تستكمل هذه المقالة النقاش حول قصة الغلام الذي قتله صاحب موسى، والذي يُعتقد أنه العزير. تنتقل المقالة لتحليل سورة المسد، مقدمة قراءة جديدة ومغايرة لتفسيرات أسباب النزول التقليدية. تفترض أن ذنب أبي لهب لم يكن قولًا، بل فعلًا شنيعًا تمثل في محاولة تحريف القرآن بـ "اللغو فيه" وكسب المال من ذلك، بمشاركة من امرأته. تربط المقالة هذا المفهوم بحالة الغلام الذي "حق عليه القول"، وتقارنه بحالة فرعون الذي لم يقطع القرآن بمصيره، مختتمة بتحليل عن محدودية علم الله كإطار لفهم هذه القضايا.
تستكمل هذه المقالة النقاش حول قصة الغلام الذي قتله صاحب موسى، والذي يُعتقد أنه العزير. تنتقل المقالة لتحليل سورة المسد، مقدمة قراءة جديدة ومغايرة لتفسيرات أسباب النزول التقليدية. تفترض أن ذنب أبي لهب لم يكن قولًا، بل فعلًا شنيعًا تمثل في محاولة تحريف القرآن بـ "اللغو فيه" وكسب المال من ذلك، بمشاركة من امرأته. تربط المقالة هذا المفهوم بحالة الغلام الذي "حق عليه القول"، وتقارنه بحالة فرعون الذي لم يقطع القرآن بمصيره، مختتمة بتحليل عن محدودية علم الله كإطار لفهم هذه القضايا.
فهرس المقالة
سنحاول في هذا الجزء أن نكمل حديثنا عن قصة قتل صاحب موسى للغلام الذي لقياه في الطريق بعد أن كان هذا النقاش هو جلّ موضوعنا في الجزء السابق من هذه المقالة. وقد كنّا قد وعدنا القارئ الكريم أن نتابع البحث في سؤالين اثنين يخصان قصة صاحب موسى وهو الذي نظن أنه العزير، والسؤالان هما:
- ما قصة خرقه لسفينة المساكين؟
- ومن هو صاحب موسى هذا الذي ظننا أنه العزير؟ فأين هو وأين يمكن أن نجده اليوم؟
وقد وصلنا في نهاية الجزء السابق إلى طرح التساؤل التالي عن قصة قتل صاحب موسى للغلام:
- كيف عرف العزير (صاحب موسى) أن هذا الغلام قد حقّ عليه القول؟ وكيف عرف أن هذا الغلام قد قيّض الله له قرينا (شيطانا) فما كان ليؤمن فكان إذن من الكافرين؟ وكيف استطاع صاحب موسى أن يدرأ بقتله للغلام فتنة هي أكبر من القتل نفسه؟
(للتفصيل انظر الجزء السابق)
وقد دعانا هذا النقاش المفترى من عند أنفسنا إلى أن نعاود النبش في افتراءات سقناها في مقالات سابقة، منطلقين من تساؤلات محيّرة لنا ذكرناها في نهاية الجزء السابق من المقالة، وها نحن نعيد إثارتها هنا لتشكل شرارة الانطلاق في النقاش في هذا الجزء من المقالة. سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرين، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم – آمين.
إشكالية سورة المسد وأسباب النزول
التساؤلات المطروحة
التساؤلات:
- لماذا أنزل الله قرآنًا يتلى بحق عمّ النبي أبي لهب قاطعًا خبره وخبر امرأته حمالة الحطب؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق عمّ النبي العباس الذي بقي على دين آباءه وأجداده حتى فتح مكة (كما تقول بعض رواياتهم)؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق أبي سفيان الذي لم يسلم حتى فتح مكة (كما تقول معظم رواياتهم)؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق أبي جهل أو سهيل بن عمر أو أمية بن خلف وغيرهم اللذين ماتوا على الكفر؟
- والأهم من هذا كله، لماذا لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق فرعون نفسه ليقطع خبر كفره او إيمانه؟ ألم يقل فرعون أنه ربهم الأعلى؟
- لماذا أرسل الله لمن ادعى الإلوهية (فرعون) رسولين ليقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى؟
- لِم لَم يأتِ الخبر الإلهي اليقين بحق نهاية فرعون كما جاء بحق نهاية أبي لهب وامرأته حمالة الحطب؟
- الخ
أما بعد،
تعرّض أهل العلم إلى سورة كريمة في كتاب الله تخص عبد العزى (الملقب بأبي لهب) عمّ النبي محمد بالنسب (كما تقول رواياتهم)، وهو من ظنوا أنه المقصود بالآيات الكريمة التالية:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿٥﴾﴾
(سورة المسد: ١-٥)
تفسير الطبري وروايات أسباب النزول
فلنبدأ النقاش هنا بما جاءنا من عند أهل الدراية كما أوصله لنا أهل الرواية في تفسير الطبري مثلًا:
القول في تأويل قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } يقول تعالى ذكره : خسرت يدا أبي لهب , وخسر هو . وإنما عني بقوله : { تبت يدا أبي لهب } تب عمله . وكان بعض أهل العربية يقول : قوله : { تبت يدا أبي لهب } : دعاء عليه من الله . وأما قوله : { وتب } فإنه خبر . ويذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " تبت يدا أبي لهب وقد تب " . وفي دخول " قد " فيه دلالة على أنه خبر , ويمثل ذلك بقول القائل , لآخر : أهلكك الله , وقد أهلكك , وجعلك صالحًا وقد جعلك . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { تبت يدا أبي لهب } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 29586 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { تبت يدا أبي لهب } : أي خسرت وتب . 29587 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قول الله : { تبت يدا أبي لهب وتب } قال : التب : الخسران , قال : قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم : ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ؟ قال ؟ " كما يعطى المسلمون " , فقال : ما لي عليهم فضل ؟ قال : " وأي شيء تبتغي ؟ " قال : تبا لهذا من دين تبا , أن أكون أنا وهؤلاء سواء , فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } يقول : بما عملت أيديهم . * - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا ابن ثور , عن معمر , عن قتادة { تبت يدا أبي لهب } قال : خسرت يدا أبي لهب وخسر . وقيل : إن هذه السورة نزلت في أبي لهب , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص بالدعوة عشيرته , إذ نزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } وجمعهم للدعاء , قال له أبو لهب : تبا لك سائر اليوم , ألهذا دعوتنا ؟ ذكر الأخبار الواردة بذلك : 29588 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا , فقال : " يا صباحاه ! " فاجتمعت إليه قريش , فقالوا : ما لك ؟ قال : " أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم , أما كنتم تصدقونني ؟ " قالوا : بلى , قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك , ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ ! فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } إلى آخرها . * - حدثني أبو السائب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , مثله . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن نمير , عن الأعمش , عن عمرو بن مرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ثم نادى : " يا صباحاه " فاجتمع الناس إليه , فبين رجل يجيء , وبين آخر يبعث رسوله , فقال : " يا بني هاشم , يا بني عبد المطلب , يا بني فهر , يا بني . .. يا بني أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل " يريد تغير عليكم " صدقتموني ؟ " قالوا : نعم , قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم , ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت : { تبت يدا أبي لهب وتب } " . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو أسامة , عن الأعمش , عن عمرو بن مرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين , خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى صعد الصفا , فهتف : " يا صباحاه " , فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد , فاجتمعوا إليه , فقال : " يا بني فلان , يا بني فلان , يا بني عبد المطلب , يا بني عبد مناف " , فاجتمعوا إليه , فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا , قال " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : " تبت يدا أبي لهب وقد تب " كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة . 29589 -حدثنا ابن حميد , قال : ثنا مهران , عن سفيان , في قوله : { تبت يدا أبي لهب } قال : حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره , وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم , وكان اسمه عبد العزى , فذكرهم , فقال أبو لهب : تبا لك , في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب }
نقد روايات أسباب النزول
لو دققنا – عزيزي القارئ- في هذا التفسير "العظيم" لوجدنا أن جلّه يتحدث عن ما يسميه أهل العلم بأسباب النزول، فهم يكرّرون الروايات (ربما غير المتطابقة تمامًا) عن السبب الذي من أجله (كما يظنون) أنزل الله هذه السورة العظيمة. ولكننا نود أن نجلب انتباه القارئ الكريم إلى عدة ملاحظات نظن أن لها صلة بما نُقِل عن لسان أهل العلم في هذه الروايات.
- هناك من قرأ الآيات على نحو غير ما هو مكتوب في المصحف، ففي قراءة عبدالله والأعمش هناك مفردة "قد" في الآية على النحو التالي: (تبت يدا أبي لهب وقد تب). انظر ما جاء في تفسير ابن كثير السابق. السؤال: إنْ كانت قراءة هؤلاء صحيحة تستحق أن توضع في بطون أمهات كتب التفسير التي وثق بها العامة دون تمحيص، فأين ذهبت "قد" يا أهل العلم؟ يسأل بعض العامة من مثلي.
- هل كان عبد العزى (أبو لهب) هو الوحيد من بين من سمع النبي فقال له تبا لك؟ ألم يقل غيره أكثر من ذلك؟
- ألم يحاول الكثيرون إلحاق أذى أكبر من ذلك بمحمد؟ لِم لَم ينزل الله قرآنًا يتلى بكل من قال تبا لمحمد أو حاول أن يوقع الأذى به؟ فلم أبو لهب على وجه الخصوص؟ نحن نتساءل.
- وإذا كان هذا الكلام قد بدر من عبد العزى (أبي لهب) – كما جاء في رواياتهم- فما بال امرأته حمالة الحطب تشمل في الخطاب معه؟ هل قالت امرأة أبي لهب مثل ما قال بعلها بحق النبي؟ فلِم لم ينزل قرآنًا يتلى بحق من مضغت من كبد حمزة (كما شاهدنا في فيلم الرسالة)؟
- الخ
رأينا: لعلي أكاد أجزم أن ثقافتنا لم تتعدى ما شاهدناه في فيلم الرسالة، فلو أنت تحدثت مع أهل العلم (والعامة على حد سواء) لربما ما وجدت عندهم أكثر مما رسخت في أذهانهم من صور رسمها العقاد كمخرج لذاك الفيلم في أذهانهم. فلقد شاهدت بأم عيني على شاشة القناة التلفزيونية الأردنية وزير أوقاف أردني سابق مع عميد كلية شريعة في جامعة أردنية محترمة في برنامج تلفزيوني يحمل مقدّمه درجة الدكتوراه يتحدثون جميعهم (فيما يسمونه ذكرى الهجرة) أن أهل المدينة قد خرجوا يستقبلون النبي الكريم عندما هاجر إليهم وهم ينشدون طلع البدر علينا كما جاء في أحد مشاهد فيلم الرسالة.
السؤال لهؤلاء الجمع من العلماء الأجلاء من شخص سطحي التفكير من مثلي هو: هل فعلًا خرج أهل المدينة يستقبلون النبي الكريم وهم ينشدون طلع البدر علينا؟ وهل تعلمون - يا سادة- متى كتبت قصيدة طلع البدر علينا؟ وأنا مالي. اللي بده يعرف يبحث بنفسه في بطون الكتب أو باستخدام بعض محركات البحث على الشبكة العنكبوتية.
موقفنا المبدئي: نحن نظن أن ما جاء في بطون أمهات كتب التفسير مثل هذا التفسير "العظيم" الذي أوردناه سابقًا لا يعدو أن يكون أكثر من ... يتسامر به القوم في ليال الشتاء الباردة أو ليال الصيف الحارة لإضاعة قسطًا من الوقت الذي لا يجدون ما يشغلونه به. وذلك لأن ما يسمّونها تفسيرات لا تجيب عن أي شيء، بل على العكس فهي تجعل كتاب الله كتابًا خاصًا بقبيلة من قبائل جزيرة العرب في سالف الأيام.
السؤال: ما المخرج؟
جواب: نحن نظن أن المخرج من مثل هذه المواقف المحرجة التي وضعنا بها أهل الدراية من سادتنا العلماء هو البحث عن العلم الحقيقي في كتاب الله بطرح تساؤلات كبيرة مثل:
- لماذا أنزل الله قرآنًا يتلى بحق أبي لهب؟
- وما دخل امرأته بذلك؟
- ولم لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق كل من قال "تبا" كما جاء في رواياتهم؟
- الخ.
قراءة جديدة مفتراة لسورة المسد
أما بعد،
سنحاول بداية أن نعيد النظر في مفردات هذه السورة العظيمة علّنا نخرج (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) بشيء من الحديث الجديد الذي قد يقنع من وجد في نفسه تساؤلات تخالجه مثل تلك التي أوردناها سابقًا، والهدف من ذلك كله – يجب أن لا ننسى- هو أن نحاول أن نعود من هناك ببعض الافتراءات التي نظن أنها قد تساعدنا في فهم قصة قتل صاحب موسى للغلام الذي لقياه في الطريق الذي هو موضوع نقاشنا الرئيس في هذه الأجزاء من المقالة.
افتراءات من عند أنفسنا عن قصة أبي لهب وامرأته حمالة الحطب
- الافتراء الأول: أبو لهب لم يقل تبًا لمحمد إطلاقًا
- الافتراء الثاني: امرأته (حمالة الحطب) لم تقل تبًا للنبي
- الافتراء الثالث: لقد فعل أبو لهب شيئًا خاصًا جدًا لم يفعله غيره حتى نزل بحقه قرآنًا يتلى إلى يوم الدين.
- الافتراء الرابع: لقد شاركت امرأة أبي لهب (حمالة الحطب) بعلها فيما فعل حتى استحقت أن تذكر معه لتلاقي المصير نفسه
- الافتراء الخامس: لم يفعل فرعون نفسه ما فعله أبو لهب، وإلاّ لأنزل الله قرآنًا يتلى بحق فرعون كما أنزله بحق أبي لهب
- الافتراء السادس: إن كل من فعل أو سيفعل ما فعله أبو لهب فإن مصيره ما كان لأبي لهب وامرأته حمالة الحطب
هذه هي جملة الافتراءات التي نظن أنها صحيحة وسنحاول الدفاع عنها تباعًا.
أما بعد،
الافتراء الأول والثاني: أبو لهب وامرأته لم يقولا "تبًا"
الافتراء الأول: أبو لهب لم يقل تبًا لمحمد إطلاقًا
نحن نفتري الظن بأن ما جاءنا من عند أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية بأن أبا لهب قد قال تبًا لمحمد (انظر تفسير القرطبي السابق) لا أساس له من الصحة، وذلك لأنه لو حصل الأمر على تلك الشاكلة – نحن نفتري القول- لأثبت القرآن نفسه قول أبي لهب نفسه. فالمتفحص للنص القرآني يجد – ربما بما لا يدع مجالًا للشك- أن النسق القرآني يكون على نحو أن يثبت ما قاله الكافرون أولًا ثم يرد عليهم حجتهم الكاذبة بالحجة الصادقة، فنحن نجد في كتاب الله ما قاله الكافرون يسبق الرد الإلهي عليهم. انظر الآيات الكريمة التالية كيف يأتي قول الكافرين واضحًا فيها أولًا (وهو ما وضعنا تحته خطًا) ثم يأتي الرد الإلهي بعده مباشرة (ما وضعنا تحته خطين):
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ...﴾ (المائدة: ١٨)
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...﴾ (المائدة: ٦٤)
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ...﴾ (التوبة: ٣٠)
﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ...﴾ (البقرة: ٨٠)
﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: ١١١)
﴿وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾ (الإسراء: ٩٠-٩٣)
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (البقرة: ١٣٥)
إن مراد القول الذي نود أن نوصله للقارئ الكريم هو أن النهج القرآني – كما نفهمه- يكون عادة برد الدعوى التي قالها الكافرون. لذا لو كانت الآية القرآنية الخاصة بأبي لهب – نحن نتخيل- هي رد على ما قاله أبو لهب أو ما قالته امرأته لأثبت القرآن الكريم قولهما أولًا ثم لرد عليهم القول بقول يدحض ما قالوا. ولربما جاء النص على النحو التالي: "وقال أبو لهب تبًا لمحمد قل تبت يدا أبي لهب وتب... إلى آخر السورة."
الافتراء الثاني: امرأته (حمالة الحطب) لم تقل تبًا للنبي
نحن نفتري الظن بأنه لو كانت الرواية التي نقلها لنا سادتنا العلماء أهل الرواية عن سادتهم العلماء أهل الدراية صحيحة لربما وجدنا فيها شيئًا يخص امرأة أبي لهب التي شُملت بالخطاب الرباني. فإذا كان هذا ما قاله أبو لهب (كما جاء في رواياتهم) فما بال رواياتهم نفسها تخلوا مما جاء على لسان امرأة أبي لهب؟ لم لا نجد في رواياتهم أن امرأة أبي لهب قد كانت حاضرة ذاك الجمع الذي حصلت فيه القصة كما جاء في رواياتهم؟ أم هل هذه سنة من عند أهل العلم بأن تؤخذ المرأة بذنب بعلها؟ من يدري!!!
تساؤل: ما الذي بدر من امرأة أبي لهب حتى يشملها الخطاب القرآني لتلاقي المصير الذي لقيه بعلها نفسه؟ فهل حضرت هي ذلك الجمع الذي دعا إليه النبي قومه ليخبرهم برسالة الله لهم؟ وإذا كان بعلها (كما تقول رواياتهم) قد قال تبًا لمحمد فهل قالت هي الأخرى تبًا لمحمد كما قال بعلها؟
رأينا: نحن نظن أنه لو حصل الأمر على تلك الشاكلة لربما أصبح النص القرآني على الشاكلة التالية: "وقال أبو لهب تبًا لمحمد وقالت امرأته مثل ذلك قل تبت يدا أبي لهب وتب... إلى آخر السورة."
الافتراء الثالث والرابع: فعل أبي لهب وامرأته
الافتراء الثالث: لقد فعل أبو لهب شيئًا خاصًا جدًا لم يفعله غيره حتى نزل بحقه قرآنًا يتلى إلى يوم الدين.
نحن نظن أن ما بدر من أبي لهب هو فعل وليس قولًا بدليل أن القرآني الكريم جاء يتحدث عن ماله الذي كسبه، فلنقرأ السورة الكريمة مرة أخرى:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿٥﴾﴾
(سورة المسد: ١-٥)
وهنا لا نتوقف عن طرح التساؤلات التالية:
- ما علاقة مال أبي لهب بالأمر؟
- وما هو ماله الذي كسبه أصلًا؟
- ومن أين جاء لأبي لهب المال الذي لن يغني عنه؟
- وهل كان عبد العزى (أبي لهب) صاحب مال أصلًا؟
رأينا: نحن نظن أن الحاجة ملحة لجلب الآيات الكريمة مع بعضها البعض لنخرج بتصور أكثر دقة لما حصل فعلًا. فنحن بحاجة أن نربط مال أبي لهب بالقصة لنطرح التساؤلات عن المال نفسه وعن طريقة كسبه له: ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾.
الافتراء الرابع: لقد شاركت امرأة أبي لهب (حمالة الحطب) زوجها فيما فعل حتى استحقت أن تذكر معه لتلاقي المصير نفسه
نحن نفتري القول بأن ما فعلته امرأة أبي لهب لم يكن أقل خطورة مما فعله بعلها حتى جاء القرآن الكريم ليثبت لها المصير نفسه الذي كان لبعلها. وهذا يدعونا إلى النبش في التساؤلات التالية:
- من هي امرأة أبي لهب هذه؟
- لماذا كانت حمالة الحطب؟ ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾
- لماذا كان عقابها على نحو أن يكون في جيدها حبل من مسد؟
- فما قصة جيدها وما قصة ذلك الحبل من المسد الذي هو في جيدها؟ ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾
الافتراء الخامس: أبو لهب فعل ما لم يفعله فرعون
الافتراء الخامس: لم يفعل فرعون نفسه ما فعله أبو لهب
نحن نفتري القول بأن أبي لهب قد فعل شيئًا لم يفعله فرعون نفسه، وذلك للأسباب التالية:
- لم يثبت الله في كتابه الكريم لفرعون المصير بالعذاب في حياته.
- أرسل الله لفرعون رسولين وطلب منهما أن يقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى.
﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ﴿٤٤﴾﴾ (سورة طه: ٤٣-٤٤)
- مات فرعون وقد آمن برب هارون وموسى، فكان من المسلمين:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٩٠﴾﴾ (سورة يونس: ٩٠)
- أنجاه الله ببدنه ليكون آية لمن خلفه:
﴿... آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٩١﴾ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴿٩٢﴾﴾ (سورة يونس: ٩١-٩٢)
- الخ.
الافتراء السادس: جزاء كل من يفعل فعل أبي لهب
السؤال الكبير جدًا جدًا: ما الذي فعله أبو لهب على وجه التحديد حتى استحق أن ينزل بحقه قرآنًا يتلى ينبئ بمصيره؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن أبا لهب قد قام بفعل لم يفعله فرعون نفسه، وأنه قد كسب من خلال فعله ذاك شيئًا من المال (﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾)، كما نفتري القول بأن امرأته حمالة الحطب قد شاركته في ذلك الفعل وفي ذلك الكسب (﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾)، وأن عقابها على نحو (﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾) له علاقة مباشرة بما كانت قد فعلت مع زوجها.
السؤال: وهل كان ما فعله أبو لهب (بمساعدة امرأته) وكسبه لهذا المال أعظم ذنبًا مما فعل فرعون نفسه عندما كان يقتّل أبناء بني إسرائيل ويستحي نساءهم؟ وهل كان أعظم ذنبًا مما قاله فرعون بملء فيه؟ ﴿فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ﴿٢٣﴾ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴿٢٤﴾﴾
جواب: نعم لقد كان ما فعله أبو لهب وساعدته في ذلك امرأته حمالة الحطب عملًا شنيعًا جدًا لم يقم به فرعون نفسه. فما الفرق بين أبي لهب وفرعون؟
في محاولتنا لمعرفة الإجابة على الفرق بين أبي لهب (من جهة) وفرعون (من جهة أخرى)، وجدنا الحاجة ملحّة للتعرض للسؤال التالي مباشرة: ما هو الفعل الذي قام به أبو لهب وساعدته عليه امرأته حمالة الحطب حتى استحق أن ينزل بحقه قرآنًا ينبئ بمصيره ومصير امرأته حمالة الحطب؟
جواب خطير جدًا لا تصدقوه إلا إن ظننتم أن الدليل من كتاب الله يدعمه: نحن نفتري القول أن أبا لهب قد فعل فعلًا شنيعًا جدًا وكسب من خلال هذا الفعل شيئًا من المال، وكان غرضه في ذلك تقديم الدليل للناس على "بطلان" رسالة محمد.
السؤال: ماذا كان فعله؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد كتب أبو لهب بيديه شيئًا من القول مدّعيًا أن هذا قرآنًا جاء به محمد نفسه. وقد كانت امرأته هي من تقوم بتوصيل تلك الرسالة للقوم، والغرض من فعلتهما تلك هو أن يثبتا للعامة من الناس بأن رسالة محمد باطلة، وبكلمات أكثر دقة فإننا نفتري من عند أنفسنا القول بأن أبا لهب كان يحاول أن يدسّ للناس من الكلام (الذي هو من عنده ومن عند امرأته) ليزعم بأن هذا الكلام قد جاء به محمد. ونحن نظن أن هدف أبي لهب من وراء فعلته تلك هو لكي يلغوا في القرآن الذي جاء به محمد من عند ربه (أي ليضع فيه شيئًا هو بالأصل ليس منه). فهو يحاول أن يدسّ بالقرآن ما ليس منه أصلًا ليشوش على الناس الرسالة الحق التي جاء بها محمد من ربه.
الدليل من القرآن: اللغو في القرآن وكسب الإثم
علاقة مفتراة من عند أنفسنا بين أبي لهب والغلام الذي قتله صاحب موسى
انظر - عزيزي القارئ- إلى الآية الكريمة التي تتحدث عن من قيّض الله له قرناء ليزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم والتي كانت في لبّ نقاشنا السابق عن ذلك الغلام الذي قتله صاحب موسى:
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿٢٥﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴿٢٦﴾ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٧﴾ ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿٢٨﴾﴾
(سورة فصلت: ٢٥-٢٨)
والآن حاول – عزيزي القارئ- أن تتدبرها في ضوء ما جاء في كتاب الله عن أبي لهب وامرأته:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿٥﴾﴾
(سورة المسد: ١-٥)
فلو تدبرنا الآيات التي تتحدث عن أبي لهب وربطناها بما جاء في الآيات السابقة لوجدنا (مفترين القول من عند أنفسنا) أن جزاء أبي لهب النار، وأن هذا هو الجزاء بحق من جاء فيهم قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ...﴾
لربما دعانا هذا الظن إلى تقديم الاستنباطات المفتراة من عند أنفسنا التالية:
- كان أبو لهب من الذي قيض الله لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم.
- كان من الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين.
- كان هذا الكافر – نحن نظن- من الذين حاولوا أن يلغوا في القرآن.
- كان جزاءه أن الله سيذيقه عذابًا شديدًا.
- كان عقابه على نحو أنه ﴿سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾.
- كان هذا العذاب جزاء بما كان يعمل.
- كان هذا الكافر من أعداء الله الذين لهم النار جزاء بما كانوا يجحدون بآيات الله.
- الخ.
دلالة "وما كسب" في قصة أبي لهب
السؤال: أين الدليل أن أبا لهب كان من الذين جحدوا بآيات الله، فكتب بيديه شيئًا من القول، ونسبه إلى محمد لكي يلغي فيما جاء به محمد من القول الحق من عند ربه؟
جواب: نحن نجد الدليل على ذلك في عبارة "وَمَا كَسَبَ" التي وردت في السورة نفسها التي تتحدث عن أبي لهب وامرأته حمالة الحطب في الآية الكريمة التالية على وجه التحديد: ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾.
لو تدبرنا مفردة الكسب في كتاب الله لوجدناها قد وردت في سياقات قرآنية كثيرة، فالإنسان قد يكسب السيئات (﴿بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً...﴾)، والكسب يمكن أن يكون بالأمور المادّية (﴿أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾)، وقد يكون بالقلب (﴿وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ...﴾).
ولكن الكسب يكون أيضًا بالأيدي:
﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾
(سورة البقرة: ٧٩)
السؤال الحتمي: ما الذي كسبه أبو لهب حتى جاء القرآن الكريم ليتحدث عنه بصريح اللفظ (مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)؟
جواب: لقد كسب أبو لهب شيئًا بيديه بدليل أن الله قد أنزل العقاب بكلتا يديه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.
جريمة كتابة الكتاب بالأيدي
لأنه كسب شيئًا بيديه؟ فلقد كان جزاء ما فعله أبو لهب جزاء بما فعله بيديه.
سؤال: وماذا فعل بهما؟
جواب: لقد كسب بهما مالًا بدليل أن السورة تتحدث عن ماله الذي كسبه: ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾.
السؤال: من أين كسب أبو لهب ذلك المال الذي أخبر الله بأنه لن يغني عنه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا خطير جدًا: نحن نجد الدليل على ذلك بما نفهمه من الآية الكريمة التالية:
﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾
(سورة البقرة: ٧٩)
اقرأ -عزيزي القارئ – هذه الآية الكريمة جيدًا علّك تساعدنا في الخروج بالاستنباطات التالية:
- هناك من يمكن أن يكتبوا الكتاب بأيديهم ثم يقولون أن هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا.
- الجزاء لكل من فعل ذلك هو الويل.
العودة إلى قصة الغلام: تطبيق فهم "حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ"
لقد كان الهدف من هذا الخروج في هذه الشطحات الفكرية هو العودة منها بالاستنباط التالي: بأن أبا لهب كان ممن حق عليهم القول وممن قيّض الله له قرناء فزينوا له، وممن ران على قلوبهم، وممن حقت عليه كلمة العذاب.
ونحن نفتري القول بأن هذا بالضبط ما كانت عليه حال الغلام الذي لقيه موسى وصاحبه في الطريق. فلقد وصل ذلك الغلام إلى درجة من الكفر يستحيل بعدها الرجوع خطوة واحدة إلى الوراء لأن القول قد حق عليه ما دام أنه قد قال لوالديه المؤمنين "أُفٍّ لَّكُمَا" صراحة:
﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَJَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿١٧﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿١٨﴾﴾
(سورة الأحقاف: ١٧-١٨)
فكان من الذين قيّض الله لهم قرناء، فكان من الكافرين الذين حق عليهم القول، فأصبح قتله أو عدمه لا يعدو أكثر (نحن نفتري القول) من أن يكون كمن يقتل من الدواب شرها.
مقارنة بين مصير الغلام، أبي لهب، وفرعون
السؤال: لماذا قتل صاحب موسى الغلام؟
جواب: لأنه كان من الممكن أن يحدث بقاءوه فتنة لوالديه فيرهقهما طغيانًا وكفرًا: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
سؤال: لماذا لم يلقَ أبو لهب المصير نفسه بالقتل إن صح ما تقول؟
جواب (1): لأنه لم يعد أبو لهب (بعد هذا التنزيل) يشكل بقاءوه فتنة لأحد ما دام أن أمره قد فضحه الوحي.
جواب (2): لأن الله لم يجعل سنته الكونية أن يعجل العذاب لكل من ظلم بما كسبت يداه.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: في حين أن الله قد عجّل لهذا الغلام العذاب لم يعجل الله العذاب لأبي لهب.
محدودية علم الله كإجابة مفتراة
دعنا بداية نطرح السؤال الكبير التالي: لِم لَم يقضِ الله أمره بالقضاء على فرعون مباشرة بدل أن يرسل إليه رسولين ويطلب منهما أن يقولا له قولًا لينًا؟
فما الداعي أن يذهب رسولان إلى فرعون ليقولا له قولًا لينًا؟ والأهم من ذلك: لم لم يكن رد موسى على ربه في تلك اللحظة (نحن نتساءل فقط): أليس أنت الله العليم؟ فكيف ستكون نهاية فرعون: الإيمان أم الكفر؟
الافتراء هو: محدودية علم الله عن ما في قلب عباده. فبالرغم أن الله عليم بكل شيء، إلا أن علم الله لا يصبح مطلقًا إلا بعد أن يتحصل الشيء نفسه. وبكلمات فلسفية من كلامنا نحن البشر فإننا نقول: أن الله عليم بالأشياء لكنه ليس عليمًا بما لم يصبح شيئًا بعد. ولعلي أظن أن في هذا الطرح المفترى من عند أنفسنا يمكن أن نجد مخرجًا للتساؤلات التي تخص أبي لهب وفرعون وهذا الغلام الذي قتله صاحب موسى.
السؤال: لماذا لم ينزل الله قرآنًا يتلى بحق فرعون يحق فيه القول عليه؟
جواب: لأن هناك شيء في قلب فرعون لم يكن الله يعلمه فجاء القول الإلهي على نحو: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لِّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾.
تحليل قصة موسى والشيطان والقرين
نجاة موسى من قرينه بنعمة ربه
لو تدبرنا ما حصل مع موسى يوم أن دخل المدينة على حين غفلة من أهلها لربما استطعنا أن نتصور حصول ذلك على أرض الواقع.
﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾
(سورة القصص: ١٥)
نحن نفتري القول (بناء على ما نفهمه من ذلك) أنه في اللحظة التي أقدم فيها موسى على قتله لهذا الرجل الذي هو من عدوه أصبح له قرين (شيطان) ملازمًا له.
السؤال: لماذا حاول موسى أن يقتل نفسًا أخرى في اليوم التالي وهو الذي أقر بذنبه في اليوم الأول واستغفر ربه على فعلته تلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن ذلك الشيطان وهو قرينه الذي قيّضه الله له (نحن نظن) قد أخذ يزين لموسى ما بين يديه وما خلفه، ولولا أن الرجل الذي من عدوه نبّهه إلى خطر ذلك لما تردد موسى أن يبطش به.
لأن موسى رجع إلى ربه على الفور وأقر بخطأه، فكانت من النعمة الإلهية عليه أن قيّض الله عدوه نفسه أن يذكره بربه.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كاد قرين موسى أن يرديه لولا نعمة ربه: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴿٥٦﴾ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿٥٧﴾﴾
استنباطات مصيرية للإنسان
إن هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يقودنا إلى جملة من الاستنباطات التي نظن أنها مصيرية بالنسبة للإنسان في حياته الدنيا وفي حياته الأخرى:
- أن الله لا يتدخل بشؤون العباد.
- أن الله لا يعلم ما في قلوب العباد فيمحصها ليعلم ما فيها.
- أن الله يعلم ذات صدور العباد فيبتليها.
- أن الله يقيض شيطانًا قرينًا لكل من ارتكب إثمًا.
- أن القرين يهدف إلى أن يوصل العبد المذنب إلى النقطة التي لا رجعة فيها وهي إنكار البعث.
- أن العبد المذنب إذا عاد عن غلطه فتذكر ربه واستغفر لذنبه تلوح له فرصة أن يفلت من قرينه.
- أن الله يبقى يمحص ما في قلوب العباد ويبتلي ما في صدورهم مهما بلغوا من الذنوب.
نتيجة مفتراة: لا يقيض الله القرين للعبد إلا بعد أن يقوم العبد نفسه بارتكاب المعصية. فما دام أن العبد لم يرتكب معصية فإن القرين لا يستطيع أن يحثه عليه. فالذي يحث الإنسان على الوقوع في السوء هي نفسه الأمارة به.
والله أعلم. وللحديث بقية.
خاتمة وهوامش
دعاء: فالله وحده أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علمًا، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيمًا، والحمد لله رب العالمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
23 أيار 2013
الهوامش
- نحن نميّز بين فرعون الذي تربى موسى في بيته عندما كان صغيرًا وفرعون الذي جاءه موسى بالرسالة. انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة. ↩
- نحن لا نتحدث هنا عن فرعون الذي تربى موسى في بلاطه، لأن هذا الفرعون الذي أخذ موسى كان منذ تلك اللحظة عدو لله... ولكننا نتحدث عن هذا الفرعون الذي جاءه موسى بالرسالة، وهو الذي وإن كان قد طغى إلا أنه لم يصبح بعد عدوًا لله. ↩
ملحق: ما هو العقم؟
﴿لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿٥٠﴾﴾
(سورة الشورى: ٤٩-٥٠)
العقيم هي عبارة عن ما يشبه الشيء الذي يدفع (كالريح) أو كمني الرجل أتى على شيء جعله كالرميم.
﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿٤١﴾ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿٤٢﴾﴾
(سورة الذاريات: ٤١-٤٢)
ما الذي يحصل في حالة الرجل العقيم؟ ينحدر ماء الرجل إلى رحم الأنثى بقوة دافعة (كحالة الريح) فإذا كان الرجل عقيمًا كانت عملية القذف تشبه حركة الريح العقيم، فتأتي على بويضات المرأة وبدل أن تلقحها تقوم بتفتيتها لتجعلها كالرميم.
فمن يستطيع تصليح الأمر؟
﴿... قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ... ﴿٧٩﴾﴾
(سورة يس: ٧٩)
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك