قصة داوود - الجزء الأول

رابط الحلقة على اليوتيوب 

https://youtu.be/YB7tsg1iOv8

قصة داوود: الجزءالأول

من هو داوود؟ - 1



سنحاول التعرض في هذه السلسة الجديدة من المقالات لقصة داوود كما نفهمها من النص الديني، محاولين تستطير بعض الافتراءات التي ربما تكون غير مسبوقة في هذا السياق، مؤكدين منذ البداية بأن هذه ليست أكثر من افتراءات من عند أنفسنا. لذا، يجب تناولها بحذر، والتحقق منها بالقبول إن وجد الدليل على صحتها، أو بالرفض إن وجد الدليل على بطلانها. وفي حالة صعوبة إيجاد الدليل بأي الاتجاهين، تبقي افتراءات متخيلة يمكن أن ينظر إليها من الناحية الأدبية، ربما يُستفاد منها في صناعة أفلام هوليودية أو بولودية.

(أدعو الله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم،  وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، فلا افتري عليه الكذب، إنه هو السميع العليم)

أما بعد،

إن محرك البحث هنا هو سؤال واحد، ألا وهو: من هو داوود الذي جاء أول ذكر لاسمه صراحة في قصة طالوت وجالوت التي ترد في سورة البقرة؟ قال تعالى:

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (2:251)

فعلى الرغم أن المواجهة كانت بين طالوت (المؤمن) من جهة وجالوت (الكافر) من جهة أخرى، وعلى الرغم أن الشعور الأوّلي للقصة يذهب نحو توقع حصول المواجهة بين هاتين الشخصيتين (اللتين تبدوان متكافئتين من حيث القوة)، إلا أن المشهد ينتقل (بطريقة مفاجئة للقارئ) ليصور لنا بأن الذي قتل جالوت (الكافر) هو داوود وليس طالوت (الند المكافئ لجالوت). ليكون السؤال المطروح مرة أخرى هو: من هو داوود هذا؟ وكيف يظهر في هذا المشهد دون سابق إنذار أو دون إشارة مسبقة لوجوده في جيش طالوت؟

إذن، دعنا نجلب السياق كله لنتدبره من هذا الجانب، قال تعالى:



أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

افتراءات سابقة

لقد حاولنا في مقالات سابقة لنا تقديم بعض الافتراءات من عند أنفسنا حول هذه القصة، فزعمنا الظن بأن ذلك النبي الذي كان لبني إسرائيل (ولم يكن من بني إسرائيل) هو لقمان الحكيم. وأن تلك القصة قد حصلت بعد الخروج الأول لبني إسرائيل من الأرض المقدسة على يد العمالقة الذين كان يمثلهم جالوت حينئذ.

كما افترينا الظن بأن جالوت وطالوت اللذين يأتي ذكرهما في هذا السياق هما من ذرية الملكين ببابل هاروت وماروت، قال تعالى:

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

فهذه الشخصيات الغريبة يتجمعون معا في الفترة الزمنية التي كانت مميزة لحكم داوود (كخليفة) في الأرض وحكم ولده سليمان من بعده (كملك). إذن، علينا ابتداءً أن نحاول تخيّل تفاصيل تلك المرحلة الزمنية بوجود هذه الشخصيات وتلك الأماكن والأحداث، وهي:

                     ·بابل (مكان)

                     ·الأرض المقدسة (مكان)

                     ·هاروت وماروت (ملكان)

                     ·نبي لبني إسرائيل (لا نعرف اسمه بعد نظنه لقمان)

                     ·طالوت (ملك - مؤمن - مبعوث لبني إسرائيل - زاده الله بسطة في العلم والجسم)

                     ·جالوت (ملك - غير مؤمن - لغير بني إسرائيل - يحكم الأرض المقدسة)

                     ·بنو إسرائيل (مخرجين من الأرض)

                     ·داوود (خليفة في الأرض)

                     ·سليمان (ملك في الأرض)

                     ·الشياطين (مسخرين لسليمان)

                     ·الجن (معذبين على يد سليمان)

                     ·الخ

تخيلات عامة بمشاهد سينمائية

تعود بنا كاميرا المصور إلى فترة زمنية حيث المكان الذي يدعى بابل، وفي ذلك المكان كان هناك "ملكان" هما هاروت وماروت، وكان هناك شيء أنزل على هذين الملكين، وكان هناك شياطين يتعلمون السحر وما أنزل على هذين الملكين ببابل هاروت وماروت.

ثم تنتقل بنا كاميرا المصور إلى وجود بني إسرائيل حينئذ خارج الأرض المقدسة، مخرجين منها هم وأبناءهم (جيلين)، وكان الذي يحكم الأرض المقدسة حينها هم جماعة من القوم الجبارين بقيادة شخص كافر يسمى جالوت.

وكان هناك (في فترة من تلك الحقبة من الزمن) نبي لبني إسرائيل، ولكنه لم يكن نبيا من بني إسرائيل. وهنا تركّز كاميرا المصور على هذا النبي والملأ من بني إسرائيل يحاولون جهدهم مع هذا النبي أن يبعث لهم ملكا ليقاتلوا في سبيل الله:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ...

افتراء مهم: كان هناك (نحن نتخيل) مسافة فاصلة بين ذلك النبي من جهة وبني إسرائيل من جهة أخرى، بدليل طلبهم منه أن يبعث لهم. فالبعث (نحن نظن) هو إرسال من مكان ما إلى مكان آخر. لذا، دعنا نتيخل ذلك النبي متواجدا في مكان ما (سنحاول تحديده لاحقا بإذن الله) وبني إسرائيل متواجدين في مكان آخر (سنتعرض له بالتفصيل لاحقا إن شاء الله).

 

لكن المشهد يصوّر محاولة ذلك النبي ألا ينزل عند رغبتهم على الفور، وإنما يذكرهم بأن ذلك قد يشق عليهم، فلا يقاتلوا:

قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ  ...

لكن الملأ يصرون على مطلبهم، ويثبتون رغبتهم في القتال، معلّلين ذلك بإنهم قد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم:

قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ ...

وبالفعل يُكتب عليهم القتال بعد ذلك، لكن النتيجة الطبيعية كانت على نحو ما يُصدّق ظن ذلك النبي فيهم من قبل، بأن لا يقاتلوا، فما يثبت على موقفه من القتال إلا قليل منهم، وذلك لأن الله عليم بالظالمين الذين لا يتبعون ما كتب الله عليهم:

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

وكان السبب الذي دفع بهؤلاء ألا يقاتلوا بعد قطعهم العهد على ذلك من قبل هو أن ذلك الملك المبعوث لهم لم يكن منهم، فكان طالوت هو من بعثه الله ملكا:

 وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ

وكان احتجاج الملأ من بني إسرائيل على أن يكون ذلك الشخص على وجه التحديد- هو الملك الذي يقاتلون معه في سبيل الله مدفوعا بقلقين اثنين تجاهه؛ أولهما، أن هذا الملك المبعوث إليهم (أي طالوت) ليس له حسب رأيهم- أحقية بالملك مادام أنه ليس من بني إسرائيل، فهم يرون أن فيهم من هو أحق بالملك منه:

قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ...

ثانيهما، أن هذا الملك المبعوث إليهم (أي طالوت) لم يؤت سعة من المال:

 وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ ...

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل بأن الأمل كان يحدو الملأ من بني إسرائيل بأن يكون الملك الذي يطلبونه من نبيهم منهم أو أن يكون شخصا ذا سعة من المال. لنطرح حول ذلك جملة من التساؤلات، نذكر منها:

                     ·لماذا كان ظن الملأ أن يكون الملك منهم؟

                     ·لماذا برروا احتجاجهم بأن ذلك الملك لم يؤت سعة من المال؟

                     ·هل لو كان لذلك الملك سعة من المال، هل كانوا سيذعنون له، ويقبلون به؟

                     ·هل كان الملأ يتوقعون شخصا محددا بعينه (ذا سعة من المال) ليكون هو الملك؟

                     ·ما الذي كان يتوقعه الملأ بخصوص ذلك الملك؟

                     ·لماذا طلبوا ذلك من النبي الذي كان لهم في تلك الفترة؟

                     ·لماذا لم يعمدوا إلى اتخاذ ملك منهم ماداموا يظنون أنهم أصحاب أحقية في ذلك دون الرجوع لذلك االنبي؟

                     ·ما سبب أن يكون القرار بيد ذلك النبي وليس بيدهم مجتمعين؟

                     ·أين كان يتواجد بنو إسرائيل عندما طلبوا ذلك من ذاك النبي؟

                     ·أين كان ذاك النبي متواجدا عندما طلبوا ذلك منه؟

                     ·هل كان ذلك النبي متواجدا بينهم حينئذ؟

                     ·من أين جاء طالوت؟

                     ·هل كان طالوت (الملك المنصّب عليهم حديثا) متواجدا بين ظهرانيهم حينئذ؟

                     ·الخ

نتيجة مفتراة من عندنا مهمة في هذا النقاش الموجّه بمخيلتنا (غير المنضبط بالدليل القاطع): كان ظن الملأ من بني إسرائيل أن ذلك الملك المنشود سيكون منهم لظنهم أنهم أصحاب أحقية في ذلك، أو أن يكون الاختيار (إن تعذر أن يكون منهم) في رجل ذي سعة من المال.

لكن لو تابعنا السياق القرآني ذاته، لوجدنا أن مبررات النبي لأن يكون طالوت هو الملك كانت على نحو أن الله قد زاده بسطة في العلم (مقابل أحقية بني إسرائيل) كما زاده أيضا بسطة في الجسم (مقابل أحقية من كان ذا مال). وما فات ذلك النبي أن يذكرهم  (أي الملأ من بني إسرائيل) بأن المُلك بيد الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وأن الله واسع عليم:

قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

ويمكن تلخيص منطق الطرفين على النحو التالي:

منطق الملأ من بني إسرائيل فيمن سيكون ملكا

قرار ذلك النبي فيمن سيكون ملكا

                     ·احقيتهم هم بالملك

                     ·احقية من كان ذو سعة من المال

                     ·بسطة في العلم

                     ·بسطة في الجسم

 

ونستطيع أن نتخيل (من خلال كاميرا المصور) كيف استمر الجدل بين الطرفين، وكيف أن الغالبية العظمى من الملأ من بني إسرائيل لم تكن لتنزل عند هذا القرار الرباني بسهولة، فما يكون للخلاف أن يحسم بين الفريقين إلا بالدليل المادي القطعي، فكان هناك آية الملك، ألا وهي التابوت:

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

وهنا لا يستطيع المحتجون من الملأ الاستمرار بالتشكيك بأحقية هذا الرجل (طالوت) بالملك لأنه يملك آية ملكه، وهي التابوت الذي جاء فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون (ميراث النبوة في بني إسرائيل)، وتحمله الملائكة. فهم يستطيعون أن يتلكأوا عن المشاركة معه في القتال (كما حصل فعلا)، لكنهم لا يستطيعون أن يستمروا في جدال هم يعلمون الآن يقينا بأنه قد حسم بشكل قاطع في غير صالحهم. وهذا الطرح يثير لدى القارئ حول شخصية هذا الرجل الذي اسمه طالوت، وحول آية ملكه وهو التابوت، وحول ما في ذلك التابوت من إرث النبوة، جملة من التساؤلات، نذكر منها:

                     ·من هو هذا الرجل المسمى طالوت؟

                     ·من أين جاء؟

                     ·كيف كان له بسطة في العلم؟ ما هو ذلك العلم الذي كان عنده؟ ومن أين اكتسب ذلك العلم؟

                     ·كيف كان له بسطة في الجسم؟ وكيف نتخيل بسطته في الجسم؟ ومن أين أكتسب ذلك؟

                     ·كيف جاء معه التابوت؟

                     ·من أين حصل على ذلك التابوت؟

                     ·ما أهمية ذلك التابوت؟

                     ·ما الذي كان في ذلك التابوت؟

                     ·الخ

ولا يفوتنا هنا أن نثير جملة من التساؤلات حول ذلك النبي الذي كان خطاب بني إسرائيل موجها له، نذكر منها:

                     ·من هو ذلك النبي الذي كان من بعد موسى؟

                     ·لماذا طلب بنو إسرائيل منه أن يبعث لهم ملكا ليقاتلوا معه في سبيل الله؟

                     ·لماذا لم يتخذ الملأ من بني إسرائيل قرارا بأنفسهم بتسمية شخص منهم أن يكون ملكا لهم؟

                     ·لماذا تقبل الملأ من بني إسرائيل أن يكون ذلك نبيا لهم (وإن لم يكن منهم) لكنهم لم يتقبلوا ابتداء أن يكون الملك من غيرهم؟

                     ·هل كان الملأ من بني إسرائيل قادرين على تنصيب ملك منهم دون الرجوع لذلك النبي؟

                     ·لماذا لم يكن ذلك النبي هو نفسه ملكا يقاتلون معه؟

                     ·الخ

رأينا المفترى: من أجل محاولة الإجابة على مثل هذه التساؤلات (وغيرها)، نجد لزاما إعادة تسطير (وبالتالي تصوير) بعض مشاهد قصة بني إسرائيل منذ بدايتها.

أما بعد،

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا

تعود بنا كاميرا المصور إلى قصة بني إسرائيل في رجوعهم من مصر إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى، بعد أن أنجاهم الله من فرعون وقومه. وهناك عند بداية الأرض المقدسة، طلب منهم نبيهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، قائلا:

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (5:21)

لنجد أن بني إسرائيل قد اختاروا ألا يدخلوا الأرض المقدسة حينها، وذلك لأن تلك الأرض كان فيها قوم جبارون. فيرفضون دخولها إلا بشرط أن يخرج منها أولئك القوم الجبارون:

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (5:22)

وما نسمع إلا صوت رجلين اثنين من الذين أنعم الله عليهم يحثان قومهما على الدخول على القوم الجبارين من الباب، مؤكدين بأنهم إن هم دخلوا عليهم الأرض المقدسة من الباب، فإنهم لا محالة غالبون، مع توكلهم في ذلك على الله:

 قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5:23)

لكن بنو إسرائيل يرفضون رفضا قاطعا دخول الأرض المقدسة، ويطلبون من موسى أن يذهب ليقاتل هو وربه، وأنهم منتظرون حتى ينفذ موسى المهمة، وأنه سيجدهم قاعدين، لا يبرحون مكانهم الذي سيتركهم فيه حتى ينفذ المهمة:

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5:24)

(انظر مقالاتنا السابقة عن سبب رفضهم دخول الأرض المقدسة مع نبيهم موسى)

وهنا يدع موسى ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ويحصل تحريم دخول الأرض المقدسة على بني إسرائيل أربعين سنة، فيتيهوا في الأرض:

 قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:26)

السؤال: كيف دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد ذلك؟

تخيلات مفتراة: نحن نتخيل بأن بني إسرائيل لم يستطيعوا دخول الأرض المقدسة إلا بعد أربعين سنة من التيه في الأرض، وذلك لأنها حرمت عليهم كل تلك الفترة الزمنية، ليكون السؤال الآن هو: هل دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد انقضاء فترة التيه؟ وإذا كانوا قد دخلوها فعلا بعد انقضاء فترة التيه، كيف استطاعوا ذلك؟

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن بأن بني إسرائيل قد استطاعوا دخول الأرض المقدسة بعد فترة التيه، وليس أدل على ذلك برأينا- بأننا نجدهم مخرجين في زمن ذلك النبي الذي كان لهم من بعد موسى. فهم قد أخرجوا من ديارهم، وليس أدل على ذلك مما جاء في السياق القرآني الذي نحن بصدد التعرض له، وهو الذي يصور لنا حالة بني إسرائيل مع ذلك النبي بعد موسى الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ليقاتلوا في سبيل الله، فيعودوا إلى الأرض المقدسة بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

نتيجة مهمة جدا جدا مفتراة من عند أنفسنا: تصوّر لنا هذه الآية الكريمة بأن بني إسرائيل قد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم من بعد موسى (حتى زمن ذلك النبي الذي كان لهم من بعد موسى). الأمر الذي يجعلنا نتبنى الظن بأنهم كانوا قبل ذلك متواجدين في مكان ما، فاخرجوا منه وأبنائهم، ليكون السؤال المهم جدا الآن هو: كيف نفهم أن بني إسرائيل رفضوا دخول الأرض المقدسة عندما عاد بهم موسى من مصر وأنهم يقولون الآن لنبي لهم من بعد موسى أنهم قد أخرجوا من ديارهم ويطالبون بالعودة إليها على يد ملك يقاتلون معه في سبيل الله؟

افتراء 1: بنو إسرائيل يرفضون دخول الأرض مع موسى ويتيهون في الأرض

افتراء 2: بنو إسرائيل يقولون لنبي لهم من بعد موسى أنهم قد أخرجوا من ديارهم وأبناءهم

المعضلة: هل دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد موسى وهم من تاهوا في الأرض أربعين سنة؟ وإن كان كذلك، فكيف أخرجوا منها قبل ذلك النبي الذي جاء لهم من بعد موسى، فطلبوا منه أن يبعث الله لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله ليدخلوا الأرض المقدسة؟

تخيلات من عند أنفسنا: لقد تاه بنو إسرائيل في الأرض أربعين سنة بعد أن رفضوا دخولها مع موسى طالبين أن يذهب هو وربه فيقاتلا، فحصل هناك فراق بينهم من جهة ونبيهم موسى (وأخيه هارون) من جهة أخرى. وانظر عزيزي القارئ إن شئت- السياق كاملا:

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (5:21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (5:22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5:23) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5:24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:26)

السؤال: ما الذي حصل بعد فترة التيه التي استمرت أربعين سنة؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن بني إسرائيل قد هادوا، أي رجعوا، ودخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم:

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (7:156)

ليكون السؤال الآن هو: كيف دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد أن كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم؟

رأينا المفترى: لو دققنا في النص القرآني، لتوجب علينا البحث في مفرداته مليّا حتى نستطيع أن نتصور القصة كما حصلت على أرض الواقع حينذ. وأول ما نريد جلب انتباه القارئ له هو مفردة "ديارنا" الواردة في الآية الكريمة ذاتها، قال تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

ليكون السؤال الآن هو: ما هي تلك الديار التي أُخرج منها بنو إسرائيل وأبنائهم؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هناك سيناريوهين اثنين يمكن تبنيهما لمحاولة الإجابة على هذا التساؤل، وهما:

                     ·أن ديار بني إسرائيل التي أخرجوا منها وأبنائهم هي الأرض المقدسة

                     ·أن ديار بني إسرائيل التي أخرجوا منها وأبنائهم هي ليست الأرض المقدسة، وإنما مكانا آخر في الأرض كأرض مصر مثلا

السؤال: أي الخيارين يمكن أن يكون أقرب للحقيقة؟

أما بعد،

لو حاولنا البحث عن مفردة الديار في النص القرآني، لوجدنا الآيات القرآنية التالية التي تصور لنا (كما نفهمها) أن الديار هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لبني إسرائيل:

وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (17:4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (17:5)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (2:243)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (2:83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (2:84) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (2:84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (2:85)

ولكن لو تدبرنا الآيات التالية، لوجدنا بأن مفردة الديار قد وردت لتصف أرضا غير الأرض المقدسة كأرض مصر مثلا، فهي التي خرج منها الذين صدوا عن سبيل الله في المواجهة مع بني إسرائيل. ففرعون وجنوده هم من تحالفوا مع هامان وجنوده، ولكن الطرف الثاني تخلى عن الطرف الأول بعد أن عبر فرعون وجنوده طريق البحر مطاردين لبني إسرائيل:

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (8:47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (8:48)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: عندما جاءت مفردة الديار للحديث عن بني إسرائيل، كانت تصف الأرض المقدسة

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا 2: عندما وردت مفردة الديار للحديث عن فرعون وجنوده، كانت مفردة الديار تصف أرض مصر

لكن يمكن لنا حتى الساعة- أن نتخيل الأمر على الحالتين، أن خروج بني إسرائيل كان من الأرض المقدسة أو خروجهم من ديارهم من مكان آخر غير الأرض المقدسة. فكيف ستحل الإشكالة؟

رأينا المفترى: دعنا نتخيل ابتداء ذلك المشهد الذي تم فيه الفراق بين موسى وأخيه هارون من جهة والقوم الفاسقين (الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة) من جهة أخرى، وكانت النتيجة أنهم تاهوا في الأرض أربعين سنة بعد تحريم الأرض المقدسة عليهم. فها هم بنو إسرائيل تائهين طوال كل تلك الفترة من الزمن خارج حدود الأرض المقدسة. ولكن ما أن انقضت الفترة الزمنية التي حرم عليهم طوالها دخول الأرض المقدسة حتى كان دخولهم إليها مشروعا. ليكون السؤال الآن هو: كيف دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد انقضاء فترة التية؟

رأينا المفترى: نحن نظن (ربنا مخطئين) أنه منذ تلك اللحظة التي انقضت فيها فترة التيه حتى أصبح أولئك القوم يعرفون بمسى يهودا. فهم يهود لأنهم نحن نظن- قد هادوا (أي رجعوا)، وهناك كان دخولهم الأرض المقدسة، ومكثوا فيها فترة من الزمن، ليكون السؤال مرة أخرى على النحو التالي: كيف دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد موسى؟ ومتى أخرجوا منها إن كانت هي تلك الديار التي أخرجوا منها لاحقا قبل ذاك النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ليقاتلوا في سبيل الله فيرجعوا إليها من جديد؟

رأينا المفترى: نحن نرى أنه من أجل حلّ هذه الإشكالية، يتوجب علينا (ربما مخطئين) إعادة رأينا المفترى من ذي قبل، ألا وهو: أن دخول بني إسرائيل الارض المقدسة يجب أن يكون بإذن إلهي، وأن خروجهم منها يكون بفسادهم فيها. انتهى.

السؤال: ما هو الإذن الإلهي لبني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة؟

جواب مفترى: أن يدخلوها من الباب.

السؤال: وكيف يدخلونها من الباب؟

جواب مفترى: بالمفتاح

السؤال: وما هو مفتاح الأرض المقدسة؟

جواب مفترى: إنه التابوت تابوت العهد القديم The Arch of Covenant .

(للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)

نتيجة مفتراه من عند أنفسنا: لا يحتاج بنو إسرائيل نحن نظن- أن يشنوا الحروب لدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. فالله هو من كتب لهم وراثة الأرض المقدسة:

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (5:21)

ولكن ما يحتاجونه هو أن يأخذوا الإذن الإلهي بدخولها من الباب، ولا يمكن نحن نفتري الظن - أن يدخلوها من الباب إلا أن يكون بيدهم مفتاح  تلك الأرض، ألا وهو تابوت العهد القديم. فمتى كان ذلك المفتاح بيد بني إسرائيل، لا تستطيع (نحن نظن) قوة على الأرض أن تمنعهم من دخولها حتى لو كان من يحاول منعهم من دخولها قوم جبارون (كجالوت وجنوده مثلا). فوراثة الأرض المقدسة حق لبني إسرائيل مادام أنهم قد دخلوها بالإذن الإلهي. والدليل على الإذن الإلهي لهم بدخول الأرض المقدسة هو برأينا- وجود ذلك التابوت معهم. فنحن نعتقد جازمين بأن تابوث العهد القديم هو بمثابة سفينة نجاة بني إسرائيل. فكما كانت سفينة نوح The Arch of Noah هي وسيلة النجاة للقوم المؤمنين مع نوح، كان تابوت العهد القديم هو سفينة نجاة المؤمنين الصالحين من بني إسرائيل الذين لهم حق وراثة الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. فذلك هو (نحن نظن) الميثاق الذي أخذه الله منهم. لذا يتوجب علينا الآن البحث في تفاصيل ذلك الميثاق الذي واثق الله به المؤمنين من بني إسرائيل. ولكن قبل الدخول في باب الميثاق، وجب التنبيه للفكرة المضادة التي يجب أن تكون حاضرة في الأذهان، ألا وهي: إذا دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بدون الحصول على الإذن الإلهي بحيازة التابوت الذي يفتح باب الأرض المقدسة، فإنهم لا محالة- سيطردون منها على يد قوم آخرين. ولا أشك قيد أنملة أن العلم المسمى بعلم الآثار تنطعا هو أصلا العلم الذي يبحث عن ذلك التابوت، وهو ما يعرف بعلم الاركيولوجي. وانظر عزيزي – إن شئت- في المفردة نفسها ARCHAEOLOGY. فهي علم (LOGY) مهتم بالتابوت (ARCH).

باب الميثاق

أولا، علينا أن نثبت ابتداء- بأن الالتزام بالميثاق مع الله يعني الحصول على ما واثقهم الله به، لكن نقض ذلك الميثاق (بقطع ما أمر الله به وبالفساد في الأرض) ستكون نتيجته الحتمية هي الخسارة، قال تعالى:

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (2:27)

ثانيا، كان بنو إسرائيل من الأقوام التي أخذ الله عليهم الميثاق، فرفع فوقهم الطور، لكنهم تولوا من بعد ذلك، واعتدوا في السبت:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2:63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (2:64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (2:65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (2:66)

ثالثا، كانت ذلك الميثاق مع بني إسرائيل مشروطا بأن لا يعبدوا إلا الله، مضافا إليها الاحسان بالوالدين وبذي القربى والمساكين، وكذلك القول للناس حسنا، وإيتاء الزكاة، لكنهم تولوا بعد ذلك إلا قليلا منهم:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (2:83)

رابعا، كان هناك شروطا أخرى في ذلك الميثاق تتمثل بأن لا يسفكون دماءهم ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم، ولكن كانت النتيجة التحايل على ذلك الميثاق، فقتلوا أنفسهم وأخرجوا فريقا منهم من ديارهم بعد أن ظاهروا عليهم بالأثم والعدوان:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (2:84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (2:85)

خامسا: كان هناك شيء آخر آتاه الله لمن أخذ ميثاقهم من بني إسرائيل، وطلب منهم أن يأخذوه بقوة، لكنهم سمعوا وعصوا، وأشربوا في قلوبهم العجل، فنكصوا بعد أن كانوا مؤمنين:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2:93)

ونحن نظن بأن ذلك الشي هو الكتاب. (وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل لاحقا إن أذن الله لنا بذلك).

سادسا، كان ميثاق الله للذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس ولا يكتمونه، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (3:187)

سابعا، رفع الله الطور فوق بني إسرائيل بذلك الميثاق، وطلب منهم أن يدخلوا الباب سجدا ولا يعتدوا في السبت، وكان ذلك ميثاقا غليظا:

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (4:154)

ثامنا: نقض بنو إسرائيل ميقاقهم وكفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغر حق، وقالوا على مريم بهتانا عظيما، وقالوا أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم:

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4:155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (4:156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (4:157)

تاسعا، كان ميثاق الله مع بني إسرائيل يتضمن الشروط التي ترد في هذه الآيات، ولكنهم نقضوا ذلك الميثاق أيضا، فكانت قلوبهم قاسية، وحرفوا الكلم عن مواضعه:

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (5:12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (5:13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (5:14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (5:15)

عاشرا، كان فريق من بني إسرائيل يكذبون رسل الله، وكان فريق آخر منهم يقتلونهم عندما كان أولئك الرسل يأتونهم بما لا تهوى أنفسهم:

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (5:70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (5:71)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا من عند أنفسنا: كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ينص على وراثة الأرض المقدسة تحت شروط محددة.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (لا تصدقوها إن استطعتم): كان تحقيق الميثاق يتمثل بحيازة تابوت العهد القديم، وكان نقض الميثاق ينطوي على خسارتها. انتهى.

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: يقف موسى مع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر على باب الأرض المقدسة، ويكون بحيازتهم التابوت. فيطلب موسى من قومه دخول الأرض المقدسة التي كان يقطنها قوم جبارون حينئذ، ويعلموا على لسان اثنين منهم أنهم بمجرد دخولهم من الباب سيكونوا لا محالة - غالبين:

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5:23)

لكن خوف بني إسرائيل على أنفسهم (بسبب ما حصل لهم في أرض مصر من الاستعباد) هو (نحن نظن) ما جعلهم يتلكأون، فيرفضون الدخول، ويطلبون من موسى أن يذهب ويقاتل هو وربه. فمنطق بني إسرائيل حينئذ هو على النحو التالي (حسب فهمنا طبعا): مادام أنهم غالبون لمجرد أنهم يدخلون الأرض من بابها، ومادام أن بحيازتهم ذلك التابوت الذي هو مفتاح باب الأرض المقدسة، فلا داع هم يظنون- أن يذهبوا مع موسى. فيستطيع موسى - هم يظنون- أن يذهب هو وربه، فيقاتلا، وستكون النصرة لهما. فذهاب بني إسرائيل أجمعين مع موسى هم يعتقدون- لا طائلة منه لا سيما أن الغلبة ليست للقوة أو لكثرة العدد، وإنما لوجود مفتاح الأرض المقدسة؛ فسواء ذهب القوم مع موسى أو لم يذهبوا، سيتمكن موسى أن يدخل الأرض المقدسة، ويغلب القوم الجبارين، وعندها سيدخل بنو إسرائيل بكل يسر وسهولة، والأهم من ذلك أنهم لا يكونوا بحاجة للمخاطرة. فبنو إسرائيل كعلماء- لا يحبذون الدخول في مغامرات ربما لا تكون محسومة مسبقا لصالحهم.

أما منطق موسى - بالمقابلفهو مبني على أن لبني إسرائيل الأحقية في الأرض المقدسة مادام أنهم ينصاعون للأمر الإلهي، لكن إن هم لم ينصاعوا للأمر الإلهي، يصبحوا إذا قوما فاسقين. ولا يستحقون بذلك وراثة الأرض المقدسة.

الدليل

لو تدبرنا مفردة الفسق على مساحة النص القرآني، سنجد أن الفسق الأول قد حصل من الشيطان الذي لم ينصاع للأمر الإلهي:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (18:50)

فكانت النتيجة لفسق الشيطان أن أخرجه الله مطرودا من الجنة، قال تعالى:

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (7:18)

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (15:34)

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (38:77)

نتيجة مفتراة: نحن نظن بأنه مادام أن بني إسرائيل قد فسقوا عن الأمر الإلهي، فإن موسى لن يدخل بهم الأرض المقدسة. لذا، جاء طلبه من الله أن يفرق بينه ومن آمن معه من جهة وبين القوم الفاسقين من جهة أخرى:

قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:25)  

نتيجة مفتراة: كان بنو إسرائيل في تلك اللحظة قوما فاسقين، لأنهم لم يتقبلوا الأمر الذي جاءهم على لسان نبيهم موسى. فكانت النتيجة على النحو التالي:

- عدم دخولهم الأرض المقدسة

- ينيهون في الأرض أربعين سنة

- فراق بين القوم الفاسقين من جهة وموسى ومن معه من الذين آمنوا من جهة أخرى (وهم موسى وأخوه هارون والرجلان اللذان يخافان أنعم الله عليهما).

تساؤلات

                     ·أين ذهب موسى وهارون؟

                     ·أين ذهب الرجلان اللذان أنعم الله عليهما؟

                     ·ماذا حصل للتابوت الذي هو مفتاح الأرض المقدسة؟

                     ·ماذا حلّ ببني إسرائيل في فترة التيه؟

                     ·أين قضى بنو إسرائيل فترة التيه؟

                     ·ماذا حصل لهم بعد انقضاء فترة التيه؟

                     ·هل دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد انقضاء فترة التيه؟

                     ·إن كانوا قد دخلوها، فكيف كان لهم ذلك؟

                     ·كم استمر وجودهم في الأرض المقدسة بعد أن دخلوها بعد فترة التيه؟

                     ·الخ

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن بأن موسى قد ترك بني إسرائيل في التيه، وذهب مع فتاه (وهو أحد هذين الرجلين اللذين أنعم الله عليهما) إلى مجمع البحرين:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (18:60)

وهناك تبدأ أحداث قصة موسى مع ذلك الرجل. (للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)

بينما كان الرجل الآخر(نحن مازلنا نتخيل) برفقه هارون، ليكون السؤال الآن هو: أين كان التابوت؟

رأينا المفترى: عندما حصل الفراق بين موسى وأخيه والرجلين المؤمنين من جهة وبني إسرائيل من جهة أخرى، ذهب موسى وفتاه إلى مجمع البحرين، تاركا هارون والرجل الآخر في المكان الذي حصل فيه الفراق بين الطرفين. وسار موسى مع فتاه إلى مجمع البحرين، بينما ذهب هارون والرجل الآخر باتجاه آخر، ليكون السؤال الآن هو: أين كان التابوت؟

رأينا المفترى: نحن نعتقد بأن هناك احتمالين اثنين لا ثالث لهما:  أن يكون التابوت بحيازة هارون وذلك الرجل الذي ظل معه بعد أن فرق الله بين الطرفين، وظلا ينتظران عودة موسى وفتاه من رحلة البحر. أو أن يكون التابوت قد ذهب مع موسى وفتاه عندما توجها إلى مجمع البحرين. ليكون السؤال المطروح على الفور هو: ما علاقة كل ذلك بقصة داوود الذي هو محور حديثنا في هذه السلسة من المقالات؟

من يدري؟!!!

 

المدّكرون: رشيد سليم الجراح

بقلم: د. رشيد الجراح

تاريخ النشر: 10 نيسان 2023

هناك 6 تعليقات:

  1. غير معرف10/4/23

    على حسب قراءتك لعدد السنين كما قرءتها في عمر نوح والسنين التي ذكرت في قصة يوسف وغيرها ..
    فكم يكون عمر السنين التي تاه فيها بني إسرائيل والتي عددها اربعين سنه

    ردحذف
  2. غير معرف11/4/23

    جميل جدا

    ردحذف
  3. رائع جدا...

    ردحذف
  4. غير معرف7/12/23

    تفسير ابن كثير:
    ( عن ابن عباس في قصة ذكرها.
    - قال: فرجعوا( يعني النقباء الاثنى عشر) إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم(أي الجبابرة)،
    - فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة.
    - قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه،

    إلا هذين الرجلين= يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة=
    فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا،
    وهما اللذان قال الله عز وجل: " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما "،

    ردحذف
  5. غير معرف7/12/23

    قال الله عز وجل: " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما "،

    هما يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة


    ردحذف
  6. غير معرف7/12/23

    " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ": هما

    كالوب بن يوفنا و يوشع بن نون،

    ردحذف