قصة داوود – الجزء الرابع

 

قصة داوود – الجزء الرابع

داوود فتى الأدغال

حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالات اثبات نشوء بيت نبوة في غير بني إسرائيل، ابتدأ في سبأ في بيت الأبوين المؤمنين اللذين قتل صاحب موسى ابنهما لأنه كاد أن يرهقما طغيانا وكفرا. وافترينا الظن من عند أنفسنا بأن هذه الأبوين هما عمران الأول وزوجته، وهو من جاء – برأينا- ذكره في قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (3:33)

فـقد بدأت النبوة في آل عمران (نحن نظن) هنا عند عمران هذا الذي أنجب بدوره لقمان والد داوود الذي أنجب سليمان، وانتهت ذريتهم عند عمران الثاني الذي أنجب مريم.

وقد حاولنا اثبات أن خط النبوة هذا يوازي خط النبوة في الاصطفاء لآل إبراهيم الذي يبدأ بإبراهيم، فاسحاق، فيعقوب، فيوسف حتى ينتهى بهم المطاف عند زكريا الذي أنجب يحيى، الذي هو آخر سلالة البيت الإبراهيمي هذا.


 

ولو تدبرنا سلسة الأسماء في آل عمران، لوجدنا أن هناك جانبا لفظيا وجب التنبيه إليه، ألا وهو أن جميع من ذكرناهم في سلالة آل عمران تنتهي اسمائهم بالمقطع الصوتي (-آن)، ولو بحثنا في النص القرآني عن الاسماء التي تنتهي بهذا المقطع الصوتي، لما وجدناه إلا في اسم "هامان" الذي جاء ذكره أكثر من مرة في سياق الحديث في قصة فرعون:

إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (40:24)

وقد افترينا في أكثر من مكان سابق بأن هامان هو ملك الجان الذي يستطيع أن يقوم بمهمات خارقة، كتلك التي أوكلها له فرعون ذات مرة:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (40:36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (40:37)

لذا، نحن نظن بأن أفراد هذه العائلة (آل عمران) كانوا يستطيعون القيام بمهمات كبرى، خاصة ما يتعلق منها بالجان، ربما يصعب على العقل العادي استيعابها بيسر وسهولة. ومن هذا الباب جاءت مسميات نحن نعرفها كـ سوبرمان وباتمان وسبايدرمان، وحتى طرزان (تلك الشخصية الخيالية االتي يعرفها الصغير قبل الكبير)، الخ. لكن المفارقة العجيبة أننا لا نجد المقطع (آن) في اسم داوود، الذي هو – برأينا- واحد من أفراد عائلة (MAN). ليكون السؤال الآن  هو: لماذا؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا الأمر ربما يؤكد ما ذهبنا إليه من افتراء بأن داوود نشأ في مكان بعيد عن والده منذ ولادته (أي ربما لم يكن لقمان حاضرا ولادة داوود)، فما اتخذ له اسما، ولكن عندما عاد إليه بعد غياب طويل (وسنتعرض لكيفية عودته لاحقا إن شاء الله)، أُطلق عليه اسم يعبر عن حالته (أي كصفة له)، فأصبح يعرفه الناس حينئذ بـ دا-وود (فتى الغابة)، أي الشخص الذي تربى في الغابة. وهذا الأمر ربما يدعونا لافتراء الظن بأن داوود قد ولد في مكان بعيد عن المكان الذي كان يتواجد به والده (لقمان)، فما سنحت للأب الفرصة بتسمية مولوده الجديد. وأنا أكاد أتخيل أن ولادة داوود قد حصلت في فترة زمنية قريبة جدا من تلك التي بدأ فيها حصول العذاب على القوم بسيل العرم. ويستطيع كاتب السيناريو والمخرج التلفزيوني إحداث الإثارة في هذا المشهد ليخلق متعة تجذب الجمهور إلى مواصلة المشاهدة. 

على أي حال، لقد كان الهدف من النقاش حتى اللحظة هو تمرير مجموعة من الافتراءات، نذكر أبرزها:

-          رفض بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة مع موسى

-          مفارقة موسى قومه الذين ضرب عليهم حظر دخول الأرض المقدسة أربعين سنة

-          ذهاب موسى مع فتاه (ومعهما التابوت) إلى مجمع البحرين، لملاقاة العبد الصالح

-          اصطحب العبد الصالح موسى ليعلمه، فكانت رحلة موسى الثانية معه إلى سبأ

-          كانت واحدة من الخبرات التي تعلمها موسى مع العبد الصالح في سبأ هي قصة قتل الغلام الذي كاد أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا

-          كان الابوان هما عمران وامرأته

-          كان الغلام العاق لأبويه يسمى هارون

-          بلغ الأبوان الكبر، ولم يستطيعا أن يثنيا الولد عن كفره، فقال لهما أف لكما (أي قطع العلاقة معهما تماما)

-          قتل صاحب موسى هذا الغلام، وكان ذلك مدفوعا بالإرادة الإلهية أن يبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما

-          تحصل للأبوين المؤمنين خيرا من سابقه، فكان لقمان

-          نشأ لقمان في سبأ التي كانت بلدة طيبة مطمئنة، فتزوج منها

-          بعث الله لهم لقمان رسولا منهم، فكذبوه

-          اعرض أهل سبأ، وكفروا بأنعم الله

-          أرسل الله عليهم سيل العرم وبدلهم بجنتيهم جنتين ذواتي خمط وأثل وشيء من سدر قليل

-          انجب لقمان من امرأته غلاما، لكن كان من عواقب ذلك السيل أنه أخذ الغلام الصغير (ولد لقمان) في التابوت الذي كان في حيازة هذا البيت الطيب

-          ألقى الماء التابوت (كما حصل مع موسى من قبل) في منطقة نائية في الطبيعة، بعيدا جدا عن الناس

-          نشأ ذلك الغلام بين كائنات الغابة ترعاه، ويتفاعل معها

-          فكان اسمه دا-وود (فتى الغابة)

-          الخ

أما بعد،

نجد أنفسنا بعد هذا السرد للافتراءات السابقة ملزمين بمهمتين أساسيتين، أولهما تقديم الدليل على صحة هذه الافتراءات التي لا تبدو حتى الساعة أكثر من خيال جامح لا يحكمه الدليل، وثانيهما المضي بالأحداث قدما (إن وجد الدليل على صحة هذه الافتراءات أو حتى جزء منها).

دعنا نبدأ النقاش في هذا الجزء من قصة نبي الله داوود، التي نحن بصدد تسطيرها بناء على خيالنا غير المنضبط بالدليل حتى اللحظة، بالآيات الكريمة التالية:

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (31:17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (31:19)

إن محاولة تدبر هذا السياق القرآني يتطلب منا - كالعادة- طرح كل التساؤلات الممكنة حول ما جاء فيه، ولنبدأ بالحزم التالية من الأسئلة التي ستثير – برأينا- موجات من التفكير المدفوع بالخيال الجامح.

الموجة الأولى:

         · من هو لقمان، صاحب الحكمة؟

         · كيف آتى الله لقمان الحكمة؟

         · من هو ابن لقمان؟ ولماذا يخبرنا الله بأن للقمان إبنا أصلا؟

         · هل كان ذلك الابن محتاجا للعظة؟

         · لماذا لم يخبرنا باسم الإبن مادام أن اسم الأب قد جاء صريحا؟

         · لماذا جاءت هذه العظة على لسان لقمان على وجه التحديد؟

         · لماذا لم تأت على لسان أحد من الأنبياء السابقين أو اللاحقين؟

         · ألم يكن الأنبياء السابقون واللاحقون يقدمون العظة (النصيحة) لأبنائهم؟

         · ألم يكن نوح – مثلا- ناصحا لإبنه؟ لِم لَم تأتينا عظة نوح لإبنه؟

         · ألم يعاني يعقوب مع أبنائه؟ لماذا لم يقم بإدلاء النصيحة (العظة على وجه التحديد) لهم كما فعل لقمان؟

         · الخ.

الموجة الثانية:

         · لماذا جاءت عظة لقمان لإبنه مسبوقة بدعوته الشكر لله؟

         · لماذا كان ذلك من باب الحكمة؟

         · لماذا ابتدأ لقمان موعظته لإبنه بأن لا يشرك بالله؟

         · هل كان لقمان يخشى أن يقع ابنه بالشرك؟

         · لماذا توسطت آية الوصاية للانسان بوالديه وتفصيل الحمل أجزاء موعظة لقمان لابنه؟ فهل كان الابن في ذلك السن (المرحلة العمرية) يحتاج أن يعرف مثل هذه التفاصيل؟ فكم كان عمر ذلك الإبن عندما قدم الأب لقمان له العظة؟

         · لماذا تحدث لقمان عن احتمالية أن يجاهد الوالدان ابنهما بالشرك؟

         · هل كان لقمان يخشى أن يكون هو شخصيا ممن يجاهد ابنه بالشرك؟

         · الخ

الموجة الثالثة:

         · لماذا جلب لقمان انتباه ابنه أن الله يأت بمثقال الحبة من الخردل حتى وإن كانت في صخرة أو في السموات أو في الأرض؟

         · لماذا انهى لقمان هذه الموعظة بالتذكير بأن الله لطيف خبير؟

         · لماذا دعا لقمان ابنه إلى إقامة الصلاة؟ فهل كان ابن لقمان لا يقيم الصلاة حتى يذكّره بها الآن؟

         · لماذا لم يأمره بإتاء الزكاة أيضا؟

         · لماذا دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

         ·الخ

الموجة الرابعة:

         · لماذا دعا لقمان ابنه أن يصبر على ما أصابه؟

         · هل فعلا أصاب ابن لقمان أمر جلل يدعو الأب ابنه أن يصبر عليه؟

         · لماذا ذكر لقمان ابنه بأن ذلك  من عزم الأمور؟

         · لماذا دعا لقمان ابنه ألا يصعّر خده للناس؟

         · هل كان هناك مشكلة عند الابن في علاقته بالناس؟

         · لماذا دعا لقمان ابنه ألا يمشي في الأرض مرحا؟

         · لماذا يجلب انتباهه أن الله لا يحب كل مختار فخور؟

         · هل كان ابنه يمشي في الأرض مرحا حينئذ؟ أو هل كان هناك احتمالية أن يمشي الولد في الأرض مرحا في قادم الأيام؟

         · الخ

الموجة الخامسة:

         · لماذا طلب لقمان من ابنه وهو يعظه أن يقصد في مشيته؟

         · هل كان هناك مشكلة عند الإبن في المشي؟

         · لماذا طلب لقمان من ابنه أن يغضض من صوته؟

         · هل كان هناك مشكلة في صوت ابنه؟

         · الخ

أما بعد،

إن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب منا – ابتداء- أن نضع جانبا الفكرة الشعبية الراسخة في أذهان العامة من الناس بأن هذه نصيحة من أب لابنه وكفى، وأن الغاية من أنها قد جاءت على لسان هذا الشخص تكمن في أن نتأسى بها فقط. فهذا ما نرفضه جملة وتفصيلا لأسباب لا داع لذكرها الآن.

لذا، علينا – بالمقابل- أن نحاول التفكير بهذه الموعظة كحدث عظيم وقع على الأرض في فترة زمنية محددة، ومع أشخاص محددين بعينهم. وأن ذلك كان مدفوعا بظروف الزمان والمكان حينئذ. فما كان ذلك من قبيل المصادفة أو الأحداث العامة التي يمكن أن تحصل في كل زمان ومكان. ويجب أن نؤمن يقينا بأن كتاب الله ما كان ليسطرها على لسان لقمان لولا أن الاحداث تخص هذا الرجل (وذريته المتمثلة بإبنه هذا الذي يعظه) على وجه التحديد،  فالموعظة إذا هي – برأينا- تفصيل لقصة حقيقية، دعت الحاجة إليها في وقت محدد، بسبب ظروف محددة كانت قائمة في مكان محدد ومع أشخاص محددين بعينهم.

السؤال: كيف يمكن أن نفهم تلك الموعظة ضمن سياقها الزماني والمكاني؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نعتقد (ربما مخطئين) بأن لقمان قد عمد إلى إسداء الموعظة لابنه لأن ذلك الإبن كان بحاجة إليها.

السؤال: لماذا كان الابن بحاجة إلى تلك الموعظة (بتفاصيلها كما وردت في كتاب الله)؟

رأينا المفترى: عندما ندقّق في تفاصيل تلك الموعظة، سنجد بأن تلك التفاصيل هي ما كان الابن بحاجة إليه، فالأب لم يعظ ابنه بما يتعلق – مثلا- بطرق كسب المال أو إنفاقه، ولم يعظه فيما يتعلق – مثلا- باختيار الزوجة، أو تناول الطعام والشراب، أو غض البصر وحفظ الفرج، في الوقت الذي وعظه فيه بطريقة المشي وغض الصوت. لذا، علينا أن لا ننظر إلى ذلك من باب العموميات، التي يمكن أن تنسحب على غيرها. فهذه مواعظ محددة بذاتها، كان الأب يريد من ابنه أن ينتبه لتفاصيلها على وجه التحديد. ليكون السؤال الآن هو: لماذا؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأن السبب في ذلك يعود إلى أن ابن لقمان هذا كان يعاني من سلوكيات اجتماعية محددة غريبة  الأطوار (غير مألوفة للناس من حوله)، فأراد الأب (لقمان) أن يسوّى تلك السلوكيات الاجتماعية (الغريبة) عند ابنه. فيكون السؤال الآن هو: ما هي المشاكل التي كان لقمان يراها عند ابنه ويريد أن يصححها على الفور؟

جواب مفترى: لو دققنا في الآيات التي يسدي فيها لقمان النصيحة لابنه مرة أخرى في السياق القرآني ذاته، لوجدناها قد بدأت بتذكيرنا بما آتاه اللهُ لقمانَ من الحكمة التي ظهرت نتائجها عند لقمان نفسه بالشكر لله:

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12)

ثم تأتي مباشرة بعد ذلك تفاصيل موعظة (هذا العبد الشاكر لله) الموجهة خاصة لابنه، قائلا:

 وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (31:17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (31:19)

فتصبح التفاصيل على الترتيب التالي:

         · عدم الشرك بالله (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ)

         · الشكر لله وللوالدين (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)

         · عدم طاعة الوالدين في حالة مجاهدتهم إياه بالشرك (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)

         · مصاحبتهما في الدنيا معروفا في حالة أن جاهداه ليشرك بالله (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)

         · اتباع سبيل من أناب إلى الله (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)

         · العلم بأن الله لطيف خبير، وذلك بأن الله يأتي بمثقال الحبة من خردل حتى وإن كانت في صخرة أو في السموات أو في الأرض (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)

         · إقامة الصلاة (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)

         · الأمر بالمعروف  (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ)

         · النهي عن المنكر (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)

         · الصبر على المصيبة (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ)

         · عدم تصعير الخد للناس (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)

         · عدم المشي في الأرض مرحا لأن الله لا يحب كل مختال فخور (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )

         · القصد في المشي (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)

         ·غض الصوت لأن أنكر الأصوات لصوت الحمير (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)

         · الخ

السؤال مرة أخرى: لماذ قدّم لقمان الموعظة لابنه بهذه الجزئيات على وجه التحديد؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن بأنه لمّا كان ابن لقمان هذا (داوود) يعاني من خلل في سلوكيات اجتماعية محددة، كان على أبيه (لقمان) أن يسويها قبل فوات الأوان. انتهى.

إن هذا الظن يدفعنا إلى تقديم افترائين مهمين هما:

-          أن الابن ما يزال في مرحلة عمرية قابلة للتعلم، فهو ليس صغير جدا بحيث لا يفهم الكلام، ولا كبير جدا بحيث أنه قد فات الآوان. لذا، نحن نتخيل أن الابن ما يزال غلاما على مقربة من سن البلوغ

-          أن هذا الفتى كانت يحتاج إلى تعديل السلوكات القديمة، واستبدالها بسلوكيات جديدة، يرشده الأب إليها في هذا الوقت على وجه التحديد.

السؤال: ما معنى أن لقمان كان يسوّي سلوك ابنه اجتماعيا؟

جواب مفترى: كان لقمان يحاول أن يعدّل سلوكات ابنه حتى يصبح شخصًا عاديًا – مثل غيره من بني قومه - فينخرط بسهولة في المجتمع في ذلك الوقت.

السؤال: لماذا كان لقمان يقوم بذلك؟

رأينا المفترى الخطير جدا جدا (لا تصدقوه): لأن ابنه ما عاش حتى هذه اللحظة (وقت تقديم النصيحة له) في كنف ابيه بين الناس العاديين من قومه، وبالتالي لم يتعلم (نحن مازلنا نتخيل)  السلوك البشري الاجتماعي، فكان سلوكه مغايرا لسلوك الناس العاديين من البشر الذي جاءهم من مكان بعيد.

الدليل

ربما لا يحتاج القارئ لهذا السياق القرآني أن يبذل جهدا كبيرا ليعلم بأنه يمكن تجزئته إلى أربعة أجزاء تتعلق بالابن الذي يحتج إلى تلك الموعظة، ألا وهي:

أولا، ما يخص علاقته بربه

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13)

ثانيا، ما يتعلق بعلاقته بعائلته (خاصة الوالدين)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15)

ثالثا: ما يخص علاقته بنفسه: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (31:17)

رابعا، ما يتعلق بعلاقته بالمجتمع

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (31:19)

وبناء على ذلك، علينا أن نعيد طرح التساؤلات حول كل واحدة من هذه الأجزاء، ولنبدأ بها تباعا.

باب ما يخص علاقة الغلام بربه

لو دققنا فيما قاله الأب لابنه في هذا الباب، لوجدناه يحذره أشد تحذير من الشرك بالله، فتلك هي العظة الأولى والأهم على سلم الأولويات:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13)

فالسؤال المطروح الآن هو: هل كان لقمان يخشى على ابنه من الوقوع من الشرك حتى حذره منه؟ ألم يكن الابن سيكتسب ذلك بالمراقبة العملية لوالديه أو للناس من حوله؟ لماذا انتظر لقمان فترة من الزمن حتى يقدم هذه الموعظة لابنه؟ فكم كان عمر هذا الابن عندما أقدم الاب على أن يعظه بمثل هذه العظة؟ ألم يكن من المفترض أن الابن يعلم مسبقا (منذ نعومة اظفاره) خطر الوقوع في الشرك مادام أنه ابن هذا الرجل الحكيم؟ الخ.

النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: لم يكن الولد من ذي قبل يعلم أن هناك احتمالية وقوع في الشرك لأنه عاش بعيدا منعزلا عن المجتمع البشري الذي يقع في الشرك. فالمكان الذي عاش فيه هذا الغلام (الغابة) لم يكن الشرك احتمالا قائما. انتهى.

باب ما يتعلق بعلاقته بوالديه

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15)

لماذا جاء موضوع الشكر للوالدين مرتبطا بالشكر لله هنا؟ لماذا يحدث الأب ابنه عن طبيعة الحمل ومراحله؟ هل كان الأمر غريبا على الولد؟ هل كان الولد يعلم من ذي قبل كيف يخلق الانسان في بطن أمه وكيف يتربى في كنف والديه؟  ولماذا يحذر لقمان ابنه من احتمالية أن يجاهد الوالدان ابنهما ليشرك بالله ما ليس له به علم؟ وما الذي يمكن أن لا يكون للولد به علم فيجاهداه الأبوان به ليشرك بالله؟ لماذا يحثه على صحبة الوالدين في الدنيا معروفا حتى لو جاهداه ليشرك بالله؟ والأهم من ذلك لماذا يدعوه أن يتبع سبيل من أناب منهما؟ فهل هناك احتمال أن يكون أحد الأبوين مشركا بالله والآخر منيب لله؟ لماذا يطلب لقمان من ابنه أن يتبع سبيل أحد الوالدين وهو المنيب منها على وجه التحديد؟!

النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: لم يكن الولد يعلم من ذي قبل كيف يخلق الإنسان في بطن أمه وكيف يتربى في كنف والديه أو حتى كيفية العلاقة السليمة بين الولد من جهة ووالديه من جهة أخرى، وذلك لأنه لم يخبر ذلك من قبل مادام أن عيناه قد تفتحت هناك في الغابة ولم يجد أحدا منها حوله.

 باب ما يخص علاقة الابن بنفسه

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (31:17)

لماذا يذكر الاب ابنه بعلم الله الذي يأتي بمثقال الحبة من الخردل حتى التي تكون في صخرة أو في السماوات والأرض؟ لماذا يذكره بالصخرة في سياق الحديث عن السموات والأرض؟ أليست تلك الصخرة من السماوات أو من في الأرض؟ لماذا يرشده الآن إلى إقامة الصلاة؟ ألم يكن الولد يقيمها من ذي قبل؟ لماذا يدعوه أن يكون ممن يأمر بالمعروف وينه عن المنكر؟ وكيف يكون الأمر بالمعروف؟ وكيف يكون النهي عن المنكر؟ أين سيتعلم الابن ما هو من المعروف الذي سيأمر به وما هو من المنكر الذي سينهى عنه؟

النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: مادام أن الغلام سيعيش من الآن في مجتمع بشري، فعليه أن يتعلم عاداته وتقاليده، فيلتزم بما يقره المجتمع من الأعراف، ويبتعد عن ما يقره المجتمع من المنكر، فيكون هو من دعاة المعروف ومن الناهين عن المنكر، وعليه أن يكون قبل ذلك قما للصلاة، وذلك لا، الصلاة هي التي تتحقق بها هاتين الغايتين، قال تعالى:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (29:45)

وبعد هذا كله يدعوه أن يصبر على ما أصابه، فما الذي أصاب الغلام من ذي قبل؟

جواب مفترى: أنه قد عاش حتى هذا الوقت في مجتمع الغابة، فما اكتسب الطبائع البشرية وعلى رأسها طريقة المشي والكلام.

باب علاقة الابن بالمجتمع

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (31:19)

لماذا يطلب الاب من الابن أن لا يصعر خده للناس؟ وما معنى أن لا يصعر خده للناس؟ لماذا يدعوه ألا يمشي في الأرض مرحا؟ وكيف يكون المشي في الأرض مرحا؟ وما علاقة ذلك بأن الله لا يحب كل مختال فخور؟ ولماذا يطلب منه أن يقصد من مشيته بعد أن طلب منه ألا يمشي في الأرض مرحا؟ وما معنى القصد في المشي؟ وكيف يختلف عن عدم المشي في الأرض مرحا؟ ولماذا يطلب منه أن يغضض من صوته؟ فهل كل هناك مشكلة في صوت الابن؟ ولماذا ذكره بصوت الحمير على وجه التحديد؟ الخ.

النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: لما كان الغلام حتى اليوم قد قضى جل حياته بين كائنات الغابة، فقد تعلم منها طريقة الانتقال في الأرض، كما تعلم منها طريقة النداء (برفع الصوت). فكان الغلام يمشى مرحا (وبالتالي يظهر ويكانه مختال فخور) ولا يقصد في مشيته بالقفز من مكان إلى مكان بسرعة عالية جدا. (وسنتعرض بإذن الله لهذه التفاصيل لاحقا عندما يأتي الحديث عن داوود كخليفة في الأرض بإذن الله (فالله وحده أدعوه أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم). 

 

افتراءات غير مسبوقة: نحن نفتري الظن بأن الابن قد قضى حياته - حتى الساعة – في الطبيعية القاسية بين مخلوقات الغابة الكثيرة والمتنوعة. فاكتسب منها صفات يصعب أن تكون ملائمة لحياة الإنسان في مجتمع بشري. فكان على الاب أن يصحح سلوكيات هذا الفتى بعد أن عثر عليه، فعمد على تقديم هذه العظة بتفصيلاتها المحددة لهذا الفتى تأهيلا له لأن ينخرط لأول مرة في مجتمع بشري هو لم يالفه من ذي قبل. انتهى

إن هذا الطرح يجبرنا على أن نضع على طاولة البحث التساؤلات التالية:

-          كيف وصل هذا الفتى الى الغابة؟

-          كيف عاش فيها؟

-          كم طول الفترة الومنية التي عاش فيها هناك؟

-          كيف رجع إلى والدة؟

-          متى رجع إلى والده؟

-          الخ

قدمنا في الأجزاء السابقة افتراءتنا الخاصة بكيفية وصول (داوود – ولد لقمان) إلى الغابة. فزعمنا الظن مفترينه من عند أنفسنا بأن ذلك كان بسبب سيل العرم. وتخيلنا المشهد على نحو أنه ما أن حصل السيل الذي هدد حياة الجميع حتى حاول كل شخص النجاة بحياته بأي وسيلة كانت، ولكن لما كان هذا الطفل ما يزال في حضن أمه رضيعا (لأو ربما في لحظات وضعه)، جهدت الأم أن تنقذ حياة طفلها قبل أن تفكر في حياتها هي نفسها. فما وجدت هذه المرأة حاضرا نصب عينها في تلك اللحظة إلا طريقة واحدة قد تنقذ بها حياة ذلك الطفل (المولود) حتى لو غرقت هي في السيل، ألا وهي أن تقذف هذا الطفل في ذلك التابوت. ونستطيع أن نستحضر المشهد بمقارنته بما فعلت أم موسى عندما خافت على طفلها:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (28:7)

وبالتالي، نحن نكرر افتراءنا بأن الماء قد تقاذف ذلك التابوت الذي بداخله الطفل حتى وصل به إلى مكان لا يسكنه أحد من العالمين. ونكاد نجزم الظن بأن هذا قد حصل والطفل ما يزال وليدا صغيرا لا يتقن الكلام البشري، ولا المشي، وسنرى تبعات هذا الظن لاحقا بإذن الله.

كما ظننا أيضا بأن الطفل قد عاش في التابوت الذي تحمله الملائكة، فكان مرفوعا عن الأرض، فما تهدده خطر الكائنات البرية المفترسة لأنها ببساطة لا تستطيع أن تصل إليه. ولكن كانت أول الكائنات وصولا إليه هي الطير. ولك أن تتخيل حجم الطير من حيث العدد والنوع الذي يمكن أن يقف على أطراف ذلك التابوت المعلق في الفضاء خاصة مع حدوث سيل العرم، وفي تلك الغابة الشجرية الكثيفة جدا التي حطه السيل بها. ولو حاولت أن أصور ذلك مشهدا سينمائيا، لجلب عشرات الأنواع من الطير التي تحاول الوصول إلى ذلك التابوت خلال وقوع سيل العرم، وبعد أن حط بين كائنات الغابة، الأمر الذي لا شك سيجلب الرغبة والفضول للوصول إليه من تلك المخلوقات غير البشرية. ولو عدنا إلى قصة موسى في التابوت عندما التقطه آل فرعون، لوجدنا الآية الكريمة التالية:

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (20:39)

فمن كان في ذلك التابوت، ستكون المحبة (وربما الفضول والغريزة) من قبل الآخرين حاضرة. الأمر الذي – برأينا قد جلب مخلوقات أخرى في الغابة لتحاول الوصول إلى التابوت لترى ما فيه. لكن ظل التابوت بعيدا عن متناول المخلوقات الأخرى باستثناء الطير الذي كان يأتيه من الأعلى. فكان تواجد الطير (بأنواعه) كثيفا في التابوت حتى أصبح (نحن نتخيل) موطنا لهم، يجتمعون عنده في صلاتهم وتسبيحهم:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (24:41)

فكانت أول السلوكيات التي تعلمها هذا الصبي في ذلك المهد (التابوت) هو منطق الطير، لذا نحن نفهم من هذا الباب لماذا جاء العلم بمنطق الطير خاصا بآل داوود على وجه التحديد، قال تعالى:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (27:16)

فكان ذلك أول ما نطق به لسان داوود، الذي هو لا شك مختلف عن لسان العالمين، بالضبط كما كان لسان عيسى ابن مريم مختلفا عن لسان العالمين، قال تعالى:

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (5:78)

وكان ذلك الطير هو الذي يأتي لهذا الطفل في ذلك التابوت بالرزق من ثمرات الغابة المتوافرة من حوله بكثافة. فنشأ الطفل في ذلك التابوت حتى بدأ يستطيع النزول من التابوت والعودة إليه، وتعلم هذا السلوك من بعض كائنات الغابة كالقرود والسناجب وما شابهها. فأخذ يقفز من وإلى التابوت بتلك الطريقة، فكانت طريقة انتقاله تشبه طريقة انتقال هذه الكائنات، لكنه أيضا كان يسمع صوتها، ويردد صداه بصوت مرتفع كما تفعل هذه الكائنات. وأصبح ينتقل بين التابوت وبين أشجار الغابة بطريقة بهلوانية، ويصرخ بصوته فيها كما تصرخ هذه الكائنات، ولكن وجود التابوت الذي يؤمن له المأوى كان كفيلا بأن يصد خطرها في بداية تجربته معها. وما أن أخذ يتعامل مع هذه الكائنات حتى اعتادت على وجوده، وما عادت تحاول أن تشكل خطرا عليه. ولو حاولت تصور ذلك بمشاهد سينمائية، لاظهرت حوادث كثيرة كان هذا الفتى يقدم العون والمساعدة لهذا الكائنات حتى أصبحت تحبه وتطيعه فيما يطلبه منها. فقد أصبح سيد الغابة بين هذه الكائنات التي أصبحت معضمها أليفة بالنسبة له. وأترك بقية التفاصيل لخيال كاتب السيناريو لهذه  القصة ولقدرات المخرج وامكانات التصوير لتبيان ما جرى مع هذا الفتى في الغابة لمدة سنوات من الزمن.

لنترك المكان هذا، لتعود بنا الكاميرا إلى مسرح الأحداث هناك في سبأ

 

المدكرون: رشيد سليم الجراح

بقلم: د. رشيد الجراح

تاريخ النشر:

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف23/4/23

    ياسلام .. يعنى عشان الراجل بينصح ابنه فى العموم تقوم تحولها انت لخيال لا يمت للواقع بصله!! يعنى الاله هنا بيقول للانسان فى العموم او لمحمد ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا . ده معناه ان محمد كان عايش حياته فى الادغال !! و لما يقول له وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا هنا معناها ان محمد كان جاعل مع الله اله اخر ؟!! ما هذه السذاجة

    ردحذف