ملخص المقالة:
فهرس المقالة
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه (1)
الإسراء ﴿١٣﴾
نتعرض في هذه المقالة للحديث عن الطائر الذي ألزمه الله في عنق كل إنسان منا، لنطرح تساؤلين رئيسين اثنين هما:
- ما هو ذلك الطائر الذي ألزمه الله في أعناقنا؟ و
- لماذا ألزمنا الله إياه؟ أو ما هي الوظيفة التي يقوم بها هذا الطائر؟
ولكن قبل الخوض في جزئيات هذا الموضوع نود أن نشير إلى القارئ الكريم أن الضرورة تستدعي أن تُقرأ هذه المقالة في ضوء ما جاء في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "كيف تم خلق عيسى بن مريم؟" حيث تحدثنا بشكل أكثر تفصيلاً عن معنى مفردة الطائر كما نفهمها من النص القرآني لما كان حديثنا منصباً حينئذ على جزئية في قصة سيدنا إبراهيم عندما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى:
البقرة
كما نظن أنه ربما يكون من المفيد أيضاً أن يعود القارئ الكريم إلى مقالتنا تحت سلسلة "لحم الخنزير"، حيث حاولنا التفريق بين أنواع كثيرة من الكائنات كالأنعام والدواب والناس والطير الذي يطير بجناحية والطير التي لا تطير بجناحيها، خاصة عندما حاولنا التمييز بين الأنعام من جهة والنعم من جهة أخرى.
وسنحاول في عجالة هنا أن نستعرض بعض الافتراءات التي قدّمناها في بعض تلك المقالات والتي نظن أن لها علاقة مباشرة بالآية الكريمة قيد البحث هنا الخاصة بالطائر الذي ألزمنا الله إياه في أعناقنا.
أما بعد،
الافتراءات السابقة
- الطير مخلوقات على نوعين وهما:
- تلك التي تطير بجناحيها وهي أمم أمثالنا:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
الأنعام ﴿٣٨﴾ - وتلك التي لا تطير بجناحيها وهي ليست أمم أمثالنا، وهذه يمكن أن يمسكها الإنسان، لأنها لا تطير بجناحيها، وهي بالتالي متواجدة على الأرض، لذا فهي تقع – حسب ظننا- في فصيلة "النعم" التي يمكن أن تصطاد اصطياداً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ[1]
المائدة ﴿٩٥﴾
- تلك التي تطير بجناحيها وهي أمم أمثالنا:
- الطير التي تطير بجناحيها هي مخلوقات ليست موجودة في السماء وهي ليست موجودة في الأرض وإنما في جو السماء، ما يمسكهن إلا الرحمن، وبالتالي فهي من الكائنات المسخرة وليست من الكائنات المذللة[2]:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿٤١﴾أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَفالمسبحون لـ لله هم (1) من في السموات و (2) من في الأرض و(3) الطير
النحل ﴿٧٩﴾ - مادام أن الطير التي تطير بجناحيها (كما الدواب) أمم أمثالنا:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَلذا نحن نفتري الظن بأنه لا يجوز اصطيادها وأكلها.
الأنعام ﴿٣٨﴾
(للتفصيل انظر كيف تم خلق عيسى بن مريم 3) - لهذه الطيور صفات خاصة كما يميّزها القرآن الكريم: هي متواجدة فوقنا، وهي من الصافات، وهي ممن يقبضن، وهي ممن ما يمسكهن إلا الله (الرحمن). وهي بلا شك ممن قد علم صلاته وتسبيحه، وهي من الكائنات المسخرة:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
الملك ﴿١٩﴾أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿٤١﴾أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - لا شك عندنا أن عيسى بن مريم لم يكن يخلق من الطير المكلّفة المسخرة التي تطير في جو السماء والتي هي أمم أمثالنا، ولكنه كان – نحن نظن- يخلق من الطير المذلّلة غير المكلّفة التي لا تطير في جو السماء:
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌوذلك لأن من خلق هو من يهدي:
المائدة ﴿١١٠﴾الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾فلقد افترينا الظن سابقاً أن ما كان يقوم عيسى بخلقه من الطير كان يمكث مع القوم وليس فوقهم، فهي من الطيور التي يمكن أن تتعايش مع الناس، وهي كائنات مذلّلة للأكل وغير مكلفة بالعبادة، وهي ليست أمم أمثالنا، لذا لم تكن تدين لعيسى بن مريم بالربوبية.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ - لا شك عندنا أيضاً أن إبراهيم قد صرّ إليه أربعة من الطير المذلّلة التي لا تطير بجناحيها، والدليل عندنا يأتي من الحقيقة القرآنية التي مفادها أنه ما أن قام إبراهيم بدعوة تلك الطيور إليه حتى أتته ساعية ولم تأتي إليه طائرة:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
البقرة ﴿٢٦٠﴾
هذه في عجالة أهم الافتراءات التي قدّمناها فيما يخص تلك الكائنات التي نظن أنها وردت في كتاب الله بلفظ "الطير"، ولكن السؤال الذي نود أن نتابعه هنا يتعلق بالآية الكريمة التي تصرح بأن الله قد ألزم كل إنسان طائره في عنقه، في قوله تعالى:
الإسراء ﴿١٣﴾
تحديد ماهية الطائر الملزم في العنق
الدليل
نحن نفتري الظن بأن عملية الطيران لا يمكن أن تتم دون الأجنحة، فالذي يملك جناحين يستطيع أن يقوم بفعل الطيران، ونحن نفتري الظن بأن الكائنات تنقسم من حيث الأجنحة إلى ما يلي:
- كائنات تملك جناحين وتستطيع الطيران وهي المسخرة في جو السماء وهي أمم أمثالنا
- كائنات تملك جناحين ولكنها لا تستطيع الطيران كالطير المذلّلة والتي يمكن أن تمسك في البيوت
- كائنات تملك جناح واحد كالإنسان، لذا لا تستطيع الطيران
الدليل
لو استعرضنا ما جاء في كتاب الله عن قصة موسى لوجدنا أن الله يطلب من موسى أن يضمم يده إلى جناحه:
طه ﴿٢٢﴾
القصص ﴿٣٢﴾
وكذلك طلب الله من نبيه الكريم أن يخفض جناحه للمؤمنين:
الحجر ﴿٨٨﴾
الشعراء ﴿٢١٥﴾
وطلب الله منا جميعاً أن نخفض لوالدينا جناح الذل من الرحمة:
الإسراء ﴿٢٤﴾
ما هو الجناح؟
وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)An elegant, artistic black and white illustration of bird wings, showing detailed feather structure. Clean, minimalist style on a white background.
الأنعام ﴿٣٨﴾
ولو راقبنا حركة إقلاع الطير، لربما وجدنا أن الطير لا ترتفع إلى الأعلى بفعل ما يسميه الناس أجنحة، بل هي ترتفع إلى الأعلى بفعل أجنحتها الحقيقية التي ترفعها إلى الأعلى، ثم تقوم تلك الأجزاء التي تظهر في الصورة في الأعلى (ويعرفها الناس بالأجنحة) بالمحافظة على توازن الطائر في السماء وتوجيه حركته بالاتجاه المطلوب. فالأجنحة التي يعرفها الناس هي التي توجه الحركة، ولكن الأجنحة التي ترد في السياق القرآني هي التي تعمل على رفع الجسم عن الأرض لتحلق به في جو السماء. فأين يا ترى توجد تلك الأجنحة الحقيقية؟
وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)Studio render of a male back. Semi-transparent shader revealing muscle fibers on the right deltoid/rotator cuff and upper arm; white translucent scapula, ribs, spine. Clean medical materials, soft HDRI lighting, high resolution, no labels or gore, neutral background.
وهناك – برأينا- يقع الجناح الذي تكمن مهمته في رفع الجسم عن الأرض، فمن كان له جناح واحد (كالإنسان) فهو يستطيع أن يرتفع بشكل جزئي، ولكن من كان له جناحان (كالطير) فيستطيع أن يرتفع عن الأرض بشكل كلي.
ولو راقبت حركة إقلاع الطير عن الأرض بدقة لوجدت أن أول ما يقوم به الطائر عند إقلاعه هو تحريك ذلك الجزء من جسمه، وهو –برأينا- ما يمكّنه من الارتفاع عن الأرض ليحلق في جو السماء، وما أن يرتفع الطائر عن الأرض حتى تبدأ مهمة ما يعرفه الناس بالأجنحة بالعمل على تثبيت الطائر بالارتفاع المطلوب وتحريكه باتجاه حركته.
مفهوم الجناح في القرآن
لو راقبنا السياقات القرآنية التي طلب الله من موسى فيها أن يفعل فعلاً خاصاً يتعلق بالجناح لوجدنا السياقيين القرآنيين التاليين:
طه ﴿٢٢﴾
القصص ﴿٣٢﴾
أولاً، إن المدقق في اللفظ القرآني يجد أن الفعل المطلوب من موسى أن يقوم به هو أن يضمم يده إلى جناحه، فكيف سيقوم موسى بفعل ضم اليد إلى الجناح؟
ثانياً، والمدقق باللفظ يجد أيضاً أن المطلوب من موسى أن يضمم إليه جناحه من الرهب، فكيف يستطيع موسى أن يقوم بفعل ضم جناحه إليه؟
ثالثاً، لو راقبنا النص القرآني جيداً لوجدنا أن اليد يمكن أن تضم إلى الجناح، أليس كذلك؟ فالله يطلب من موسى أن يضمم يده إلى جناحه (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ).
رابعاً، ولو راقبنا سياقات قرآنية أخرى ورد فيها الجناح، لوجدنا أن الجناح يمكن أن يتحرك باتجاه الأسفل:
الحجر ﴿٨٨﴾
الشعراء ﴿٢١٥﴾
الإسراء ﴿٢٤﴾
وهذا يدعونا إلى تقديم الافتراءات التالية التي هي بلا شك من عند أنفسنا:
- اليد يمكن أن تذهب باتجاه الجناح فتضم إليه (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ)
- والجناح يمكن أن يأتي باتجاه صاحبه فيضم إليه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)
- الجناح يمكن أن ينزل في حركة إلى الأسفل، فينخفض (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)
ولو دققنا أكثر في النص القرآني لوجدنا أن الله يطلب من موسى أن يضمم جناحه إليه من الرهب:
القصص ﴿٣٢﴾
ولو افترضنا أن الرهب (مأخوذ من الرهبة والرهبانية والرهبان ومشتقات يرهب ويرهبون) المتعلقة بحالة من حالات الخوف، لربما وجدنا أن الإنسان إذا ما تعرض جسمه لخطر خارجي، فإن ردة فعله الأولى تكون بضم جناحه إليه.
حل التناقض الظاهري بين الجناح والجيب
الدليل: تناقض ظاهري
لقد طلب الله من موسى أن يضمم يده إلى جناحه لتخرج بيضاء من غير سوء كما جاء في الآية الكريمة التالية:
طه ﴿٢٢﴾
ولكن المتدبر أكثر للنص القرآني يجد أن الله قد طلب من موسى أن يسلك يده في جيبه لكي تخرج بيضاء من غير سوء كما جاء في الآية الكريمة التالية:
القصص ﴿٣٢﴾
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...
أما السلوك فإنه يتطلب حركة مرور باتجاه محدد، فها هي النحل مأمورة بأن تسلك السبل:
النحل ﴿٦٩﴾
طه ﴿٥٣﴾
والله سلك الماء الذي أنزله من السماء ينابيع:
وهذا نوح يؤمر أن يسلك في السفينة من كل زوجين اثنين:
إن ما نود إثارته هنا هو أن سلك الشيء يتطلب من ذلك الشيء أن يتخذ طريقاً له ليصل إلى منتهاه، لذا نحن نتصور أنه عندما كان موسى يسلك يده في جيبه، ما كانت جيب موسى أكثر من طريق تسلكه يده لتصل إلى جناحه فتضم هناك وتخرج من هناك بيضاء من غير سوء، لذا نحن نفتري أن يد موسى لم تكن تستقر في جيبه ولكنها تدخل فقط في جيبه، فتسلك طريقا لها من هناك لكي تصل إلى الجناح حيث تخرج من هناك بيضاء من غير سوء.
ما هو الجيب؟
لو تدبرنا السياق القرآني التالي لوجدنا أن الله يأمر موسى أن يدخل يده في جيبه:
ولا شك عندنا أن الدخول في الشيء يقتضي وجود مساحة يمكن الداخل من التجوال في المدخول به، فالله قد أمر بني إسرائيل أن يدخلوا القرية ليتمتعوا بما فيها من الخيرات، وكذلك هي حالة دخول الجنة، وهكذا:
أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
الأعراف ﴿٤٩﴾البقرة ﴿٥٨﴾
ولا شك أن في الدخول متسع للآخرين:
الزخرف ﴿٧٠﴾
والدخول يقتضي وجود الأبواب التي يتم الدخول من خلالها للوصول إلى المساحة الأكثر اتساعاً:
ما هي اليد
لقد تحدثنا في مقالة سابقة لنا عن اليد وزعمنا الظن أن القرآن الكريم يتحدث عن
- اليد التي تقطع في حد السرقة[3]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
المائدة ﴿٣٨﴾ - اليد إلى المرفق (التي تغسل في الوضوء):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
المائدة ﴿٦﴾ - الجناح (الجزء المتبقي من المرفق وحتى الكتف)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ
طه ﴿٢٢﴾اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(للتفصيل انظر مقالتنا تحت سلسلة لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟)
القصص ﴿٣٢﴾
وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)A simple line drawing of a person crossing their arm over their chest, with the hand touching the opposite shoulder. The path of the arm movement should be indicated with a dotted line. Instructional, clear diagram style.
استراحة قصيرة: الجيب ولباس المرأة
الدليل
لقد قرأنا الآية القرآنية التي تتحدث عن جيب موسى على أنها طريقاً تصل من خلالها يد موسى إلى جيبه، فلو حاول كل إنسان أن يمد يده لتصل إلى جناحه لوجد لزوماً عليه أن يمر بمنطقة الصدر وهي ما نظن أنها الجيب كما في الأشكال التوضيحية التالية:
وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)A stylized illustration of two arms crossed over the chest, forming an 'X' shape. The hands are resting on the opposite shoulders. The image should be symbolic and clear.
وهذا يعيدنا على الفور إلى الطلب الإلهي من النبي أن يوصل قول الحق إلى المؤمنات بأن يضربن بخمورهن على جيوبهن:
الأحزاب ﴿٥٩﴾
الأمر الذي دعانا سابقاً إلى تقدي الافتراء التالي: لباس المرأة يجب أن يكون قطعتين اثنتين وهما:
- الخمار وهو الذي يضرب ضرباً على منطقة الجيب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ
- الجلباب وهو الذي يدنى على المرأة يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ
ولو راقبنا الآيات الكريمة جيداً لوجدنا أيضاً – كما زعمنا سابقاً- أن المرأة لم يطلب منها أن تغطي كامل وجهها، ولا بد أن تترك مجالاً لكي تعرف، فالله لم يطلب منا أن نلبس المرأة بطريقة تمنع معرفتها كلياً ولكنه طلب منا أن نلبسها بطريقة تقلل من فرصة معرفتها:
الأحزاب ﴿٥٩﴾
فالنص القرآني لم يأت على نحو "فلا يعرفن" أو "حتى لا يعرفن" أو "لكي لا يعرفن"، ونحوها. وإنما جاء على النحو التالي " أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ"، أليس كذلك؟
وإذا أردنا أن نتحدث عن مقاصد الشريعة في الخمار، لوجدنا أن علماءنا الأجلاء قد ظنوا أن في تغطية كامل الوجه درء للفتن، ولكننا نقول لهم لو نظرتم حولكم الآن لوجدتم أن عشرات الفتن تقع بسبب الخمار، فالمتسولات (الممتهنات للتسول) يلبسن الخمار فلا يعرفن، وبعض بائعات المجون والهوى أصبحن يلبسن الخمار الذي شرّعه علماؤنا للتستر على هويتهن فلا يعرفن، والغش في جامعاتنا العتيدة أصبح رائجاً باستخدام الخمار وانتحال الشخصية، ووصل الأمر بأن يلبس بعض الرجال الخمار ليندس في جموع من النساء!!!
وما الذي سيدريني ما يمكن أن تفعله أمي أو زوجتي أو ابنتي إن أرادت أن تخفي شيئاً عني، فهل أستطيع أن أراقب تحركاتها وهي تغطي وجهها كاملاً؟ هل أستطيع أن أعرف أن الخارجة من بيت الهوى هي قريبة لي مثلاً؟ أليس في كشف بعض من وجه المرأة حماية للمجتمع من التستر تحت غطاء ينكر الشخصية تماماً؟
ثم، ألا تجدوا يا سادة أن من تلبس الخمار تأخذ راحتها في التفرج على الآخرين؟ هل تستطيع من تكشف جزء من وجهها أن تتبع حركات الناس من حولها كما تفعل كثير من المتخمرات والمخمرات (حسب شريعة علمائنا الأجلاء)؟ من يدري!!!
إن من أراد أن يتحدث عن مقاصد الشريعة – يا سادة- فعليه أن يضع على الطاولة كل الظروف والأحوال، ولا يجب أن يفتح عينه على شيء منها ويغلق عينه الأخرى عن أشياء كثيرة، إن هذا يصبح أقرب إلى أهواء النفس ورغباتها أكثر منه عقيدة ملزمة للجميع بأمر رباني أحاط بكل شيء علما.
وقد يرد البعض بأنهم يريدون الدليل العقائدي أكثر من التنظير وإلقاء الخطب كما أفعل أنا الآن، فأقول لهؤلاء دعنا نراجع قصة مريم بنت عمران مثال الطهر والعفاف.
ألم يكن زكريا يدخل عليها المحراب؟ هل كانت تلبس الخمار عندما كان يدخل زكريا عليها المحراب؟ وما الذي كان سيدري زكريا أن هذه هي مريم بنت عمران؟
وقد يرد البعض ولكن هذه خصوصية لزكريا، فنقول ربما يكون هذا صحيحاً، إذن دعنا نراجع قصتها مع قومها، لنطرح السؤال التالي: كيف رجعت مريم إلى قومها بعد أن وضعت المسيح عيسى بن مريم؟ ألم تكن تحمله؟ كيف عرف قومها جميعاً أن القادمة إليهم من بعيد هي مريم بنت عمران؟
فهل لو كانت مريم – يا سادة- تلبس الخمار الذي يغطي وجهها كاملاً، فهل كان القوم سيتعرفون القوم على شخصيتها وأنها حقاً هي مريم بنت عمران التي يعرفون؟ وماذا لو كانت تلبس الخمار وظهرت شائعات من بعض المغرضين (من أمثالي مثلاً) بأن التي كانت تختمر بغطاء والوجه وتحمل الصبي ليست مريم بنت عمران التي نعرف؟ ألم يكن ذلك سيؤدي إلى جدال كبير واختلاف عريض بين القوم؟ فهل - يا ترى- تجادل القوم في شخصية من تحمل عيسى بين يديها؟ من يدري!!!
أما أنا فلا أظن أن تغطية الخمار للوجه كاملاً هو شريعة إلا من ظn أن أمه وزوجته وابنته وأخته يمكن أن يطلب لها عفة أكثر من عفة مريم بنت عمران، وهي التي شهد لها رب السموات والأرض بالطهر والعفاف وإحصان الفرج:
الأنبياء ﴿٩١﴾
التحريم ﴿١٢﴾
على أي حال، ما دخلي أنا بمثل هذه القضايا!!! فلتغلق فاك يا رجل وعد إلى حديث الجناح
عودة على بدء
نخلص من النقاش السابق إلى الافتراء بأن الجيب هو المنطقة التي تبدأ من عند السرة وتنتهي إلى الجناح حيث يمكن أن تضم اليد إليه ضماً، وهذا ما كان يفعل موسى بأمر من ربه لكي تخرج يده من هناك بيضاء من غير سوء، وهذا يعيدنا إلى نقاشنا عن الطير الذي يحلق في جو السماء بجناحين لكي يرفعانه معاً إلى الأعلى:
وهذا النوع من الطير هو ما نظن أن الله قد ألزم كل إنسان منا في عنقه:
الإسراء ﴿١٣﴾
نعم، هناك في عنق كل إنسان طائر يطير بجناحيه، ولكن لماذا؟
مهمة ذلك الطائر
الدليل
نحن نجد الدليل على هذا الزعم جلياً في قوله تعالى:
فلو راقبت عزيزي القارئ هذا النص القرآني جيداً لوجدت أن الوفاة تحصل للإنسان على الأقل مرة واحدة في اليوم والليلة، فصريح اللفظ القرآني يشير أن الله هو من يتوفى الأنفس في منامها كما أنه هو نفسه من يتوفى الأنفس حين موتها، فما يحصل للإنسان من الوفاة في الموت يحصل له في الوفاة بالنوم، ولكن الفرق يكمن في أن الله يمسك التي قضى عليها الموت فلا يرسلها مرة أخرى إلى صاحبها (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ)، ولكنه يرسل الأخرى إلى أجل مسمى (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى). لذا علينا أن نؤمن إيماناً يقينياً أن نفس الإنسان تخرج منه لتذهب عند ربها كلما خلد الإنسان إلى النوم وتعود إليه كلما استيقظ من نومه، وهذا يدعونا إلى طرح الافتراء التالي:
إن الذي يخرج من الإنسان ويعود إليه في حالة الموت وفي حالة النوم هي النفس (وليس الروح كما هو شائع عند العامة)، وسنحاول التعرض لهذه الجزئية بالتفصيل في مقالات قادمة بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يختصني بعلم من لدنه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب.
ولكن طرحنا هذا يدعونا إلى طرح التساؤل التالي على الفور: من الذي يقوم بحمل نفس الإنسان كلما خلد إلى النوم ليذهب بها إلى ربها، ومن الذي يعود به إلى الإنسان متى استيقظ من نومه؟
ولو حاولنا أن نربط ذلك بقوله تعالى:
ق ﴿١٦﴾
الواقعة ﴿٨٥﴾
لربما لاحظنا تأكيد القرب الإلهي للإنسان في السياقين القرآنيين بضمير الجمع " وَنَحْنُ"، فلماذا يتحدث الله عن قربه للإنسان بضمير الجمع؟
ولو حاولنا التفريق بين الوفاة بالموت والوفاة بالنوم لربما تجرأنا أن نفتري القول بأن نفس الإنسان تخرج مباشرة من عنقه في حالة النوم، فيطير بها الطائر من هناك، ولكن في حالة الموت فإنها تخرج من الحلقوم:
تبعات هذا الافتراء الخطير
أولاً، ربما يفسر مثل طرحنا هذا بعض ما جاء في سياقات قرآنية أخرى خاصة بالطير، منها قول الكافرين كما جاء في كتاب الله:
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ۚ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿١٩﴾
يس ١٨-١٩
فالكفار يقولون صراحة أنهم قد تطيروا برسلهم، أليس كذلك؟
والرسل يردون عليهم بالقول بأن "طائركم معكم، أليس كذلك؟
ولو حاولنا أن نربط هذا السياق القرآني بالسياق القرآني التالي، لربما وجدنا العجب العجاب:
النمل ﴿٤٧﴾
حاول أن تربط جيداً - عزيزي القارئ- ما جاء في سورة يس مع ما جاء في سورة النمل لتجد أن جواب الرسل كان مرة بأن طائر القوم معهم (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) وجاء مرة أخرى بأن طائر القوم عند الله (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، فما السبب؟
لكن يبقى السؤال التالي مطروحاً: ما معنى قول الكافرين لرسلهم أنا تطيرنا بكم (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)؟
أما بعد،
نحن نظن أن التطير لا يحدث إلا عندما يقوم ذلك الطائر الذي ألزمه الله في أعناقنا بالمهمة التي أوكله الله بها، وهي حمل نفس الإنسان ليذهب بها إلى ربها في كل وفاة للإنسان سواء بالموت أو بالنوم، ولكن لمّا كانت الوفاة بالموت تنهي مهمة ذلك الطائر وللأبد فإن حديث الكافرين – في ظننا- كان عن الوفاة بالنوم، فعندما يخلد الإنسان إلى النوم يقوم ذلك الطائر بحمل نفس الإنسان الذي أخلد بها إلى النوم ويطير بها ليضعها عند ربها، وما أن يصحو الإنسان حتى يعود ذلك الطائر بتلك النفس ويعيدها إلى صاحبها، ويبقى ذلك الطائر ملازم لعنق الإنسان لا يتحرك حتى يعود إلى الإنسان إلى نومه مروة أخرى، وهذا يعني – في ظننا- أن التطير (الفعل المشتق من الطائر) لا يحدث إلا والإنسان نائم.
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ۚ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿١٩﴾
يس
ولا نجد أن الرسل يردون عليهم بأكثر من الحقيقة بأن طائركم معكم (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ۚ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) وأن طائركم عند الله (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، فتلك هي رحلة طائركم بين أعناقكم وربكم، وليس لنا (نحن الرسل) شأن في ذلك، ويكأن الرسل يقولون لهم بأنه لا دخلنا لنا بتطيركم بنا، فهذا من باب إسرافكم في الأمر (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ۚ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وهو أيضاً من باب فتنتكم (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ).
قصة الأحلام
ثانياً، ربما يفسر مثل طرحنا هذا قصة أحلام الناس التي تحصل في منامهم، والتي غالباً ما وضع علماء النفس النظريات العلمية لتفسيرها، فسنحاول هنا أن نسقط فهمنا للنص القرآني على هذه الظاهرة، ولكن قبل القيام بذلك نجد لزاماً التأكيد – كما فعلنا على الدوام- بأن ما نقول لا يتعدى أن يكون أكثر من افتراءات من عند أنفسنا، فهي بلا شك ليست موجودة في كتاب الله، بل هي ما نظن نحن أن الدليل القرآني يصدقها. لذا فالباب مفتوح على مصراعيه للتحقق مما نقول سواء بالإثبات أو النفي، ونحن على استعداد للتخلي عن أفكارنا وطرحها كلها في سلة المهملات إن بان الدليل العقائدي الذي يدحضها.
أما بعد،
قصة الأحلام؟
- لماذا يحلم الإنسان في نومه؟
- لماذا يرى الإنسان في نومه ما يراه في حقيقته وما لا يراه في حقيقته؟
- لماذا لا تكون الأحلام مركزة واضحة؟ لماذا تتداخل الصور والأحداث في الأحلام؟
- كيف ينام الإنسان أصلاً؟
- لماذا يقلق الإنسان فلا يستطيع النوم أحياناً؟
- لماذا تحدث مع الإنسان سقطات النوم؟
- الخ
افتراءات كاذبة من عند أنفسنا
نحن نتخيل أن كل ذلك يحدث بسبب رحلة الطائر عندما يحمل نفس الإنسان ذهاباً وإياباً في وفاة الإنسان في نومه، ولكن كيف؟
ولو راقبت طريقة نوم الإنسان لوجدنا أن فعل الذهاب في النوم يحدث بسرعة فائقة جداً، صحيح أنك ربما تأخذ وقت طويل لتنام ولكن فعل الذهاب بالنوم لا يحدث تدريجياً، وإنما يحدث مرة واحدة، فإما أن تنام أو أن لا تنام، وذلك لأن الطائر – في رأينا- سريع جداً في نقله لتلك النفس إلى بارئها، وهذا ما يحدث أيضاً عن اليقظة من النوم، فالطائر يعود في سرعة فائقة حتى لا تكاد تشعر بها.
ثم، ألم يحصل لك – عزيزي القارئ- ولو مرة واحدة أن حاولت النوم وما أن غفوت حتى شعرت أنك تهوي في مكان سحيق؟ أو أنك تسقط من مكان مرتفع؟ ألم تستيقظ على الفور؟ فلماذا؟
هذا والله أعلم!!!
أسأل الله أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيرنا، إنه هو السميع المجيب.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
18 شباط 2013
د. رشيد الجراح
مركز اللغات- جامعة اليرموك
الهوامش
[1] ونحن إذ نقرأ هذه الآية الكريمة لنستغرب أن تكون فتوى علماء المسلمين لمن قام بفعل الصيد وهو في حالة الإحرام أن يقوم بذبح شيء من الأنعام كالماعز أو الضأن أو البقر أو الإبل ككفارة عن ما فعل، فالآية الكريمة تدل بما لا لبس فيه أن الجزاء هو من مثل ما قتل من "النعم" (فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وليس من الأنعام، فمادام أن النعم هي المقتولة التي تم اصطيادها، فكيف تكون الكفارة من الأنعام التي تكون مملوكة؟ أليست الكفارة من مثل ما قتل من النعم؟ فهل يمكن أن يعود الحاج المعتمر ببقرة أو ماعز أو شيء من الضأن أو الإبل ليدعي أنه قام باصطياده؟ فهل تصطاد تلك الكائنات اصطياداً؟ انظر مقالة "كيف تم خلق عيسى 3؟"
جواب: كلا وألف كلا، إننا نعتقد أن الإنعام هي كائنات مملوكة لا يمكن أن يتم اصطيادها، أما النعم فهي كائنات برية يمكن أن يتم اصطيادها، لذا فالكفارة تكون بمثل ما قتل من النعم، فأنت إن اصطدت أرنباً فكفارته بـ "مثل الأرنب"، وإن أنت اصطدت غزالاً فكفارته بـ "مثل الغزال"، وإن أنت اصطدت حماراً وحشياً، فكفارته بـ "مثل الحمار الوحشي، وهكذا، فكيف يتم ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الكفارة تكون على نحول "مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ"، وهذا – بكل تأكيد- لا يكون باصطياد نعم أخرى مثل التي قتلها المحرم لأن الحاج لا زال في مرحلة الإحرام، فكيف به أن يقوم بفعل القتل مرة أخرى، فإن هو فعل، فهذا يعني أنه يقوم بالاصطياد مرة أخرى وبالتالي الوقوع في المحظور من جديد، وهكذا. لذا نحن نفتري الظن أن الكفارة تكون بدفع قيمة المثل كما يحكم به ذوا عدل "فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ"، أي إن قام الحاج المحرم باصطياد أرنب بري مثلاً، فإن كفارة ذلك – في رأينا- لا تكون بأن يقوم باصطياد أرنب مثله، ولكن تكون بأن يقدر ذوا العدل قيمة ذلك الأرنب تقديرا (ويكون ذلك بالنقد أو بالطعام) يتم دفعه هدياً بالغ الكعبة أو لإطعام المساكين (أو الصيام إن تعذر دفع المثل).
والحكمة من ذلك - كما نظنها- تتمثل في أن تلك الثروة البرية (النعم) وإن لم تكن ملكية فردية لشخص بعينه إلا أنها ملكية خاصة لأهل تلك الديار التي يمر بها الحاج المحرم، ومادام أن الحجاج يأتون من كل فج عميق، فليس لهم الحق في التعدي على ممتلكات الآخرين، لذا إن قام الحاج المحرم بقتل شيء من تلك النعم، فعليه أن يدفع تعويضاً لأهل تلك المنطقة لأنه تعدّى على ممتلكاتهم، وخاصة لفقرائهم الذين غالباً ما يعتاشون على ما تجني أيديهم ورماحهم لتوفير قوتهم وقوت عيالهم.
ولكن - بالمقابل- نجد الرخصة بالنسبة لصيد البحر مفتوحة (حتى وقت الإحرام) وذلك لأن البحر في رأينا- ليس ملكية فردية لأحد وهو ليس ملكية خاصة لأهل منطقة معينة وإنما هو ملكية عامة للجميع، لذا عندما تقوم أنت باصطياد شيء من البحر، فأنت لا تعتدي على ملكية الآخرين، والله أعلم. ↩
[2] حاولنا الافتراء سابقاً أن هذه الكائنات ليست من النعم، وبالتالي لا يجوز صيدها لأن الصيد مقتصر على ما تناله أيدنا ورماحنا:
المائدة ﴿٩٤﴾
[3] وسنتحدث لاحقاً بحول الله عن كيفية قطع يد السارق في ضوء ما يمكن أن نفهمه من قصة نسوة المدينة اللواتي قطعن أيديهن عندما رأين يوسف وأكبرنه، لذا فالله أسأل أن يأذن لنا بمعلم لا ينبغي لأحد غيرنا إنه هو السميع العليم. ↩



