قصة داوود - الجزء التاسع

 

من هو داوود؟ الجزء التاسع

حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالة إبراز بعض التقاطعات بين قصة داوود من جهة وقصة ذي القرنين من جهة أخرى. وافترينا الظن من عند أنفسنا بأن واحدة من تلك التقاطعات تكمن في استخدام كلاهما لعنصر الحديد. فزعمنا القول (ربما مخطئين) بأن كلاهما قد استفاد مما في الحديد من بأس شديد. وظننا بأن بأس الحديد يكمن في زبره الذي هو (حسب زعمنا) القوة المغناطيسية الشديدة التي يمكن أن يتشكل بواسطتها الدرع الواقي الذي يقي مستخدمه بأس الطرف الآخر عندما يتم مهاجمته أو الاعتداء عليه. فظننا (ربما مخطئين) بأن ذا القرنين قد استخدم زبر الحديد للمساواة بين الصدفين (وهما القطبان المغناطيسيان) لصدّ خطر يأجوج ومأجوج، فما عادا قادرين على إحداث الفساد في الأرض، وذلك لأنّ وصولهما إلى الأرض أصبح غير ممكن بعد أن ساوى ذو القرنين بين الطرفين.

نتيجة مفتراة: نحن نظن بأنّ فساد يأجوج ومأجوج في الأرض قد أوقفه ذو القرنين باستخدام زبر الحديد (القوة بالمغناطيسية) التي أُحكم بها ذلك الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزًا بين من طلبوا منه المساندة من جهة ويأجوج ومأجوج ( الغازين للأرض) من جهة أخرى. 

وباستخدام المنطق ذاته، حاولنا الترويج لفكرة إلانة الحديد لداوود. فقد كان داوود قادرًا على تلك الصنعة التي ترد في كتاب الله بمسى "صنعة لبوس"، فكان داوود يستخدم البأس الشديد المتوافر في الحديد، وذلك من أجل التحصن من بأس الناس:

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (21:80)

أمّا ما يتعلق بآلية تلك الصناعة، فنظن بأنه كان عند داوود من الأدوات ما مكّنته من اتقان تلك الصنعة. فالاستفادة من الحديد باستخراج زبره تتطلب وجود قوة (طاقة) لتشغل القوة المغناطيسية الكامنة في الحديد، وبكلمات أخرى نقول: لابد من وجود طاقة تشحن القوة الكامنة في الحديد، حتى تتفعل.

الدليل

لو دققنا في الآية الكريمة التالية:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (39:23)

لوجدنا بأنّه حتى تتم إلانة الجلود ثم القلوب لذكر الله (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ)، فلابد من وجود قوة خارجية تؤثر عليهما. وربما يحقّ لنا أن نقول بأن الحديث الذي أُنزل "كتابا متشابها مثاني" هو ما يجعل الجلود تقشعرّ أولا، ثم تلين بعد ذلك. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل تتعدى إلى إلانة القلوب بعد أن تلين الجلود جراء تلك القشعريرة التي تصيبه. فالآلية تتمثل بوجود قوة خارجية تؤثر على الجلد (القشرة الخارجية)، فتؤدي إلى حدوث قشعريرة لذلك الجلد. (لتقريب الصورة إلى الأذهان، انظر الشكل التالي المقتبس من موسوعة الوكيبيديا كيف يخلق المجال المغناطيسي (magnetic field)، وحاول أن تتخيل كيف تقشعر الجلود).





Source: https://en.wikipedia.org/wiki/Magnetism#/media/File:Magnet0873.png


ثم تتسبب تلك القشعريرة في إلانة الجلد ذاته، ثم ينتقل التأثر من القشرة الخارجية (الجلود) إلى الجزء الداخلي (القلب)، فيؤدي إلى إلانته. فوجود قوة خارجية ضرورة لحصول إلانة شيء ما. وانظر عزيزي القارئ - إن شئت - كيف كانت رحمة الله هي السبب المحفّز لـ إلانة النبي نفسه لمن حوله:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (3:159)

وبالمنطق ذاته، فإننا نستطيع أن نتصوّر إلانة الحديد لداوود. وذلك بوجود قوة خارجية تؤثر على السطح الخارجي للحديد، فتُحدِث فيه ما يشبه قشعريرة الجلد، فتؤدي مباشرة إلى إلانه ذلك الجزء من الحديد، ثم ينتقل التأثر إلى القوة الداخلية الكامنة في الحديد، فيصبح لينًا، فتتفعل القوة الراكدة بداخله (زبره). والتي نظن أنها القوة المغناطيسية الكامنة في الحديد. وهنا يبرز (إن صحّ منطقنا المفترى هنا) التساؤل التالي: ما هي القوة الخارجية التي كانت تؤثر على الحديد حتى أصبح لينًا بيد داوود؟

رأينا المفترى (لا تصدقوه): ربما يستطيع من يحاول الإجابة على مثل هذا التساؤل تقديم عدة سيناريوهات محتملة. لكن السيناريو الذي سنتبناه حتى الساعة (وما زلنا لا نملك الدليل عليه) هو التالي: إنها القوة (الطاقة) التي كانت متوافرة في التابوت. 

الدليل

لو بحثنا عن مفردة "التابوت" على مساحة النص القرآني، سنجدها تظهر صراحة في السياقات التالية:

عند الحديث عن طفولة موسى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (20:36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (20:37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (20:38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (20:39)


عند الحديد عن قصة جالوت التي جاء فيها ذكر لداوود: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2:248)

ليكون السؤال المحوري هنا هو: لِمَ يرد ذكر التابوت صراحة في هاتين القصتين على وجه التحديد؟

رأينا المفترى: لو دققنا في قصة موسى جيدا، سنجد الآية الكريمة التالية:

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (20:39)

لنثير - بناء على ما جاء في هذه الآية الكريمة- سؤالًا ربما يصعب الإجابة عليه بشكل نهائي، ألا وهو: كيف كان موسى يُصنع على عين الله في بلاط آل فرعون؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا مفهوم الصناعة "كحرفة"، لوجدناها تختلف من شخص لآخر، ومن أمة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر. لكن ما يميّزها عند الجميع هو درجة الاتقان. فقد أصنع أنا أداة معينة، وقد تصنع أنت مثل تلك الأداة، لكن كفاءة كل واحدة من الأداتين قد تتفاوت. فربما تكون الأداة التي صنعتها أنا أكثر كفاءة وفاعلية من الأداة التي صنعتها أنت، والعكس صحيح. وقد تنتج بلد ما آلة معينة، وتنتج بلد آخرى مثل تلك الأداة، لكن ربما تتفاوت كفاءة الآلة المصنوعة في الحالتين. ولعل أهم عنصر يجعل الأداة ذات كفاءة عالية هي "التقنية" (technology) المستخدمة في تلك الصناعة. فالصناعة الألمانية تستخدم تقنية ذات كفاءة معينة في انتاج سياراتها وطائراتها وسفنها، الخ. وكذلك هناك ما يميّز الصناعة اليابانية من حيث التقنية المستخدمة، وهكذا. لكن يبقى هناك شيء مشترك لا يمكن أن يغيب في الحالتين، ألا وهو استخدام عنصر الطاقة (power). فالتفوق في كفاءة السيارة الحديثة - مثلا- يعتمد على نوع الطاقة المستخدمة في تشغيلها. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا بأنه كلما تطور شكل الطاقة المستخدمة (كالطاقة الناتجة من الخشب أو الفحم أو البترول أو اليورانيوم، الخ)، كلّما تطورت كفاءة المنتج في تحقيق الغاية من انتاجه، وفي تعدد استخدامته. 

ولو دققنا في السياق القرآني عن صناعة عاد - مثلا – كما جاء في قوله تعالى:

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (26:123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (26:124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (26:125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (26:126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (26:127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (26:128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (26:129)

لوجدنا بأن الغاية من مصانع عاد هو الخلود (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ). لذا، لابد أن يجنح بنا الخيال لنتصور تلك المصانع التي شيّدتها حضارة عاد (التي لم يخلق مثلها في البلاد) لغايات الخلود. وأول ما يمكن أن نفكر به هو الطاقة التي كانت تملكها عاد لتشييد تلك المصانع العظيمة. فيكون أول مستلزمات هذا الخيال هو الذهاب بعيدا عن الفكر الشعبي التقليدي الذي قد يتصور ذلك بخيال بدائي، ويصفها بمفردات شعبية. لتكون النتيجة التي نحاول جاهدين افتراءها (ربما مخطئين) هي على النحو التالي: كانت عاد على درجة من الرقي التقني (cutting edge technology) الذي مكّنها من تشييد مصانع الخلد. 

ولا شك أيضا بأن رقيّ الصناعة (أي صناعة) يعتمد على العلم المتوافر للصانع نفسه. ولو دققنا في الآية الكريمة التالية:

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (27:88)

لوجدنا بأن الجبال - التي نحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب – هي كينونة عظيمة، متقنة في صناعتها، وذلك لأنها من صنع الله الذي أتقن كل شيء. الأمر الذي يدعونا أن نخرج من هنا بالافتراء الخطير التالي: مادام أن الجبال بهذه الوظيفة التي انيطت بها هي من صنع الله، فلابد أن التقنية المستخدمة في ذاتها يصعب مجاراتها. 

ولو جلبنا السياقات القرآنية التالية التي تبيّن لنا كيفية صناعة سفينة نوح:

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (23:27)

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (11:37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (11:38)

لوجدنا بأنها قد صنعت بمراقبة من الله وبوحي منه، فكانت صناعتها تحت مراقبة غير منقطعة من جنوده (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا). 

السؤال النهائي حول مفهوم الصناعة: ما الذي يجمع هذه الأمور (موسى، الجبال، سفينة نوح) على وجه التحديد ليأتي وصفها في النص القرآني على أنها صناعة؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأن العامل المشترك في كل الصناعات هو وجود الطاقة المشغلة لها. 

الدليل

لو بدأنا بصناعة سفينة نوح، لوجدنا أن وصفها في النص القرآني قد جاء على نوح أنها فلك:

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (7:64)

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (10:73)

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (11:37)

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (11:38)

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (23:27)

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (23:28)

لكن المدقّق في النص أكثر، سيجد أن ذلك الفلك قد وُصِف في سياق قرآني آخر بأنه فلك مشحون:

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (26:119)

ليكون السؤال الآن هو: كيف يكون الفلك مشحونًا؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الفلك كان "مشحونا" لوجود طاقة في داخله تجعله قابلًا للعمل بكفاءة عالية جدا، وبكلمات أكثر وضوحا نقول بأن الشحن هو ما نستخدمه اليوم تحت مسمى (charge). فنحن نظن أن الفلك يجري في البحر (أي ما يشبه الغواصة بمفرداتنا الحالية) بقوة الطاقة التي تشغله. فمحرك ذلك الفلك يحتاج إلى طاقة تجعله قادرًا على العمل حتى يجعل الفلك كله يتحرك بكفاءة عالية في داخل الماء. 

ولو دققنا في السياق القرآني السابق الذي يتحدث عن الفلك المشحون، لوجدنا بأن هناك في كتاب الله مقابلة عجيبة بينه من جهة وما خلق الله لنا من الأنعام التي نركبها من جهة أخرى، قال تعالى:

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (36:41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (36:42)

الأمر الذي يجعلنا نتجرأ على الظن بأن الطاقة التي يشتغّل بها الفلك المشحون في داخل الماء يشبه ما يشغّل الانعام التي نركبها. فالأنعام لا تندفع بطاقة خارجية لتتحرك حتى تحمل أثقالنا وتنقلنا من مكان إلى آخر، ولكنها تتحرك بما لديها من طاقة كامنة في داخلها أكتسبتها من مصدر خارجي (منفصل عنها). وبمثل هذا الخيال، علينا أن نتصور تلك الفلك المشحون: أي توافر طاقة في داخلها يجعلها قادرة على الحركة، وتحمل أثقالنا إلى بلد لم نكن لنبلغه إلا بشق الأنفس:

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (16:5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (16:6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (16:7)

فالأنعام – نحن نفتري الظن - تستطيع أن تنتقل من مكان إلى آخر بفعل تلك الطاقة الكامة فيها، والتي أكتسبتها من مصدر منفصل عنها بعد أن تمت معالجته في داخلها، وهي ما نسميها بالمفردات العلمية الدقيقة: الطاقة (POWER) أو الوقود (FUEL) المنتج للطاقة. فما تأكل الأنعام هو الوقود، وما ينتج عن معالجة ذلك الوقود داخل بدن الأنعام هو الطاقة المشغلة لها. 

نتيجة مفتراة: قد لا نختلف كثيرا إن قلنا بأن الأنعام تتحصل على الطاقة التي تمكّنها من القيام بمهتها مما تأكل من الأرض. فتقوم معدتها بهظم ما تأكل (الوقود)، وبالتالي معالجته حتى يصبح طاقة، وتقوم أعضاء بدنها كلها بالاستفادة من تلك الطاقة المنتجة داخل أبدانها، وتتخلص من فضلات الطعام (الوقود) بالاخراج. ولو حصل أن مَنعت الطعام عن تلك الكائنات فترة طويلة من الزمن، فسيؤدي ذلك إلى ضعف أبدانها، وقد تصبح غير قادرة على القيام بمهامها بكفاءة عالية، ربما تصل في نهاية المطاف إلى موتها إن طالت فترة منعها عن الطعام أكثر مما يجب. 

فالسيناريو البسيط الذي نحاول أن نرسمه عن الأنعام هو على النحو التالي:

حصول الأنعام على الطعام (أو لنقل الوقود) من البيئة المحيطة، 

دخول الطعام في جوف الأنعام

تحويل ذلك الطعام من حالة إلى حالة داخل بدن الأنعام

الاستفادة من الطاقة المتحصلة من ذلك الوقود في تشغيل البدن كله

تصبح العملية كلها بمثابة شحن متكرر (Recharging) لتلك الكائنات حتى تبقى تدب الحياة  فيها، وبالتالي الاستمرار بالعمل بكفاءة

والآن لننقل السيناريو إلى ما شُبهت به تلك الأنعام وهو الفلك المشحون:

الحصول على الوقود من مصدر آخر

ادخال ذلك الوقود إلى جوف الفلك

تحويل ذلك الوقود داخل جوف الفلك إلى طاقة 

الاستفادة من تلك الطاقة في تشغيل أجزاء الفلك كله

يكون ذلك كله بمثابة الشحن الدائم لتلك الآلة حتى تستطيع العمل بكفاءة 

السؤال: ما هو وقود تلك الفلك حتى أصبحت فلكًا مشحونة؟

رأينا المفترى (لا تصدقوه): إنّه التابوت. 

الدليل

نحن نظن أنه من أجل جلب الدليل على مثل هذا الافتراء الغريب العجيب، يلزمنا أن نتتبع سيرة ذلك التابوت من أولها، الأمر الذي يجعلنا نتجرأ على طرح عشرات (وربما مئات) الأسئلة الأولية حوله. وأول تلك التساؤلات هي:

لماذا استقر التابوت في آل داوود؟ 

لِم لَم يستقر في آل موسى أو في آل هارون؟

لماذا ظهرت مفردة التابووت صراحة في قصة أم موسى؟

لماذا ظهر التابوت عيانًا في قصة طالوت وجالوت؟

لماذا كان داوود متواجدًا في قصة طالوت وجالوت حيث يظهر التابوت دون سابق إنذار؟

الخ.

رأينا المفترى: نحن نظن بأن محاولة الإجابة على مثل هذا التساؤلات الكثيرة والكبير جدا تتطلب منّا تدبر السياقات القرآنية التالية:

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (37:75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (37:76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (37:77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:78) سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (37:79) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:81)

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (37:104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (37:106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (37:107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (37:109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:111)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (37:114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (37:115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (37:116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (37:117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (37:118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (37:119) سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (37:120) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:122)

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (37:123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (37:124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (37:125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (37:126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (37:127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (37:128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:129) سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ (37:130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:132)

فالمدقق في هذه السياقات التي وردت جميعها في سورة الصافات، يجد التقاطعات بين هؤلاء المخلصين من عباد الله المؤمنين، وهم:

- نوح

- إبراهيم

- موسى وهارون

- إلياس

السؤال: ما الذي يجمع هؤلاء المخلصين من عباد الله كما تبينها هه السياقات القرآنية على وجه التحديد؟

رأينا المفترى: لو دققنا أكثر فيما هو مشترك بين هؤلاء على وجه التحديد، سنجد شيئا واحدا لا يشاركهم به غيرهم من المخلصين من عباد الله، ألا هو التالي: هؤلاء هم من ترك الله عليهم في الآخرين (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

نتيجة مفتراة: كان نوح، إبراهيم، موسى وهارون، وإلياس، هم من ترك الله عليهم في الآخرين. 

السؤال: ما معنى أن هؤلاء على وجه التحديد هم من ترك الله عليهم في الآخرين؟

رأينا المفترى: نحن نظن (ربما مخطئين) بأن مفهوم التركة تتحقق بوجود "إرث ما" عند شخص ما (أو عند مجموعة من الأشخاص)، فيتم تناقله في ذريتهم من بعدهم. وربما الأهم من ذلك أن الإرث الذي تمت تركته كان في الآخرين (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ). ونحن نفهم ذلك (ربما مخطئين) على نحو أن ذلك الإرث تمت مناقلته لأجيال عديدة حتى وصل إلى الآخرين (أي وصوله إلى آخر تلك الذرية). لذا، نحن نتجرأ على تقديم الافتراءات الخطيرة التالية التي ستكون بمثابة حجر الأساس في النقاش التالي، وهي:

هناك إرث تُرك في ذرية نوح وتم تناقله حتى نهاية ذرية نوح (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)

هناك إرث إبراهيم في ذريته حتى نهايتها (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)

هناك إرث في ذرية موسى وهارون حتى نهايتهما (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ)

هناك إرث في ذرية إلياس حتى نهايتها (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) 

ولو دققنا في السياق الذي جاء خاصا بإبراهيم، لوجدنا فيه شيء من الغرابة (إن نحن قرأناه في سياقه الأوسع)، قال تعالى:

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (37:104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (37:106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (37:107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (37:109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (37:112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (37:113)

فالمدقق في هذا السياق سيجد بأن سياق التركة عند إبراهيم قد جاء فيه مباركة على إبراهيم نفسه وعلى إسحاق على وجه التحديد: 

جاءت إحداهما له خاصة: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:108)

وجاءت مرة أخرى له وإسحاق معه: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (37:113)

ليكون السؤال المفاجئ هو: لماذا؟ أي لماذا كانت البركة عليه وعلى إسحاق على وجه التحديد؟ فأين الولد الآخر لإبراهيم (وهو إسماعيل) في هذا السياق؟

رأينا المفترى: لما كان من البديهي أن يتم تناقل التركة من الأب لابنه، ما دعت الحاجة أن يذكر الابن في ذلك السياق، وذلك لأنه الوريث الشرعي والوحيد لتلك التركة. لكن الغريب أنه في حالة إبراهيم جاء ذكر لابنه اسحاق على وجه التحديد، بالرغم من أننا نعلم يقينا بأنه كان لإبراهيم اثنين من الأبناء، وهما إسماعيل وإسحاق. لذا، كان من المفترض أن تكون "التركة" (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) مناصفة بين الاثنين، أليس كذلك؟ لكن المثير للانتباه أن النص هنا يبرز اسحاق، ولا يذكر اسماعيل في سياق الحديث عما ترك على إبراهيم في الآخرين. لسكون السؤال الآن هو: لماذا؟

رأينا المفترى: نحن نظن (ربما مخطئين) بأن تركة إبراهيم كانت خاصة في إسحاق، وذريته من بعدة.

الدليل

نحن نظن أن فهم هذا الأمر يتطلب منا - ابتداء- محاولة التمييز بين التركة من جهة والوراثة من جهة أخرى. فالتركة شيء والوراثة شيء آخر، ولا يجب الخلط بينهما. قال تعالى:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (27:16)

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (26:52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (26:53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (26:54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (26:55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (26:56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (26:57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26:58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (26:59)

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (44:23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (44:24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (44:25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (44:26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (44:27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (44:28)

فالمدقق في هذه الآيات الكريمة يجد بأن الوراثة يمكن أن تنتقل من شخص لآخر أو من أمة لأخرى قد تربطه (وقد لا تربطه) به صلة دم. لكن التركة - بالمقابل - تكون في ذرية الشخص نفسه. والأهم من ذلك أن صاحب التركة قد يختص أحد أبناءه بشيء من تركته لا تكون لغيره من الأبناء. فتخيل عزيزي القارئ – إن شئت- أن لديك شيئا واحدا ذا قيمة عظيمة، ولديك في نفس الوقت أكثر من ولد واحد، ألا تأخذك الحيرة عند من من أبنائك تود أن تودع ذلك الشيء الثمين؟ ألن تجتهد بأن يكون قرارك سليمًا، حتى لا تضيع تلك التركة في يوم من الأيام؟ ألن يكن لديك مبررا قويا في سبب أنك جعلته في هذا الإبن (دون الآخرين)؟ 

نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن التركة تتعلق بالمقتنيات الخاصة للشخص، وأن قرار وضعها عند أحد من اأبناء (دون غيره) هو قرار شخصي، يتحمل الوالد تباعاته. فيجتهد في أن يضعه في مكانه الذي يظن أنه الأنسب. ولعل أهم العوامل التي يأخذها الأب في الحسبان في هذا الصدد هو أنه يحاول أن يتعين من بين أبنائه من يستطيع أن يستفيد منها بالشكل الأمثل.

نتيجة مفتراة: إذا كانت التركة تتعلق بالمقتنيات الخاصة التي يحق لصاحبها التصرف فيها حسب رؤيته الشخصية، فماذا عن الوراثة؟ 

رأينا المفترى: نحن نظن بأن الوراثة تتعلق بالمتتلكات العامة والخاصة التي تتوزع بين جميع الوارثين (ومن لهم حق فيها) بعدالة (بنسب مقدرة):

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (4:11)

وقد ترث شيئًا لم يكن لك أصلا:

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (33:26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (33:27)

ولا تتوقف الوراثة على الأشياء المادية البحتة، فقد تصل إلى وراثة الكتاب:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (7:169)

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (35:32)

وكذلك يمكن وراثة الجنة ذاتها:

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (19:63)

نتيجة مفتراة: إن ما يهمنا قوله هنا هو أن الوراثة تقع على أشياء عامة يمكن للكثيرين الاستفادة منها، لكن التركة تقع على الممتلكات الخاصة التي يتخير صاحبها عند من يريد أن يتركها من ذريته.  

السؤال: لماذا كانت التركة في ذرية إبراهيم خاصة (نحن نظن) في إسحاق وذريته من بعده؟

رأينا المفترى: مادام أن التركة هي ممتلكات خاصة كانت عند إبراهيم. فنحن نتخيل بأن تلك الممتلكات التي تركت عليه في الآخرين قد انتهت عند إسحاق فقط، فما كان لإسماعيل نصيب منها. لكن ما كان لإسماعيل هو جزء مما ورث عن إبراهيم (كالكتاب)، وليس جزء من التركة الخاصة.

السؤال: ما هي تلك المقتنيات الخاصة التي تركت في ذرية إبراهيم التي جعلها في إسحاق وذرية إسحاق من بعده؟

رأينا المفترى: إن المدقق فيما حصل في خط بيت النبوة في إسحاق فيعقوب فيوسف، سيجد أن "القميص" كان "الكنز" الأكثر حظورًا في رسم أحداث قصة ذلك البيت الكريم. 

نتيجة مفتراة: نحن نظن بأن ما ترك على إبراهيم في الآخرين هو "القميص"، الذي كان – حسب افترائتنا القديمة - الأداة التي وقت (أي كوقاية) إبراهيم من نار قومه التي ألقوه فيها في يوم من الأيام. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- كيف يأتي ذكر إسحاق ويعقوب على وجه التحديد (وليس اسماعيل) عند تبيان ما حصل لإبراهيم في نار قومه:

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (21:68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (21:69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (21:70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (21:71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (21:72)

(للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان قصة لوط).

نتيجة مفتراة: كانت تركة إبراهيم في ذريته (إسحاق وذريته) هي القميص.

ولو دققنا بالطريقة المفتراة من عندنا ذاتها في قصة موسى وهارون، سنجد أنه قد ترك عليهما في الآخرين:

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (37:114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (37:115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (37:116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (37:117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (37:118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (37:119) سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (37:120) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:122)

ليكون السؤال: ما هي التركة التي كانت في آل موسى وآل هارون؟

رأينا المفترى: لو دققنا في قصة موسى وهارون من أولها إلى آخرها، لن نجد صعوبة في أن نروج لفكرة أن "العصا" كانت سيدة المشهد كله. وانظر كيف يصر موسى على أن العصا ملكية خاصة له:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (20:17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (20:18)

نتيجة مفتراة: كانت تركة موسى وهارون في ذريتهما هي العصا.

ولو رجعنا إلى قصة نوح، سنطرح السؤال ذاته: ما الذي ترك على نوح في الآخرين؟

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (37:75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (37:76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (37:77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:78) سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (37:79) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:81)

راينا المفترى: ربما لن نتجادل كثيرا بأن السفينة التي كانت تصنع بوحي إلهي هي حاضرة المشهد في قصة نوح، وهي التي جُعلت آية للعالمين:

وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (54:13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (54:14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (54:15)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (29:15)

نتيجة مفتراة: كانت تركة نوح في ذريته حتى الآخرين هي السفينة. 

لكن يبرز هنا في السياق الخاص بنوح سؤال محير جدا، ألا وهو: ما دام أن السفينة قد جعلت آية للعالمين، فمن كان مالكها الحقيقي من ذرية نوح؟

جواب مفترى: مادام أن السفينة قد كانت تركة، فلا بد (حسب منطقنا المفترى هذا) أن يكون مالكها الحقيقي شخص من ذرية نوح. ليس بالضرورة أن يكون ابنه المباشر، لكن يكفي أن يكون من ذريته حتى الآخرين، ليستطع ادعاء ملكيتها. ليكون السؤال الآن هو: من هو مالك تلك السفينة الحقيقي الذي هو – نحن نفتري الظن - من ذرية نوح؟

رأينا المفترى (لا تصدقوه): إنه يونس – ذا النون – صاحب الحوت

الدليل

لو تدبرنا قصة يونس، لوجدنا بأنها تبدأ بالآيات الكريمة التالية:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (21:87)

وقد تعرضنا في سلسلة مقالات سابقة لنا تحت عنوان "قصة يونس" لهذا الآيات الكريمة، فطرحنا حولها عشرات (بل مئات) الإسئلة في أكثر من أربعين جزءا. لكن ما يهمنا هنا من تلك التساؤلات التالية هي:

لماذا ذهب ذو النون مغاضبا؟

لماذا ظن أننا لن نقدر عليه؟

أين ذهب عندما كان مغاضبا؟

الخ

رأينا المفترى: نحن نظن أن جواب السؤال الأخير (أين توجه ذو النون عندما ذهب مغاضا؟) هو مفتاح الإجابة على كل التساؤلات السابقة (كما نفهمها طبعا). فعلينا إذاً أن نبحث عن المكان الذي ذهب إليه ذو النون عندما كان مغاصبًا، فاجابتنا المفتراة على هذا السؤال ستحل – برأينا- اشكالية السبب الذي دفعه للذهاب إلى ذلك المكان على وجه التحديد مغاضبا.

السؤال المبدئي: أين ذهب ذو النون عندما كان مغاضبا؟

جواب مفترى: إلى البحر، وليس أدل على ذلك من أن نهاية رحلته كانت إلى بطن الحوت حيث اطلق صرخته الشهيرة:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (21:87)

السؤال: لماذا ذهب إلى البحر؟

رأينا المفترى: ليطلب تركة أبيه القديم (نوح).

السؤال: ما هي تركة أبيه القديم نوح؟

جواب مفترى: إنها الفلك

الدليل

دعنا ندقق بما فعله ذو النون في البحر، لنجد بأنه قد أبق إلى الفلك المشحون عندما كان مغاضبا:

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (37:139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (37:140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (37:141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (37:142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (37:143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (37:144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (37:145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (37:146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (37:147)

تخيلات مفتراة: لما كان الله قد ترك على نوح في الآخرين، كان هناك مقتنايات خاصة لنوح، فكان لزاما – حسب منطقنا الغريب هنا- أن يكون وريثها الشرعي واحدا من أبنائه (من ذريته) حتى ولو بعد حين. لكن حصل أن وقعت تلك الفلك في يد شخص آخر، فكان ذلك سببا في غضب يونس الذي كان يظن بأنه هو الأحق بها. فذهب مغاضبا (نحن نرى) لاسترداد تلك المقتنيات من يد من كانت عنده حينئذ. وهناك حصلت المواجهة الشرسة بين يونس ومن معه من جهة ضد من كانت بيده تلك الفلك ومن معه حينئذ من جهة أخرى، وكانت نتيجة تلك المواجهة أن كان يونس من المدحضين (أي خسر المواجهة). فقد تمكن من كانت الفلك في حوزته حينئذ من دحض (دحر) يونس ومن ومن معه، حتى كانت نهاية يونس نفيه في تلك المواجهة أن التقمه الحوت، وهناك في بطن الحوت كانت صرخة الالتجاء إلى الله من يونس مدوية: 

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (21:87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (21:88)

الدليل

لو دققنا في نداء يونس ربه جيدا، لوجدنا أن الرجل يعترف بملء فيه بأنه كان من الظالمين، أليس كذلك؟

السؤال: كيف نفهم قول ذي النون في بطن الحوت أنه كان من الظالمين (لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأن الظالم هو المعتدي، مصداقا لقول تعالى:

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (5:107)

فالمعتدي هو إذًا ظالم، وهذا ما حصل - مثلا- مع آدم وزوجه عندما اقتربا من الشجرة، التي كان من المفترض أن لا يقتربا منها:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (2:35)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (7:19)

ولا شك - عندنا- بأن الذي لا يلتزم بالحق هو من الظالمين، خاصة بعد أن جاءه العلم بذلك:

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (2:145)

وبناء على هذه المقدمات، نحن نفهم قول ذي النون أنه كان من الظالمين (لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، لأنه حاول أن يعتدي فيأخذ شيئأ هو في الأساس ليس له، وأنه قد جاءه العلم بذلك من ذي قبل. 

السؤال: ما الذي جعل ذا النون من الظالمين قبل أن يلتقمه الحوت؟ وما الذي أقر به ذو النون بعد أن التقمه الحوت؟

رأينا المفترى: لمّا وصل ذو النون إلى بطن الحوت، علم يقينا بأنه كان من الظالمين، وأدرك (نحن نتخيل) بأنه حاول أن ينتزع شيئا هو ليس من حقه ابتداء، وإنما كان من حق غيره، فما كان منه إلا أن يقر بأحقية غيره بامتلاك ذلك الشيء. فما كان منه ليدعي ملكية شيء هو من حق غيره. 

السؤال: ما هو ذلك الشيء الذي لم يكن من حق يونس؟

جواب مفترى (لا تصدقوه): إنه أداة شحن تلك الفلك. إنه التابوت.

السؤال: من هو مالك ذلك التابوت الذي كان يشحن تلك الفلك؟

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (37:139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (37:140) 

نتيجة مفتراة 1: كانت تركت نوح التي هي من حق ذريته (يونس) هي الفلك

نتيجة مفتراة 2: لم يكن من حق يونس الفلك المشحون. 

السؤال: من كان صاحب الحق في الفلك المشحون؟

رأينا المفترى الخطير جدا (لا تصدقوه): إنه من تُرِك عليه في الآخرين من بين المجموعات السابقة التي جاءت لتبين لنا من هم فقط من ترك الله عليهم في الآخرين. إنه إلياس:

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (37:123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (37:124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (37:125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (37:126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (37:127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (37:128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (37:129) سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ (37:130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (37:131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (37:132)

السؤال: من هو إلياس؟

جواب مفترى: إنه صاحب الفلك المشحون الذي أبق إليه يونس

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (37:140)

الدليل

لو دققنا في قصة أم موسى، لربما وجب علينا أن نحضر السياق القرآني التالي لنتدبره من هذا الجانب:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (28:7)

ليكون السؤال هو: كيف تم الوحي لأم موسى بأن تقذف وليدها في التابوت؟

رأينا المفترى: لو دققنا في السياق القرآني الذي يبين لنا ما حصل مع أم موسى في هذا الجانب، لوجدنا فيه شيء من الغرابة وجب الوقوف عنده مطولا:

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (20:38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (20:39)

ليكون السؤال: كيف نفهم قوله تعالى (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (20:38))؟ فما هو "الذي يوحى فكان من الوحي الذي جاء أم موسى لتقذف وليدها في التابوت؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا السياق القرآني التالي:

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (34:48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (34:49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (34:50)

سنجد بأن حصول الوحي "بما يوحى" يؤدي إلى الهداية. فالهداية الحقيقية هي ما جاء وحيا كما حصل مع أم موسى، وأن ذلك الوحي هو من الحق الذي يقذف به ربنا، وما دام أنه حق قذفه ربنا، فإن نتيجته ستكون على الفور إزهاق الباطل:

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (21:18)

ليكون السؤال الآن هو: كيف يمكن أن نتصور ما حصل مع أم موسى حتى جاءها الوحي بـ "ما يوحى"؟

رأينا المفترى: لما كانت أم موسى حائرة ما تفعل برضيعها خوفا من فرعون وملئه، جاءها الوحي بطريقة عجيبة (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ)، فكان على نحو أن تقذف وليدها في التابوت، ثم تقذف بذلك التابوت في اليم (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ)، وهي على يقين بأن الأمر سينتهي برضيعها في يد عدو الله وعدوه بعد أن يلقه اليم بالساحل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ). لكنها كانت على يقين بأن الله – لا محالة – راده إليها، وسيكون من المرسلين:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (28:7)

السؤال: كيف علمت أم موسى كل ذلك؟

أن تقذف وليدها في التابوت

أن تقذف التابوت في اليم

أن اليم سيلقي بالتابوت الذي يحمل رضيعها بالساحل

أن آل فرعون سيلتقطونه

أن لا تخاف ولا تحزن

أن الله راده إليها

أن الله جاعل وليدها من المرسلين

الخ

رأينا المفترى: لو تدبرنا جميع السياقات القرآنية الخاصة بأم موسى، سنجد أن مفردة الوحي قد جاءت بصيغة الجمع (أَوْحَيْنَا)، ليكون السؤال هو: لماذا؟

رأينا المفترى: مادام أن فعل "الوحي" قد جاء بصيغة الجمع، فالوحي لم يكن (نحن نظن) مباشرة من الله نفسه إلى أم موسى، كما جاء – مثلا في سياق الحديث عن الحواريين:

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (5:111)

ولكن كان هناك في حالة أم موسى وسيط في هذا الوحي. فلابد (نحن نتخيل) من وجود طرف خفي تدخل في تحقيق الوحي عند أم موسى لتفعل كل ما فعلت، ولتعلم كل ما علمت.

السؤال: ما هو ذلك الطرف الخفي الذي كان متواجدا في الوحي لأم موسى بـ "ما يوحى"؟

رأينا المفترى: سنحاول تسطير افتراء خيالي (لا نملك الدليل عليه حتى الساعة)، نضعه على طاولة النقاش كواحد من السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن نفهم من خلالها (حسب تصورنا المفترى) ما حصل فعلا على أرض الواقع. لذا، فإنني سأكرر دعوتي لمن لا يثق بافتراءاتنا أن لا تتجاوز عينه هذه السطور، لأن كل ما سنقوله ليس أكثر من ضرب من الخيال المجنون غير المنضبط بعقلانية الناس الطبيعين.

أما بعد،

تخيلات مفتراة: عندما كانت أم موسى حائرة، لا تعرف ما يمكن أن تفعله لتنقذ رضيعها من يد عدو الله، جاءها الوحي بقدوم التابوت الذي كانت تحمله الملائكة، فكان الوحي (الإشارة الأولى لها) بأن هذا التابوت هو سفينة نجاة الطفل (Ark)، ولم يكن ليخذلها الحدس (والفهم) بأن تتنبه بأن هذا التابوت هو كانت تعرف الكثير عنه من خلال زوجها الذي توفاه الله من فترة وجيزة (فوالد موسى غائب الآن عن المشهد بالوفاة). وهي تعلم (مما جاءها من العلم من ذي قبل) أن من يوضع في هذا التابوت لن يمسه سوء من قبل الآخرين (حتى مع أعتى الطواغيت كعدو الله فرعون) مهما حاولوا، فلا داع أن تخاف أو أن تحزن، وأنه سيكون له شأن عظيم في قادم الايام (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). 

السؤال: من الذي جلب التابوت إلى أم موسى؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأن هناك – على الأقل- احتمالين اثنين في هذا الصدد:

أن يكون التابوت أصلا موجود من ذي قبل في بيت أم موسى

أن يكون التابوت قد جاءها فقط في تلك اللحظة

رأينا المفترى: نحن سنتبنى الخيار الأخير، وذلك للأسباب كثيرة، نذكر منها:

لو كان التابوت موجودا من ذي قبل في بيتها، لما كان ما فعلت يقع في باب الوحي (قارن هذا الظن مع ما افتريناه من قبل حول ما فعلت امرأة لقمان لاحقا). فما فعلته امرأة لقمان لاحقا لم يكن يقع في باب الوحي لأن التابوت كان أصلا متوافرا في بيتها من ذي قبل.

لو كان التابوت موجودا من ذي قبل في بيتها، لما ساورها الخوف والقلق حيال ما يجب عليها أن تفعل 

لو كان التابوت موجودا في بيتها من ذي قبل، لربما فعلت ذلك منذ اليوم الأول لولادة موسى.

لو كان التابوت موجودا من ذي قبل، لكان تواجد موسى فيه دائما حتى قبل أن تقذفه فيه الآن، ناشدة نجاته من يد عدو الله

الخ

لذا، نحن نتبني ( ربما مخطئين) السيناريو بأن أم موسى كانت حائرة لا تدري ما تفعل، وما هي إلا لحظة غير متوقعه حتى رأت التابوت معلقا في الفضاء أما ناظريها دون سابق إنذار، وما أن رأت ذلك التابوت (نحن ما زلنا نتخيل) حتى تأكد لها ما كانت تعلمه من خلال زوجها في سابق الأيام عن قصة التابوت، وعن الطفل الذي سيوضع فيه، ويكون من المرسلين ليقارع عدو الله فرعون لاحقا. (هناك كثير من التفاصيل التي سنتعرض لها لاحقا بإذن الله، فالله أدعو أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم). 

السؤال: من الذي أحضر لأم موسى التابوت في تلك اللحظة؟

جواب مفترى: إنه من كان مشاركا في الوحي الذي جاء أم موسى، مادام أن فعل الوحي - كما أسلفنا - قد جاء بصيغة الجمع (أَوْحَيْنَا). 

السؤال: من هو الذي شارك في ذلك الوحي؟

خيالنا المفترى: انه العبد الصالح الذي سيكون صاحب موسى في قادم الأيام. انتهى.

الدليل

نحن نملك على الأقل دليلين منطقيين نفتريهما من عند أنفسنا (لا يسندهما الدليل القاطع) للترويج لافترائنا بأن العبد الصالح هو من جاء بالتابوت إلى أم موسى يوم أن خافت عليه من بطش فرعون:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (28:7) 

الدليل الأول: الوحي الذي جاء يوسف عندما أراد اخوته أن يجعلوه في غيابت الجب

الدليل الثاني: ذهاب موسى إلى مجمع البحرين في نهاية رحلته مع بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد أن رفضوا دخولها

دعنا نحاول أن نفصل ذلك لاثبات افتراءنا بأنه كان هناك طرف خفي شارك في تحقيق الوحي لأم موسى، حتى نفذت الأمر كما يجب على أرض الواقع، أي حتى جاء الحق الذي قذف به الباطل ليزهقه. 

تفصيل الدليل الأول: لقد افترينا القول سابقا بأن إخوة يوسف قد كادوا به كيدا، فأجمعوا أمرهم أن يجعلوه في غيابت الجب. وهناك بالضبط جاء الوحي الأول ليوسف، وحصل كل ذلك دون أن يشعر به إخوته المتآمرون عليه:

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (12:15)

وكانت واحدة من الافتراءات التي قدمناها سابقا في هذا السياق هو أن واحدا من إخوته العشرة لم يكن راضيًا عما يفعله الإخوة الآخرون بأخيهم يوسف، ألا وهو كبيرهم الذي نأى بنفسه عن المشاركة بخطتهم للتخلص من يوسف، واقترح بأن يجعلوه في غيابت الجب (بدل أن يقتلوه) ليلتقطه بعض السيارة، فقال:

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (12:10)

وهذا الشخص هو نفسه الذي رفض العودة من مصر عندما أخذ عزيز مصر أخاهم الآخر بتهمة سرقة صواع الملك، وذلك لأنه قد كان ملتزما بالموثق الذي أخذه منهم أبوهم قبل أن يرسله معهم:

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (12:80)

وقد افترينا الظن في تلك القصة (الجزء 27 من قصة يوسف) بأن ذلك الأخ قد شارك خفية في الخطة التي رسمها والده يعقوب لانقاذ يوسف من بين يدي إخوته، مقابل أن تكون له وراثة الأرض المقدسة. فكان هو إسرائيل. وظننا بأن مشاركته كانت تتمثل بأن يمرر قميص النبوة إلى أخيه يوسف عندما يجعل الإخوة أخاهم في غيابت الجب. فهو الذي – بظننا- نقل قميص النبوة سرا (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) من عند الأب يعقوب إلى أخيه يوسف المطروح أرضا. فكانت خطة وصول القميص إلى يوسف عن طريق أخيه هو جزء من الوحي الذي جاء يوسف في تلك اللحظة.

نتيجة مفتراة: مادام أن الوحي الذي جاء ليوسف قد وصف في كتاب الله بصيغة الجمع، فهناك – حسب منطقنا المفترى- طرف خفي على الناظرين شارك في تحقيق ذلك الوحي على أرض الواقع:

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (12:15)

تفصيل الدليل الثاني: لو عدنا إلى قصة موسى في نهاية رحلته مع بني إسرائيل عند باب الأرض المقدسة، سنجد بأن موسى قد ترك القوم الفاسقين يتيهون في الأرض أربعين سنة مادام أن الله قد حرم عليهم دخولها طوال تلك الفترة، فكان أو ما فعل هو أن يذهب وفتاه إلى مجمع البحرين:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (18:60)

ليكون السؤال الآن هو: لماذا انطلق موسى قاصدا مجمع البحرين؟

رأينا المفترى: لما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة على القوم الجبارين من بابها، ولما كان موسى يعلم يقينا بأن دخول باب الأرض المقدسة ممكن فقط بواسطة مفتاحها (التابوت)، كان يعلم أيضا بأن هذا التابوت ليس من حق بني إسرائيل ليتركه في أيديهم، وإنما هو أداة يمكن لبني إسرائيل الاستفادة منها لدخول الأرض المقدسة فقط. لذا، كان لزاما عليه أن يعيد هذا التابوت إلى أصحابه الحقيقين، ويطلب منهم معاونة بني إسرائيل بعد انقضاء فترة التيه في دخول الأرض المقدسة. لذا انطلق موسى – نحن نتخيل – باحثا عن ذلك الرجل الذي سيرشده إلى أصحاب التابوت الحقيقين. فكانت رحلته الثانية مع العبد الصالح إلى سبأ، حيث قتل صاحب موسى ذلك الغلام الذي قال لوالديه أف لكما، وكاد أن يرهقهما طغايانا وكفرا. فعلم موسى بأن الإرادة الإلهي لا محالة نافذة بأن يبدل الأبوين المومنين خيرًا من ولدهما المقتول زكاة وأقرب رحما:

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (18:80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)

فحصل العلم يقينا عند موسى بأن التابوت يجب أن يكون في هذا البيت الذي ينتظر مولودًا جديدًا، سيكون رسولًا في قومه، ونبيا لبني إسرائيل يعينهم في العودة الشرعية إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. فكان لقمان (رسول سبأ)، ووالد نبي الله داوود الذي قتل جالوت في تلك المواجهة العظيمة بين الطرفين، قال تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2:248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2:249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (2:250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (2:251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (2:252)

السؤال: من هو داوود؟ من يدري!!


المدّكرون: رشيد سايم الجراح وآخرون

بقلم: د. رشيد الجراح

تاريخ النشر: 

هناك تعليقان (2):

  1. دكتور رشيد هل هناك علاقة دم بين إلياس وأيوب وعمران والد لقمان ؟
    أما بالنسبة للفلك والسفينة والجوار المنشئات في البحر كالاعلام فلو طالعت النصوص القرءانية ستجد أن الفلك ليس حتما غواصة كقوله ( سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) وقوله ( فإذا ركبوا في الفلك وجرين بها بريح طيبة جاءتها ريح عاصف) أي أن الفلك تؤثر فيها الرياح مما يدل أنها ليست غواصة داخل الماء.
    فما قولكم

    ردحذف
  2. شكرا على هذه الفائدة العظيمة يا دكتور وعلى هذا التدبر الرائع الذي دائما يفتح اذهاننا لأشياء كبيرة في هذا الكون الواسع...

    ردحذف