نظرية الأمانة - الجزء الرابع




الأمانة: الجزء الرابع

افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة أن الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فكان ظلوما جهولا هي النفس التي سواها الله، والتي ألهمها فجورها وتقواها:



وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)

وهي التي يتوفاها الله بنفسه في النوم وفي الموت:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

وحاولنا الفصل بيننا نحن من جهة وبين أنفسنا من جهة أخرى، وذلك لأنه في حين أن الله هو من يتوفى الأنفس بنفسه  (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ) إلا أن ملك الموت هو الذي يتوفانا نحن:

قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

وهذا الفصل واضح في السياقات التي تتحدث عن ما سيحل بنا في يوم القيامة. فنحن مأمورون حينئذ أن نذهب لنخرج أنفسنا:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

السؤال: من نحن؟ وما هي أنفسنا التي سنخرجها؟ وكيف سنخرج (نحن) أنفسنا (تلك)؟

وسيكون ذلك ضرورة لا مفر منها لأن تلك النفس هي التي ستحاسب حينئذ على ما كسبت:

الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

وذلك لأننا كنا مأمورين في الحياة الدنيا أن نقي أنفسنا وأهلينا نارا وقودها الناس والحجارة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

لتكون النتيجة المفتراة من عند أنفسنا هي أن النفس من ممتلكات الشخص كما الأهل، فنحن مأمورون بصريح اللفظ القرآني بالمحافظة عليها كمحافظتنا على أهلينا (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).

وبمثل هذه الافتراءات التي زعمناها من عند أنفسنا بناء على فهمنا للسياقات القرآنية التي ظننا أنها ذات علاقة بفحوى الموضوع، خلصنا إلى طرح التساؤلات التالية:

- ما هي النفس إذن؟

- متى عرضها الله على السموات والأرض والجبال ليحملنها؟

- كيف أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها؟

- لماذا أشفقن منها؟

- كيف أشفقن منها؟

- متى عرضت الأمانة على الإنسان؟

- لماذا قَبِل الإنسان على وجه التحديد أن يحملها؟

- لماذا لم يشفق منها كما السموات والأرض والجبال مثلا؟

- متى كان الإنسان ظلوما جهولا حتى تصدى لحمل تلك الأمانة؟ ألم يعلِّم الله آدم الأسماء كلها؟ ألم يسجد له الملائكة؟

- لماذا لم يعرض الله تلك الأمانة على الجن مثلا؟

- ألم تكن الجن (كما الإنسان) ظلوما جهولا؟

- الخ.

هذه جملة التساؤلات التي سنحاول الخوض فيها سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق – آمين.

أما بعد،

السؤال الأول: ما هي الأمانة؟

جواب: إنها النفس التي ألهمها الله فجورها وتقواها

سؤال: لماذا؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنها هي التي تعطي للإنسان حرية الاختيار فلا يعود مسخرا في شيء. فنحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الإنسان يمتلك حرية مطلقة في إرادته و مشيئته و أفعاله و أقواله و تفكيره وحتى خلجاته، فلا يؤثر عليه في ذلك أحد حتى الإله نفسه. فالإله يطلع على ذلك كله لكنه لا يتدخل فيه مطلقا. وبهذا ينتفي فعل الإجبار، ويصبح من حق الإله أن يحاسب الإنسان على كل ما بدر منه (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان: جدلية التسيير والتخيير،  وهل لعلم الله حدود؟ جدلية العقل والقلب).

ليكون المشهد – كما نفهمه- على النحو التالي: إن قبول حمل الأمانة هو – نحن نزعم القول- ما جعل الإنسان عرضة للمحاسبة، فلو لم يقبل الإنسان حمل الأمانة لما حوسب على ما يصدر منه. وانظر – إن شئت- في السياق الأوسع الذي جاءت فيه آية قبول الإنسان حمل الأمانة:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (73)

نتيجة ما دام أن الإنسان قد حمل الأمانة فإن النتيجة الحتمية هي الفصل بين من لا يصونها (الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) ومن يرعاها حق رعايتها (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: مادام أن حمل الأمانة سينتج عنه التقابل بين فئتين من الناس، لذا وجب مسائلتهم عنها وبالتالي محاسبتهم عليها، فكانوا نتيجة ذلك عرضة للعذاب والثواب. لنخلص إلى القول بأنه لولا قبول الإنسان حمل الأمانة، لما كان – نحن نظن- عرضة للعقاب.

الدليل

لابد من التنبيه بداية أن النفس هي صفة مشتركة بين الإله والإنسان، فكما للإنسان نفس فإن للإله نفس وإن اختلفت في الماهية، وهذا واضحا من سياق الحوار الذي دار بين الإله نفسه وعيسى بن مريم، فانظر – إن شئت- في قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)  

لذا، نحن سنتجرأ على تقديم الافتراء الخطير جدا التالي: لما قضى الله على كل نفس أن تذوق الموت:

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

فإننا لا نستثنى أن تكون نفس الله تذوق الموت كذلك – فهل هناك أخطر من هذا القول؟ من يدري؟!!!

هذا ما سنقحم أنفسنا فيه لاحقا بعد أن تبين مجموعة من منطلقات التفكير التي ننوي أن نضعها بداية بين يدي القارئ الكريم لتمحيصها. وهي التي سيتم بناء عليها محاكمة مثل افتراءاتنا هذه التي لا نشك قيد أنملة بأنها خطيرة جدا  لما ستكون عواقبها على العقيدة التي نؤمن بها، والتي لا نطلب من الآخرين الإيمان بها ما لم يجدوا أن الدليل من كتاب الله يثبتها، وبخلاف ذلك لا تعدو أكثر من فلتات فكرية قد لا تساوي ثمن الحبر الذي خطت به ناهيك عن الجهد الذي انفق فيها.

السؤال الثاني: متى عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال ليحملنها؟

جواب مفترى: بداية لابد من لفت الانتباه إلى أحد الاستنباطات البديهية التي يمكن الخروج بها من الآية الكريمة نفسها، ألا وهو أن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال قد سبق عرضها على الإنسان، وأن قبول الإنسان بحمل الأمانة قد جاء بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها. انظر الآية الكريمة جيدا من هذا الجانب، مركزا على تتابع الأحداث الذي يمكن استنباطه منها:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

السؤال: مادام أن قبول الإنسان حمل الأمانة قد جاء بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، فمتى إذن حصل ذلك؟

رأينا: لو دققنا في النص القرآني التالي لوجدنا أن خلق السموات والأرض قد بدأ في يوم من الأيام:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

بعد أن كانتا (أي السموات والأرض) رتقا، فتم ذلك بالفتق:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)

وأن ذلك قد استمر ستة أيام:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3)

وحصل ذلك عندما كان عرشه على الماء:

وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)

وأن ذلك قد سبق خلق الإنسان، وذلك لأن خلق الإنسان قد جاء بعد أن خلق الله لنا ما في الأرض جمعيا ثم استوى إلى السماء ليسوهن سبع سموات:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

ومن الأرض مثلهن:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

فلقد تم إعداد الأرض كخطوة تحضيرية لوراثتها من قبل البشر الذي اتخذ الإله قراره أن يستخلفه فيها:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

فالقرار الإلهي بخلافة البشر حصل - نحن نظن - بعد كانت الأرض قد وجدت من ذي قبل. وبدليل أن السموات والأرض كانتا موجودتان من ذي قبل عندما علم الله آدم الأسماء كلها وعرضهم على الملائكة:

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

لذا لابد نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال قد سبق القرار الإلهي باستخلاف بشر في الأرض، لنخلص من هذا النقاش بالافتراءات التالية:

نتيجة مفتراة (1): يخلق الله السموات والأرض والجبال قبل خلقه البشر

نتيجة مفتراة (2): يعرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال

نتيجة مفتراة (3): تأبى السموات والأرض والجبال أن يحملنها

نتيجة مفتراة (4): يأتي خلق البشر منفصلا عن خلق السموات والأرض في الوقت وفي الغاية

السؤال المحوري في هذا النقاش: لماذا عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال؟

نحن نظن أن خلق السموات والأرض كان أمرا عظيما بحد ذاته، بدليل أن خلقهن أكبر من خلق الناس:

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)

فالذي كان قادرا على خلق السموات والأرض لا يعجزه خلق البشر. وانظر – إن شئت- في السياق القرآني التالي مثلا:

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا (99)

نتيجة: مادام أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، ومادام أن من هو قادر على خلق السموات والأرض لا يعجزه خلق من هو دون ذلك، فيجب إذن أن نتدبر بداية الحكمة من خلق السموات والأرض الذي استمر ستة أيام:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3)

ولو حاولنا ربط هذه الحقيقة القرآنية مع ما جاء في الآية الكريمة التالية التي تدلنا على أن يوما واحدا عند ربك كألف سنة مما نعد:

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)

لخلصنا إلى النتيجة الرياضية البسيطة وهي إن خلق السموات والأرض قد استمر ستة الآلاف سنة مما نعد (6 ₓ 1000) بالرغم أن هذا الخلق (على كبره) لم يكن ليمس الله من جراءه لغوب:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38)

إن ما نحاول أن نجهد أنفسنا للوصول إليه هو أن خلق الإنسان (بالمقارنة بخلق السموات والأرض) هو على الله هين:

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)

السؤال: لماذا قضى الله هذه الفترة الزمنية الطويلة في خلق السموات والأرض مادام أن خلقهما أكبر من خلق الناس؟ ولماذا قضت مشيئة الله بأن يخلق بشرا (كخلق هين عليه) بعد أن كان قد اشتغل بخلق من هو أكبر من ذلك بكثير وهو خلق السموات والأرض؟

رأينا المفترى الخطير جدا الذي نظن أنه غير مسبوق والذي سيكون له عواقب جمة على الفهم: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن خلق السموات والأرض وما بينهما لم يكن من أجل الإنسان كما يزعم معظم من سبقنا من سادتنا العلماء أهل الدراية والرواية. فالله لم يخلق السموات والأرض – نحن نفتري القول- من أجل الإنسان أبدا.

السؤال المربك: لماذا خلق الله السموات والأرض وما بينهما إذن؟

رأينا: عندما خلق الله السموات والأرض، لم يكن ليتخذ من ذلك لهوا:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

وهو بكل تأكيد لم يكن لاعبا:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)

السؤال: لماذا إذن خلق الله السموات والأرض أصلا؟ يسأل صاحبنا مستعجلا الإجابة.

رأينا المفترى: لكي يعرض عليهن حمل الأمانة:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

نتيجة مفتراة: خلق الله السموات والأرض والجبال كخلق عظيم (أكبر من خلق الناس) وذلك من أجل أن يعرض عليهن حمل الأمانة.

السؤال: كيف حصل ذلك؟

رأينا: ما أن خلق الله السموات والأرض حتى كان ذلك خلقا عظيما بدليل أنه أكبر من خلق الناس، وهناك تمت تسويتهن سبع سموات ومن الأرض مثلهن:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

وهناك عرض الله الأمانة عليهن:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

السؤال: كيف تمت عملية العرض؟

تخيلات: عندما كانت السموات لازالت دخانا، حصل الاستواء الإلهي إلى السماء، وهناك صدر الأمر الإلهي الأول للسماء وللأرض بأن يأتيا طوعا أو كرها:

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ...

وهناك كان القرار الذي اتخذ من قبل السموات والأرض على نحو أن يأتيا طوعا. وانظر – إن شئت- في تتمة الآية الكريمة السابقة:

... قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)

فما كان من الإله إلاّ أن قضاهن سبع سموات ومن الأرض مثلهن:

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

النتيجة: أتت السموات والأرض طائعين.

نتيجة مفتراة: مادام أن السموات والأرض قد أتين طائعين، لذا لا يمكن لهذه المخلوقات التي أتت طائعة أن تعصي الله في شيء:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

ولكن لو دققنا في هذه الآية الكريمة جيدا لوجدنا شيئا عجيبا يتمحور حول السؤال المثير التالي: إذا كان من في السموات والأرض لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)، أليس الإنسان جزء من ذلك؟ أليس نحن جزء ممن في السموات والأرض؟ فما بالنا نحن (الناس) نستكبر عن عبادته ونستحسر؟

جواب: إننا نفتري القول من عند أنفسنا أننا لسنا جزءا ممن في السموات والأرض مادام أننا يمكن أن نستكبر عن عبادته ويمكن أن نستحسر؟

سؤال: من هم هؤلاء الذين في السموات والأرض الذي لا يستكبرون عن عبادته إذن؟

جواب: نحن نظن أنهم من جاء ذكرهم في الآية الكريمة التالية:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

لتكون الصورة على النحو التالي: يخلق الله السموات والأرض من أجل عرض الأمانة عليهن ليحملنها، ثم يخلق لنا ما في الأرض جميعا لكي يكون الإنسان هو خليفة الله في تلك الأرض. فأصبح ما في السموات والأرض قد خلق من أجل أن يسخره الله لنا:

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

فأصبح كل ما في السموات والأرض منزوع الإرادة ليكون مسخرا لخليفة الله في الأرض (البشر). وهذه تشمل كل ما ورد ذكره في الآيات الكريمة التالية:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ

لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ

لكن هذا النقاش يوصلنا في نهايته إلى ما نحاول أن نجهد أنفسنا للوصول إليه وهو النتيجة التالية التي نظن أنها مهمة جدا جدا وغير مسبوقة، إلا وهي: بالرغم أن الله قد سخر لنا كل ما في السموات والأرض إلا أنه لم يسخر لنا السموات والأرض أنفسهن. لذا وجب التمييز بين السموات والأرض أنفسهن من جهة وما في السموات والأرض من جهة أخرى. فصحيح أن الله قد سخر لنا ما في السموات والأرض جميعا لكنه في الوقت ذاته لم يسخر لنا السموات والأرض أنفسهن.

السؤال: لماذا لم يسخر الله لنا السموات والأرض أنفسهن؟

جواب: لو دققنا في اللفظ على مساحة النص القرآني جيدا لوجدنا أن تسخير ما في السموات والأرض قد جاء من ذي قبل، لنخرج بالافتراء التالي:

1.      خلق الله السموات والأرض ولم يسخرهما لنا

2.      خلق الله ما في السموات والأرض وسخره لنا

السؤال: ما الذي يمكن أن نخرج منه من هذا الطرح؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن القرار الإلهي بخلق السموات والأرض وما فيهن قد جاء من أجلين هدفين منفصلين.

1.      خلق الله ما في السموات والأرض جميعا وسخر ذلك كله لنا لتكون في خدمة المخلوق الذي اتخذ الله قراره بأن يكون خليفته في الأرض وهو البشر (آدم)

2.      خلق الله السموات والأرض من ذي قبل من أجل غاية ما، لذا لم يسخرهما لهذا المخلوق. ليكون السؤال الحتمي هنا هو: لِم خلق الله السموات والأرض أصلا؟

رأينا المفترى: من أجل حمل الأمانة

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

السؤال: لماذا أبين أن يحملنها؟

جواب: لأنهن أشفقن منها

السؤال: كيف ذلك؟

باب : أشفقن

نحن نظن مفترين القول من عند أنفسنا بأنه لا علاقة لمفردة "أشفق" المشتقة من الشفقة بالرحمة أو الرأفة على الآخرين، ولكنها تخص شفقة "الكائن" على نفسه. بمعنى أن من يشفق فهو يشفق على نفسه فقط، بسبب وقوع خطر محتمل عليه، قد يسبب له المتاعب وبالتالي العواقب التي ربما تكون وخيمة في نهاية المطاف. فها هم المجرمون مشفقون على أنفسهم مما رءاوه بسبب سوء أعمالهم:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)  

فلا أظن أن شفقتهم هذه موجهة لغير أنفسهم.

و هاهم من يخشون ربهم مشفقون منها على أنفسهم

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ  (28)

إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ  (57)

ولا شك أن هناك من يخاف يوم الساعة و يشفق على نفسه منها:

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) 

يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) 

نتيجة (1): المجرمون والظالمون يشفقون على أنفسهم بعد فوات الأوان، فلا تنفعهم شفقتهم تلك

نتيجة (2) المؤمنون الذين يخشون ربهم يشفقون على أنفسهم قبل فوات الأوان

(دعاء: اللهم أسألك أن أكون ممن يشفق على نفسه قبل فوات الأوان – آمين)

نتيجة مفتراة : نحن نظن أنه عندما تم عرض الأمانة على السماوات و الأرض والجبال، فقد تم ذلك بطريقة العرض (أي التقديم مع الشرح)، فعلمن جميعا ما يمكن أن تكون تبعات حمل الأمانة، عندها أخذتهم الشفقة على أنفسهم من هول ما يمكن أن يحدث لهم إن هم حملوها. و لذلك رفضن رفضا قاطعا لا رجعة بدليل أنهن (فَأَبَيْنَ)


باب (  فَأَبَيْنَ )

السؤال: لماذا جاء في النص القرآني أن السموات والأرض قد أبين أن يحملنها؟

رأينا: عندما يحدث الإباء من قبل كينونة ما فإن ذلك يدل على الرفض القاطع:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

وهو يدل كذلك على الرفض القاطع الذي لا رجعة فيه، فهذا إبليس هو من أبى السجود لآدم:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)

لذا كان قرار إبليس في هذا الجانب قطعيا لا رجعة فيه، وإلا لربما حصل تراجع من إبليس عن موقفه الأول كما فعل آدم، فلقد وقع آدم في المعصية (التي ربما نظن أنها أكبر من حيث الطبيعة من معصية إبليس)، ولكنه بالرغم من ذلك فهو لم يأب. لذا رجع تائبا إلى ربه فاستغفره فغفر له. ولكن لما كان إبليس قد أبى، فقد استحال مع ذلك احتمالية الرجوع عن ذلك الموقف.

والإباء يكون (نحن نظن) صادرا من العقيدة الراسخة في القلوب:

كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

ويتم ذلك بعد أن تقدم لهم الآيات، فيعرفونها

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

ورؤيتها:

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا (99)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)

وقد يأتي فعل الإباء بعد القيام بأفعال معاكسة متكررة، فالله هو من يأبى إلا أن يتم نوره بعد أن أصر الظالمون على أن يطفئوا نور الله بأفواههم:

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)

ليصبح المشهد في أذهاننا على النحو التالي:

يخلق الله السموات والأرض وما بينهن فيسويهن سبعا:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

يتم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، فيأتي القرار من قبل هذه المخلوقات العظيمة بالرفض القاطع، ويكون السبب في ذلك هو إشفاقهن منها:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: تختار السموات والأرض والجبال أن لا يتحملن تبعات حمل الأمانة بالثواب والعقاب، فتبقى الأمانة (معلقة) لا حامل لها.

انتهى هذا المشهد، ويبدأ فصل جديد في الخلق وهو القرار الإلهي باستخلاف بشر في الأرض، فيكون القرار الإلهي على نحو أن يكون هذا المخلوق هو خليفة الله في الأرض:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

ويكون ذلك ليس من أجل الأرض نفسها ولكن من أجل ما في الأرض جميعا:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

وهنا تظهر الملائكة دهشتها واستغرابها وربما بعض الاحتجاج على ذلك:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

ولكن الله الذي هو أعلم، يعمد إلى تعليم آدم بنفسه:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

وبعد أن أقر الملائكة لآدم بهذا الفضل الإلهي، فسجدوا له، جاء القرار الإلهي أن يسكنه وزوجه الجنة، فيطلب منها أن يأكلا منها رغدا حيث شاءا باستثناء الاقتراب من شجرة واحدة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)

ويحذر آدم في الوقت ذاته من عداوة الشيطان له ولزوجه:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)

لكن آدم ينزل عند رغبة الشيطان فيذوق وزوجه الشجرة:

فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)

عندها يأتي العقاب الإلهي لآدم وزوجه على فعلتهما تلك على نحو الهبوط منها:

قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

تنتهي القصة هناك

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كانت معاقبة آدم وزوجه على فعلتهما هي الهبوط من الجنة، وكفى.

السؤال: كيف سيعود آدم وزوجه إلى تلك الجنة التي هبطا منها؟ وكيف سيتحصل آدم على العلم الذي نسيه مرة أخرى؟

رأينا المفترى: نحن نعتقد أن آدم لم يكن يستطيع العودة إلى الجنة التي فقدها وذلك لأنه قد خسر العلم الذي كان يؤهله للسكن فيها ألا وهو علم الأسماء الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه.

تخيلاتنا: نحن نظن أن الذي حصل كان على النحو التالي: خلق الله ما في الأرض جميعا لآدم وزوجه، وجعل آدم خليفته في الأرض، فسخر له ما في الأرض جميعا وإن لم يكن قد سخر له الأرض نفسها. ومن أجل ذلك قام بتعليمه علم الأسماء كلها، فأسجد له الملائكة جميعا ليكونوا تحت تصرفه، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه، فتخلف عن الركب إبليس فقط. عندها حذر الله آدم وزوجه من النزول عند رغبة الشيطان بالاقتراب من تلك الشجرة وذلك لأن إبليس قد صرّح في رده على سؤال الإله بعداوته لآدم:

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)

لكن آدم وزوجه نزلا عند رغبة الشيطان، فذاقا الشجرة وأكلا منها. فحصلت الكارثة عندما لم يكن لآدم عزم، فقد نسي ما علمه الله إياه:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

جاء القرار الإلهي بأن يهبط آدم وزوجه من تلك الجنة مادام أنهما قد خسرا العلم

انتهت القصة

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: كان بإمكان آدم أن يكتفي بما حصل حتى اللحظة، وتنتهي القصة هناك. ولكن ما الذي حصل بعد ذلك؟

أولا: بعد أن رضخ آدم وزوجه عند طلب الشيطان منهما الاقتراب من الشجرة، أصبحا ظالمين لأنفسهم:

قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

نتيجة: أصبح آدم ظالما لنفسه

ثانيا، مادام أن آدم فد رضخ عند طلب الشيطان فقد نسي العلم الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

نتيجة: مادام أن آدم قد خسر علم الأسماء الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه عندما نسيه، فقد أصبح جهولا.

نتيجة 2: مادام أن آدم قد نسي، فهو لم يعد بشرا خالصا، فقد أصبح إنسانا (من النسيان)، هابطا من الجنة لا يستطيع العودة إليها.

السؤال: ما الخيارات المتاحة أمام آدم بعد أن أصبحت حالته ناسيا ظالما جاهلا؟

رأينا المفترى الخطير جدا: عندها تقدم آدم من تلقاء نفسه بالعرض على الإله لحمل الأمانة:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

 السؤال: لماذا قبل الإنسان (آدم) حمل الأمانة؟

جواب: لاستعادة العلم الذي خسره لكي يعود مؤهلا للعودة مرة أخرى إلى الجنة بعد أن خسرها.

السؤال: كيف سيكون ذلك؟

جواب: بدأ ذلك بأن تلقى آدم من ربه كلمات:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

ومادام أن آدم قد قبل حمل الأمانة، فقد قبل حمل النفس التي سواها الله وألهمها فجورها وتقواها:

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)

فأصبح آدم نتيجة ذلك (أي حمله الأمانة) قادرا على الاستقلال التام عن ربه، أي أصبح مستقلا بإرادته ومشيئته وقوله، فهو يملك الأداة التي تؤهله لهذا الاستقلال ألا وهي النفس، وذلك لأن الله هو من ألهمها فجورها وتقواها:

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)

عندها فقط أصبح الإنسان يستطيع أن يزكيها ويستطيع أن يدسها:

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)

ولو راقبنا هذه الآيات في سياقها الأوسع لوجدنا ارتباطها المباشر بالسماء والأرض:

وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)

 نتائج مفتراة

1.      السماء بنيت

2.      الأرض طحيت

3.      النفس سويت

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كان ذلك كله قبل أن يتم خلق الإنسان، بدليل أن الله لم يشهدنا خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسنا:

مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

الفرق بين الخلافة والأمانة

بداية لابد من التمييز في سياق حديثنا هذا بين الخلافة التي خلق الله بشرا من أجلها:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

والأمانة التي تصدى الإنسان لحملها عندما أصبح ظلوما جهولا:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

السؤال: ما هي الخلافة؟

رأينا: إنها الربوبية

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الإله قد خلق بشرا ليكون خليفته على الأرض، فيكون ذلك البشر هو رب على الأرض

السؤال: ما معنى ذلك؟

جواب : نحن نظن أن الإله قد أعطى هذا البشر (الخليفة) تفويضا بأن بقوم بتدبير شئون الأرض، فهو الذي خلق لنا ما في الأرض جميعا:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

وهو الذي سخر لنا ما في السموات وما في الأرض جميعا:

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

وبذلك أصبح هذا البشر هو  رب الأرض. وحتى لا يستعجل القارئ بالخروج باستنباطات من عند نفسه حول ما نزعم وجب التطرق إلى موضوع الإلوهية والربوبية مرة أخرى، لنفتري القول هنا بأن هذا البشر وإن كان هو رب الأرض إلا أنه ليس بإله، ولكن الله الذي هو رب السموات والأرض هو الإله الواحد الأحد.

باب : الإلوهية و الربوبية

لقد افترينا القول سابقا بأن الربوبية منفصلة تماما عن الإلوهية، فالإلوهية شيء و الربوبية شيء آخر تماما. وزعمنا الظن بأنه يمكن لأي أحد أن يكون ربا ، و لكن ليس هناك إلا اله واحد فقط ، و يمكن أن ندلل على ذلك بالكثير من الآيات الكريمة، فلقد وردت مفردة (رب) مصاحبة للبشر، فأصبح من الممكن أن يكون هناك أرباب كثيرون و لكن لا يوجد سوى إله واحد:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ  (64)

تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ  (31) 

فبالرغم من تعدد الأرباب، إلا أن هناك إله واحد أحد:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ  (39)

نتيجة مفتراة: مادام أن الإله هو رب فإن الإلوهية تحمل في ثناياها الربوبية، فالإلوهية توجب و تلزم وجود الربوبية، فمن هو إله يكون ربا. و لكن الربوبية – بالمقابل- لا توجب و لا تلزم وجود الإلوهية، فمن هو رب لا يستطيع أن يكون إله.

نتيجة 2: الرب أدنى منزلة من الإله. وانظر إن شئت في قوله تعالى:

وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ

إتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ

ثالثا، نحن نجد الكثير من الآيات التي يصف الله بها نفسه بأنه رب السموات والأرض وما بينهما وأنه رب المشرق والمغرب وأنه رب العرس العظيم وأنه رب العالمين:

رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) 

سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)

قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  (180)

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(182) 

ولكن الملفت للانتباه أننا لا نجد نصا قرآنيا واحدا يصور الله على أنه إله السماوات والأرض و ما بينهما أو أنه إله العالمين أو أنه إله العرش العظيم. وجل ما نجد هو قوله تعالى:

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ  (84)

السؤال: لماذا؟

جواب مفترى: لأن الربوبية هي وظيفة، فالله سبحانه و تعالى هو رب بما يقوم به من تدبير شئون الكون الذي خلقه، فهو الذي يتحكم بالسموات والأرض والعرش، الخ. ولكن الإله هو من له حق العبادة:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)

فكل الذين من دون الله (وإن كانوا أربابا) لا يستحقون أن يعبدوا لأن العبادة حق خالص للإله الواحد الأحد

نتيجة: الخلافة هي ربوبية الخليفة على ما استخلف فيه، لذا فهو صاحب القرار في ذلك (أي صاحب الحكم). وانظر – إن شئت- في خلافة داوود:

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

نتيجة مهمة جدا: من كان خليفة فهو صاحب الحكم في ما استخلف فيه.

السؤال الكبير جدا جدا: لماذا يجب علينا جميعا عبادة الإله الواحد الأحد وعدم عبادة من هم دونه؟

باب العبادة: تساؤلات

-          لماذا خلق الله آدم؟

-          لماذا استخلفه في الأرض؟

-          لماذا أخرجه من الجنة وقد كان مستخلفا فيها؟

-          لماذا سيكافئ الله الإنسان بالثواب والعقاب؟

-          ما يضر الإله لو أنه لم يخلقنا أصلا؟

-          ما الذي سيكسبه الإله من معاقبتنا؟

-          فهل تضره معاصينا؟

-          وهل تنفعه طاعتنا؟

-          ما الذي يجري؟

أليست هذه هي الأسئلة الوجودية التي أعيت العقل البشري؟

رأينا: تعالوا بنا نخرّص حول هذه الإجابات من هذا المنظور الذي نطرحه والذي نظن أنه غير مسبوق، لننظر ما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف.

هذا ما سنحاول النبش فيه لاحقا بحول الله وتوفيقه، سائلين الله وحده أن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون الذين ما انفكوا يوما عن محاولة أن يطفئوا نور الله بأفواههم. ولكن لما كانت عقيدتنا أن الله هو من أبى إلا أن يتم نوره فإننا لا نعدم الرجاء أن يهدينا الله إليه، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم وأن ينفذ مشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، إنه هو الواسع العليم – آمين.

المدّكرون             رشيد سليم الجراح                          محمد عبدالعزيز السيسي                  علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح

15 حزيران 2014