تقدم هذه المقالة تحليلًا معمقًا لشخصية "الغلام" الذي قتله صاحب موسى، مفترضة أنه انسلخ من آيات الله التي أوتيها وهو صبي، مما "حق عليه القول". تقارن المقالة بينه وبين شخصية يحيى بن زكريا لتوضيح الفارق بين البر والعقوق. تنتقل بعدها إلى تحليل قدرة صاحب موسى على "تأويل الأحاديث" كعلم لدنيّ مكّنه من معرفة الأحداث المستقبلية، مثل قدوم الملك الغاصب. تفصّل المقالة حادثة خرق السفينة، مقدمة تفسيرًا لغويًا دقيقًا لمفاهيم "الأهل" و"الأصحاب"، والفرق بين "الفقير" و"المسكين"، وطبيعة فعل الملك "غصبًا" وليس "كرهًا"، لتبني فهمًا متكاملًا لأبعاد القصة.
فهرس المقالة
تحليل حالة الغلام الذي حق عليه القول
افترينا القول من عند أنفسنا في الجزء السابق من هذه المقالة أن الغلام الذي قتله صاحب موسى في الطريق قد خرج من بيت أبويه المؤمنين معتزلًا لهما، بعد أن قال لهما "أُفٍّ لَّكُمَا"، منكرًا بالبعث من بعد الموت (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)، ناعتًا كلامهما بأنه من باب ما جاء في أساطير الأولين (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ):
﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿١٧﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿١٨﴾﴾
(سورة الأحقاف: ١٧-١٨)
فكان من الذين حق عليهم القول، فكان – نحن نفتري الظن- من الذين قيّض الله لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم، بعد أن كان من الذين ران على قلوبهم ما دام أنّه من المكذبين الذين إذا تتلى عليهم آيات الله قالوا أساطير الأولين.
وما دام أن القول قد حق عليه، فهو إذًا من الكافرين الذين لن يؤمنوا. فالإيمان أصبح مستحيلًا بالنسبة لهذا الغلام ما دام أن الله قد قيض له قرينًا، فصدّق ما كان قرينه يحثّه عليه من إنكار البعث، فأصبحت حالته كحالة من هم من شر الدواب.
رأينا: ولكن – بالمقابل- لم يكن أمر الإيمان والكفر محسومًا تمامًا بالنسبة للوالدين بدليل أن الخشية من أن يرهقهما هذا الغلام طغيانًا وكفرًا قد كانت لازالت قائمة. لذا نحن نعتقد أن أبواه كانا على استعداد لتقديم بعض التنازلات لولدهما (هذا الغلام) من أجل أن يردّوه إلى البيت الذي خرج منه غاضبًا، مدفوعين بالعاطفة الجامحة في حب ولدهما هذا، ولو حصل ذلك لكانت النتائج كارثية على العائلة بأكملها، لأن الغلام حينها (ربما) سيستطيع أن يرهق أبويه طغيانًا وكفرًا.
وجاءت المفاجأة من صاحب موسى الذي كان أسبق إلى ذلك الغلام من والده الذي كان يحاول اللحاق به، فما أن رءاه صاحب موسى حتى أسرع على الفور إلى قتله قبل أن يلحق به والده.
﴿فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾
(سورة الكهف: ٧٤)
عندها فقط كفّ صاحب موسى بقتله لهذا الغلام كارثة أكبر كان يمكن أن تنزل بالعائلة بأكملها لو أن الوالد تمكّن من اللحاق بولده فرده إلى البيت، لأن النتيجة ستكون حينها أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا.
مقارنة بين الغلام ويحيى بن زكريا
ولو تدبرنا النص أكثر لربما استطعنا أن نفتري القول من عند أنفسنا بأن هذا الغلام هو الصورة المعاكسة تمامًا ليحيى بن زكريا. انظر هذا السياق القرآني الخاص بيحيى:
﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴿١٢﴾ وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا ﴿١٣﴾ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ﴿١٤﴾﴾
(سورة مريم: ١٢-١٤)
ونحن نعقد المقارنة بين الاثنين على النحو التالي:
- أولًا، كان هذا غلامًا، كما كان يحيى بن زكريا، غلامًا بصريح اللفظ القرآني.
- ثانيًا، كان يحيى بارًا بوالديه (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) بينما كان هذا الغلام عاقًا لوالديه (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا).
- ثالثًا، كان يحيى هو الوريث الوحيد لوالديه وكان هذا الغلام (نحن نظن) كذلك بدليل أن الإرادة في قتله كانت من أجل أن يبدله ربهما خيرًا منه.
- رابعًا، نحن نظن – مفترين القول من عند أنفسنا- أن هذا الغلام قد آتاه الله الحكم صبيًا كما آتى الله ذلك ليحيى.
- خامسًا، على عكس يحيى بن زكريا كان هذا الغلام (نحن نفتري القول) قد انسلخ من آيات الله.
من هو "الغلام" في القرآن؟
الدليل: كان هذا غلامًا، أليس كذلك؟ لو تفقدنا مفردة غلام في النص القرآني لوجدناها قد جاءت بحق إسماعيل (الغلام الحليم)، وإسحق (الغلام العليم)، ويوسف، والمسيح عيسى بن مريم، ويحيى، والغلامين اليتيمين، وهذا الغلام الذي كان أبواه مؤمنين.
السؤال: من هو الغلام إذن؟
جواب مفترى: لو دققنا في هذه السياقات جميعها لوجدنا أن الغلام هو من كان أبوهما صالحًا، أو لنقل بشكل أكثر دقة أن الغلام هو من كان أهله يتصفون بصفة الإيمان، لنخلص إلى النتيجة المفتراة من عند أنفسنا التي مفادها أن كل من كان غلامًا (ورد ذكره في كتاب الله) فهو قادم من شجرة طيبة، وما شذّ عن هذه إلا هذا الغلام الذي كاد أن يرهق أبويه طغيانًا وكفرًا.
السؤال: كيف كان سيستطيع القيام بذلك؟ كيف سيستطيع غلام لم يبلغ سن التكليف بعد أن يجادل أبويه المؤمنين في البعث وفي أساطير الأولين؟ من أين له أن يعلم بأساطير الأولين؟ وكيف له أن ينكر البعث بهذه السهولة؟ ومن أين جاءه خبر القرون التي خلت من قبله؟
إشكالية التكليف في سن الغلام
وهنا يبرز التساؤل الأكثر خطورة وهو: هل الغلام مكلف أصلًا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نعم، نحن نظن أن التكليف يقع حتى على من كان غلامًا، فالله قد آتى يحيى بن زكريا الحكم صبيًا، وكذلك نطق المسيح عيسى بن مريم بكلمة الحق وهو لازال في المهد صبيًا.
نتيجة مفتراة: لمّا كان هذا غلامًا، فهو لا شك قادم من شجرة طيبة (بيت من المؤمنين). لذا، كان يجب أن يكون بارًا بوالديه، لأنه (نحن نفتري الظن) كان مؤهلًا أن تأتيه الآيات من ربه. ولم يشذ عن ذلك إلا هذا الغلام الذي كان أبواه مؤمنين، فلم يكن بارًا بهما، فكانت الخشية بأن يرهقهما طغيانًا وكفرًا قائمة.
فكان لابد من تطهير تلك الشجرة الطيبة من ذلك الخبث الذي أصابها حتى تبقى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فجاءت الإرادة على نحو أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا.
علم صاحب موسى: تأويل الأحاديث
التساؤل: هل فعلًا كان هذا الرجل (صاحب موسى) يستطيع أن يرى ما ستصير عليه الأمور لاحقًا؟ هل فعلًا كان يعلم أن والد الغلام قادم في الطريق ليلحق بولده ليرده إلى البيت مثلًا؟ فكيف كان يستطيع أن يحيط خبرًا بما لم يحط به غيره كموسى مثلًا؟
الجواب: نعم، بكل تأكيد، كان يستطيع أن يحيط خبرًا بما لم يحط به الآخرون. لأنه يملك العلم بتأويل الأحاديث.
الدليل: نحن نظن أن هذا واضح في تفسيره الذي قدّمه لموسى للأحداث التي قام بها:
﴿قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾
(سورة الكهف: ٧٨)
السؤال: وما معنى تأويل الأحاديث؟
جواب: الإخبار عن ما ستصير عليه الأمور لاحقًا، أو بكلمات أكثر دقة "الإحاطة خبرًا" بما لم يحط به الآخرون.
الدليل من قصة يوسف
نحن نجد الدليل على ذلك في قصة يوسف خاصة في الآية الكريمة التالية:
﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...﴾
(سورة يوسف: ٣٧)
فلقد كان يوسف – كما نفهم من الآية الكريمة- يستطيع أن يؤول الأحاديث لصاحبيه في السجن، فلا يأتيهما طعام يرزقانه إلا نبأهما بتأويله قبل أن يأتيهما.
السؤال: وكيف كان يقوم يوسف بذلك؟
جواب: من خلال العرش.
فملخص القول هو أنّ من كان عنده عرشًا (كيوسف وكتلك المرأة التي كانت تملك قومها في سبأ) يستطيع أن يستطلع الأخبار قبل أن تصل إلى الناس، لأنه يستطيع أن ينظر في ذلك العرش فيرى ما هو قادم من بعيد. وبكلمات أكثر دقة نقول أن العرش هو عبارة عن شاشة مراقبة للأحداث عن بعد.
هل كان صاحب موسى يملك عرشًا؟
السؤال: وهل كان هذا الشخص (صاحب موسى) يملك عرشًا؟
جواب: نعم. نحن نجد الدليل على ذلك في قصة خرقه السفينة. فهو كان يعلم أن هناك ملِك قادم في الطريق يأخذ كل سفينة غصبًا:
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾
(سورة الكهف: ٧٩)
فتنة العلم اللدنيّ
لو دققنا – بداية- في علم هذا الشخص (صاحب موسى) لربما تأكد لنا ما افتريناه من قول في بعض الأجزاء السابقة من هذه المقالة بأن الناس قد فتنوا به لدرجة أن رفعوه من منزلة البشرية إلى منزلة الإلوهية عندما نعته بعض اليهود بأنه ابن الله. فلقد كان الدافع عندهم قويًا جدًا بأن يجعلوا منه ابن للإله وذلك لأن علمه يكاد يكون إلهيًا.
منطقنا المفترى: نحن نتخيل أنه كان الأولى بهذا الرجل أن يتحدث مع موسى (خلال تلك الرحلة) عن شيء من تفاصيل قصة موسى المثيرة... ولكن على الرغم من جميع هذه الأحداث المثيرة في حياة موسى إلا أن هذا الرجل (صاحب موسى) لم يسأل موسى عن شيء منها... لماذا؟ نحن نظن أنه لما كان هذا الرجل (صاحب موسى) يعلم تفاصيل قصة موسى كلها، لم يكن يحتاج من أحد (حتى لو كان موسى نفسه) أن يقص عليه شيئًا منها.
نتيجة: إن هذا العلم الذي يمكِّن صاحبه من الإحاطة خبرًا بما لم يحط به غيره هو علم إلهي قد يعلمه الله لبعض عباده.
تحليل حادثة السفينة
إن مراد القول بعد هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء هو القول بأن هذا الرجل (صاحب موسى) كان يعرف من يملك السفينة، وكان يعلم ما هي حرفتهم، وكان يعلم أن هناك ملك قادم في الطريق ويعلم من هو ذاك الملك، وما كان ذاك الملك سيفعل بسفينة المساكين وغيرها من السفن، ويعلم السبب الذي من أجله كان يأخذ كل سفينة غصبًا.
باب السفينة: لماذا كانت "السَّفينة" معرفة؟
لو تدبرنا قصة موسى مع هذا العبد الصالح، لما ترددنا في الخروج بالاستنباط بأن أول فعل قام به الرجل مع موسى هو ركوب السفينة.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن السفينة التي ركب فيها موسى مع صاحبه هي السفينة نفسها التي ركبها موسى مع غلامه بعد أن بلغا مجمع البحرين ولم يجدا الرجل هناك في المرة الأولى عندما مضيا حقبًا.
السؤال: كيف كان لموسى وفتاه أن يمضيا حقبًا؟ أو لنقل كيف كانا سيمضيان قدمًا في البحر؟
جواب: لابد من ركوب سفينة.
الدليل: لو حاولنا أن نقرأ بشيء من التدبر الآية القرآنية نفسها التي جاء فيها ذكر السفينة لأول مرة، ربما نجد الدليل على زعمنا هذا جليًا:
﴿فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا...﴾
(سورة الكهف: ٧١)
السؤال: ألا تجد - عزيزي القارئ- أن مفردة السفينة قد جاءت معرفة بأداة التعريف (السَّفِينَةِ) وهي تذكر لأول مرة؟ ألم يكن الأولى بأن يأتي النص القرآني على نحو: "فانطلقا حتى إذا ركبا في سفينة..."؟
نتيجة مفتراة: لابد أن السفينة التي ركبوها كانت معروفة بدليل أنها وردت بالنص القرآني معرفة عندما ذكرت لأول مرة (السَّفِينَةِ). لذا نحن نظن أن موسى كان له عهد سابق بهذه السفينة، وكان ذلك – برأينا- عندما ركبها مع فتاه في بداية اليوم وانطلقا فيها ليبحثا عن هذا الرجل في عرض البحر.
تخيلات من عند أنفسنا عن خرق الرجل صاحب موسى لسفينة المساكين: نحن نتخيل القصة وقد حصلت على النحو التالي: يترك موسى فتاه عند الصخرة التي هي عند مجمع البحرين، وينطلق مع صاحبه الجديد بركوب السفينة في عرض البحر... وما أن يصل موسى مع صاحبه إلى المحطة التي ينويان النزول عندها حتى أكمل الرجل إحداث ذلك الخرق في السفينة برجله، محدثًا فيها خرقًا بسيطًا لا يُغْرِق السفينة على الفور، فلا يلحظ ما فعله صاحب موسى إلا موسى نفسه الذي كان تابعًا له.
باب أهل السفينة: الفرق بين "الأهل" و"الأصحاب"
السؤال: من هم أهل السفينة التي أقدم صاحب موسى على خرقها؟
جواب: إنهم المساكين الذين يعملون في البحر.
لو دققنا في اللفظ القرآني جيدًا لوجدنا الضرورة تستدعي التفريق بين أهل السفينة (كما جاء على لسان موسى) من جهة وأصحاب السفينة (كما جاء في قصة نوح) من جهة أخرى.
منطقنا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن من يملك الشيء على الدوام فهو أهله، ولكن من يملكه على انقطاع لفترة محددة فهو صاحبه. هذا يوسف الصديق يتحدث مع صاحبيه في السجن، وكان الذي رافق النبي محمد في رحلته هو صاحبه في الغار، وكان ذا النون هو صاحب الحوت.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن صاحب الشيء هو من له الحق في استخدامه ولكنه لا يملكه[1].
باب المساكين: الفرق بين "الفقير" و"المسكين"
السؤال: لماذا كان أهل السفينة من المساكين ما دام أن لديهم عمل؟ وهل من يعمل يمكن أن يكون ممن يطلق عليه لفظ المسكين؟
نحن نظن أن المسكين يختلف عن الفقير. فالفقير هو الذي لا يملك شيئًا، وقد يكون أُحصر في سبيل الله فلا يستطيع ضربًا في الأرض، ولكنه يأبى أن يسأل الناس تعففًا.
افتراء من عند أنفسنا: بناء على ما سبق، نحن نظن أن الفقير هو:
- الذي لا يملك شيئًا
- الذي لا يسأل الناس إلحافًا، لذا فهو قد لا يكون معروفًا للآخرين
- الذي قد يكون أُحصر فلا يستطيع ضربًا في الأرض
- الذي قد لا يقوى على الكسب بمفرده
- الذي يحتاج إلى مساعدة عاجلة
- الفقر قد يزول بمجرد انتهاء السبب لأنه آني[2]
السؤال: إذا كانت هذه هي بعض صفات من كان فقيرًا، فمن هو المسكين إذن؟
جواب مفترى: المسكين قد يسأل الناس، وهو معروف للآخرين، ويستطيع أن يعمل. بناء على ما سبق، نحن نظن أن المسكين هو:
نتيجة مفتراة: لمّا كانت السفينة التي خرقها صاحب موسى تعود ملكيتها إلى مساكين يعملون في البحر، كان من باب علم الرجل أن عليه أن يحسن إلى هؤلاء المساكين. فكان ذلك في علمه من باب الإحسان للمساكين وهم أهل تلك السفينة، ولكن علم موسى لم يكن يؤهله للوصول إلى هذه المعلومة بيسر، فظن أن ذلك شيئًا إِمْرًا.
تفسير "شيئًا إِمْرًا": لقد ظن موسى أن ما قام به صاحبه من خرق للسفينة لم يكن أكثر مما يفعله من ينكر الجميل. فهو بمفرداتنا العامية يقول لصاحبه أن ما قمت به لا يمكن أن يفعله إلا من هو من "البلطجية" أو "الشبيحة" أو "الزعران".
باب الملك: لماذا "غصبًا" وليس "كرهًا"؟
السؤال: من هو ذلك الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا؟
بداية نحن نجد أن لفظ الملك جاء في هذه الآية الكريمة بصيغة التنكير على عكس السفينة التي جاءت بصيغة التعريف. لذا نحن نظن أن هذا الملك لم يكن معهودًا (معروفًا) للسامع وهو موسى كما كانت السفينة.
الدليل: لو قرأنا ما قاله الرجل لموسى لوجدنا الخبر اليقين بأن ذلك الملك كان قادمًا من وراء المساكين الذين يعملون في البحر: ﴿...وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾.
الدليل الثاني: نحن نظن أننا قد نجد الدليل على هذا الظن من فهمنا للآية الكريمة نفسها خاصة في مفردة "غَصْبًا".
السؤال: ما معنى غصبًا؟ وكيف تختلف عن كرهًا؟ وما الفرق بين أن تأخذ الشيء كرهًا أو أن تأخذه غصبًا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه لم يكن لذاك الملك حق في تلك السفينة لأنه كان يأخذها غصبًا، ولو كان لذاك الملك حق فيها لأخذها من أهلها المساكين كرهًا، وذلك لأن الأخذ كرهًا (نحن نظن) ربما يكون فيه شيء من الشرعية.
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه لمّا كان ما أخذه ذلك الملك يقع في باب الغصب وليس في باب الإكراه، فإننا نتجرأ على القول بأن ذلك الملك لم يكن له حق في تلك السفينة، ولم يكن المساكين يقعون في دائرة مملكته، وكان إذًا من الغزاة المعتدين.
رأينا المفترى: نحن نظن أن الملك كان قادمًا من جنوب البحر الأحمر، حيث مكان تواجد تلك الممالك الظالمة التي كانت تفسد في الأرض، وهي التي سنجد خبرها لاحقًا عندما نربط قصة موسى هذه مع قصة سليمان الذي جاءه خبر المرأة التي كانت تملك قومها في سبأ.
خاتمة وتساؤلات للمستقبل
أظن أن موسى وصاحبه كانا على الجهة المقابلة للمكان الذي سترسو به سفينة المساكين، فهما لن يكونا متواجدين في المكان نفسه متى ما وصل ذلك الملك ليأخذ تلك السفينة، وإلا لما احتاج صاحب موسى أن يؤول ذلك لموسى لأن موسى كان حينها سيرى ذلك بأم عينه.
وهذا ما سنتحدث عنه بحول الله وتوفيق منه في الجزء القادم من هذه المقالة إن أذن الله لنا بشيء من علمه، طارحين التساؤلين التاليين فقط:
- أين هي الأماكن التي زارها موسى مع صاحبه؟
- وأين يمكن أن نجد هذا الرجل (صاحب موسى) اليوم؟
فالله اسأل أن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه اللدنّي لا ينبغي لأحد من بعدي إنه هو العليم الحكيم. وأسأله وحده أن يؤتيني رحمة من عنده، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيمًا، وأعوذ به أن أفتري عليه الكذب أو أن أقول عليه ما ليس لي بحق إنه هو السميع المجيب، والحمد لله رب العالمين.
والله أعلم. وللحديث بقية.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
18 شباط 2014
الهوامش
- نحن نظن أن صاحب الشيء هو من له الحق في استخدامه ولكنه لا يملكه كأمثال أصحاب الجنة... ↩
- لذا نحن نتجرأ على القول أن من يحق له أن يأكل من مال اليتيم هو من كان فقيرًا فقط، أي لا يستطيع ضربًا في الأرض... ↩
- وهذا يدلنا على أن موسى كان على الدوام على عجلة من أمره... فهل تعتقد - عزيزي القارئ- أنه كان يستطيع أن يصبر على الجوع؟ من يدري!!! ↩
- لذا نحن نتجرأ على القول أن من يحق له أن يأكل من مال اليتيم هو من كان فقيرًا فقط... ↩
ملحق: ما هو العقم؟
﴿لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿٥٠﴾﴾
(سورة الشورى: ٤٩-٥٠)
العقيم هي عبارة عن ما يشبه الشيء الذي يدفع (كالريح) أو كمني الرجل أتى على شيء جعله كالرميم...
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك