قصة داوود – الجزء الخامس

 

من هو داوود؟ الجزء الخامس

داوود فتى الأدغال

غادرنا في الجزء السابق مسرح الأحداث في الغابة حيث ينشا الطفل داوود بين كائنات الغابة يتفاعل معها، ويتعلم منها بعض السلوكيات، ويقضي جل وقته متكيفا مع هذه الكائنات التي أخذت تألف وجوده وتتقبله شيئا فشيئا حتى ما عادت تشكل خطرا على حياته في ذلك المكان الذي يخلو من الجنس البشري غيره. لنعود إلى مسرح الأحداث في مكان آخر من الأرض.

أما بعد،

هناك في سبأ يهدأ سيل العرم، وينجو القليل من الناس، لكن تكون عاقبة المنطقة هو تدمير ما كانت جنتين عن يمين وشمال، وما عادت إلا جنتين ذواتي أكل وخمط وشيء من سدر قليل:

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16)

فتصبح سبأ فترة من الزمن بعد نزول عذاب سيل العرم عليها منطقة طاردة للناس، فما يكون ممن كان يسكنها من بني إسرائيل مع القوم الآخرين إلا أن يتركوها ويتجهوا في رحلتهم الجديدة قاصدين الأرض المقدسة. وهنا تقع أحداث عظيمة تعرضنا لها في مقالتنا تحت عنوان قصة سبأ. ولكن سنجلب هنا السياق القرآني الأوسع الذي جاءت فيه قصة سبأ. قال تعالى:

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (34:19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)

ولو دققت في هذا السياق جيدا، لوجدت ما نريد الوصول إليه: أنّ من كانوا في سبأ قد أصبحوا أحاديث بعد أن مزقهم الله كل ممزق، لقد تشتتوا في المعمورة، فما عادت سبأ كما كانت.

السؤال: في ظل هذه الظروف، ما الذي سيفعله لقمان (والد داوود) الذي فقد في تلك الأحداث ابنه المولود له جديدا؟

رأينا المفترى: لما كانت سنة الله تقضي بأن يقع العذاب على القرى التي تكذب رسلها، ما يكون من الرسول والذين آمنوا معه إلا أن ياتيهم الأمر الإلهي بالخروج من منطقة العذاب قبل وقوعه، لينجيهم الله ويلات العذاب، كما حصل – مثلا- مع نوح ولوط وعاد وثمود وأقوام أخرين:

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (21:11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (21:12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (21:13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (21:14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (21:15)

وهنا وجب التنبيه إلى جزئية ضرورية في سياق العذاب على الأقوام السابقة تتمثل بوجود فعلين اثنين؛ أحدهما أن الله يهلك القرى، وثانيهما أن الله يقصم القرى، قال تعالى:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (28:58)

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (21:11)

السؤال: ما الفرق بين أن يهلك الله القرى كما جاء في الآية الأولى وأن يقصم القرى كما جاء في الآية الثانية؟

نتيجة مفتراة 1: إذا حصل الهلاك لقرية، فإن مساكنهم لم تسكن من بعدهم

نتيجة مفتراة 2: إذا قصم الله قرية، فيمكن أن ينشأ بعدها قوم آخرين

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الله قد قصم سبأ، لذا سنجد أن المنطقة قد بدأت فيها الحياة من جديد بعد فترة من الزمن، ونشأ فيها قوم آخرون. وسنرى ذلك عندما يصل بنا النقاش إلى قصة سليمان عندما جاءه الهدد منها بخبر تلك المرأة التي لها عرش عظيم هناك في سبأ:

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (27:22)

إذن، ها هي سبأ تدب بها الحياة من جديد، وتبدأ حضارة جديدة تنشأ في المنطقة شيئا فشيئا بعيدا عن أعين الناظرين حتى تم اكتشاف ذلك من قبل الهدهد الذي استكشف أمر القوم هناك، والمرأة التي كانت تملكهم وعندها عرش عظيم:

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (27:23)

ولو دققنا في هذا السياق القرآني متابعين جلب الآيات الكريمة التي تصور لنا المشهد هناك، لوجدنا أن هامان (الشيطان) كان ناشطا هناك في سبأ:

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (27:24)

السؤال: ماذا كان يفعل الشيطان هناك في سبأ؟ ولماذا تواجد هناك في سبأ؟

جواب مفترى: هذا ما سنتعرض له بإذن الله لاحقا عندما نصل إلى مجريات الأحداث زمن سليمان (ولد داوود) - فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو السميع البصير.

لكن دعنا الآن نعيد تصوير المشهد بطريقة بسيطة حتى يستطيع القارئ الكريم متابعة تفاصيل الأحداث بيسر وسهوله.

أما بعد،

تخيلات مفتراة: عاشت سبأ قرية مطمئنة فترة من الزمن، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم ربها، فبعث الله فيهم رسولا منهم (لقمان)، فأعرضوا، فوقع عليها العذاب، بأن قصمها الله ولكنه لم يهلكها، ويتضح ذلك في قوله تعالى:

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16)

نتيجة مفتراة: نحن نظن بأن الله لم يهلك سبأ (كليا ونهائيا)، ولكنه قصمها (جزئيا وآنيا).

وما حق على تلك القرية العذاب الإلهي حتى جاء الأمر الإلهي للقمان (رسول سبأ) بأن يخرج ومن آمن معه من منطقة العذاب، ففعل. ويحصل سيل العرم، فيدمر المنطقة، ويتركها على حال غير التي كانت عليه من قبل فترة من الزمن (لأن الله قد قصمها)، فما تبقى فيها إلا ما أبدلهم الله به، وهما جنتان ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. فما عادت صالحة للحضارة إلا بعد فترة من الزمن حتى ذهب تأثير ذلك السيل على المنطقة. وبعد ذلك عادت المنطقة صالحة لأن تكون قرية حضارية من جديد. وبالفعل حصل ذلك بعد فترة من الزمن حيث تواجدت تلك المرأة التي تملك قومها في سبأ زمن سليمان (ابن داوود). وسنرى تفاصيل حصول ذلك لاحقا بإذن الله. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو اللطيف الخبير.

أما بعد،

السؤال: ماذا فعل لقمان قبل حصول السيل وخلاله وبعده؟

تخيلات مفتراة من عند نفسي: بعد أن علم داوود أن العذاب لا محالة واقع على القوم المعرضين، ما كان منه إلا أن يخرج (ومن آمن معه طبعا) من المنطقة التي سيصيبها العذاب بأكملها. فأين توجه الرجل خارجا من سبأ؟

رأينا المفترى: لو تفقدنا الخارطة الجغرافية جيدا، لوجدنا بأن هناك منطقتين يمكن للقمان أن يذهب إليهما، وهما:

-          الاتجاه شمالا

-          الاتجاه شرقا

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى: لو عدنا إلى الفترة الزمنية التي كان لقمان يعيشها، لوجدنا أن الحضارة كانت هناك في الأرض المقدسة، حيث يتواجد القوم الجبارون داخلها، والمخرجون من بني إسرائيل منها على أطرافها تائهون. كما كانت تتواجد حضارة أخرى في الشرق الأدنى لها علاقة ببابل حيث بلاد الملكين هاروت وماروت:

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (2:102)

السؤال: إلى أين اتجه لقمان خارجا من سبأ عندما وقع عليها العذاب؟

رأينا المفترى: نحن نتخيل بأن لقمان قد اختار أن يذهب باتجاه بابل.

السؤال: أين الدليل على ذلك؟

رأينا المفترى: لو دققنا فيما قاله الملأ من بني إسرائيل لذلك النبي الذي من بعد موسى، لوجدنا أنهم يطلبون منه أن يبعث لهم ملكا، أليس كذلك؟

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246)

السؤال: هل كان ذلك الذي بعثه لهم نبيهم ملكا قبل أن يبعثه أم أصبح ملكا بعد أن بعثه؟

رأينا المفترى: لو دققنا فيما قاله الملأ من بني إسرائيل، لخرجنا بالاستنباطات التالية:

-          أن ذلك الرجل المبعوث (طالوت) كان ملكا قبل أن يبعثه لهم بدليل أنه بعث ما طلبوا منه.

-          أن ذلك لم يصبح ملكا بعد أن بعثه لأنه لو كان كذلك لقالوا (اجعل لنا ملكا)

-          أن هناك عند داوود أكثر من ملك بدليل أنهم طلبوا (ملكا)

-          لو كان ذلك هو الملك الوحيد المتوافر عنه، لقالوا ابعث لنا (الملك).

-          أن القوم يعلمون بوجود الملوك المتعددة، وأنه يستطيع أن يبعث أحدهم

-          الخ

ولو جلبنا قصة المرأة في سبأ مع سليمان التي ستحصل لاحقا، لوجدنا كلام قومها بعد استشارتهم على النحو التالي:

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (27:32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (27:33)

لكن كان ردها الفوري على النحو التالي:

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (27:34)

السؤال: من هم أولئك الملوك (المتواجدين الآن عند سليمان – ولد داوود) الذين إن دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة؟ وكيف كانت تلك المرأة تعلم بأن هذا ما يفعله الملوك كلما دخلوا قرية؟

رأينا المفترى: إنهم ملوك حضارة بابل المتواجدة في الشرق الأدنى.

(وسنتعرض لهذه الحضارة لاحقا بإذن الله عندما يأذن الله لنا بشيء من علمه فيها. فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم).

نتيجة مفتراة: نحن نتخيل إذا لقمان تاركا سبأ ومتوجها إلى منطقة الملوك في بابل، حيث حضارة الملكين هاروت وماروت، وهناك وجد القوم مؤمنين يتعلمون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، كما وجد من يتعلمون السحر (حيث ينشط الشياطين):

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (2:102)

فيتحصل للقمان من العلم (والحكمة) ما يمكنه من التعامل مع الشياطين الذين كانوا يستغلون ذلك العلم. ويكون ذلك سببا في استتباب الأمر للملوك في بابل، فيكون لقمان صاحب الأمر في أولئك الملوك، فيصبح في مكانة تؤهله أن يرسل منهم ما يشاء لمقارعة الباطل في كل مكان.

نخيلات مفتراة: كان في بابل ملوك، لكن سلطتهم كانت غير مستقرة بسبب ما كانت تحدثه شياطين الإنس بالتعاون مع شياطين الجن. ولكن قدوم لقمان إلى تلك المنطقة جلب لها الاستقرار باخماد الثورات في تلك المناطق، فاستتب حكم الملوك، ولما وصل الخبر إلى بني إسرائيل بأن هذا النبي كان يساند الملوك في اخماد الثورات وإعادة الحق إلى أصحابه، وقدرته على الانتصار على أهل  الباطل الذين كانت الشياطين تؤزهم أزا:

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (19:81) كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (19:82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (19:83)

تواصلوا معه طالبين المساندة، بأن يبعث لهم أحد أولئك الملوك، ليتصدى للخطر الأخير على الأرض حينئذ، ألا وهو وجود جالوت (الكافر) في الأرض المقدسة.

السؤال: ما الذي حصل بين الطرفين (الملأ من بني إسرائيل من جهة وذلك النبي (لقمان) من جهة أخرى)؟

تخيلات مفتراة: لما كان لقمان يظن بأن بني إسرائيل لم يكونوا حتى الساعة جاهزين للقتال، لم ينزل عند طلبهم على الفور. وكان يخطط (نحن نظن) أن يفعل ذلك لاحقًا بعد أن يصل ابنه المفقود (الذي وجده للتو) للسن المطلوب. لكن بني إسرائيل كانوا متعجلين، فالحوا عليه بأن يبعث لهم ملكا، مؤكدين جاهزيتهم للقتال، فبعث لهم طالوت ملكا، وكان داوود في جيش طالوت  ما يزال غلاما يافعا.

وهنا يبرز  السؤال المثير التالي: كيف عثر لقمان على داوود المفقود في الغابة البعيدة؟ فهل استسلم لواقع الحال واعتبره ولده في عداد المفقودين إلى غير رجعه؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأن الرجل ما كان ليستسلم لواقع الأمر، وذلك لظننا بأن الرجل كان يؤمن إيمانا قاطعا بأن ولده سليما معافى في مكان ما في الأرض، وذلك – على الأقل- لسببين اثنين:

-          الحكمة التي يتمتع بها لقمان

-          العلم الذي كان عند الرجل، خاصة ما يتعلق بخبر التابوت

لذا فالرجل لن تشغله فقط مسألة البحث عن ولده المفقود (وإن كان هذا أمرا يهمه)، لكن كان يعنيه أيضا أمر التابوت الذي هو ما يزال آمانة في بيته، وهو ما كان موسى قد استودعه في بيت والديه المؤمنين قبل ما يقرب ما أربعين سنة، ليعيده إلى أصحابه الحقيقين، ألا وهم بنو إسرائيل الذين ما يزالون يقارعون القوم الجبارين للعودة إلى الأرض المقدسة. فداوود إذا لن يبعث لبني إسرائيل مالكا إلا إن كان التابوت (مفتاح الأرض المقدسة) متوافر معهم. فهو يعلم – يقينا- أنه من العبث محاولة دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة دون وجود التابوت، فذلك هو الشيء الذي هو علامة فارقة بالإذن الإلهي لبني إسرائيل دخول الأرض المقدسة بشرعية.

لذا، علينا أن نحاول أن نستكشف الأحداث حتى عودة الإبن المفقود (داوود) ومعه التابوت الذي سيكون العلامة الفارقة في شرعية دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة. ويتطلب ذلك منا أن نحاول الوقوف على ما كان من أمر لقمان في تلك الحقبة من الزمن.

باب الحكمة فالشكر لله

لو بدأنا النبش في تفاصيل القصة منطلقين من الآية التالية:

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12)

لوجدنا بأن لقمان قد كان صاحب حكمة، ليكون السؤال الآن هو: ما هي الحكمة التي أوتيها لقمان؟

عندما حاولنا البحث في النص القرآني عن الحكمة، وجدنا الآيات القرآنية التي ترشدنا إلى بعض الحقائق التي نحتاجها لمعرفة حقائق الحكمة التي أوتيها لقمان، نذكر منها:

أولا، الفصل بين ما في الكتاب من جهة والحكمة من جهة أخرى (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ):

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (2:231)

(ملاحظة غريبة: لماذا جاءت مفردة "يعظكم" في سياق الحديث عن طلاق النساء؟ هل تستطيع أن تتخيل أن هناك علاقة بين هذا وقصة لقمان عندما كان يعظ ابنه؟ من يدري؟!)

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3:48)

ثانيا، الفصل بين الملك والحكمة:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (4:54)

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (2:251)

(ملاحظة غريبة: إذا كان داوود قد تحصل على الحكمة من والده لقمان، فمن أين تحصل له الملك؟ من يدري؟! والأهم من ذلك ما العلاقة بين الحكمة التي جاء ذكرها في هذه الآية الكريمة ومسألة دفع الله الناس بعضهم ببعض حتى لا تفسد الارض؟ هل يمكن أن نستفيد من هذه الملاحظة في قصة لقمان وداوود في ذلك الزمن؟ فهل كانت حكمة لقمان سببا في دفع الناس بعضهم ببعض حينئذ حتى لا تفسد الأرض؟ من يدري؟!)

ثالثا، الحكمة متاحة للجميع:

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (2:269)

(السؤال: ما علاقة الحكمة بأولي الألباب؟ ولو جلبنا الآيات الكريمة التي تتحدث عن أولي الألباب وربطناها بالحكمة لوجدنا العجب العجاب. لذا، أدعو القارئ الكريم أن يستحضر تلك الآيات ويتفكر بها من هذا الجانب قبل أن ندخل بتفاصيل القضية لاحقا بإذن الله.

(دعاء: اللهم رب داودد وسليمان، أسألك أن تؤتيني الحكمة، وأن أكون من أولي الألباب الذين يتذكرون، وأن تفضلني على كثير ممن خلقت تفضيلا)

رابعا، الحكمة يمكن أن تُعلّم:

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (3:164)

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (62:2)

(دعاء: اللهم رب محمد أن تعلمني تلك الحكمة التي كان محمد يعلمها للمؤمنين من حوله)

خامسا، الفصل بين الحكمة والموعظة:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (16:125)

(دعاء: اللهم ربي أسالك أن أكون من عبادك المهتدين، وأعوذ بك أن أكون ممن ضل عن سبيلك)

سادسا، الفصل بين الآيات والحكمة

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (33:34)

(دعاء: أسالك رب أن أكون ممن يذكر آياتك والحكمة إنك كنت بي لطيفا خبيرا)

سابعا، الحكمة مرتبطة بالبينات:

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (43:63)

(دعاء: اللهم رب علمني الحكمة التي جاء بها عيسى، واهدني لما اختلف فيه الناس من الحق)

ثامنا، تركيز الحكمة في آل داوود

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12)

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (38:20)

السؤال: ما هي الحكمة إذا؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الحكمة هي مجموعة من التعليمات / السلوكيات التي يتوجب على من يطلبها أن يتمثلها في حياته العملية، وهي التي نجد تفصيلها في الآيات الكريمة التالية التي جاءت في موضع واحد في كتاب الله (في سورة الإسراء)، لكن سنقدمها مجزئة لتوضيح التفاصيل الواردة فيها، قال تعالى:

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (17:22)

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (17:23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (17:24)

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (17:25)

وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (17:26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (17:27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (17:28)

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (17:29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17:30)

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (17:31)

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (17:32)

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (17:33)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (17:34)

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (17:35)

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (17:36)

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (17:37) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (17:38)

ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (17:39)

لو تدبرنا هذا السياق القرآني بحد ذاته، سنجد لزاما على من أراد أن يتعلم الحكمة أن يحدد علاقته بالكون من حوله، بسلوكيات سليمة على النحو التالي:

         ·علاقتك مع الله: ألا تجعل مع الله إلها آخر (عدم الشرك)

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (17:22)

(تذكر أول وصايا لقمان لابنه المتمثلة بأن لا يشرك بالله)

         ·علاقتك مع والديك

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (17:23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (17:24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (17:25)

(تذكر وصية لقمان لابنه فيما يتعلق بعلاقته مع الوالدين)

         ·علاقتك مع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل

وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (17:26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (17:27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (17:28)

         ·سلوكك في الانفاق

         ·وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (17:29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17:30)

         ·علاقتك مع ذوي الإعاقة من الأولاد

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (17:31)

         ·علاقتك مع نساء العالمين

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (17:32)

         ·علاقتك مع الخاطئين

         ·وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (17:33)

         ·سلوكاتك تجاه الأيتام (من كان ضعيفا)

         ·وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (17:34)

         ·سلوكاتك تجاه العهود

         ·وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (17:34)

         ·سلوكاتك في المعاملات التجارية

         ·وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (17:35)

         ·سلوكك الأكاديمي العلمي

         ·وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (17:36)

(تذكر ما قاله لقمان لابنه في موعظته عن علم الله وعن مجاهدة الوالدين لابنهما بما لا يعلم)

         ·سلوكك الاجتماعي الشخصي:

         ·وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (17:37)

(تذكر ما قاله لقمان لابنه بطريقة المشي في الأرض)

وسيكون نتيجة الالتزام بهذه السلوكات الاجتماعية اكتساب الحكمة، ولكن ستكون نتيجة عدم الالتزام بهذه السلوكات السليمة – بالمقابل - على نحو:

         ·كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (17:38)

نتيجة مهمة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن كل ما سبق هي ما تجعل الإنسان يتحصل على الحكمة:

         ·ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (17:39)

إن ما يهمنا استنباطه هنا (ربما مخطئين) بأن هذه السلوكيات هي من مكتسبات الخبرات البشرية التجريبية التي يستطيع الإنسان الوصول إليها دون الحاجة إلى كتاب أو آيات تنزل إليه. فهي ما يستطيع الإنسان، صاحب الفطرة السليمة، أن يتمثلها بنفسه في كل وقت وحين، وفي كل مكان يعيش به في مجتمع بشري من حوله. فاكتساب الخبرات البشرية السليمة تجعل من الشخص إنسانا متمثلا للحكمة.

فلقد درج الناس على تسمية الطبيب الذي يشخّص المرض ويقدّم العلاج بالحكيم، كما درجوا على النظر إلى الشخص الذي يتوسط في إنهاء النزاع بين طرفين بالحكيم أيضا. وأصبح الشخص المجرب الذي عاش طويلا وتصرف بطريقة سوية في نظر الكثيرين حكيما، وهكذا. ونحن نظن أن السبب في ذلك هو القناعة البشرية بأن صاحب التجربة الحقيقة (الخبرة) الصحيحة يستطيع أن يحل المشاكل بأقل الخسائر، ويمكن التعبر عن ذلك كلاميا بجمل مقتضبة جدا تحمل في مفرداتها خبرة السنين الطوال والتجارب الكثيرة التي يتعلم منها من مر بها. انتهى

فالتجارب البشرية هي فرص متاحة للجميع للتعلم منها، لكن هنا يبرز سؤال محير: ما الذي يمكن أن يحصل لو أن شخصا ما لم يعش في مجتمع بشري، فهل يمكن أن يتحصل على الحكمة؟

سنعود للحديث عن هذا السؤال بعد أن نطرح سؤالا آخر ربما يمهد الطريق للاجابة على سابقه. إذا، نحن أمام تحدي للاجابة على سؤالين:

-          هل يمكن لشخص لم يعيش في مجتمع بشري أن يتحصل على الحكمة؟

-          كيف تحصل لقمان على الحكمة؟

عودة على بدء: قصة لقمان

إن سلمنا لبعض الوقت بأن افتراءاتنا السابقة فيما يتعلق بلقمان صحيحة، تصبح القصة التي تخيلناها على نحو أن لقمان قد جاء تحقيقا للإرادة الإلهية بأن أبدل الله الأبوين المؤمنين (عمران وزوجته) غلاما هو خير زكاة وأقرب رحما من الذي قتله صاحب موسى، وكان ذلك في سن متقدمة من العمر للأبوين، فإن المنطق يدفعنا إلى الظن بأن هذا الغلام الجديد (لقمان) قد عاش طفلا وغلاما وشابا في كنف أبويه المؤمنين، اللذين وصلا من العمر مراحل متقدمة، ومرا بتجارب بشرية متعددة (وسنتعرض لبعضها لاحقا بإذن الله)، فيجتهدان (نحن نتخيل) في أن يعلماه ويحسنا تربيته، فلا يكون نسخة طبق الأصل عن أخيه السابق الذي قتله العبد الصالح. وكان جلّ تعليمهما له منصبا على الحكمة، فيتلقن الغلام تلك الحكمة من أبويه المؤمنين اللذين مرا بتجارب قاسية في الحياة جعلتهما من أهل الحكمة.

ولو دققنا في قول الغلام المقتول لوالديه، لوجدنا بأنه قد قال لهما أف:

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (46:17)

ولو حاولنا أن نربط هذا بما جاء في سياق التوجيه الإلهي الخاص بالعلاقة مع الوالدين في قوله تعالى:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (17:23)

لوجدنا بان قول الأف للوالدين لا يمكن أن يقع على أرض الواقع إلا عندما يكون الوالدان (أو أحدهما) قد بلغ الكبر. لذا نستطيع أن نستنبط بأنه مادام أن الإبن العاق الذي قتله صاحب موسى قد قال لوالديه أف لكما، فلابد (نحن نستنبط) بأن يكون أبواه المؤمنين قد بلغا الكبر. وبهذا عندما أراد ربك أن يبدالهما خيرا منه زكاة واقرب رحما، كان لابد أن يكون ذلك بطريقة غير اعتيادية. وما أن تحصلت لهما الذرية الجديدة (لقمان)، وما أن نشأ لقمان في كنف هذين الأبوين اللذين كانا قد بلغا الكبر حتى كان هذا (الطفل والغلام والشاب) يعيش في بيت هو مدرسة للحكمة. فنشأ لقمان هناك حكيما. قال تعالى:

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12)

عندما بلغ ذاك الغلام أشده، كانت المنة الإلهية عليه بأن يكون هو رسول تلك البلدة الطيبة التي كان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكان رسولا منهم، يدعو قومه ألا يكفروا بأنعم الله، لكنهم يكذبوا ذلك الرسول، فيأخذهم العذاب بما كانوا يظلمون:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (16:112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (16:113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (16:114) 

ولمّا كانت تلك القرية هي – حسب ظننا- سبأ، كان عذابهم على نحو سيل العرم، فيقع العذاب عليهم إلا فئة قليلة من المؤمنين الذين نجوا من ذلك العذاب:

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (34:19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)

وهنا تحصل المفارقة العجيبة التي نحاول الترويج لها - مدفوعين حتى اللحظة بالخيال الجامح أكثر من الدليل القاطع من النص الديني – ألا وهي أن لقمان هذا (رسول سبأ) كان له طفل وكان في بيته تابوت العهد القديم الذي استودعه موسى في بيت أبويه المؤمنين. ليبقى أمانة عندهم حتى موعد رفع الحضر عن بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة مع نهاية فترة التية التي ضربت عليهم أربعين سنة. فلقمان يعلم بما تعلم من والديه بأن ولادته قد تزامنت مع بداية حظر الأرض المقدسة على بني إسرائيل، وأن رسالته قد تزامنت مع انتهاء فترة التيه، فعليه أن يعيد تابوت العهد القديم إلى أصحابه الحقيقين. فأين هو تابوت العهد القديم بعد أن وقع عذاب سيل العرم على سبأ كلها؟

تخيلات مفتراة: يحاول لقمان في هذه الأثناء (بعد انتهاء سيل العرم) العودة إلى المنطقة التي وقع عليها العذاب باحثا عن شيئين اثنين:

-          ابنه (وأهل بيته)

-          تابوت العهد القديم

وهنا يصدم الواقع هذا الرجل الحكيم بأحداث ربما لم تكن في الحسبان، لكن كيف سيتصرف من كان حكيما كـ لقمان؟ (وهنا يستطيع كاتب السيناريو والمخرج تصوير أحداث كثيرة يبحث فيها لقمان عن المفقودين مبتدأ بالبحث عن امرأته التي ربما تعلم كثيرا من الأخبار التي هو بحاجة إليها للوصول إلى المفقودات التي يهمه استعادتها). 

رأينا المفترى: نحن نظن أن رجلا كهذا لن يتسرع في اطلاق الأحكام المتسرعة، كما أنه لن يعدم الحكمة في تدبر ما كان، ويالتالي التصرف بروية وحكمة. فكانت أول ردة فعل له – نحن نتخيل- تحفيز الجانب العقائدي الذي يؤمن بأن الله لا محالة منجي المؤمنين. لذا، لن يعدم الأمل بعودة كل المفقودات، وسيبذل كل ما بوسعه في البحث عنها حتى يجدها، فيرجع ولده إلى حضنه، ويعيد الأمانة (تابوت العهد القديم) إلى أصحابها:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (4:58)

المشهد 1: هناك في سبأ يتواجد لقمان، فيبحث فيها وما حولها عن ابنه وعن تابوت العهد القديم

المشهد 2: هناك بين أحضان الطبيعة الطفل يلعب مع الطير في تابوت العهد القديم المعلق الذي تحمله الملائكة. فيكون ذلك الطفل (نحن ما زلنا نتخيل) تحت الرعاية الإلهية في أحضان الطبيعة القاسية بعيدا عن البشر، و تتكفل مخلوقات الغابة (بأمر ربها) رعاية ذلك الطفل. ويكون أول المخلوقات التي بدأ ذلك الطفل يتعلم منها - كما أسلفنا- هي الطير، فكانت تلك منّة إلهية باقية في آل داوود:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (27:16)

مشهد 3: هناك على أطرف الأرض المقدسة تنتهي فترة التيه، ويرفع حظر دخول الأرض المقدسة عن بني إسرائيل. فما الذي سيفعلونه لتحقيق ذلك على أرض الواقع.

تخيلات مفتراة: تتنقل كاميرا المصور بنا بين مسارح الأحداث هذه، لتبين لنا ما كان يجري من أحداث كثيرة في كل منطقة، ولما كنا لا نستطيع تقديمها جملة واحدة، وجب علينا أن ننتقل إليها الواحدة تلو الأخرى، وسنبدا بالأحداث الجارية حينئذ في الأرض المقدسة (حيث يتواجد القوم الجبارون) وعلى مشارف الأرض المقدسة (حيث يتواجد العائدون من التيه من بني إسرائيل).

أما بعد،

لو دققنا فيما قاله الملأ من بني إسرائيل في مراسلاتهم مع لقمان ليبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله لوجدنا بأنهم يبررون رغبتهم في القتال على نحو أنهم قد أخرجوا من دياريهم:

... ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ ... (2:246)

السؤال: متى أخرجوا من ديارهم إذًا حتى يطلبوا العودة لها؟

افتراء خطير جدا: نحن نظن أن بني إسرائيل قد حاولوا جهدهم دخول الأرض المقدسة مرارا وتكرارا حتى قبل انتهاء مدة الحظر (فترة التيه التي كانت أربعين سنة)، ونحن نتخيل بأنه قد حصل إخراجهم منها على يد القوم الجبارين بعد أن نجحوا بدخولها مؤقتا.

السؤال: أين الدليل على هذا الافتراء الغريب العجيب الذي لا يمكن أن يصدقه أحد من العالمين؟

رأينا المفترى: نحن نظن – ربما مخطئين- أن التيه لا يعني عدم معرفة المكان أو عدم القدرة على الوصول إليه. فلقد درج الفكر السائد على تصوير الأمر (والحالة) على نحو أن التيه (الذي وقع به بنو إسرائيل) على نحو أنهم قد ضلوا الطريق لدرجة أن تصور الكثيرون (من العامة وأهل العلم على حد سواء) أن بني إسرائيل كانوا متواجدين حينئذ في مكان مقفر واسع  بعيد (كالصحراء أو ما يشبهها) عن الأرض المقدسة، غير قادرين على معرفة الطريق المؤدية إليها، ويكأن لسان حال هؤلاء يقول لو أن بني إسرائيل عرفوا مكان تواجدهم بالنسبة لموقع الأرض المقدسة، لما كانوا تائهين. ليكون السؤال المنطقي الآن هو: هل فعلا التيه في بني إسرائيل يعني ضلالة الطريق في مكان موحش مقفر، بعيد عن الأرض المقدسة، فعجزوا عن تحديدها بالنسبة لموقعهم الجغرافي المتواجدين فيه طوال تلك الفترة من الزمن؟

(انظر كيف اختلف أهل العلم القدماء منهم والمحدثون في تحديد جغرافية مكان التية الذي وقع به بنو إسرائيل)

رأينا المفترى: نحن ننفي ذلك جملة وتفصيلا، للأسباب التالية:

-          أن بني إسرائيل كانوا أصلا متواجدين على مشارف الأرض المقدسة عندما طلب منهم نبيهم موسى دخول الأرض التي كتب الله لهم، فهم ليسوا بعيدين جغرافيا عن المكان، فلا داع لتصوير الأمر على نحو وجود جموع غفيرة في منطقة مقفرة، ينشدون مكانا آخر بعيدا جدا عن مكان تواجدهم الحالي. فإياك - عزيزي المترجم- أن تنقل مفردة "التيه" إلى اللغة الإنجليزية - مثلا - بمعنى أنهم strayed.

-          أن بني إسرائيل كانوا متواجدين بأعداد غفيرة، فهل يعقل أن القوم كانوا جميعا تائهين بمعني لا يستطيعون العثور على المكان المنشود، فمنطقنا المفترى يقول بأنه لو ظل بعضهم المكان، لاهتدى بعضهم الآخر إليه. فمن الاستحالة أن يضيع في مكان مقفر جمع غفير من الناس كهذا، فلا يعودوا قادرين على تحديد جغرافية المنطقة التي يعيشون بها مع غيرها من المناطق المحيطة بهم.

-          أن فترة التيه كانت أربعين سنة، وهذه فترة ليست بالقصيرة، فكيف استطاع القوم أن يتدبروا أمورهم من المأكل والملبس والمشرب ونحوها لو أن الأمر على نحو ضلالة الطريق في مكان مقفر واسع بعيد أن الأماكن الحضارية الأخرى من حولهم؟

-          الخ

نتيجة مفتراة مهمة جدا: إذن، لنكف عن تصوير ما حصل (وبالتالي تخيل الأحداث) على نحو وجود جموع غفيرة من بني إسرائيل منتشرين في بلاد مقفرة بعيدة عن الأرض المقدسة، لا يعرفون كيف يصلون إليها. انتهى

السؤال: ما معنى التيه إذا؟

جواب: ضلالة الطريق

السؤال: كيف ذلك؟ أليس هذا ما كنت تحاول نفيه قبل قليل؟

جواب: كلا. لأنه يمكن لك أن تضل الطريق وأنت في ذات الموقع. فلو كنت أنا في وسط المدينة باحثا عن محل تجاري هناك على مقربة مني، ولم أستطع الوصول إليه، فأنا إذا تائه حتى لو كان المكان يبعد عني خطوات قليلة. فالبعد المكاني ليس ضرورة لأن كون تائها. لذا، عليك أخي المترجم أن تنقل هذه المفردة "التيه" إلى اللغة الإنجليزية - مثلا - على نحو stranded. لذلك نحن نقول باللسان الأعجمي (They were stranded, not strayed). فسادتنا وكبراؤنا من أهل العلم لم ينبهوا العامة من الناس إلى الفرق بين أن تضل الطريق مقابل أن تتيه في المكان.

السؤال: كيف تاه بنو إسرائيل في المكان وهم على مقربة من ذات الموقع (الأرض المقدسة).

الجواب: لأنهم لم يعرفوا أين باب الأرض المقدسة الحقيقي الذي سيدخلهم إليها

السؤال: لم نفهم ما تقول. هل يمكن توضيح الأمر أكثر.

افتراءات ربما غير مسبوقة: نحن نتخيل بأن بني إسرائيل ما يزالون متواجدين على مقربة من الأرض المقدسة، فالتيه الذي وقعوا فيه كان أصلا على مشارف الأرض المقدسة، وهناك مكثوا أربعين سنة تاهين (stranded)، لأنهم لم يجدوا  طوال تلك الفترة من الزمن الباب الحقيقي الذي يجب أن يدخلوا الأرض المقدسة من خلاله. فاختلوا في تحديد مكان الباب، فكانوا تائهين. وظلوا طوال أربعين سنة يبحثون عن ذلك الباب فلا يجدونه. ولكن هذا لم يمنعهم عن القيام بمحاولات متكررة لدخول الأرض المقدسة من أبواب أخرى، لظنهم أنها طرق ممكنة. وهنا يجب أن نجلب انتباه القارئ الكريم – إن أراد- لدور علماء بني إسرائيل الذي كان ديدنهم الاختلاف من بعد ما جاءهم العلم:

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (3:19)

فنحن نتخيل أن موسى قد طلب منهم قبل أربعين سنة أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كانت تحت سلطة قوم جبارين، فرفض ينو إسرائيل دخولهم إياه قبل أن يخرج منها أولئك القوم:

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (5:21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (5:22)

جاءهم العلم على لسان رجلين من الذين أنعم الله عليهم أن يدخلوا الارض المقدسة من الباب، وبالتالي سيكونوا غالبين:

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5:23)

لكن ذلك لم يزدهم إلا اصرارا على موقفهم السابق برفض دخولها رفضا قاطعا:

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5:24)

فكانت النتيجة الحتمية هي تحريم دخولهم إياها أربعين سنة، يتتهون في الأرض:

قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:26)

فتركهم موسى وأخوه هارون والرجلان المؤمنان، وما أخبروهم عن المكان الحقيقي لباب الأرض المقدسة، لأنه لا جدوى من معرفة الباب مادام أن ذلك الباب لن يفتحه إلا التابوت الذي أخذه موسى معه في رحلته مع فتاه إلى ذلك العبد الصالح عند مجمع البحرين:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (18:60)

ما أن فارق موسى بني إسرائيل حتى أدرك بعضهم خطأ ما فعلوا. لكن ما الذي يستطيعون فعله الآن؟

تخيلات مفتراة: نحن نتخيل أنه قد حصل الشد والجذب بين الملأ من بني إسرائيل (ولا ننسى أنهم اثنا عشرا اسباطا أمما)، فكانوا مجمعين على ضرورة أن يدخلوا الأرض المقدسة، لكنهم مختلفين في طريقة تحيقيق هذا الهدف على أرض الواقع، أي كيفية دخولهم إليها ومكان دخولهم إليها. فجرت المحاولات منهم بطرق مختلفة وبأساليب متعددة، لكن باءت جلها بالفشل الذريع ربما بعد نجاح قصير. فنحن نظن أنهم قد دخلوها بعض الوقت لكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى أخرجوا منها على يد القوم الجبارين. وانظر الآن في قول الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى لذلك النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا):

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246)

السؤال: كيف حصل ذلك؟

تخيلات مفتراة 1: هناك على أطراف الأرض المقدسة يتواجد التائهون من بني إسرائيل، باحثين عن الباب الحقيقي الذي جاءهم خبره عن طريق نبيهم موسى على لسان الرجلين المؤمنين، فلا يجدونه. فيعمدون إلى محاولة الدخول بعدة طرق كان أولها (نحن نظن) الدخول السلمي بإجراء المراسلات ثم المفاوضات مع القوم الجبارين المتواجدين في الأرض المقدسة حينئذ. فماذا كانت نتيجة تلك المفاوضات؟

تخيلات مفتراة 2: في داخل الأرض المقدسة يتواجد القوم الجبارون الذي يصدون بني إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة. لكن وجود بني إسرائيل على مقربة من المكان قد كان يتميز بشيئين اثنين:

-          كثرة عددهم، وتكاثرهم، وربما لهذا جاء قولهم بأن إخراجهم منها كان لهم وأبنائهم (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

-          طول الفترة التي تواجدوا فيها على مقربة من الأرض المقدسة (أربعين سنة).

التساؤلات:

-          ما الذي سيفعله القوم الجبارون إزاء وجود بني إسرائيل بأعداد غفيرة (ويتكاثرون) على مقربة من الأرض ولفترة زمنية طويلة؟

-          هل تراهم غافلين عن وجود بني إسرائيل هناك؟

-          هل سيسكتوا على الأمر ويكأنه لا يعنيهم؟

-          ألا يعلم هؤلاء أن بني إسرائيل مصرين على الدخول؟

-          ألم يأتيهم الخبر بأن بني إسرائيل مؤمنون بأن هذه الأرض لهم بشرعية دينية؟

-          فهل سيصموا آذانهم ويغمضوا أعينهم عن كل ما يجري على مشارف الأرض؟ ألن يسبب لهم ذلك ضيقا وحرجا (لا سيما أنهم أصلا قوم جبارون)؟

-          ألن تخرج الاصوات من هنا وهناك لصد خطر بني إسرائيل القادم؟

-          ألم يكن هؤلاء قوم جبارون يستطيعون شن الهجوم على بني إسرائيل بدلًا من انتظار دخول بني إسرائيل عليهم؟

-          الخ

السؤال: ما الذي حصل على أرض الواقع؟

تخيلات مفتراة: ما أن وجد بنو إسرائيل أنفسهم تائهين (stranded) لا يعرفون مكان الباب الذي يجب أن يدخلوا الأرض المقدسة من خلاله، وما أن وجدوا أن نبيهم موسى قد فارقهم ومعه مفتاح ذلك الباب الذي ما زالوا لا يتستطيعون تحديد مكانه بالضبط ، حتى انبروا للتعامل مع الموقف ببراغماتيتهم المعهودة، فكان أول طريق سلكوها هي الطريقة الدبلوماسية السلمية، وذلك بإرسال موفدهم للتفاوض مع القوم الجبارين، لكن حصل ما كان متوقعا، ألا وهو رفض القوم الجبارين دخول بني إسرائيل الأرض أو مشاركتهم إياها، وتوعدوهم بالقتل (زي اللي توعد يرميهم لسمك البحر قبل عهد قريب – اتقوع يا سمك)  إن هم أقدموا على ذلك، لكن لم يكن ذلك التهديد والوعيد ليثني بني إسرائيل عن تكرار المحاولة، وسلوك الطرق الإلتواية لتحقيق هدفهم في دخول  الأرض المقدسة. لذا، نحن نتخيل بأنهم قد عمدوا إلى إبرام الصفقات التجارية الخفية الفردية والشراكات الاقتصادية مع نفر من القوم الجبارين، لا سيما أنهم كانوا قادمين من مصر يحملون معهم كثيرا من كنوزها:

فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (26:57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26:58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (26:59)

فاستطاعوا بادي الأمر (نحن نتخيل) استمالة نفرا من القوم الجبارين بالمال وبطرق أخرى لا نريد الدخول في تفصيلاتها.

تخيلات مفتراة: ما هي إلا سنوات قليلة حتى ينجح نفر من بني إسرائيل بإختراق حاجز القوم الجبارين وبث الفرقة بينهم.

السؤال: كيف حصل ذلك على أرض الواقع؟

رأينا المفترى: نستطيع حتى الساعة أن نتخيل أكثر من سيناريو محتمل لما حصل على أرض الواقع. لذا سنقدم عدة سيناريوهات، ثم نترك للقارئ الكريم أن يطلق العنان للخيال أن يقرر أيهما أقرب للحقيقة بعد جلب الدليل الذي قد يثبت بعضها أو ينفي بعضها الآخر.

السيناريو رقم 1:

هناك – داخل الأرض المقدسة- كان أبرز المتواجدين بين القوم الجبارين هما "الأخوان" طالوت وجالوت، اللذان لم يصبحا على اتفاق بخصوص التعامل مع بني إسرائيل المتواجدين على مشارف الأرض المقدسة، الذين اصبحوا يتدخلون في شئوون البلاد شيئا فشيئا، ولكن بطرق فردية، وخفية، بما لديهم من قدرات مالية هائلة، تغري نفوس بعض الناس من القوم. (وارجعوا إلى التاريخ الحديث ثم انظروا ماذا فعلوا في نهاية الدولة العثمانية خاصة مع خليفة الإخوان قديما السلطان التركي عبد الحميد).

وكانت أول ثمار جهود بني إسرائيل (نحن ما زلنا نستخدم الخيال) هو تعميق الفجوة بين الأخوين، خاصة أن جالوت كان طامعا في وراثة الحكم الذي كان طالوت – برأينا- أحق به من أخيه جالوت. ففي حين أن طالوت كان الأحق بالملك من جالوت وفي حين أنه لم يكن معاد جدا لفكرة دخول بني إسرائيل الأرض ومشاركتهم إياها، كان جالوت - في المقابل - طامعا في استلاب الحكم من أخيه، ومعاديا في ذلك الوقت لفكرة مشاركة بني إسرائيل الأرض.

تخيلات مفتراة: استغل جالوت النزعة القومية بعدائه الصارخ لبني إسرائيل، واستطاع أن يوحد رجال الساسة الفاسدين من حوله (كما فعل بعض القومجيين العرب في زمن ليس ببعيد عنا)، كما استطاع أن يشتري العسكر بالمال حتى أصبحت له السطوة، فاستطاع أن يزيح أخاه طالوت عن الحكم وأن يجرده من المال، ولحق به مطاردا لما بعد مجمع البحرين في حرب عسكرية بحرية، حيث كانت أول ما رءاه العبد الصالح مع موسى في رحلتهم الأولى التي خرق فيها السفينة:

فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (18:71)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (18:79)

السؤال: من هو الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا؟ ولماذا جاءت تلك القصة في سياق رحلة موسى مع العبد الصالح؟ الخ.

تخيلات مفتراة: انطلق ذلك الملك (جالوت) مطاردا أخاه جالوت، ليستتب له الملك. وجرد أخاه من كل أسباب القوة المادية المالية، لذا عندما طلب الملأ من بني إسرائيل من ذلك النبي أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، وعندما جاءهم رده على نحو أن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، كانت واحدة من أسباب احتجاجهم عليه هو أنه لم يؤت سعة من المال:

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247)

التساؤلات

-          الا تشعر - عزيزي القارئ- بأن ردهم يدل على أنهم يعرفون من هو طالوت؟

-          الا تشعر أنهم يعرفون شيئا عن تاريخه السابق؟

-          كيف عرفوا أن طالوت لم يؤت سعة من المال؟

-          كيف يكون ملكا وليس عنده سعة من المال؟ فأي ملك هذا الذي ليس لديه سعة من المال؟

-          هل كانوا يعرفون ملكا لديه سعة من المال كان من الممكن أن يبعثه ذلك الرسول لهم؟

-          من هو ذلك الملك ذو سعة المال الذي كان يمكن أن يقبل به الملأ من بني إسرائيل (لو أن ذلك الرسول بعثه لكم)؟

-          الخ

 

المدكرون: رشيد سليم الجراح (وآخرون)

بقلم: د. رشيد الجراح

تاريخ النشر: 25 نيسان 2023


هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف25/4/23

    لماذا تتحدث عن الاخوان كفاهم ماعانوه ولماذا تشكر في اسرائيل اليهود الحاليين ليس لهم علاقةة ببني اسرائيل

    ردحذف
  2. دكتور رشيد.... أربعين سنه هل تقصد 40 ضرب 365 يوم ؟ أم كما قلت سابقا أن السنة هي فصل أي 3 شهور ؟؟
    لو كانت السنه هي الفصل يكون أربعين سنه أي 10 اعوام.

    ردحذف
  3. رائع جدا، زادكم ربي من لدنه علما...

    ردحذف
  4. غير معرف10/9/23

    السلام عليكم دكتور رشيد، و بارك الله مسعاك. أنا اتابع أفكارك منذ فترة و مستمتع بمنهجك أشد المتعة. لي سؤال فيما يخص هذا الجزء من قصة داؤود.
    قلت أن والده لقمان لا بد و أن تلقى إنذاراً من الله باقتراب العذاب في سبأ، فسارع بالخروج منها، شأنه في ذلك كشأن عدد من الرسل من قبله و بعده. كيف إذاً لم يخطر بباله الخروج مع أهله، زوجته و ابنه الطفل الرضيع؟ لماذا يترك زوجته لتلقي بالطفل في التابوت بدلاً عن اصحابهما معه؟

    ردحذف