قصة يونس - الجزء الثاني



قصة يونس – الجزء الثاني

حاولنا أن ننهي الجزء الأول من هذه المقالة بالافتراء الذي ربما خالفنا فيه جمهور أهل العلم، ألا وهو: لم يكن ذو النون قد اجتباه الله بعد بالرسالة عندما خرج مغاضبا، لأن الاجتباء بالرسالة جاءه في نهاية رحلته التي ذهب فيها، وقد كان افتراؤنا هذا مدفوع بفهمنا (ربما المغلوط) لتسلسل الأحداث كما تصوره آيات الكتاب الحكيم التالية:

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

وافترينا الظن بأن هناك على الأقل دليلان يثبتان زعمنا هذا.

أولا، أن إرسال ذي النون إلى قومه قد حصل بعد أن نُبِذ بالعراء سقيما من بطن الحوت، وبعد أن أُنبتت عليه شجرة من يقطين، فشفي من سقمه، وعاد إلى قومه رسولا. واقرأ – إن شئت- النص في سياقه الأوسع

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
ثانيا، أن ذا النون قد جُعل "مِنَ الصَّالِحِينَ" بعد نبذه بالعراء. واقرأ – إن شئت- النص القرآني التالي:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

ولو تدبرنا عبارة "مِنَ الصَّالِحِينَ" التي جاءت في هذه الآية الكريمة الخاصة بذي النون في النص القرآني كلّه لما وجدناها قد وردت إلا بحق من كان رسولا أو نبيا. فهكذا كان إبراهيم:

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

وبمثل هذا "مِنَ الصَّالِحِينَ"، كان دعاء إبراهيم بالذرية، فكان له الغلام الحليم إسماعيل من الصالحين:

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)

وكان له الغلام العليم "إسحق" مِنَ الصَّالِحِينَ" أيضا:

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)

وهكذا كان لوطا:

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (7) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

وهكذا كان يحيى مِنَ الصَّالِحِينَ بدعاء والده زكريا:

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)

وهكذا كان عيسى بن مريم كلمة الله وروح منه رسولا مِنَ الصَّالِحِينَ:

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

وكان سليمان من الصالحين:

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

وكان شعيب مِنَ الصَّالِحِينَ:

قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)

وهكذا كان (ربما) كل رسل الله:

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86)

وبمثل ذلك جاء طلب يوسف اللحاق بركب الصالحين الذين سبقوه:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى: لأن المهمة الأولى لمن كان "مِنَ الصَّالِحِينَ" هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطة في الوقت ذاته مع المسارعة في الخيرات:

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لمّا كان الاجتباء الإلهي لذي النون ليكون "مِنَ الصَّالِحِينَ" قد حصل بعد نبذه بالعراء، لذا نحن لا نتردد بأن نفتري الظن بأنه أصبح رسولا بعد تلك الحادثة وليس قبلها:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: عندما ذهب ذو النون مغاضبا لم يكن من المرسلين، وعندما ساهم وكان من المدحضين لم يكن نبيا، وعندما نبذ بالعراء سقيما لم يكن نبيا، ولكن جاءه الاجتباء الإلهي بالرسالة ليكون "مِنَ الصَّالِحِينَ" بعد تلك الحادثة، فأرسله ربه إلى قومه مرة أخرى فكانوا مئة ألف أو يزيدون:

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

وقد وعدنا القارئ الكريم أن نعاود في هذا الجزء الثاني من المقالة النبش في تفاصيل القصة من منظورنا – كما فهمناه- طارحين تساؤلين اثنين:

لماذا ذهب ذو النون مغاضبا؟

ومن الذي سبب له ذلك الغضب؟

سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، ونعوذ به أن نفتري عليه الكذب، أو أن نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.


أما بعد
دعنا بداية أن نقدم إجابتنا المفتراة من عند أنفسنا على التساؤلين السابقين، لنحاول بعد ذلك الدفاع عن آرائنا (ربما المغلوطة) بجلب الدليل الذي نظن أنه يدعم ما نذهب إليه من ظن في هذا المقام. وسنكون شاكرين لمن يجلب الدليل الذي يدعم افتراءاتنا هذه أو يدحضها. فالفائدة لا شك تحصل سواء بجلب الدليل الذي يثبت زعمنا وبالتالي المضي بالتفكر خطوات أخرى إلى الأمام، أو بجلب الدليل الذي يدحض افتراءاتنا وبالتالي الرجوع قليلا إلى الوراء لتصحيح المسار قبل أن نصل إلى مرحلة ربما يصعب بعدها الرجوع إلى الوراء (كما هو حاصل في جلّ الفكر الإسلامي الذي ظن أنه يمشي بالاتجاه الصحيح وهو في الحقيقة قد انحراف عن جادة الصواب منذ قرون طويلة، حتى أصبح التراجع عن ما ولّده ذلك الفكر من التناقضات أمرا ليس باليسير – نحن نفتري الظن طبعا).

أما بعد،
الافتراء الأول: كان سبب خروج ذي النون مغاضبا هو أنه لم يصبر لحكم ربه

الافتراء الثاني الخطير جدا: كان سبب غضب ذي النون هو الله نفسه

الدليل
نحن نعتقد أنه من أجل أن نجلب الدليل الذي يدعم افتراءاتنا هذه فإن علينا أن نعمد إلى عمل مقارنات بين ذي النون من جهة وأناس آخرين جاء ذكرهم في مواطن أخرى من كتاب الله الكريم من جهة أخرى. والسبب في هذا يعود إلى الافتراء الذي ما انفككنا نروج له في كل كتاباتنا والذي مفاده أنه لا يمكن فهم القرآن الكريم (كوحدة واحدة) دون التعرض لمثل هذه التقاطعات، وذلك لأنه لا يمكن عزل الحدث الواحد عن الأحداث الأخرى في الكتاب نفسه. لذا، نحن على العقيدة التي مفادها بأن كل آية من القرآن الكريم تتقاطع مع جميع آيات الكتاب بطريقة أو بأخرى. ولتبسيط الأمر، نحن نفهم أنّ آيات القرآن الكريم في تداخلها وتشابكها تشبه بيت العنكبوت الذي يتصف بالوهن، فكل خيط من خيوط هذا البيت يتقاطع مع خيوط أخرى تتقاطع هي بدورها مع خيوط أخرى وهكذا، حتى تشكل في النهاية بيتا محكم البناء والترابط، ويكأن قلم وريشة فنان مبدّع قد رسمته، وهو في الوقت ذاته يتصف بالوهن (كبيت العنكبوت) لأن العلاقة على بساطتها واضحة تماما لا تحتاج إلى كثير عناء لتجليتها. وهكذا هي المفردات والآيات والشخصيات والأحداث والقصص التي ترد في القرآن الكريم. ولكن كيف يمكن تبسيط ذلك بالأمثلة التوضيحية؟

رأينا: عندما ندرّس نظريات تحليل الخطاب (Discourse Analysis) ونظريات تحليل النص (Text Analysis)، فإننا نحاول أن نقدم الأمثلة التوضيحية التي تبسط المفردات النظرية ذات الطابع الأكاديمي (Technical jargon)، فلو حاولنا أن ننثر مثل هذه المفردات هنا، لما وجدنا أن القارئ العادي يستطيع متابعة النقاش، لأنّ الأمر سيصبح حينئذ نقاشا فكريا بين أهل التخصص قد لا يهم العامة كثيرا. لكن ما يجلب انتباه العامة وأهل العلم على حد سواء فهو التطبيق العملي (exemplification) لتلك الأفكار النظرية أو التنظيرية ( theorizing) على أرض الواقع، فمستخدم التلفون الخلوي قد لا يهمّه المبدأ أو الأساس العلمي الذي يشغّل ذلك الجهاز ولكنّه يهتم كثيرا بالتطبيقات التي تحمّل على هذا الجهاز ليستفيد منها في حياته اليومية، وهكذا هو الحال هنا. لذا لن نحاول أن ندخل في تعقيداتٍ نظريّة قد لا تُسمن ولا تُغني من جوع بالنسبة للقارئ العادي، لكنّنا سنحاول أن نقدّم التطبيق العملي الذي نظن أنه قد يشدّ انتباهه عندما يجد أن الأمر بات يعنيه بشكل مباشر، فكيف يمكن تقديم مثال بسيط يمكن أن يبيّن للقارئ العادي المنهجية التي نتبعها إن هو أراد أن يشتغل بهذه الصنعة وهي تدبر الكتاب الحكيم بنفس تلك المنهجية التي نسلكها نحن.

أما بعد،

أولا، نحن نظن أن أكبر غلط وقع به أهل الدراية من قبلنا هو ظنهم بأن التركيب الكلي لهذا القرآن هو تركيب خطي (linear), ويكأن آيات الكتاب الحكيم (ربما كانوا يظنون) تتبع بعضها البعض في تسلسل خطي. لذا نجد أن جميع ما يسمونه بتفسيرات القرآن العظيم قد بدأت من عند فاتحة الكتاب ثم البقرة وآل عمران وهكذا حتى انتهت بالمعوذات. وهذا في ظننا سبّب إرباكا كبيرا في التفسير مما استدعى من أهل العلم إقحام آرائهم البشرية غير المدعومة بالدليل الثابت والقاطع من الكتاب نفسه في تلك الأطروحات التي يقدمونها للناس، والتي ظن كثير من الناس أنها فعلا تفسيرات حقيقة لما في كتاب الله، وهي في ظننا لا تعدو أن تكون أكثر من شطحات فكرية بشرية قد لا تمت بصلة إلى الحقيقة التي يحتويها الكتاب الكريم.

ثانيا، لقد ظن كثير من أهل الدراية من قبلنا أنه يمكن تفسير آيات الكتاب الكريم بالاستعانة بمصادر خارجية، فجلبوا ما يسمى بالأحاديث المرفوعة إلى النبي، ودعموا آراءهم بما سمّوه أسباب النزول للآيات الكريمة، وما توقفوا عند هذا الحد، فأخذوا بعد ذلك من أشعار العرب ومن قواميس أهل اللغة التي أُلّفت بعد كتاب الله بقرون من الزمن، وهكذا.

ثالثا، ظن كثير من أهل الدراية من قبلنا أن آراء بعض الأشخاص (ككبار المفسرين) هي بحد ذاتها دليل على صحة الآراء المنقولة عنهم، فمتى ما يسمع البعض أن هذا القول أو ذاك الرأي منسوب لأحد الصحابة أو التابعين أو كبار العلماء المعروفين حتى تجد الأفواه قد سكتت عن المجادلة وألجمت عن طلب الحجة والدليل، لا لشيء وإنما لأن الكلام قد صدر ممن هو من رجال هم (في ظنهم) ثقات عدول، يندر أن تلد النساء من أمثالهم. من يدري؟!

رابعا، اعتقد كثير من أهل العلم أنهم لا يستطيعون الخوض في كتاب الله دون اللجوء إلى ثقافة الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم، فظن كثير منهم أن الضرورة عندهم تستدعي جلب الإرث الثقافي لأمة الأعراب عند محاولة تفسير آيات الكتاب الكريم

الخ.

أما نحن، فإن عقيدتنا تتلخص لمن أراد أن يشتغل في تفسير آيات الكتاب الحكيم بافترائنا التالي: كتاب الله يفسر نفسه بنفسه، فلا يحتاج لمصدر آخر ليسانده في شيء. فنحن على العقيدة التي مفادها أن واحدة من أهم أوجه الكمال التي يتصف بها هذا الكتاب العظيم هو قدرته على الاستقلال بذاته عن كل مصدر آخر مهما عظم شأنه. انتهى.

السؤال: وكيف يحدث ذلك؟

رأينا: نحن نظن أن ذلك يتم عن طريق تلك التقاطعات التي يحدثها تشابك المفردات والآيات والأشخاص والقصص والأحداث في كتاب الله. وذلك لأن تركيب الكتاب الحكيم وإن كان خطيا على المستوى المحلي إلى أنه عنكبوتي على المستوى الكلي. فمن أراد أن يفسر شيئا من كتاب الله فإن مهمة تكمن في إنتاج بيت لا يقل اتقانا في حياكته (webbing) عن بيت العنكبوت. وهذا ما سنحاول تبيانه في قصة يونس هنا بحول الله وتوفيق منه بعد قليل.

ولكن قبل الانتقال إلى تجلية ذلك بالمثال التوضيحي، نجد لزاما طرح التساؤل التالي الذي غالبا ما طُرح عليّ عندما كنت أحاول مناقشة هذه الأفكار النظرية في قاعة الدرس خاصة مع طلبة الدراسات العليا، والسؤال هو: هل هذا ممكن؟ هل فعلا يستطيع القرآن أن يفسر كل مفردة فيه بنفسه؟ وهل هذا ما يجب أن نفهمه من قوله تعالى بأن هذا الكتاب هو تبيان لكل شيء؟

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)

رأينا: نعم هو كذلك: هذا الكتاب تبيان لكل شيء. ونحن نظن أنه ربما يكون في هذا جوابا على التساؤل الأكثر إثارة التالي: لماذا لا نجد في كتب الأحاديث أو في كتب السيرة أن الرسول الكريم قد تدخل بنفسه في تفسير بعض مفردات القرآن التي نظن أنها قد تكون عصيّة على الفهم؟ ولماذا لا نجد أن الصحابة الكرام قد سألوا النبي الكريم عن تفسير مفردة "صعبة" الفهم في آية ما؟ ولماذا لا نجد الرسول الكريم قد فسّر للناس من حوله قصة رسول سابق أو قصة شخصية قرآنية بالتفصيل الذي نطلبه في كتب التفاسير؟

ليكون السؤال الآن هو: لِم لَم يسأل الصحابةُ الرسولَ نفسه عن تفسير بعض مفردات القرآن كالأحرف المتقطعة في بدايات بعض السور مثلا أو كبعض المفردات تحت مسمى "غريب القرآن" كما يحب أهل الدراية أن يصفوها في مؤلفاتهم؟[1]

رأينا المفترى: لم يكن الرسول بحاجة أن يفسر شيئا من كتاب الله بنفسه لأن كتاب الله مفسرا لذاته.

السؤال: ولكن لِم لم يَعْمد الصحابة إلى سؤال النبي عن تلك القضايا (التي نظن أنها شائكة) في النص القرآني؟ هل كان الصحابة الكرام مدركون لهذا الأمر (كما تزعمه)؟ أي هل كان الصحابة على وعي تام بأن القرآن الكريم يفسر بعضُه بعضا فلا يحتاج تدخلا من أحد (حتى من الرسول نفسه)؟

جواب مفترى: لا و نعم.

السؤال: ما الذي تقوله (يا رجل)؟ كيف لا؟ وكيف نعم في الوقت ذاته؟

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن الأمر (كما نزعم) قد حصل على النحو التالي: في بداية تنزل الكتاب الكريم لم يكن الصحابة مدركون لهذه الحقيقة (أي أن كتاب الله مكتف بذاته)، لذا كانوا على الدوام يطلبون من النبي الكريم أن يوضّح (أي أن يفسر أو أن يشرح) لهم ما ينزل في كتاب الله مما كان مُشكلا عليهم. فما أن ينزل شيء في كتاب الله يصعب على من كان حول محمد فهمه حتى يسارع هؤلاء إلى سؤال النبي عنه، ولكن النبي الكريم الذي كان يدرك الأمر منذ بدايته لم يكن ليجيبهم عما يسألون، وذلك لأن النبي الكريم كان يدرك أنه من الاستحالة بمكان الإجابة على تساؤلاتهم ما لم ينتهي تنزيل الكتاب كاملا. ولما كان النبي لا يجيبهم عن هذه التساؤلات كان يحدث فيما بينهم بعض التساؤلات التي لم يكن يسهل عليهم الوصول إلى إجابات شافية لها تماما.

السؤال: لماذا كان النبي لا يجيبهم على تساؤلاتهم ويتركهم رهينة لأفكارهم الخاصة (كما تزعم)؟

الجواب: لأن النبي الكريم كان يدرك أنه لا يمكن الإجابة على هذه التساؤلات في الوقت الحالي للسببين اثنين:

أولا، أن الوقت لم يحن بعد للإفصاح عنها. فمحمد مأمور أن لا يخرج كل ما عنده من علم جملة واحدة، وهو يتبع ما يقرأ عليه من ربه

ثانيا، أن تفسير هذه الأمور على كليتها يحتاج أن يتنزل القرآن الكريم كاملا. فمادام أن الوحي لازال يتنزل، يصبح من المتعذر أن يتم تفسير شيء من كتاب الله كما يجب

السؤال: أين الدليل على هذه الافتراءات التي ربما تكون غير مسبوقة؟

جواب: لو تفقدنا الآيات الكريمة التالية، لوجدنا أن القرآن خرج للناس مفرقا:

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (106)

وأن النبي محمدا كان مأمورا بأن يتبع ما يقرأ عليه، فلا يخرج كل ما في قلبه من العلم جملة واحدة:

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)

نتيجة مفتراة: لا يستطيع محمد أن يحرك لسانه بكل ما في قلبه من العلم قبل أن يأتيه الأمر بذلك. فمحمد مأمور بإتباع ما يقرأ عليه فقط. فحتى لو كان محمد يعلم شيئا ما إلا أنه لا يستطيع أن ينطق به ما لم يأتيه الأمر بذلك حتى لو سأله من حوله عنه.

ثانيا، لو تفقدنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أنه لمّا ألح بعض الصحابة من حول النبي في استفساراتهم، نزل عليهم قرآنا يتلى يأمرهم بالتوقف عن السؤال حتى يكتمل تنزيل القرآن كله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

فلو تفقدنا هذه الآية الكريمة جيدا، لخرجنا بالافتراءات التالية:

افتراء 1: كان الذين من حول النبي من المؤمنين يسألون النبي عن بعض الأمور

افتراء 2: جاء النهي الإلهي لهم بالتوقف عن ذلك

افتراء 3: كان السبب في ذلك هو أنه لو أبديت لهم في ذلك الوقت الذي سألوا النبي فيها لساءهم ذلك

افتراء 4: كان المؤمنون مأمورون أن يسألوا عنها عندما ينزل القرآن (أي القرآن كله وليس فقط بعضا منه)

افتراء 5: ما أن يتم تنزل القرآن كله حتى يبد لهم كل ما سألوا عنه

تخيلات من عند أنفسنا:
- نحن نفتري الظن أن القرآن الكريم قد نزل كلُّه جملة واحدة على قلب النبي، فأصبح العلم بالقرآن كله موجود في قلب محمد، فنحن نظن أن الآية الكريمة التالية تبين لنا أن القرآن قد نزل فعلا جملة واحدة على قلب محمد:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

- نحن نفتري الظن بأن الرسول الكريم كان مأمورا بأن يخرج ما في قلبه من القرآن شيئا فشيئا، متبعا الأمر الإلهي بذلك:

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)

- في غضون ذلك، حاول بعض المؤمنين من صحابة رسول أن يسألوه عن أشياء معينة ربما تعذر عليهم فهمهما حينئذ،
- لم يكن النبي يستطيع إجابتهم على ذلك لأن في ذلك استعجال لأمر ربه

- كان ما يشكل على الناس يبد لهم شيئا فشيئا

- لم تكن الأمور تبد للناس مرة واحدة

- كان على من حول محمد انتظار التنزيل المرتل ترتيلا

- ما أن ينزل القرآن (أي يكتمل تنزيل القرآن) حتى تكون جميع تلك الأشياء التي سألوا عنها قد بدت لهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

السؤال: لماذا حدثت الأمور على تلك الشاكلة؟

رأينا: نحن نظن أن هناك أكثر من سبب وراء ذلك، نذكر منها:

أولا، أن من العدل الإلهي أن يتساوى الناس جميعا في ذلك، فمن عاصر محمدا ليس له فضل في ذلك على من لم يعاصره. فما أن انتهى التنزيل، وأتم الله نعمته على المؤمنين:

... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)

حتى كان لحاق محمد بالرفيق الأعلى بالموت. فوجد المسلمون أنفسهم حينئذ لا يملكون في أيديهم سوى هذا الكتاب العظيم. فحالهم حينئذ لم تكن أحسن من حالنا في كل وقت وحين في هذه الجزئية على وجه الخصوص. فكان عليهم أن يبذلوا الجهد لفهم تبيان هذا الكتاب العظيم. وربما يكون حالنا الآن أحسن من حالهم حينئذ لأن أدوات البحث أصبحت متاحة بشكل أفضل من ذي قبل.

ثانيا، أن العلم الموجود في ذلك الكتاب أكبر بكثير من أن يحيط به جيل من الناس. فالعلم في هذا الكتاب غزير جدا، لا يستطيع جيل من الأجيال أن يستنفذه، وذلك مصداقا لقوله تعالى:

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

أن محمدا كبشر لا يستطيع أن يفسر (أي أن يشرح) كلمات ربه للناس كما يرغبون، وذلك لأنه لو كان البحر مدادا لكلمت ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا، لذا لا يستطيع محمد خلال حياته المحدودة زمنيا أن يفسر للناس كل شيء كما يريدون:

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

ثالثا، وربما الأهم من هذا كله هو أن القرآن الكريم يستطيع بحد ذاته أن يفسر نفسه بنفسه، لذا تتمثل مهمة محمد في نقل الرسالة للناس (أي تبيان الرسالة) بكل دقة وأمانة وهو غير مأمور بتفسيرها لهم.

نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: محمد (كرسول من رب العالمين) مأمور أن يوصل الرسالة للناس، ولكنه ليس مأمور بأن يفسرها لهم بطريقة التفسير التي نريدها نحن.

السؤال: بماذا كان محمد مأمورا؟

رأينا: نحن نظن أن محمدا كان مأمورا أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن مطلوب منه أن يفسر لهم ما نزّل إليهم من ربهم.


السؤال: وما الفرق؟ ما الفرق بين أن يبين لهم أو أن يفسر (أو أن يشرح) لهم؟ وأين الدليل على ما تزعم؟

رأينا: مادام أن محمدا قد بيّن للناس ما نزّل إليهم من ربهم فالرسالة إذن واضحة لا تحتاج أن يقوم محمد بتفسيرها

السؤال: ولكننا لا نفهمها، أليس كذلك؟

رأينا: نعم، نحن لا نفهمها جيدا لأننا مقصرون في تدبّرها:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

سؤال مفترى: لو كان هذا القرآن واضحا مفهوما للجميع كما نريد فما الحاجة إلى تدبره إذن؟

السؤال: وكيف سنفعل ذلك؟ أي كيف سنستطيع فهم ما في كتاب الله كما يجب أن يفهم؟

رأينا: قد نستطيع أن نفهم الرسالة (أو شيئا منها) بالشكل المطلوب متى ما عرفنا كيف نستطيع أن نقرأها (فنتدبرها).

السؤال: وكيف يجب أن نقرأها؟

رأينا المفترى: أن نبحث عن التبيان في كتاب الله

السؤال: وكيف يكون ذلك؟ وأين نبحث عنه؟

رأينا المفترى والخطير جدا: نحن نجد التبيان في الذكر، فالذكر هو الذي يمكنّنا من تبيان القرآن، مصداقا لقوله تعالى (كما نفهمه):

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

(دعاء: اللهم علمني الذكر من الكتاب، وأسألك أن أكون أول من يبين له ما نزّل إلينا من ربنا، وأسألك أن أكون من الذين يتفكرون فيه – آمين)

نتيجة مفتراة: وجب علينا التمييز بين القرآن من جهة والذكر الذي تكفل الله بحفظه من جهة أخرى:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: القرآن يختلف عن الذكر. وانظر – إن شئت- في قوله تعالى:

ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)

ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104)

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)

أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24)

قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ ۗ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48)

وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)

لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29)

وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69)

لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ (168)

أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)

هَٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87)

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)

أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)

فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)

أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40)

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)

وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)

لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)

وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

(للتفصيل حول هذه الجزئية، انظر مقالاتنا تحت عنوان ماذا كتب في الزبور؟ ولماذا قدم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟)

إن ما يهمنا طرحه هنا هو التمييز بين كينونتين هما: (1) الذكر و (2) مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ كما جاء في الآية الكريمة التالية:

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)

لذا نحن نفتري الظن بأن هناك كينونتان يجب التمييز بينهما، ويتطلب الأمر منا معرفة ماهية كل واحدة منهما. فالذكر شيء منفصل عن ما نزل من الحق، وإلا لأصبح ذلك حشوا في الكلام لا فائدة منه. ليكون السؤال الآن هو: ما هو الذكر؟ وكيف يختلف عن ما نزل من الحق؟

المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)

رأينا المفترى: نحن نظن أن الذكر هو العلم الذي يبين ما نزل من الحق.

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

فالناس يسعون في يوم الجمعة ليس فقط لسماع ما نزل من الحق، ولكنهم يسعون إلى ذكر الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى: لأن مهمة الخطيب في ذلك اليوم هو أن يبيّن للناس الذكر (أي العلم الذي يبين لهم ما نزل من الحق إليهم من ربهم). فأنت كمسلم تريد سماع التفسيرات والتبريرات الحقيقية لكل التساؤلات التي يثيرها ما نزل إلينا من الحق. فعندما يقرأ الناس في كتاب الله الآية الكريمة التالية:

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

فهم بحاجة إلى من عنده الذكر الذي يبين لهم هذه الآية الكريمة، كيف حصلت، ومتى حصلت، وأين حصلت، حتى تتضح الصورة الكليّة في أذهانهم. وعلى من يظن أنه يستطيع أن يتصدى لهذه المهمة أن لا يجلب القصص والخرافات والأساطير من عند الأمم الأخرى ليسردها كأكاذيب وأباطيل على مسامع الناس، فيظن الحضور أن هذا هو الحق الذي أنزل إليهم من ربهم، وكتاب الله – نحن نفتري القول- منه براء.

(للتفصيل انظر سلسلة مقالتنا كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)

وعندما يسمع الناس الآية الكريمة التالية:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُ (14)

فعليه أن لا يحضر كل أكاذيب أهل الكتاب، ليسوقها على الناس على أنها مسلمات قرآنية، وهي لا تكاد تصمد أما تساؤل واحد لطالب لم يتعدى الصفوف الأولى في المدرسة. فهل يجوز أن نطرح السنة من العام بهذه البساطة:

1000 سنة – 50 عام = ؟

أليست هذه متغيرات لابد من معرفة قيمة كل منها قبل الخروج بنتائج، فهل يجوز أن نطرح المعادلة التالية قبل أن تبين لنا قيمة متغيراتها:

1000 س – 50 ص = ؟

(للتفصيل انظر مقالتنا: كم لبث نوح في قومه؟)

إن النتيجة المفتراة التي نحاول تسويقها من خلال هذا الطرح (على علاّته) هو أن من يريد أن يقدم الذكر من الكتاب (كالخطيب الذي حضر الناس ليسمعوا الذكر من عنده في يوم الجمعة مثلا) أن لا يخرج بالكلام عن حدود النص القرآني، فعليه أن يجلب الدليل على كل صغيرة وكبيرة يفتريها من عند نفسه مما نزل من الحق، أي من القرآن نفسه.

السؤال: وهل هذا ممكن؟ وكيف سيفعل ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن واحدة من أهم الطرق في كيفية تبيان الذكر لما نزل من الحق هو إيجاد تلك التقاطعات التي تثيرها المفردات والآيات والأحداث والقصص في القرآن كله كجملة واحدة.

سؤال: هل تستطيع أن تقدم لنا مثالا توضيحيا على ذلك؟

جواب: نعم، دعنا نتدبر المثال التالي:

               داوود                  عيسى               آدم
السؤال: ما العلاقة (أو أي جزء منها) بين هؤلاء الثلاثة على وجه الخصوص؟
أولا، لو تدبرنا الآية الكريمة التالية لوجدنا الربط واضحا لا لبس فيه بين داوود من جهة وعيسى بن مريم من جهة أخرى:

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

داوود   عيسى

 وهذا الربط يثير – عندنا- حلقة ذهنية لابد من التعرض لها وهي: لماذا جاء اللعن للذين كفروا من بني إسرائيل على لسان هذين الرسولين الكريمين على وجه التحديد؟ لِم لَم يأت على لسان موسى أو على لسان زكريا أو على لسان سليمان أو حتى على لسان محمد مثلا؟ ولم لم يأت اللعن لهم على لسان جميع رسل الله؟ فما حقيقة ذلك اللعن لـ أولئك القوم (الذين كفروا من بني إسرائيل) على لسان داوود وعيسى بن مريم فقط؟ هل جاء هذا في كتاب الله من باب المثال فقط أم أنه فعلٌ مقصود لذاته؟


للإجابة على هذا التساؤل، نجد أن الحاجة ملحة لإثارة تقاطع آخر كما تبينه الآية الكريمة التالية:

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)

فالتقاطع هنا بين عيسى (من كان طرفا في التقاطع السابق) وآدم. لتنشأ بذلك علاقة خاصة أخرى بين عيسى بن مريم مرة جديدة مع آدم (شخصية قرآنية أخرى):

آدم   عيسى


وحتى تكتمل – عندنا- الحلقة الذهنية التي نحاول مطاردتها، فلابد من إيجاد رابط هذه المرة بين داوود من جهة وآدم من جهة أخرى. وقد وجدنا هذا الرابط في الآيات الكريمة التالية:

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)


داوود   آدم

لتكتمل بذلك علاقة عظيمة بين هؤلاء الأطراف الثلاثة (داوود عيسى آدم)، فتتشكل – برأينا- على النحو التالي:





وهنا تبدأ مهمة العنكبوت (أو من يتصدى لتفسير النص القرآني)، فيضع جلّ جهده في سحب خيوط (تشبه خيوط العنكبوت في دقتها) بين هذه الأطراف (كما تجليها الآيات الكريمة نفسها)، لينسجها بكل حرفية وإتقان، فيتم بناء بيت كبيت العنكبوت لا يقل عنه في مهارة الصانع وإتقان المُنْتَج. والهدف في نهاية المطاف هو الإجابة على التساؤل الذي أثرناه سابقا وهو: لماذا جاء اللعن للذين كفروا على لسان داوود وعيسى ابن مريم على وجه التحديد؟

وهو ما سنحال الإجابة عليه في الأجزاء القادمة من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا وأن يزدني علما، إنه هو الواسع العليم – آمين.

ومما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أنني قد أستطيع (أنا) أن أنسج الحكاية كما أفهمها، فأبني بذلك بيتي الخاص لتلك القصة، وقد تستطيع أنت أن تنسج القصة نفسها بالطريقة التي تفهمها أنت، وهكذا. فكل منا يستطيع أن يروي حكايته، ولكن يبقى الحكم في نهاية المطاف للمتفرج (أي المتلقي)، فهو من يستطيع أن يحكم في نهاية المطاف على درجة الإتقان التي نسج بها كل منا شبكة بيته، وكيف عمد كل منا إلى تفكيك الحلقات الذهنية التي تثيرها الآيات الكريمة مجتمعة.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن الآيات نفسها ستثير آيات أخرى جديدة، وهكذا. فتبقى المهمة مستمرة لا تتوقف، لأن القصة قيد البحث ستثير قصصا أخرى جديدة، وهكذا. فلا يكتمل البناء كله ما لم تجلب النصوص كلها التي تترابط مع بعضها البعض في النص القرآني كله.

السؤال: ما علاقة هذا كله بقصة ذي النون، إذن؟

رأينا: لكي نفهم قصة ذي النون التي ظن البعض (وهم مخطئون في رأينا) أنها لم تُفصّل تفصيلا كثيرا في النص القرآني كما في قصة موسى أو قصة يوسف مثلا، فلابد من جلب كل التقاطعات في القصة، وعندها سنصل إلى النتيجة المفتراة التالية: أن هذا الكتاب هو تبيان لكل شيء وأنه لم يفرط فيه بشيء كبيرا كان أم صغيرا. وأن القصة قد فصلت تفصيلا كاملا لا يقل عن ما جاء في قصة موسى أو قصة يوسف.

السؤال: وكيف يكون ذلك؟ هل تستطيع أن تقدم الدليل من قصة يونس نفسها؟

جواب مفترى: نعم، والله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا وأن يزدني علما – آمين.

أما بعد

دعنا نقرأ الآيات الكريمة التالية التي جاءت في قصة يونس فقط، ثم ننظر بعدها كيف ستحدث لنا هذه الآيات الكريمة ذكرا:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

الخ

لو تدبرنا بعض مفردات هذه الآيات الكريمة لوجدنا أنها تلزمنا (إن نحن أردنا التبيان بالذكر) المرور بآيات أخرى في كتاب الله، فلا نستطيع أن نفهم هذه المفردات ولا نستطيع أن نخرج منها بالاستنباطات الصحيحة ما لم نتفكر مليّا بتلك الآيات الأخرى التي أثارتها مفردات الآيات قيد البحث. وهذا ما نسميه (نحن) بالتقاطعات في النص القرآني، وذلك لأن المرور بها يصبح من باب الإلزام، ومما لا شك فيه عندنا أن هذه التقاطعات يجب أن تكون بادية للعيان، فيصبح الاتفاق عليها من البساطة والوضوح ما يشبه وهن بيت العنكبوت. فما أن تبين للناس من حولك حتى تكون الدهشة بادية على ملامحهم. ويأتي مصدر هذه الدهشة من أمرين اثنين:

الدقة المتناهية في نسج تلك الخيوط

بساطة العلاقة بينهما ووضوحها

وهذا ما نسميّه نحن بالذكر. فالقرآن (نحن نفتري القول) محفوظ بحفظ الذكر فيه:

وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

لذا، لا يحتاج (نحن نفتري القول) من لديه الذكر من القرآن (وأسأل الله أن أكون منهم) إلى فرض التفسير عنوة، بل يجب أن يسير المتلقي معه في سكة خطوط العنكبوت نفسها بطريقة سليمة، يفضي بعضها إلى بعضها الآخر بكل يسر وسهولة.

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا الآية الكريمة التالية الخاصة بقصة ذي النون:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

لوجدنا على الفور أنها تثير تقاطعا واضحا بين محمد من جهة وذي النون من جهة أخرى:

ذي النونمحمد


لذا يجب على المتدبر لهذه الآية الكريمة أن يطرح على الفور كل التساؤلات الممكنة حول سبب إنشاء هذا التقاطع القصصي بين صاحب الحوت من جهة ومحمد من جهة أخرى. وهذا ما سنحاول أن ننبش فيه بعد قليل في الجزء الأول القادم بحول الله وتوفيقه. حيث سنحاول طرح التساؤلات ومحاولة تقديم الإجابات التي نظن أنها ذات علاقة بالقصة نفسها (والله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم - آمين)

ثانيا، عند التعرض للآية الكريمة الثانية التي جاءت أيضا خاصة بذي النون:

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

نجد التقاطع واضحا هنا بين ذي النون من جهة وفرعون من جهة أخرى:

ذي النونفرعون

والسبب في ذلك هو عبارة "وَهُوَ مُلِيمٌ". فبعد تفقد جميع سياقات القرآن الكريم، وجدنا أن هذه العبارة لم ترد في النص القرآني كله إلا عند الحديث عن ذي النون وعند الحديث عن فرعون:

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

فكان ذو النون مليما (وَهُوَ مُلِيمٌ) وكان فرعون مليما (وَهُوَ مُلِيمٌ). وحصل ذلك لهما عند غرقهما في البحر؟ ليكون السؤال هو: هل جاء هذا من قبيل المصادفة؟

رأينا: لمّا كنا نعتقد أن كل مفردة في كتاب الله مقصودة بذاتها ولا يمكن استبدالها بغيرها، أصبح لزاما علينا فهم هذا التقاطع بين قصة ذي النون الذي "وَهُوَ مُلِيمٌ" مع قصة فرعون الذي "وَهُوَ مُلِيمٌ"، أيضا. وهذا ما سننبش فيه بحول الله وتوفيقه في الجزء الثاني القادم. (والله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم - آمين)

ثالثا: عندما حاولنا تدبر الآية الكريمة الثالثة التي جاءت أيضا في النص القرآني عن قصة ذي النون:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

وجدنا أن عبارة " وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ " تحدث تقاطعا ضروريا بين ذي النون من جهة وموسى من جهة أخرى:

ذي النون   موسى

وذلك لأن النص القرآني خلا من عبارة النجاة من الغم إلا في معرض الحديث عن ذي النون كما جاء في الآية السابقة وعن موسى كما في الآية الكريمة التالية:

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)

ليكون السؤال: لماذا جاءت النجاة الربانية من الغم خاصة بهذين النبيين الكريمين؟ فهل هذا مصادفة؟!

هذا ما سننبش فيه بحول الله وتوفيقه في الجزء الثالث القادم. (والله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم - آمين)

تلخيص
تحن نفتري القول من عند أنفسنا أنه من أجل فهم قصة ذي النون (أو على الأقل بعض تفاصيلها)، فلابد أن نصل إلى هذه المحطات (أي التقاطعات على شبكة العنكبوت التي نحاول نسجها عن هذه القصة العظيمة. لذا نحن نريد أن نفهم كيف تتقاطع قصة ذي النون في بعض تفاصيلها مع أحداث حصلت مع محمد نفسه كما جاء في الآية الكريمة لتالية:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

كما لابد من فهم كيف تتقاطع قصة ذي النون في بعض تفاصيلها مع قصة فرعون نفسه كما جاء في الآية الكريمة التالية:

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

كما لابد من فهم كيفية تقاطع قصة ذي النون في بعض تفاصيلها مع قصة موسى كما في الآيات الكريمة التالية:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)





رأينا: إنّ من واجب كل من يتصدى لتفسير هذه الآيات الكريمة أن ينسج في نهاية المطاف حكاية لا تقل في الإتقان عن مهارة العنكبوت في نسج خيوط بيته، حيث تتشابك الخيوط في محطات واضحة، قد يصعب المجادلة فيها. وكلما كانت العلاقة أكثر ترابطا، كان البرهان أكثر وضوحا وكانت الحجة أكثر إلزاما للجميع.

ومما لا شك فيه أن هذه التقاطعات تبقى قابلة للتحسين شيئا فشيئا، فقط أستطيع أنا (بحول الله وتوفيق منه) أن أجد ثلاثة تقاطعات أو أكثر في هذه القصة العظيمة، وقد يستطيع غيري أن يجد تقاطعات أخرى لم انتبه إليها أنا، ربما يمكنه أن يضيفها إلى التقاطعات التي سبقه إليه غيرها، وهكذا. وسيكون لذلك فائدتان اثنتان على الأقل:

المضي في بناء مسيرة العلم شيئا فشيئا، ليصبح الإنجاز تراكميا، يبذل فيه الجميع جهدهم، فلا يضّيع اللاحقون جهد السابقين

إمكانية تصحيح الأغلاط (إن وجدت) في جهد السابقين، فـ لربما تسعف فكرة بسيطة جدا في تصحيح مسار تفكير خاطئ ساد دهورا من الزمن. فإن قدمت أنا افتراء من عند نفسي (بناء على فهمي الخاص لبعض آيات الكتاب الحكيم)، ثم تبين لاحقا أن افترائي هذا هو افتراء خاطئ، فإن دحضه يكون بالدليل الدامغ والحجة الساطعة من كتاب الله. فنحن نتبع الدليل حيثما يأخذنا ولا نتعنّت لآراء مشايخنا لأغراض فئوية أو لمقاصد وأجندة مسبقة. فالحكمة هي ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها.

والآن لنبدأ البحث في تقاطعات قصة ذي النون في بعض جوانبها مع بعض تفاصيل سيرة محمد، وشخصية فرعون وقصة موسى

الجزء الأول: تقاطعات بين يونس ومحمد

لو تدبرنا السياق القرآني التالي لوجدنا (نحن نفتري الظن) أن صريح اللفظ القرآني يدل بشكل جليّ أن ذا النون قد تعجل الأمر، فما صبر لحكم ربه:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

وفي الوقت ذاته نجد أن الآية الكريمة نفسها توجّه محمدا (من أُنزِل القرآن على قلبه) أن يصبر لحكم ربه (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)، وتنهاه بأن يكون كصاحب الحوت في ذلك (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ). فالمقارنة (نحن نكاد نجزم الظن) واضحة بين ذي النون وهو الذي لم يصبر لحكم ربه من جهة ومحمد (والذي كاد أن يكون كذي النون في ذلك) من جهة أخرى، والتوجيه الإلهي واضح وهو أن لا يكون محمد في هذا الشأن كصاحب الحوت، وذلك لأن ذا النون – لا شك- لم يصبر لحكم ربه، أليس كذلك؟

التساؤلات:

- ما معنى أن ذا النون لم يصبر لحكم ربه؟ أو بكلمات أخرى، ما معنى (نحن نسأل) أن يصبر شخص (كالنبي مثلا) لحكم ربه؟

- كيف أن ذا النون لم يصبر لحكم ربه؟

- ومتى حصل أن محمدا كاد أن يكون كصاحب الحوت في ذلك؟

- وما الذي بدر من محمد حتى ينزل قرآنا يتلى يوجهه بأن لا يكون كصاحب الحوت؟

- الخ.

السؤال القوي: كيف كاد محمد أن لا يصبر لحكم ربه؟

هذا ما سنبدأ به الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه. فالله وحده أسأل أن يعلمني الحق فلا أفتري عليه الكذب، وأن ينفذ مشيئته بالإذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو العليم الحكيم – آمين

المدّكرون:  رشيد سليم الجراح     &            علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح

7 كانون أول 2014


الجزء الأول                       الجزء الثالث


























مركز اللغات – جامعة اليرموكد. رشيد الجراح







[1] لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على كل ن ظن أن في القرآن بعض الألفاظ الغريبة هو: كيف نصدقك والله يقول:





وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)





نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (104) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)