طارحين تساؤلين اثنين:

1. لماذا خرج ذو النون مغاضبا؟

2. ومن الذي سبب له ذلك الغضب؟

سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، ونعوذ به أن نفتري عليه الكذب، أو أن نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.


المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان


بقلم د. رشيد الجراح


22 أيلول 2014

للمتابعة انقر رابط الجزء الثاني