لماذا يدفن الناس موتاهم


تختلف الثقافات، فتختلف الطقوس والعادات والتقاليد،
وغالباً ما كان الدين محركاً أساسياً في هذا الاختلاف. فتظهر في المجتمعات ذات الأصول الدينية المتنوعة عادات وتقاليد مختلفة حتى للفعل الواحد، فلا تتزوج كل شعوب الأرض بنفس الطريقة، ولا تأكل أو تلبس أو تتواصل أو تعمل بنفس الأسلوب والطريقة، والمنطق نفسه ينطبق على عادة التخلص من جثة الإنسان بعد موته، فبالرغم أن الهدف واحد، إلا أن الأسلوب أو الطريقة تختلف من موطن إلى آخر، فقد اختارت الشعوب المختلفة طرقاً متنوعة لتتخلص من جثة من توفاه  الله بالموت، فالشعوب ذات الميراث اليهودي والمسيحي والإسلامي مثلاً تعمد إلى الدفن في الأرض لتتخلص من الجثث، ولكن هناك (على مر العصور) بالمقابل عدد لا بأس به من الثقافات التي لا تلجأ إلى هذا الأسلوب لتتخلص من جثث موتاهم، فمنهم من يقوم بتحنيط الجثة، ومنهم من يحرقها، ومنهم من يلقي بها في قاع البحار، ومنهم من يقدّمها وليمة طازجة للطيور والحيوانات المفترسة في البراري، وهكذا.
وهنا يبرز التساؤل التالي: أي الطرق أفضل للتخلص من جثة الميت؟ ولماذا؟


رفض التعليلات السابقة
إن الجواب على مثل هذا التساؤل غالباً ما كان مدفوعاً بالعادة، فأصحاب كل طريقة يرون أنها هي الطريقة الأمثل، وغالباً ما انتقدوا أصحاب الطرق المخالفة، ولكن الجدير بالانتباه أن هذا النقد لم يكن (في أغلب الأحيان) مبنياً على أساس ثابت يرضى الجميع بتقديم الدليل والحكمة من التشريع، أو حتى يسد رمق الطامع في المعرفة، فلو وجّه هذا السؤال إلى أهل الثقافات التي تدفن الموتى، لربما ظنوا أن هذه هي الطريقة الأمثل لأن الله –  حسب معتقدهم- قد أمرهم بها، ولكنهم في الوقت الذي ينسبون الأمر إلى ربهم لا يقدّمون لأنفسهم ولغيرهم جواباً مقنعاً يبرر عقيدتهم هذه. فغالباً ما سوّقوا منطقهم القائل أن في طريقة الدفن هذه حفظاً لكرامة "المتوفى"، ولكن المنطق نفسه يسوّقه من يتخذ من الحرق طريقة للتخلص من الجثث، فهؤلاء يظنون أن هذا بالضبط ما أمرهم به ربهم، لا بل ويروجون للمنطق القائل أن في حرق الجثث حفظاً للبيئة، و(ربما) حلاً لمشكلة السكن في المناطق المكتظة التي قد تضيق بالأحياء (ناهيك عن الحيز الذي تشغله جثث الأموات)، ويقدم أهل الثقافات التي تقدم موتاها ولائم للطيور والحيوانات المفترسة الأسباب نفسها، فهذا – حسب معتقداتهم- ما أمرهم به ربهم، وهم بذلك يحافظون على التوازن البيئي لتبرير فعلتهم، ويزيدون على ذلك بأن في أجساد موتاهم منفعة للكائنات الأخرى، فهم يسوقون الدليل أن الجسد الذي يدفن في باطن الأرض تأكله ديدان الأرض، ولكن الجسد الذي يقدم للطيور والحيوانات المفترسة تأكله النمور والأسود والنسور والصقور، ولا شك أن وقوع جسدك بين فكي أسد فيه كرامة وعزة أكثر من تلك التي تحصل لجسدك إن هي أكلته ديدان وقوارض الأرض – حسب رأيهم بالطبع.
وقد كان في تحنيط الأموات عند المصريين فلسفة لا تخلو من طابع الكرامة والتكريم للمتوفى، وقد ظهر –بسبب التقدم التقني- تيار جديد يدعو إلى حفظ أجساد الأموات في برادات (ثلاجات) خاصة، أو بمواد كيميائية حافظة، تحافظ على الجسد من ديدان الأرض أو حتى أسود البرية.
وبعد هذا السرد يبرز التساؤل نفسه مرة أخرى: أي الطرق أنجع؟ ولماذا؟


نظرة جديدة
إننا ننوي في مقالتنا هذه تقديم تعليل بسيط لقيام الثقافات ذات المرجعية الدينية (كاليهودية والمسيحية والإسلامية) بطقوس دفن الأموات في التراب، وسنحاول تقديم التبرير الديني الإسلامي – كما نفهمه نحن- لهذا الطقس الديني على وجه التحديد من كتاب الله الكريم، ومحرك البحث لدينا سؤال واحد وهو: لم يدفن المسلمون موتاهم في التراب؟


أما بعد،
لعل جلّ الفكر الإسلامي ممثلاً بفرقه وطوائفه لا يختلف في هذا المجال، فالجميع يرى أن الدفن في التراب هي الوسيلة الأمثل والوحيدة للتخلص من جثث الأموات، ولكنني أظن أن أصحاب هذا الفكر - وإن اتفقوا على الطريقة- قد أخفقوا في تعليل هذا السلوك لأنفسهم أولاً ولغيرهم ثانياً، وهنا سنحاول تقديم التبرير كما نستنبطه من كتاب الله العزيز، فنحن نظن أن هناك تبريراً شافياً كافياً في كتاب الله لهذا الطقس الديني. فما هو؟
بادي ذي بدء، إننا نفهم أن دفن الأموات في التراب كان – حسب النص القرآني- هو شريعة الله للتخلص من الجثث منذ بدء الحياة البشرية على وجه المعمورة، وقد بدأت هذه القصة مع الوفاة الأولى على الأرض يوم أن قتل ولد آدم أخاه، فبعد أن طوّعت له نفسه قتل أخيه، لم يعرف ما يفعل بجثته، فبعث الله ذاك الغراب الذي يبحث في الأرض ليريه كيف يواري جثة أخيه في التراب، وقد جاء في كتاب الله التصوير الكامل لذاك المشهد الأرضي على النحو التالي:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) المائدة
لقد تعلم ذاك الرجل (والبشرية من بعده) كيف يتخلص من جثة المتوفى، ومما لا شك فيه أن هذه القصة القرآنية تدلنا على أن الفطرة الإنسانية والحيوانية قد جبلت على مثل هذا السلوك فتقبلته كأمر رباني، فولد آدم لم يتردد أن يرى في هذا التعليم (حتى وإن كان من الغراب) أمراً ربانياً وتوجيها إلهياً، لذا لم يتلكأ في أن يتخلص من جثة (سوءة) أخيه على تلك الشاكلة (وهنا نتوقف للحظة لندعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى مقالتنا السابقة تحت عنوان أين كانت جنة آدم ومقلاتنا تحت عنوان "علم اللغة" ليتعرف على معنى السوءة كما نفهما من النص القرآني، فلقد أخطأ كثير من أهل العلم –في رأينا- عندما ظنوا أن السوءة تعني العورة، فهذه الآية الكريمة تبين بما لا يدع مجالاً للتأويل أن السوءة تعني الجسد بأكمله، فولد آدم يريد التخلص من سوءة أخيه، أي من كامل جسده وليس فقط من عورته، وربما يفسر لنا هذا الظن كيف بدأت سوءة آدم وزوجه يوم أن أكلا من الشجرة- للتفصيل في هذا الموضوع يرجى قراءة المقالة السابقة)
المهم في طرحنا هذا أن التخلص من جثة المتوفى بالدفن قد بدأت - حسب النص الديني القرآني- من هناك، وظهر هذا السلوك جليّاً في تعاليم الديانات السماوية التي لا زالت بعض تشريعاتها قائمة كاليهودية والمسيحية والإسلامية.
ولكن هل كانت كل شعوب الأرض تعمد إلى هذه الطريقة للتخلص من الجثث؟ ولماذا انحرفت تلك الشعوب عن هذا النهج الإلهي؟
لا شك أن شعوب الأرض قد نوّعت في طريقة تخلصهم من الجثث، والقرآن الكريم يقدم لنا بعض سلوكيات تلك الشعوب، ونحن نجد من الضروري أن نقدم منها مثالاً واحداً هنا على الاختلاف الذي حصل عند شعوب الأرض بعد قصة ابني آدم، ومثالنا يسلط الضوء على ما كان يفعل ملوك المصريين القدماء (وليس فراعنة المصريين) بجثث موتاهم، ونقصد بملوك المصريين أولئك الذين كانوا يحكمون أرض مصر قبل الفراعنة، وهم من عاصرهم نبي الله يوسف في أرض مصر على وجه التحديد، فنحن لا ننسى قصة يوسف مع صاحبيه في السجن، فكان نصيب أحدهم على النحو التالي:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ يوسف (41)
فنحن نفهم من هذا السياق القرآني أن تلك الثقافة كانت تتخلص من جثة المتوفى بإلقائها للطيور لتأكلها، فقد أخطأ البعض – حسب ظننا- عندما فهم أن في صلب الرجل زيادة وقسوة في العقاب له، فنقول كلا، لقد كان عقاب الرجل يتمثل في قتله (إنهاء حياته)، فمما لا شك فيه أن ملك مصر في عهد نبي الله يوسف كان – في رأينا- حاكماً عادلاً، وليس أدل على عدله من قصته مع يوسف نفسه، فلا أظن أن ملكاً كذاك الرجل يمكن أن يكون فيه من السوء لدرجة أن ينتقم من الموتى حتى بعد وفاتهم، والقص القرآني لتفسير الرؤيا لا يظهر سوء معاملة من الملك، وإنما عدلاً وجزاءً على ما فعل الرجل.
ثم لا بد من التنبيه إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن الطير لا تأكل من رأس الرجل إلا بعد موته، فحتى لو صلب الرجل فترة طويلة من الزمن، فإن الطيور (كل الطيور كما يظهر من النص القرآني) لن تتقدم إلى جثته لتكون وليمة لها إلا بعد أن تخرج منها الحياة، فالطير لا تتقدم من الأجساد ما دامت الحياة تدب فيها، وإلاّ لأصبح الناس فريسة سهلة للطير حتى وهم يسيرون على أقدامهم على الأرض، ولكن قضت سنة الله وتدبيره أن لا تتقدم الطير لتأكل من الجسد إلا بعد أن تنتهي منه الحياة، إن هذا يدلنا على أن القصاص من الرجل كان يتمثل في إنهاء حياته، وهنا يبرز التساؤل عن سبب صلبه لتأكل الطير منه بعد ذلك.
إننا نظن أن السبب يتمثل بأن تلك الثقافة كانت على عادة التخلص من جثث الأموات بأن تلقي بها إلى الطير لتأكلها. ولا أخال أنهم غفلوا عن موضوع الكرامة عند موتاهم، فهم يقدموا الرؤوس للطير لتأكلها (فأن يأكل الطير من رأسك – عند هؤلاء القوم- خير لك من أن تأكل الديدان كل جسدك في باطن الأرض). ولا أخال أن فكرة ذهاب الأرواح بعد الموت لتستقر في حواصل الطيور (كما تصورها بعض الثقافات القديمة هي بعيدة عن هذا القصد عند من كان يقدم رأس المتوفى لتأكل الطير منه، فلا شك أن الروح في الثقافات القديمة تسكن الرأس، فهو العضو الأهم الذي إذا ما قطع انتهت الحياة، لذا فعندما يقوم الطير بالأكل من تلك الرؤوس فإن في ذلك دلالة على انتقال الروح لتسكن محلقة في السماء في حواصل الطيور. (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه). والمدقق في اللفظ القرآني يجد بعض الغرابة في التصور، فنبي الله يوسف يقول للرجل:
وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ
فهو إذاً لم يقل للرجل بأن الطير ستأكل رأسه كله، ولكن الطير ستأكل "من رأسه"، فما هو الشيء الذي ستأكله الطير من رأسه؟ وكيف سيضمن أن الطير لن تأكل رأسه كله أو حتى من بقية جسده؟ وبكلمات أكثر دقة نسأل: لماذا جاء الوصف على نحو أن الطير ستأكل فقط "من رأسه"؟
رأينا المفترى: إننا نظن أن تلك الثقافات كانت تظن أن في الموت انتقال للروح (الساكنة في الرأس) إلى حواصل الطيور لتنقلها إلى السماء، فالطيور هي الكائنات الوحيدة القادرة على الذهاب إلى هناك حسب تعاليمهم كما يمكن أن يستقصوها من مشاهداتهم الحسية البدائية.
إن مراد القول أن الثقافات على تنوع معتقداتها تسعى جميعاً إلى هدف واحد وهو فهم ماهية الموت واستقرار الروح بعد خروجها من الجسم، فهم يبحثون عن سر الحياة الذي ما أن ينفذ من الجسم حتى يصبح جسداً هامداً. فالحياة – كما يرونها- تدب بالجسم فيبقى متحركاً حياً، وما أن تغادره الروح حتى يصبح جسداً لا قيمة له، يتطلب التخلص منه.
وهنا – كعادتنا المعهودة- نجد لزاماً التوقف للحظات للنظر مليّا في تنوع مفردات القرآن الكريم التي تدعونا إلى التمييز والتفريق بينها، فلربما تحصّلت لنا من خلال ذلك فكرة تسعفنا في فهم ماهية الدفن وآلية البعث يوم القيامة.


ما الفرق بين الجسد والجسم؟
لقد ورد في كتاب الله لفظتان تصفان البناء الفيزيائي للإنسان وهما: الجسد والجسم، فما الفرق بينهما؟
نحن نظن أن الفرق يتمثل في وجود أو عدم وجود الروح (أو بكلمات أدق النفس) في ذاك البناء، فعندما تكون الروح غير موجودة فيه، فذاك يصبح جسداً لا بد من التخلص منه. ولكن إن كانت الروح لا زالت دابّة فيه، فذاك يسمى جسم لا يمكن التخلص منه. وسنسوق الدليل على زعمنا هذا من كتاب الله الكريم، فها هو السامري يخرج لقومه عجلاً جسداً وليس جسماً، لأنه بلا شك لا يستطيع أن يبث الحياة فيه، لذا جاء السياق القرآني ليؤكد هذه الفكرة عندما أكملت الآية على نحو " أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا"
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ الأعراف (148)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ طه (88)
فحتى وإن كان في ذلك الجسد خوار، إلا أن ذلك لم يكن بسب وجود الروح فيه، وإنما حصل الخوار بآلية أخرى لا تنم عن وجود الحياة في ذاك الجسد، وبكلمات بسيطة فإننا نقول أن السيارة التي تصدر صوتاً لا تفعل ذلك بسبب وجود روح فيها، فهي ليست أكثر من "جسد"، وتتأكد الفكرة في قوله تعالى:
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ الأنبياء (8)
فالأجساد لا تحتاج إلى الطعام ما دامت الروح غير موجودة فيها، وكان ذاك بالضبط ما حصل مع سليمان يوم فتنته:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ص (34)
وبالمقابل فإن جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها لفظة الجسم تدل على أن الروح دابة فيها، فها هو طالوت حي يرزق، قوي بعلمه وبجسمه:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ البقرة (247)
وها هم المنافقون يتمتعون بأجسام قوية البنية والتركيب لدرجة أنها تعجب الناظر إليها:
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ المنافقون (4)
فالتركيب الفيزيائي للإنسان يتحول من حالة الجسم (النابض بالحياة) إلى حالة الجسد (الفاقد للحياة) عند الموت، فعندما يكون الإنسان جسماً نابضاً بالحياة، فهو – لا شك- يسرّ الناظرين ويحتاج إلى الطعام وإلى كل مقومات الحياة، ولكن عندما تغادر الروح ذلك الجسم ينقلب ليصبح جسداً لا يكلم الناس ولا يهديهم ولا يعجب الناظرين، وهنا تكون الحاجة ملحّة للتخلص من ذلك الجسد بطريقة ما، وهنا يبرز التساؤل الذي طرحناه منذ البداية وهو: ما هي آلية التخلص من الجسد المثلى؟ ولماذا؟


التعليل
إننا نظن أن آلية التخلص من الجسد هي الدفن وذلك لسبب بسيط وهو أن جميع الشرائع التي تتخذ من الدفن وسيلة للتخلص من الجثث تؤمن بقضية البعث بعد الموت، لذا نحن نظن – مفترين القول بالطبع- أن الله قد بعث الغراب ليري الإنسان كيف يتخلص من أجساد البشر بالدفن ليس لفائدة دنيوية (كما صوّرها معظم من تصدوا لتفسير فلسفة الدفن)، وإنما لهدف أخروي يتعلق ببعث الناس من قبورهم للحساب. ولكن كيف يكون ذلك؟


أما بعد،
لا شك أن جميع الشرائع السماوية تؤمن بقضية البعث بعد الموت (resurrection)، وتؤمن أن تلك الأجساد التي خرجت منها الروح ستعود أجساماً مرة أخرى بعد أن تعود إليهم أرواحهم (أنفسهم) يوم البعث والنشور، ولكن المهم في هذا المجال هو البحث في آلية البعث تلك، ليتم ربطها بعد ذلك مع قضية دفن الموتى في التراب.
فلقد تصدرت فكرة البعث من القبور المشهد في كثير من السياقات القرآنية:
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) الحج
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ العاديات (9)
فالمدقق في السياقات القرآنية يجد لزاماً الفهم أن البعث يتم لمن في القبور، وهنا يدركنا سؤال لا مناص منه وهو: وماذا عن الذين لم يدفنوا في القبور؟ كيف سيتم جمعهم؟
إن من أبجديات عقيدتنا الدينية أن الله لن يترك أحد راقداً حتى لو كان في بطن الحوت في قعر البحر، فالله يصور لنا هذا المشهد يوم أن دخل ذو النون في بطن الحوت:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فهو لا شك مبعوث في ذلك اليوم حتى لو بقي في بطن الحوت ولم يقذف إلى العراء، فالله قد تعهد أن لا يغادر منهم أحدا:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا الكهف (47)
ولكن كيف إذاً سيتم بعث من لم يدفن في الأرض؟
إنّ المدقق في النص القرآني التالي يجد فيه شيئاً من الغرابة يتمثل في أن الله يثبت إمكانية بقاء الرجل في بطن الحوت حتى يوم البعث:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وهنا يبرز سؤالنا التالي: كيف سيبقى ذو النون في بطن الحوت حتى يوم يبعثون؟ ألم يكن ليهلك ذو النون في بطن الحوت؟ ثم، ألم يكن سيهلك الحوت نفسه وينتهي؟ كيف إذاً سيبقى ذو النون في بطنه إلى يوم يبعثون كما تؤكد الآية الكريمة؟
إن هذا التساؤل يثير تساؤلات أخرى: إننا نعلم أن الناس سيخرجون من الأجداث (القبور)، ولكن ألم تكن ديدان الأرض قد انقضّت على أجسادهم وأهلكتها؟ ألم تهلك الديدان نفسها؟ فكيف بأجسادهم ستخرج مرة ثانية؟ ومن أين ستخرج ما دام أنها قد هلكت؟
إن المخرج من هذا المأزق موجود – برأينا- في كتاب الله، ويتمثل في فهم آلية خروج الناس من أجداثهم، قال تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يس (51)
إن من أبجديات الفكر الديني الإسلامي هو الاعتقاد بخروج الناس من قبورهم (مرقدهم) يوم ينفخ في الصور:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا الكهف (99)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا طه (102)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ النمل (87)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ _ الزمر (68)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا النبأ (18)
وعند التعرض لقضية بعث الناس بعد موتهم في السياقات القرآنية نجد أن جميع تلك السياقات تثبت لنا أن الإنسان لا زال موجودا في الأرض، ولكن أي شيء من الإنسان لا زال موجود؟
رأينا: لا شك عندنا أن جسد الإنسان قد هلك، بأي طريقة تم التخلص منه، سواءً كان ذلك بالدفن أو بالحرق أو في بطن الحوت، ولكن الإنسان نفسه لا زال موجودا في الأرض مصداقاً لقوله تعالى:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
إن هذا المنطق يدعونا إلى التفريق بين كينونتين اثنتين وهما الإنسان من جهة وجسد الإنسان من جهة أخرى، فالهلاك سيصيب جسد الإنسان ولكن الإنسان نفسه لن يهلك، ولكن كيف؟
لا شك أن الحاجة تتطلب ربط هذا السيناريو بقضية دفن الناس في باطن الأرض في قبورهم، فالأرض هي المكان الذي سيخرج منه الناس إلى ربهم يوم يدعوهم للقائه:
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الروم (25)
إن لب القول هو الاعتقاد الجازم بأن الناس - كما تبين السياقات القرآنية العديدة  (حسب فهمنا بالطبع)- سينبتون من الأرض كما ينبت الزرع، قال تعالى:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ الروم (19)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ الزخرف (11)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف (57)
وصورة الحركة في الخروج من الأرض تشبه صورة خروج الجراد على كثرته وسرعته:
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ القمر (7)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ المعارج (43)
نتيجة مهمة: إنّ آلية البعث من القبور كما يصورها النص القرآني هي عملية خروج من الأرض تشبه عملية خروج النبات من الأرض، والحالة كذلك فإننا مدعوون لفهم آلية البعث من خلال آلية خروج الزرع. وهذا يعني بكلمات بسيطة أن الإنسان (كبذرة) لن يهلك وإن هلك جسده كله، فهو كالبذرة التي تزرع في الأرض لتنبت من جديد، فعندما يهلك جسد الإنسان وتأكله ديدان الأرض في باطنها أو أسود البرية على ظهرها، يبقى منه شيء يشبه بذرة الزرع التي لا تفنى مهما اختلفت آلية التخلص من الجثة بعد الموت (وذاك الجزء هو ما نقصد به كينونة الإنسان الذي يختلف عن كينونة جسده الذي لا محالة هالك)، فمن أكله الحوت في قاع البحر سيلبث في بطنه إلى يوم يبعثون حتى بعد هلاك جسده وهلاك جسد الحوت الذي أكله، فيبقى ذاك الجزء الذي سيخرج منه الإنسان كما يخرج الزرع من باطن الأرض.


إن هذا الظن يدعونا إلى تدبر معنى الخروج في النص القرآني، فعند مقارنة خروج الناس من الأرض بخروج الزرع نجد أن العملية لا يمكن أن تتم دون وجود البذرة التي منها سينبت (سيخرج) جسم الإنسان كما ينبت (يخرج) النبات من باطن الأرض. فعملية الخروج تتم بالحركة من باطن الأرض إلى الأعلى في حركة دائمة حتى يتخلص الإنسان بكليته من التراب، ولا شك أن التصوير القرآني يثبت في أكثر من سياق أن عملية الخروج هذه تشبه عملية خروج النباتات من باطن الأرض إلى الأعلى في حركة مستمرة.
فالحركة من وإلى الأرض تصورها الآيات الكريمة التالية:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
سبأ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الحديد (4)
فالدخول في باطن الأرض هو ولوج، والتخلص من باطنها إلى ظاهرها هو خروج. ولو حاولنا تصور المشهد لخروج الناس من باطن الأرض إلى ظاهرها في يوم البعث المعلوم لوجدنا أن الإنسان في ذلك الموقف الرهيب سيحاول التخلص من باطن الأرض بأقصى سرعة ممكنة، فالأرض تتشقق عنهم وهم يحاولون النفاذ إلى الأعلى:
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ۚ ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
فذاك المشهد على كليته وجزئياته يشبه عملية خروج النباتات، وعند مقارنة هذا المشهد بمشهد خروج الزرع من الأرض، فإننا نخرج باستنتاجات عديدة، نسطّر منها:
  1. لزوم سقوط الماء من السماء على الأرض لخروج النبات، وهذا ما يحدث بالضبط في يوم البعث:
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ الزخرف (11)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف (57)
  1. ضرورة تشقق الأرض حتى تتيح للنبات الخروج من باطنها إلى الأعلى، وهذا بالضبط ما يحصل في عملية خروج الناس من قبورهم:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ۚ ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
  1. حركة النبات الدائمة في الخروج دون توقف حتى النهاية.
  2. ضرورة الحركة السريعة للخروج بأقصى سرعة ممكنة، وهذا ما يحدث في يوم البعث:
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ المعارج (43)


الحكمة من الدفن في باطن الأرض
والآن لحاول أن نربط عملية خروج الناس من الأجداث يوم البعث مع الاعتقاد بضرورة لزوم الدفن في باطن الأرض يوم أن يموت الإنسان ويتحول جسمه إلى جسد يجب التخلص منه.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الحاجة إلى ذلك تتولد بطرح السؤال المعاكس وهو: ما الذي سيحصل للإنسان الذي لم يدفن في باطن الأرض؟ تخيل الإنسان الذي تم حرقه أو الذي تم تحنيطه أو الذي أُلقي في قاع البحر فالتهمته حيتان البحر وأسماكه، أو الذي تم تبريده في ثلاجات أو الذي حفظ بفعل المواد الكيميائية الحافظة، كيف ستتم عملية خروجه تلك (وهو لا محالة محشور، فالله لن يغادر أحدا)؟
جواب: إن المنطق يدعونا إلى مشابهة ذلك فيما لو كانت تلك العملية هي بالفعل عملية خروج الزرع من الأرض مادام أن الله قد عقد المشابه بين خروج الناس من قبورهم بعملية خروج الزرع من باطن الأرض، لذا لا نجد بداً من فهم ذلك الخروج ويكأنه فعلاً عملية خروج النبات بكل حيثياته وتفاصيله ومقوماته ومعوقاته. فالذي يساعد في خروج الزرع يساعد في خروج الأجساد من الأرض، والذي يعيق عملية خروج الزرع يعيق عملية خروج الأجساد من الأرض، وهكذا.
إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه هو أن عملية الخروج ستتم على النحو التالي: سيسقط المطر الذي سيؤدي بتلك البذور للخروج، فستعود الأرواح (الأنفس) إلى تلك البذور بسبب ذلك المطر، لتنمو أجسامهم من جديد من تلك البذور التي لم تهلك (وإن كانت الأجساد قد هلكت)، ولكن يجب التنبيه إلى أنه مادامت تلك العملية تشبه عملية خروج النباتات من الأرض فإن من أبسط المشاهدات التي يمكن الوثوق بها هي أن الزرع لا يخرج كله بنفس اليسر والسهولة. وبالمنطق نفسه فإن خروج الأجسام بعد أن تتم عودة الحياة إليها بعد ذاك المطر لن تكون سهلة ميسرة بنفس الشكل للجميع. والآن لنتخيل ما يحصل في كل حالة


الأجسام التي دفنت في باطن الأرض
لا شك أن عملية خروج تلك الأجسام ستكون هي الأسهل، فنحن نعلم أن البذرة السليمة المزروعة في التربة السليمة تنمو بطريقة سلسة ميسرة يوم أن ينزل عليها الماء من السماء. وبالمنطق نفسه مادام أن المقارنة معقودة كما يصورها النص القرآني فإن الأجساد عندما تدفن في باطن الأرض فإنها تهلك بفعل ديدان الأرض ولكن ذلك لن يؤدي إلى تلف البذرة التي ستبقى متواجدة في باطن الأرض إلى أن ينزل الله عليها ذاك المطر الذي يعيد إليها الحياة لتنبت أجساماً قوية نظرة كما كانت يوم الخلق الأول:
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
والمدقق في هذه الآيات الكريم يجد أنها تشير إلى أن تلك العملية ليست عملية خلق جديد، بل هي إعادة للخلق الأول (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)، وآليته هي الإنشاء (أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)


الأجساد التي لم تدفن
لا شك الأجساد التي تم التخلص منها بطرق أخرى غير الدفن لن تخرج من باطن الأرض بنفس السهولة واليسر الذي تحصّل لتلك التي تم دفنها في باطن الأرض، فتلك الأجسام ستكون منهكة متعبة تعاني من الضيق الذي وقعت فيه بسبب ما أصابها عندما لم تدفن في الأرض، فالجسد الذي أحرق (كما الزرع الذي أحرق) قد هلك بأكمله بسبب فعل الحرق وتحول إلى رماد ولكن مما لا شك فيه أن بذرته حتى وإن لم تهلك كلياً قد أصابها العطب، فما تبقى من الجسد (كينونة أو بذرة الحياة) ستكون بذرة غير سليمة للخروج كما هو الحال بالنسبة للبذرة السليمة التي لم يصبها العطب بفعل الحرق.
فلنتخيل المشهد الزراعي مرة أخرى: هل تنبت جميع البذور من باطن الأرض بنفس القوة والعافية والنضارة؟ إن مما لا شك فيه أن البذرة السليمة تنبت بشكل أكثر سلاسة ونضارة من البذرة المريضة المعطوبة. قم بنفسك بحرق بعض البذور، ثم قم بنثرها في الأرض وصب عليها ما شئت من ماء، هل ستنبت تلك البذور بشكل سليم؟ كلا، وربما لا ينبت الكثير منها. ولكن لمّا تعهد الله بأن ينبت كل البذور (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) كان لزاماً أن تنبت حتى المعطوبة منها ولو كان ذلك يتم بطريقة أصعب وأكثر تعقيداً مما حصل للبذور السليمة، إننا نود القول أن الشعوب التي تقوم بحرق أجساد الناس إنما تقوم بتشويه بذرة الحياة التي ستنبت منها تلك الأجساد يوم القيامة يوم أن يصب الله عليها ماء الحياة لينشئها مرة أخرى، وهذا سيجعل خروج تلك البذور من الأرض خروجاً صعباً، فما يخرج صاحبها إلاّ وقد تعب تعباً شديداً، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت.
وبالمنطق نفسه فإن الأمة التي تقوم بتحنيط تلك الأجساد إنما تتسبب في المعاناة الشديدة لتلك الأجسام كي تخرج من ذلك القالب الذي وضعت فيه. قم بنفسك بتحنيط البذور (بتغليفها بالمواد الكيماوية التي تحفظ قشرتها) ثم قم بزراعة تلك البذور في التربة، واسكب عليها ما شئت من الماء، فهل ستخرج تلك البذور بسهولة ويسر ونضارة؟ الجواب كلا. وتخيل المشهد نفسه لو تم حفظ الجثث في برادات (ثلاجات خاصة)، أو بمواد كيميائية حافظة: هل يا ترى ستخرج تلك الأجسام بشكل طبيعي كما لو أنها زرعت في باطن الأرض؟ الجواب كلا.
النتيجة: إن الفكر الذي يؤمن بالخروج من الأرض يوم البعث هو نفس الفكر الذي يدعو إلى دفن الأجساد في باطن الأرض يوم أن تتحول من أجسام (تدب فيها الحياة) إلى أجساد (خرجت منها الروح). ولكن حتى تعود تلك الأجساد إلى أجسام مرة أخرى فمن الأفضل أن لا يعمد إلى عطب أو تخريب البذرة التي ستنبت منها تلك الأجسام مرة أخرى، والأفضل أن تودع (تزرع) تلك البذور في بيئة صالحة تسهل عملية خروجها يوم الوقت المعلوم، بالضبط كما البذرة السليمة التي لم يصبها التلف بفعل عوامل خارجية وقد زرعت في التربة الصالحة لنموها.


وللحديث بقية


بقلم د. رشيد الجراح