قصة يونس - الحزء السادس

قصة يونس – الجزء السادس

كان الجزء السابق من هذه المقالة متركزا النقاش فيه على الربط بين شخصية ذي النون من جهة وشخصية فرعون من جهة أخرى من حيث جزئية محددة بذاتها وهي أنهما من جاءت عبارة "وَهُوَ مُلِيمٌ" خاصة بهما على مساحة النص القرآني كله، وقد جاءت لتصف حالتيهما عند الغرق على وجه التحديد:
ذي النون: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
ولو أمعنا التدبر في السياق القرآني الخاص بفرعون (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)، لوجدنا أن الدّقة تستدعي جلب الانتباه إلى الفكرة المهمة جدا التالية: بالرغم أن فرعون وجنوده قد نبذوا جميعا في اليم (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) إلا أن واحدا فقط من بينهم كان مليما (وَهُوَ مُلِيمٌ)، ليكون السؤال هو: لماذا كان فرعون مليما عندما نبذ في اليم؟ ولِم لم يكن أحد من جنده مليما أيضا؟ وبالمنطق نفسه (نحن نسأل): كيف كان ذو النون مليما عندما التقمه الحوت (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
رأينا المفترى: نحن نظن أن هناك تشابكا يكاد يكون متطابقا بين الرجلين في هذه الجزئية (وَهُوَ مُلِيمٌ)، فحالة فرعون- كما يحب أهل اللغة أن يصفوها من الجملة الحالية (وَهُوَ مُلِيمٌ)- تشبه تماما حالة ذي النون عندما التقمه الحوت.
السؤال: كيف كانت حالتيهما؟
رأينا المفترى: للإجابة على هذا التساؤل، فإننا نظن أننا بحاجة أن ننبش بتفاصيل حياة الرجلين، ومن ثم محاولة ربط الأحداث معا علّنا نخرج بعد ذلك بافتراءات ترشدنا إلى غايتنا المرجوة بحول الله وتوفيق منه.
بداية، نحن نظن (ربما مخطئين) أن مفردة مُلِيمٌ لها علاقة بمفردات مثل لَوْمَةَ و لَائِمٍ و تَلُومُونِي وَلُومُوا ، و اللَّوَّامَةِ و لُمْتُنَّنِي التي وردت جميعا في السياقات القرآنية التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
فنسوة المدينة مثلا هن اللواتي لُمْنَ امرأة العزيز في فتاها، فما كان منها إلا أن تذكرهن بذلك بعد أن أكبرن يوسف وقطعن أيديهن: 
قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
ولو أمعنا التفكر في هذه السياقات جيدا لوجدا أن اللائم هو من يلقي بعبء الذنب (وسبب الوقوع فيه) على غيره. فالشيطان مثلا يحاول التنصل من المسؤولية بأن يلقي باللائمة على أنفس اللذين اتبعوه. فكان جل ما فعل هو أنه دعاهم، ولكن الاستجابة كانت منهم. فيصبح هناك داعي وهناك مستجيب. فالشيطان هو الداعي (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ) ولكنهم هم المستجيبون (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)، وبالرغم من ذلك ينجح الشيطان في الإفلات من المسؤولية لسبب واحد وهو أن الداعي لا يملك السلطان على من دعاه (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ). فالذي يتحمل اللائمة هو من كان له سلطان. إن صح هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا، فإننا إذن نستطيع أن نخرج منه بالاستنباطات المفتراة التالية:
- الشيطان يدعو
- الشيطان (كداع) لا يملك سلطانا على من يدعوه
- الشيطان لا يتحمل المسؤولية لمجرد أنه يدعو
... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ...
- الذي يتحمل المسؤولية هو من كان له سلطان
-الإنسان يتحمل المسؤولية لأنه هو من استجاب
- من استجاب هو من يملك السلطان
- من استجاب هو من يتحمل المسؤولية
- اللوم يجب أن يقع على النفس
- النفس هي من تملك السلطان على الإنسان
... فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ...
- الخ
مادام أن النفس هي من تملك السلطان فهي إذن من تتحمل اللائمة:
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
نتيجة مفتراة: لمّا كان الشيطان ليس له سلطان على الناس، فهو إذن يقع خارج دائرة الملامة:
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

ولو تدبرنا السياق القرآني التالي لوجدنا أن سلطان الشيطان لا يكون إلا على اللذين يتولونه والذين هم به مشركون:
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (65)
وهذا بالضبط هو ما قاله الشيطان لهم وهم يتحاجون جميعا في النار (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ). وانظر – عزيزي القارئ- السياق القرآني نفسه جيدا:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
نتيجة مفتراة: لا يجب أن نلقي باللائمة على الشيطان فيما نفعل وذلك لأن الشيطان لا يملك سلطانا إلا على من بادر بنفسه ليتولاه من قبل وأصبح به من المشركين (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ)، وهناك يبدأ سلطان الشيطان ينفذ على هؤلاء وذلك لأنهم تولونه من قبل (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ).
نتيجة مهمة جدا جدا: ليكف الناس (نحن ننادي) عن إلقاء التهم جزافا على الشيطان، فهو بريء من التهم الموجهة إليه بهدف إلقاء اللائمة عن النفس وتحويلها إلى الشيطان. فغالبا ما نجد أن الذي يسرق – مثلا- يحاول أن يرمي باللائمة على الشيطان، وكذلك الذي يزني ويكذب ويفعل الذنوب جميعها. فنحن نذكر أنفسنا عندما نقول لكل هؤلاء أن فعلكم هذا لا يقع – في ظننا- إلا في باب محاولة تخفيف وطأة الذنب عن نفس الإنسان. فالذي يرتكب المعصية يحاول بكل السبل أن يجب مبررا لفعلته، وعادة ما يكون الشيطان في أغلب الأحوال هو ملاذ هؤلاء، فيلقون باللائمة عليه في محاولة يائسة لتبرئة أنفسهم من تحمل المسؤولية. لكن هذه الآيات الكريمة – نحن نفتري القول- تكذّب دعواهم جميعا. فالشيطان لا يملك سلطانا إلا على من تولاه من قبل. فالذي يسرق فإن نفسه هي المسؤولية وهي المستعدة للسرقة وهي التي تسول له فعلا كهذا قبل أن يجد الشيطان يدفعه ويحثه على الوقع في فعلة كهذه. فالاستعداد للوقوع في المعصية – في ظننا- سابقة على الدوام لدعوة الشيطان. فالشيطان لا يحث الإنسان على الوقوع في الزنا إلا إذا كانت نفس الإنسان تحدثه بذلك من قبل، وكذلك من يسرق ويقتل ويكذب، الخ. فلا يجب بعد ذلك أن يلقي مرتكب الذنب باللائمة على الشيطان، بل عليه أن يمتلك ما يكفي من الشجاعة لتحمل المسؤولية بإلقاء اللائمة بذلك على نفسه. وليكن لنا فيما جاء في قصة يوسف وموسى خير مثال على ذلك. فهذا السياق القرآني في سورة يوسف يبرئ الشيطان ويلقي باللائمة على النفس:
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
هذا موسى يرتكب الذنب بالقتل:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
ولكن بالرغم من إدراكه بتدخل الشيطان في الأمر (قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) إلا أنه لم ينفي ظلمه لنفسه:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
عودة على بدء
نعود من هذا النقاش إلى قصة يونس بالنتيجة المفتراة من عند أنفسنا التالية: عندما التقم الحوتُ يونس، كان يونس في حالة أنه مليم (وَهُوَ مُلِيمٌ)، عندها أقر (نحن نفتري الظن) بأنه يتحمل المسؤولية فيما وصلت إليه حاله الآن. وهكذا كان فرعون. فما أن وجد أن الغرق لا محالة قد أدركه حتى أيقن أنه يجب أن يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور، فكان هو أيضا مليما (وَهُوَ مُلِيمٌ).
وهناك بالضبط نحن نتخيل جاءت دعوتهما ربهما بالنجاة، فجاء قول فرعون على النحو التالي:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
وهناك ارتفع صوت ذي النون بالنداء عاليا:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن المليم هو من كان يلقي باللائمة، ولكننا نفتري الظن من عند أنفسنا أن ذي النون وفرعون كان في تلك اللحظة يلقون باللائمة على طرفين اثنين وهما:
- أنفسهم
- الملأ من حولهم اللذين كانوا يحثونهم على التمادي في إلحاق الضرر بالآخرين بعد أن الحقوا الضرر بأنفسهم
الدليل
نحن نظن أن الآية الكريمة التالية ربما تشير إلى صحة افتراءاتنا هذه، خاصة اعتراف ذي النون بلسانه بأنه كان من الظالمين:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
ليكون التساؤل الذي سنثيره الآن هو: كيف كان ذو النون من الظالمين؟

باب: إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
تساؤلات
- كيف كان ذو النون من الظالمين؟
- ما الذي فعله حتى كان في فترة من حياته من الظالمين؟
- وهل لازال من الظالمين؟
- ومتى كان من الظالمين؟
- ومتى توقف عن ذلك؟
- ثم، ألم يكن ذو النون أصلا من المسبحين (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
- وكيف يمكن أن نربط أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ مع إقراره بنفسه أنه كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؟
- فهل يمكن أن يجتمع التسبيح مع الظلم؟ وكيف يمكن أن يجتمعا معا؟
- وإذا كان التسبيح والظلم لا يجتمعان معا، فأيهما حصل في البداية التسبيح أم الظلم؟
- وما هي طبيعة الظلم الذي ارتكبه ذو النون؟
- وكيف استطاع أن يتخلص من ذاك الظلم؟
- الخ

هذا ما سنحاول النبش فيه فيما تبقى من هذا الجزء من المقالة، سائلين الله وحده يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن أعلم وأن يزدنا علما وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، إنه هو الواسع العليم – آمين.
أما بعد،
السؤال الأول: ما معنى قول ذي النون إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن في قول ذي النون هذا إشارة قوية جدا لنسج خيوط عنكبوتية بينه من جهة وبين كل من كان مِنَ الظَّالِمِينَ على مساحة النص القرآني كله من جهة أخرى كآدم وزوجه مثلا:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
وهما من أقرا بظلهما أنفسهما، فطلبا المغفرة من الله مباشرة:
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وكذلك كان قوم نوح من الظالمين:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
وكان قوم موسى من الظالمين عندما اتخذوا العجل إلها:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
وكذلك كان آل فرعون اللذين فرّ موسى منهم:
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
وهم أنفسهم من طلبت امرأت فرعون النجاة منهم:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
السؤال: لماذا كان هؤلاء من الظالمين؟
رأينا المفترى: لأنهم لم يتقبلوا الأمر الإلهي الذي صدر، فآدم وزوجه لم يتمثلا الأمر الإلهي بعدم الاقتراب من الشجرة، فكانا ظالمين لأنفسهم عندما خالفا الأمر الإلهي وتقبلا نصيحة الشيطان لهما. وكذلك كان قوم نوح من الظالمين وهم اللذين رفضوا قبول الأمر الإلهي على لسان نبيهم نوح الذي دعاهم ليلا ونهار سرا وعلانية، وكذلك تقبل قوم موسى في غيابه دعوة السامري ورفضوا نصيحة هارون على فصاحة لسانه، فكادوا أن يقتلوه. وكذلك كان آل فرعون من الظالمين، الخ.
السؤال: لماذا كان ذو النون من الظالمين كما أقر بذلك بلسانه (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
رأينا المفترى: لأن لم يتقبل دعوة النبي الذي جاءه وقومه أجمعين
الدليل:
نحن بداية نؤمن أن الظلم لا يقع عن جهل وإنما على علم بدليل قوله تعالى:
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
بناء على فهمنا لما جاء في هذه الآية الكريمة فإنه بإمكاننا أن نخرج بالاستنباط التالي: نحن نظن أن الظالم هو من اتبع الهوى بعد ما جاءه من العلم، أليس كذلك؟
السؤال: كيف يأتي العلم لهؤلاء اللذين اتبعوا أهواءهم فأصبحوا ظالمين؟ أي ما هي طريقة وصول العلم لهؤلاء جميعا؟
جواب: نحن نظن أن واحدة من أهم طرق إيصال العلم للناس هي أن يبعث الله إليهم رسولا، فيتبعون أهواءهم بعدم الاستجابة لدعوة النبي المرسل إليهم من ربهم. وانظر – عزيزي القارئ- مليّا في السياق القرآني التالي:
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
فتراء خطير جدا من عند أنفسنا: إن كل اللذين جاءتهم دعوة من ربهم على لسان رسله ولم يستجيبوا لها (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) وآثروا إتباع أهواءهم (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) هم من الظالمين، وهؤلاء هم اللذين لن يهديهم الله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
تخيلات مفتراة: كان ذو النون صاحب مكانة في قومه، وكان الله قد آتاه حكما، فظن أنه مؤهل للرسالة، ولكن الرسالة تأخرت عليه، فلم يصبر لحكم ربه خاصة عندما وجد أن شخصا آخر قد بُعث في قومه رسولا من ربهم إليهم جميعا، وهنا ثارت ثائرة الرجل، فكتم غيظ قلبه، فكان مكظوما (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ)، فما استطاع حينها إلا أن يكون من الظالمين عندما سولت له نفسه – نحن نفتري الظن- أن لا يستجيب لذلك الرسول، فكان ممن اتبع هواه (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)، وزاد الطين بلة (نحن لا زلنا نتخيل) أن آثر إلحاق الأذى بذلك الرسول، وقد وجد التشجيع والدعم من المنافقين والكافرين ممن حوله، فكان الرجل من أولئك الظالمين اللذين لم يتقبلوا دعوة ربهم على لسان رسوله.
نتيجة مفتراة خطيرة جدا: في تلك الفترة الزمنية من حياة الرجل كان ذو النون من الظالمين وذلك لظنه أن الله لن يجعله إماما للناس.
نتيجة مفتراة خطيرة جدا: كان ذو النون يطمع أن يجعله الله إماما للناس.
السؤال: لماذا لم يجعل الله ذا النون إماما للناس بالرغم أنه كان قد آتاه حكما من ذي قبل؟
رأينا المفترى: لأن ذي النون كان في تلك الأثناء من الظالمين اللذين لن ينالهم عهد الله، مصداقا لقوله تعالى:
وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
نتيجة مفتراة: لا ينال عهدُ الله الظالمين
السؤال: لماذا لم يهد الله ذا النون حينها؟
رأينا المفترى: لأنه كان ممن يتولى غير المؤمنين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
نتيجة مهمة جدا: في تلك الفترة الزمنية التي كان فيها ذو النون من الظالمين فقد كان يتولى الظالمين كما يتولونه هم ما دام أن الظالمين هم أولياء بعضهم بعضا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
كما نتخيل بأن ذا النون لم يستجيب لدعوة الرسول عندما آثر إتباع الهوى:
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
نتيجة مفتراة 1: في فترة محددة من حياة ذي النون كان الرجل من الظالمين، فكان ممن يتولى غير المؤمنين، فلم يكن مؤهلا ليكون إماما للناس لأن الله لا يهدي القوم الظالمين:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (256)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ ۖ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا ۚ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
كان من المفترض أن يفعل شيئا قد كتب عليه ولكنه لم يفعله:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
نتيجة مفتراة 2: لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، كان ذو النون ممن شاقق الرسول الذي جاءه وقومه، فكادت أن تكون نهايته وخيمة جدا:
وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
السؤال: هل الله هو من هدى ذا النون لاحقا؟
جواب: كلا، فالله لم يهد ذا النون وجل ما حصل أن الله تداركه بنعمة منه:
لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
السؤال: ما الفرق بين أن يكون الله قد هدى ذا النون أو أن يكون قد تداركه نعمة منه؟
رأينا: نحن نظن أن الهداية لا تتم إلا لمن يشاء:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (31)
فـ الهداية أو الضلالة مرتبطة بالإنسان نفسه، فالله لا يتدخل في هداية فلان (حتى وإن كان رسولا) وضلالة فلان (حتى وإن كان شيطانا رجيما) مادام أن ذلك مرتبط بمشيئة الإنسان نفسه، فمن شاء الهداية وجد الله هاديا له، ومن شاء الضلالة وجد الله مضلا له. انتهى
(للتفصيل: انظر مقالتنا جدلية التسيير والتخيير وسلسلة مقالات هل لعلم الله حدود؟)
السؤال: لماذا إذن تدارك الله ذا النون بنعمة منه؟
جواب: لأنه كان في سابق عهده من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
السؤال: ما معنى أن يتدارك الله ذا النون بنعمة منه؟
رأينا المفترى: نحن بداية نظن بأن مفردة نِعْمَةَ في السياق القرآني لا تعني أنها نعمة واحدة فقط، فالمفردة نفسها تدل على الجمع (أي أكثر من نعمة واحدة) بدليل قوله تعالى:
وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
فمادام أن النعمة تحتاج أن تعدد، وهي لا تحصى حتى وإن حاولنا عدها، فهذا يعني أنها متعددة وكثيرة جدا. لذا، نحن نظن أن النعمة الإلهية تتمثل بوجوه كثيرة، نذكر منها:
النجاة من السوء، فهي عكس الضر:
فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
وهي تتمثل أيضا بالرزق:
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)
كما تتمثل بالاجتباء بالرسالة والملك:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (20)
شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)
السؤال: كيف تمثلت نعمة الله التي تداركت ذا النون؟
لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
رأينا: نحن نظن أنها كانت على النحو التالي:
- النجاة من السوء، فأخرج من بطن الحوت
- الرزق، فأنبتت عليه شجرة من يقطين
- الاجتباء بالرسالة
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كانت نعمة الله بيونس تتمثل بأن نجّاه الله من بطن الحوت فما لبث في بطنه إلى يوم يبعثون. وكانت نجاته تلك متبوعة بجلب الرزق له عندما أنبتت عليه شجرة من يقطين، وتمت نعمة ربه عليه بالاجتباء الإلهي له بالرسالة. ونحن نكاد نجزم الظن بأن ذلك لا علاقة له بالهداية لأن أمر الهداية متروك لمشيئة الإنسان نفسه.
السؤال: أين حصلت الهداية لذي النون إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ذلك حصل في الفترة الواقعة بعد أن كان من الظالمين (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقبل أن تداركه نعمة من ربه (لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ).
السؤال: ومتى حصل ذلك؟
جواب مفترى: هناك عندما التقمه الحوت فنادى في الظلمات:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
لتصبح مسيرة حياة ذي النون – برأينا المفترى- على النحو التالي:
        من مسبحين – من الظالمين – الهداية – النعمة – الاجتباء بالرسالة
السؤال: لماذا حصل ذلك لذي النون؟
السؤال المعاكس: لماذا لم يحصل مثل ذلك لفرعون؟ ألم يدعو ربه بدعاء مشابه لدعاء ذي النون؟ ألم يكن من الظالمين كما كان ذي النون؟ الخ.
رأينا المفترى: نحن نفتري القول أن خاتمة الرجلين قد اختلفت لأن مقدمتهما كانت مختلفة. ففي حين أن ذا النون كان في سابق عهده من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فقد كان فرعون في سابق عهده من المفسدين:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
سؤال: هل هذا هو السبب فقط؟ هل هذا السبب كافيا حتى يصبح الفرق في نهاية كل منهما شاسعا بهذا الشكل؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هناك سببا آخر يميّز حالة ذي النون عن حالة فرعون.
السؤال: ما هو ذلك الفرق؟
جواب مفترى: إنه العلو في الأرض. ففي حين أن فرعون كان عاليا في الأرض لم يكن ذو النون كذلك.
افتراء خطير جدا: في حين أن كلا الرجلين كان من الظالمين، إلا أن غاية كل واحد منهما من الظلم الذي ارتكبه تختلف عن غاية الآخر، ففي حين أن ظلم فرعون – نحن نفتري الظن- كان مدفوعا بالعلو بالأرض، لم يكن ظلم ذي النون مدفوعا بذلك الهدف. فغاية ذي النون – نحن نفتري القول من عند أنفسنا- كانت تتمثل بالعلو في الآخرة وليس في الأرض، فالظلم الذي ارتكبه كان الهدف من وراءه بأن يكون من المرسلين، فكانت عاقبته حسنة:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: مادام أن ذا النون (نحن نؤمن) من أصحاب الدار الآخر، فهو إذن لم يكن ممن يريدون علوا في الأرض، وإلاّ لما كان مستحقا لها. وبهذا المنطق المفترى فإننا نظن أنه لولا الفساد الذي كان يفعله فرعون ولولا أن هدفه كان العلو في الأرض لكانت عاقبته لا تقل عن عاقبة ذي النون.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن ذا النون كان من أصحاب الدار الآخرة لأنه:
- لم تكن غايته مدفوعة بهدف العلو في الأرض
- لم يكن من المفسدين
نتيجة مهمة جدا جدا: كان ظلم ذي النون غير مدفوع بالعلو بالأرض ولا بالفساد، بينما كان ظلم فرعون مدفوعا بالعلو بالأرض وبالفساد. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في الآية الكريمة التالية:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه مادام أن فرعون كان يريد العلو في الأرض، فهو لن يكون ممن جعلت لهم الدار الآخرة ، وذلك لن الدار الآخرة لم تجعل لمثل هؤلاء:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
السؤال: إذا كان هذا هو الفرق – كما تزعم – بين الظلم الذي ارتكبه ذو النون وذاك الذي ارتكبه فرعون، فكيف يمكن التفريق بين الظلم الذي ارتكبه ذي النون وذاك الذي ارتكبه موسى مثلا؟ ألم يقر موسى بارتكابه الظلم عندما قتل الرجل؟ ألا ترى أن قتل موسى للرجل ربما هو أكبر من ظلم ذي النون؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
رأينا المفترى: دقق – عزيزي القارئ- جيدا فيما قاله موسى بالضبط دون زيادة ولا نقصان. ألا تجد بأنه يعترف بظلمه نفسه (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
السؤال: وما الفرق؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول بأن ذا النون كان من الظالمين، أليس كذلك؟
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
بينما كان موسى ظالما لنفسه فقط:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
الفرق بين الظلم من جهة وظلم النفس من جهة أخرى
السؤال: وما الفرق بين أن تكون ظالما (كذي النون) أو أن تكون ظالما لنفسك (كموسى) مثلا؟
جواب: نحن نظن أن من كان ظالما فقد وقع في فعل ظلم أشمل وأوسع من ظلم النفس.
السؤال: وما الفرق؟
رأينا: نحن نظن أن من كان ظالما لنفسه فهو من يبوء بإثم واحد بينما من كان ظالما فهو من يبوء بإثمين اثنين.
الدليل
دقق – عزيزي القارئ- في الآية الكريمة التالية التي تصور ما قاله أحد ابني آدم عندما أراد أخوه أن يقتله:
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
ألا ترى بأن الظالم (أي من كان من الظالمين) هو من يبوء بإثم غيره (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي) كما يبوء بإثمه (وَإِثْمِكَ
السؤال: فمن هو الظالم لنفسه إذن؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن الذي يظلم نفسه هو من يبوء بإثمه فقط، ولا يبوء بإثم غيره. ولو دققنا مليّا في الآيات الكريمة التالية لوجدنا أن عقوبة الظالم الذي لا يقر بظلمه ويتراجع عنه هي جهنم:
لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
وهي لا شك أعظم من عقوبة من كان ظالما لنفسه كآدم وزوجه:
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
أو كموسى مثلا:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
السؤال: لماذا كان موسى ظالما لنفسه ولم يكن من الظالمين؟
جواب مفترى: لأن موسى باء بإثمه ولكنه لم يبوء بإثم الرجل الذي قتله لأن موسى (نحن نفتري القول) لم يكن من المعتدين:
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
سؤال: ما الذي تقوله (يا رجل): ألم يقتل موسى رجلا؟ كيف إذن لم يكن من المعتدين؟ لم لا يبوء بإثم ذلك الرجل؟ ربما يستغرب صاحبنا قائلا.
رأينا المفترى: نحن نظن أنه لابد في هذه اللحظة من جلب سياقين قرآنيين معا يصوران لنا مواجهة بين طرفين (أي رجلين). وهنا نجد على الفور السياقين التاليين:
السياق الأول: المواجهة التي حصلت بين ابني آدم:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
السياق الثاني: المواجهة التي حصلت بين موسى وذلك الرجل الذي قتله موسى:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
السؤال ما الفرق بين المواجهتين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الفرق يمكن أن يتضح للقارئ الكريم بعد طرح التساؤل التخيلي التالي: ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن موسى لم يقتل الرجل؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لكان ذاك الرجل أسرع إلى قتله موسى، لأن ذلك الرجل كان باسطا يده لقتله موسى كما كان موسى باسطا يده لقتل ذاك الرجل. ولكن هل هذا ما حصل في المواجهة بين ابني آدم من قبل؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، لأن واحدا منهم فقط كان باسطا يده لقتل الآخر بينما لم يبسط الآخر يده لقتله أخيه.
نتيجة مفتراة: عندما بسط أحد ابني آدم يده لقتل آخيه، فقد باء بإثم نفسه ولكن لما لم يبسط الأخ الآخر يده لقتل أخيه الذي بسط يده لقتله باء الأول بإثم آخر وهو إثم أخيه، فكان القاتل منهما يتحمل إثمين معا: إثم أخيه وإثم نفسه (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)، فكان يستحق عاقبة من كان من الظالمين (وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ). وانظر عزيزي القارئ- إن شئت- في الآية نفسها مرة أخرى من هذا المنظور:
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
أما في حالة موسى، فقد كان كلا الرجلين (موسى وعدوه) باسطا كل منهما يده لقتل الآخر، فعندما بسط موسى يده لقتل الرجل كان ذلك الرجل هو أيضا باسطا يده لقتل موسى، عندها كان كل منهما يبوء بإثم نفسه (أي إثم القتل) لكنه لا يبوء بإثم الآخر. فكان كل منهما ظالما لنفسه ولكنه لم يكن ظالما لغيره.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل بأن موسى كان يمكن أن يكون من الظالمين (وليس فقط ظالما لنفسه) لو أنه أقدم على قتل الرجل الآخر في صبيحة اليوم التالي:
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
لاحظ – عزيزي القارئ- كيف أن هذا الرجل الذي كان يريد موسى أن يبطش به لم يبسط يده لقتل موسى (قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ)، فلو أن موسى (نحن لازلنا نتخيل) قد أقدم على قتل هذا الرجل بعد أن امتنع هذا الرجل عن بسط يده ليقتل موسى، لكان موسى (نحن نفتري الظن) من الظالمين ولباء حينها بإثمين اثنين: إثم ذلك الرجل وإثم نفسه.
ولعل مثل هذا الطرح (على ركاكته) ربما يحل إشكالية كبيرة في الفكر الديني تتمثل في حساب موسى عند ربه يوم الدين. لذا علينا أن نطرح تساؤلات كثيرة حول هذا الموضوع مثل:
- ألا يحق لذاك الرجل أن يطلب حقه من موسى؟
- ألم يقتله موسى عندما وكزه؟
- ولِم (نحن لا زلنا نسأل) يغفر الله لموسى ظلمه لنفسه؟
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
السؤال الخطير: كيف تتحصل المغفرة الإلهية لموسى بالرغم أنه قتل رجلا؟ فأين حق المقتول إذن؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الله قد غفر لموسى ذلك لأن موسى كان ظالما لنفسه (أي باء بإثمه) ولم يكن ظالما (أي باء بإثمه وإثم غيره). وذلك لأن الإثم بينها قد تساوى، فكما بسط موسى يده لقتل ذلك الرجل كان ذلك الرجل أيضا باسطا يده لقتل موسى أيضا، فكانا كأنما هما جنديان في ساحة حرب، فالأسبق هو من يطيح بخصمه أرضا، وهو لا يبوء بإثم خصمه مادام أن هذا الخصم كان باسطا يده إليه ليقتله أيضا.
ولكن، لو أن المقتول لم يبسط يده لقتل القاتل (كما في حالة ابني آدم)، لحق للمقتول (نحن نفتري الظن) أن يطلب حقه من أخيه الذي قتله لأنه لم يك باسطا يده لقتل أخيه، فكان أخوه هو الذي اعتدى، فكان ظالما يبوء بإثمين أثنين: إثم أخيه وإثم نفسه:
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
تبعات هذا الظن
نحن نظن أن أهم تبعات هذا الظن هو أن الإثم الواحد هذا يتحول إلى ذنب، قابلا لأن يغفره الله:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
السؤال: أين الدليل على أن هذا الإثم (جزاء لمن ظلم نفسه)، يصبح ذنبا قابلا للمغفرة؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل متوافر في السياق القرآني التالي الذي جاء على لسان موسى نفسه معترفا بالذنب الذي يتحمله جراء قتله واحدا من آل فرعون:
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14)
الدليل
لا شك - عندنا - أن الظالم هو من اعتدى، مصداقا لقوله تعالى:
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
السؤال: إذا كان من اعتدى هو إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ، فهل كان ذو النون من الظالمين (أي ظالما) ولم يكن فقط ظالما نفسه؟
رأينا: نعم، كان ذو النون من الظالمين (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، لذا كان من المعتدين، فهو إذا يبوء بإثمين اثنين: أثم نفسه وإثم من حوله، وربما هكذا كان فرعون أيضا.
الدليل
أولا، ما دام أن ذا النون كان من الظالمين، فالاحتمالية قائمة أنه كان من المعتدين:
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
ثانيا، ولا شك عندنا أن من كان من الظالمين، فـ لربما أنه كان من اللذين يطردون من يدعون ربهم بـ الغداة والعشي:
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
ثالثا، لا شك عندنا أن من كان من الظالمين فقد كان يزدري الآخرين اللذين هم أقل درجة منه على السلم الاجتماعي كقوم نوح مثلا اللذين كانوا يزدرون المؤمنين المستضعفين اللذين آمنوا بنوح:
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
رابعا: لا شك عندنا أن الظالمين قد لا يترددون في إخراج الرسل من أرضهم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
السؤال: فهل كان ذو النون ممن طرد اللذين يدعون ربهم بالغداة والعشي؟ وهل كان من اللذين يعملون على إخراج رسل الله من الأرض؟
خامسا، لا شك أيضا أن عاقبة الظالمين – إن هم لم يتراجعوا عن ظلمهم- هي العذاب:
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
ولا شك أن لعنة الله ستصيبهم إن هم أصروا على ظلمهم:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
وذلك لأن الله لا يحب الظالمين:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
سادسا، ولا شك أن الذي يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه فهو إذن من الظالمين:
وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)
فالمعتدي على غيره حتى بالسرقة فهو من الظالمين:
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
ولا شك أن الشرك هو الظلم العظيم:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ ۗ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ۗ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45)
نتائج مفتراة: نحن نستطيع أن نخرج من هذا النقاش بالافتراءات التالية التي نظن أنها تنطبق في حالة ذي النون:
- كان ذو النون في فترة من حياته من الظالمين
- ولربما كان ذو النون من المعتدين
- ولربما كان ذو النون ممن يطردون من يدعون ربهم بـ الغداة والعشي
- ولربما كان ممن يعمل على إخراج الرسل من الأرض
- ولربما كان ذو النون ممن يدعون من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه
- ولربما كان ذي النون ممن يتولى الظالمين ممن هم حوله كما كان بعض الظالمون يتولونه
- لكن المؤكد لنا أن ذا النون لم يصرّ على ظلمه
- وقد أقر ذو النون بظلمه نفسه وظلمه غيرة فتحمل بنفسه المسؤولية
- كما أقر ذو النون بأن الله هو الواحد الأحد الذي يجب أن يدعوه
- الخ
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل قصة ذي النون وقد حصلت إذا على النحو التالي: يتحصل ذو النون على الحكم، فيكون في سابق عهده من المسبحين، ويستطيع التأثير بما له من مكانة اجتماعية في قومه على من حوله، فيصبح معظمهم من المؤمنين، ويبقى الرجل على تلك الشاكلة طامعا بأن يجتبيه ربه ويجعله من المرسلين، إلا أن الرجل يقع في فعل الظلم، فيكون من الظالمين، فيصبح كمن يبوء بإثمه وإثم غيره. ونحن نتخيل أن ذلك قد حصل عندما وجد ذو النون أن رجلا آخر قد اصطفاه الله بالرسالة إلى قومه. فعندها دخل الحنق (نحن لازلنا نتخيل) قلبه، فلا يستطيع أن يكتم غيظ قلبه، فيصبح مكظوما، ولما كان فيمن حوله من الملأ بعض المنافقين والكافرين اللذين أوغروا صدر الرجل ضد قبول دعوة هذا الرسول الجديد، لم يتوقف ذو النون عند ذلك الحد، بل عمد إلى العمل على إخراج ذلك الرسول من الأرض، وذهب هو بنفسه ليلحق بذلك الرسول، وهنا يتهاوى إيمان الرجل إلى الحضيض عندما ظن أن الله ومن معه لن يقدروا عليه. فما يكون منه إلا أن يتوجه إلى البحر لاحقا بذلك الرسول ومن معه، وهناك أبق الرجل إلى الفلك المشحون فساهم، ولكن كانت النتيجة أنه كان من المدحضين، فيسقط الرجل في البحر، ولا ينقذه من ذلك إلا الله عندما ساق له ذلك الحوت ليلتقمه، وفي تلك الأثناء يعود الرجل إلى رشده، فينادي في الظلمات بتلك الدعوة المشهورة التي أخرجته من بطن الحوت:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
التساؤلات المنوي الخوض فيها في المرة القادمة (بحول الله وتوفيق منه) تشمل:
- من أين جاء ذا النون الحكم؟
- وما ماهية ذلك الحكم الذي لم يصبر عليه؟
- ولماذا لم يصبر عليه؟
- وأين ذلك البحر الذي توجه نحوه؟
- وكيف أبق إلى الفلك المشحون؟
- وما هو ذلك الفلك الذي أبق الرجل إليه؟
- ولماذا ساهم هناك؟
- وكيف ساهم؟
- وكيف دُحِض الرجل؟
- وهل كان وحده عندما دُحِض؟
- ومن هم اللذين دُحِضوا معه؟
- ومن الذي دحضهم؟
- الخ
دعاء: أعوذ بالله وحده أن أكون ممن يفترون على الله الكذب وهم يعلمون، وأسأله وحده أن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه غير الحق، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو الواسع العليم – آمين

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح
11 كانون ثاني 2015