نظرية الأمانة - الجزء الثاني




نظرية الأمانة: الجزء الثاني

تضع امرأة عمران ابنتها مريم اليتيمة بعد أن كانت قد نذرت ما في بطنها محررا لله:

            إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)                             آل عمران



ولمّا كانت امرأة عمران من المتقين، تقبّل ربها منها ما كانت قد نذرت له، مصداقا لقوله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) كما جاء في قصة ابني آدم اللذين قربا قربانا إلى ربهما، فما تقبل الله إلا ممن كان منهم من المتقين:

            وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

فكانت مريم – نحن نتخيل- بمثابة القربان الذي تقربت امرأة عمران به إلى ربها. وكانت تظن – حسب ما زعما سابقا- أنها ستضع مولودا ذكرا ليكون وريث النبوة والكتاب في آل عمران الذين اصطفاهم الله، مادام أنهم ذرية بعضها من بعض:

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)                                                      آل عمران

وعندما تبين لها أن ما وضعته كانت أنثى وليس ذكرا، أصيبت (نحن نتخيل) بالدهشة، فقالت على الفور (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى) من باب الحيرة وليس من باب الإخبار:

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ                                                                                                                          آل عمران (36)

فكان الرد الإلهي على قولها بأنه هو أعلم بما وضعت (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)، فزعمنا القول - بناء على فهمنا المفترى في ذلك- بأن مريم ابنت عمران كانت تختلف عن جميع نساء العالمين، فجاء الاصطفاء الإلهي لها على نساء العالمين في النص القرآني مرتين:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42)                                          آل عمران (42)

فكانت تُهيّأ (أي يتم تجهيزها) لتحمل في بطنها تراب المسيح:

            إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)

وتم ذلك بطريقة النفخ فيها بالرغم أنها كانت قد أحصنت فرجها:

            وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91)

            وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

فكانت هي بمثابة الماء الذي جبل به هذا التراب ليكون طينا في بطنها مادام أن الماء هو ما يجعل منه كل شيء حي:

            أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)

وما كان هذا ليحصل لها لولا أن الله قد تقبلها بقبول حسن بعد أن نذرت أمها ما في بطنها محررا لله، عندها جاء الأمر الإلهي بأن يكون زكريا هو من يكفلها:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا....

فتزوج زكريا بأم مريم ليتحصل على كفالة مريم، فيصبح قادرا على الدخول عليها في أي وقت شاء مادام أنه قد أصبح هو زوج أمها (انظر مقالة د. رشيد الجراح: كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)، فنبتت مريم كالنبات الحسن الذي ينزل عليه الماء من السماء، وما أن انتهت أمها (نحن نتخيل) من إرضاعها حتى توفاها الله بالموت، وعندها كان المحراب هو المكان الذي استقرت فيه مريم، وكان الرزق يأتيها من عند ربها إلى محرابها:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

فنشأت هناك، وجاءت الدعوة الإلهية لها على النحو التالي:

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ                                                                                 آل عمران (43)

وهنا نتوقف لنطرح على الفور بناء على هذا السياق القرآني السؤال التالي: لماذا كانت مريم تستطيع أن تركع مع الراكعين؟ أليست بأنثى؟ وهل يحق للأنثى أن تركع مع الراكعين من الذكور؟ ألم يأتي هذا التكليف للبالغين المكلفين من الرجال؟

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ                                                                                البقرة (43)  

فما بال مريم تُؤمر – نحن نسأل- أن تركع مع الراكعين؟

جواب: عندما أسندت كفالة مريم إلى زكريا بأمر من ربها (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)، كان تواجدها في المحراب شبه دائم، وهناك كان يأتيها رزقها مباشرة من السماء:

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

وهناك في المحراب أيضا كانت مريم – نحن نظن- تقيم صلاتها كما كان يفعل زكريا نفسه:

            فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)

            فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

وهناك – نحن نظن- كانت تستطيع مريم أن تركع مع الراكعين، أليس كذلك؟

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) 

السؤال: كيف كانت مريم تركع مع الراكعين؟ فهل يجوز لأنثى أن تقف في المحراب لتركع مع الراكعين من الرجال؟ من يدري؟!!!

ثانيا، لو دققنا في الآية الكريمة السابقة نفسها لوجدنا أنه قد طُلب من مريم أن تقنت لربها، أليس كذلك؟

            يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) 

لكنّ الملفت للانتباه (نحن نظن) هو ما جاء في الآية الكريمة التالية فيما يخص قنوت مريم على وجه التحديد:

وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

ليكون السؤال الذي نظن أنه يجب أن يطرح على الفور هو: لماذا كانت مريم "مِنَ الْقَانِتِينَ" (بصيغة المذكر)؟ لِم لَم تكن "من القانتات" (بصيغة التأنيث) كما في الآية الكريمة:

            عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

نتيجة مهمة جدا: كانت مريم تركع مع الراكعين (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) كما كانت من القانتين (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ولم تكن من القانتات. فلماذا – يا ترى- كانت مريم كذلك؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن في هذا جوابا لما جاء في قوله تعالى (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) فيما يتعلق بمريم في الآية الكريم التالية:      

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)                                                                                                                               آل عمران

ولكن، كيف ذلك؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن مريم كانت تختلف عن نساء العالمين، فهي لم تكن امرأة تماما، لقد كان في مريم (نحن نظن) من الصفات ما ينطبق على الرجال – كلا خطير جدا جدا، أليس كذلك؟

الدليل

نحن نظن أن الاختلاف الفيزيائي (الجسمي) الذي نحاول أن نفتريه من عند أنفسنا على مريم ابنت عمران كان – في رأينا - تجهيزا لها، لإعدادها لما خلقت من أجله، وهو حمل كلمة الله المسيح. الذي كان من تراب:

            إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)

الذي لم يأتي خلقه من ماء دافق كما هو خلق الناس الّذين انتقل خلقهم من مرحلة التراب إلى مرحلة النطفة:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

فلم يدخل عيسى في مرحلة النطفة بعد التراب كما يحصل لكل واحد منا، لذا فإن الآية الكريمة التالية لا تنطبق على المسيح عيسى بن مريم من دون البشر أجمعين:

            قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)

نتيجة 1: لم يدخل عيسى في مرحلة النطفة وبقي في مرحلة التراب.

والحالة هذه، لم يدخل في مرحلة الأزواج كذلك:

وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

نتيجة2: لم يُجعل لعيسى بن مريم زوجا.

والحالة هذه، لم يكن عيسى من الناس لأن من أبسط خصائص من كان من الناس أن يأتي خلقه من ذكر وأنثى:

            يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

نتيجة 3: لم يكن عيسى من الناس

والحالة هذه، لم يكن يحتاج أن يأكل مما في الأرض حلالا طيبا:

            يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)

نتيجة 4: عيسى كان يأكل مما ينزل عليه ربه من السماء

والحالة هذه، كان عيسى بن مريم بشرا خالصا:

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

كما كان آدم:

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71)

فجاء يتكلم في المهد صبيا:

            وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110)

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)

فكان عبدا خالصا لله:

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)

كما حصل في حالة آدم، الذي أنبأ الملائكة بأسمائهم منذ اللحظة الأولى لخلقه:

            قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

ولو راقبنا السياقات القرآنية الخاصة بقصة الخلق الأول، لما وجدنا في واحدة منها أن الله قد طلب من آدم وزوجه أن يعبدوا ربهم في الجنة التي أسكنهم إياها. وكان جلّ ما طلبه منهم هو أن يأكلا منها رغدا حيث شاءا باستثناء شجرة واحدة:

            وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

وما أن أكلا من الشجرة حتى أصبحا من الظالمين، وعندها بدأت رحلة العذاب في الأرض:

            قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

السؤال: لماذا لم يطلب الله من آدم وزوجه أن يعبدا ربهما في الجنة؟

جواب: لأن آدم كان يملك علم الأسماء الذي تلقاه مباشرة من ربه:

            وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

وما أن ظلم آدم وزوجه نفسيهما بالاقتراب والأكل من الشجرة حتى حصل الظلم، فكانت النتيجة النسيان:

            وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

السؤال: ما الذي نسيّه آدم؟

جواب: الأسماء التي علمها إياه ربه.

سؤال: ما نتيجة ضياع ذلك؟

جواب: أُخرجا من الجنة:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ... (27)

السؤال: كيف حصل ذلك؟

جواب: نزع عنهما الشيطان لباسهما، فبدت سوءاتهما.

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)

سؤال: ما الذي فقده آدم وزوجه إذن عندما نزع الشيطان عنهما لباسهما؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد فقد آدم وزوجه النفخ مادام أن الله هو نفسه من نفخ في آدم بعد أن خلقه وصوره وسوآه:

            وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)

السؤال: وكيف تم النفخ؟

جواب: اكتساب المنفوخ فيه (وهو آدم) شيئا من روح الله

السؤال: وكيف تم ذلك؟

جواب: نحن نظن أن ذلك حصل بعد أن انطفأ ذلك النور الرباني الذي اكتسبه آدم من النفخ المباشر من الله، لأن الله هو نور السموات والأرض:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

السؤال: وماذا أصبحت نتيجة نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما؟

جواب: خسران النفخ، أي خسران ذلك النور الإلهي الذي جاءه مباشرة من روح الله

سؤال: وماذا كانت نتيجة خسران ذاك النور من روح الله؟

جواب: استطاع الشيطان أن ينزع عنهما لباسهما فبدت لهما سؤاتهما:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)

سؤال: وماذا كانت نتيجة ذلك؟

جواب: خسران الجنة بأكملها

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

سؤال: وكيف يكون ذلك؟

جواب: باستعادة ذلك النور من خلال النور الذي جاءنا به رسوله :

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)

وكيف ذلك: القرآن هو كلام الله:

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6)

وقد نزل به الروح الأمين:

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)

السؤال: ما علاقة هذا كله بالمسيح عيسى ابن مريم؟ أي كيف كان ذلك في حالة المسيح ابن مريم؟

جواب: انظر الآية الكريمة التالية:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)

نتيجة: المسيح هو كلمة الله (كما أن القرآن هو كلام الله) وهو روح منه (كما الروح الذي نزل بالقرآن على قلب محمد)

سؤال خطير جدا: ما هو المسيح عيسى بن مريم إذن؟

جواب مفترى: هو كما القرآن

عيسى بن مريم  = القرآن

تبعات هذا الظن

لعلي أجزم القول بأن تبعات مثل هذا الافتراء الذي هو من عند أنفسنا ستكون هائلة جدا. فدعنا نبدأ النقاش في هذا الموضوع من الآية الكريمة التالية:

            لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا (172)

فالربط هنا حاصل بين المسيح من جهة والملائكة المقربين من جهة أخرى على أنهم جميعا من عباد الله الذين لن يستنكفوا عن عبادته، وقد أخبرنا الله في كتابه الكريم ما سيكون لعباده المقربين (كالمسيح مثلا) في الآية الكريمة التالية:

فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)

لنخلص إلى النتيجة البسيطة التي يصعب المجادلة فيها وهي أن الله قد أعدّ لعباده المقربين أشياء ثلاثة وهي:

1.       روح                   فَرَوْحٌ

2.       ريحان                  وَرَيْحَانٌ

3.       جنة نعيم                وَجَنَّةُ نَعِيمٍ

وأن الروح ملازمة لجنة النعيم، وأن خسران جنة النعيم يعني بالضرورة خسران الروح والريحان. ولكن كيف يكون ذلك؟

جواب: للإجابة على هذا التساؤل، لابد بداية (نحن نظن) من إثارة تساؤلات كثيرة نذكر منها:

-          كيف يمكن أن نفهم أنه سيكون لعباده المقربين روح؟

-          كيف يمكن أن نفهم أنه سيكون لعباده المقربين ريحان؟

-          كيف يمكن أن نفهم أنه سيكون لعباده المقربين جنة نعيم؟

-          وكيف تختلف هذه المكتسبات الثلاثة (الروح والريحان وجنة النعيم) عن بعضها البعض؟ فما معنى ذلك كله؟

-          وما علاقة هذا كله بالمسيح؟

-          ما علاقة هذا كله بالتنزيل الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد؟

-          الخ.

هذه هي التساؤلات التي سنحاول أن نضع بين يدي القارئ الكريم تصوراتنا المفتراة للإجابة عليها في هذا الجزء من المقالة.

أما بعد،

باب : الروح

إن طرحنا السابق (على ركاكته) يقودنا إلى إثارة تساؤلات عديدة تتعلق بالروح، نذكر منها:

-          ما هو الروح؟

-          ما هي النفس؟

-          وما الفرق بينهما؟

فإذا كان الله قد خلق آدم بيديه و صوره جسدا كاملا ثم سواه، فلماذا (نحن نتساءل) نفخ فيه من روحه بعد ذلك؟

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)

بداية، نود أن نشير بأن موضوع الروح ربما يكون من أدق الأمور التي أُشكلت على العامة وأهل العلم ربما (نحن نظن) بسبب التصورات المجازية التي نسجوها من خيالهم حول ماهية الروح.، حتى أصبح من المتعذر على الإنسان العادي (من مثلي) أن يدخل في نقاش مع أهل العلم حول هذه الجزئية. ولمّا كان موقفنا المبدئي هو نفي المجاز جملة وتفصيلا عن كلام الله الحقيقي المقصود بذاته (انظر مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان: جدلية المجاز والحقيقة في القرآن الكريم)، سنقحم أنفسنا في هذه الجدلية الكبيرة جدا، لنحاول أن نبيّن (بحول الله وتوفيق منه) ماهية الروح بمفردات حقيقية يمكن أن توضع على طاولة النقاش لتكون مدار تمحيص وتدقيق. ولن نراوغ في الكلام كلما أعيتنا الحيلة عن تقديم الإجابة لكل سؤال يمكن أن يطرح، فنحن من أصحاب العقيدة التي مفادها أنه مادام أن هذا كلام من عند الله فلا بد أن يكون صحيحا مقنعا لكل ذي لب شريطة أن يكون الاستنباط الذي نفتريه من عند أنفسنا صحيحا. فكلام الله هو الحق بعينه، ونحن من نعجز عن توصيل مراده لأنفسنا ولغيرنا. فالعجز في قدراتنا على فهم كلام الله وليس في قدرة الإله على توصيل مراده. فسبيل الله بيّن لا لبس فيه، ونحن من يجب أن نطلب من الله أن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون الذين ما انفكوا يوما عن محاولاتهم اليائسة لإطفاء نور الله بأفواههم. ملفتين الأنظار في الوقت ذاته إلى عواقب مثل هذه الأفهام المفتراة من عند أنفسنا على العقيدة برمتها. سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا ، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم – آمين.

(دعاء: اللهم ربنا نسألك وحدك أن تنفذ أمرك بمشيئتك وإرادتك أن تهدينا إلى نورك الذي أبيت إلى أن تتمه ولو كره الكافرون – آمين)


أما بعد،

بعد تفقد السياقات القرآنية على مساحة النص القرآني كله وجدنا أن مفردة "الروح" قد وردت في آيات قرآنية معرّفة بأداة التعريف (الــ):

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا                                                               الإسراء (85)

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ                                                                            المعارج (4)

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا                                           النبأ (38)

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ                                                                                               القدر (4)

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ                              غافر (15)

كما وجدنا أنها قد وردت غير معرفة "روح" في السياقات التالية:

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ                                                                                                                               الواقعة (89)                             

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ                                                                                                                                                                            الشورى (52)

وجاءت معرفة بالإضافة  مثل (روحه روحي - روح منهروحنا  -  روح الله] في السياقات التالية:

ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ                                                   السجدة (9)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ                                                                                                             الحجر (29)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ                                                                                                             ص (72)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا      النساء (171)

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا                                                                                          مريم (17)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ                                                                                الأنبياء (91)

وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ                                التحريم (12)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ             يوسف (87)

لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ                                                                                                                                                                                                      المجادلة (22)

وجاءت بصيغة "رَوْحِ اللَّهِ" (بفتح الراء) في الآية الكريمة التالية:

            يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ                     يوسف (87)

وجاءت المفردة مقترنة بالقدس في الآيات التالية:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ                                                                                                                                                                البقرة (87)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ       البقرة (253)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ                                                                                                              المائدة (110)

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ                                                      النحل (102)

وجاءت مقترنة بمفردة الأمين في الآية الكريمة التالية:

إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  (193)                                                                        الشعراء (192 -193)

السؤال: ما الاستنباطات التي يمكن أن نخرج بها من هذه السياقات القرآنية؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: بعيدا عن التفسيرات المجازية التي قدّمت في هذا الصدد والتي نظن أنها قلما تسمن أو تغني الباحث عن الحقيقة من جوع، نود أن نشير اعتمادا على الآيات السابقة فقط إلى نقاط مهمة جدا ستشكل الإطار النظري لبحثنا هذا، نذكر منها:

1-       أن الروح كينونة

2-       أن الروح كينونة واحدة متعددة و ليست واحدة منفردة، بمعنى أنها كيان كبير مكوّن من عدة كيانات فرعية

3-       أن الروح كينونة منفصلة تماما عن الذات الإلهية و ليست جزء منه

4-       أن الروح كينونة منفصلة عن الملائكة

5-       أن الروح لا تخضع إلا لله وحده

6-       أن الروح من أمر الله تعالى وحده

7-       الخ.

الدليل

دعنا نبدأ البحث عن الدليل في الآية الكريمة التالية:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا                                                 النبأ (38)

ربما لا يستطيع أحد – بعد قراءة هذه الآية الكريمة- مجادلتنا في أن الروح كينونة منفصلة تماما عن الذات الإلهية، وهي تختلف عن الملائكة، وذلك لأن الروح والملائكة سيقومون جميعا صفا، حيث لا يستطيع أحد منهم أن يتكلم إلا بعد الإذن الإلهي له بذلك، وإذا ما أذن الله له بالكلام فلن يقول إلا الصواب، أليس كذلك؟

نتيجة مهمة جدا: لعل من أهم الفروقات بين الفكر الإسلامي من هذا المنظور الذي نفتريه من عند أنفسنا والفكر المسيحي السائد مثلا هو أن الروح – كما نظن- كيان منفصل عن الذات الإلهية تماما (مثل الملائكة)، ويؤكد ظننا هذا ما جاء في الآيات الكريمة التالية:

                                تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ                                                              المعارج  (4)

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ                                                                                 القدر (4)                

إن التصور بأن الروح كيان منفصل تماما عن الذات الإلهية يمكّننا أن نتصور كيفية عروج (أي صعود) الملائكة والروح في السماء ونزولهم منها. وهذا ما حصل بالضبط في حالة رسول رب مريم إليها (روحنا):

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا                                                                            مريم (17) 

ثانيا، نحن نظن أن من أولى نتائج الفصل بين الذات الإلهية والروح هو نفي الولد لله، فلقد وقع كثير من أهل الكتاب – في ظننا- في الفخ الذي نصبه له علماؤهم عندما نسبوا الولد لله وذلك لأنهم افترضوا أن الروح جزء من الذات الإلهية. فالظن بأن الروح جزء من الذات الإلهية يعزز نظرية أن يكون المسيح هو ولد الله:

            وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

فهذا ليس إلاّ إفكهم الذي قاتلهم الله على قوله، لأنهم – لا شك- كاذبون:

            أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)

موقفنا المبدئي: نحن نظن أنه على الرغم من محاولة أهل الفكر الإسلامي السائد مخالفة النصارى في ظنهم هذا، إلا أنهم وقعوا في الفخ نفسه، لأنهم (نحن نفتري القول) لم يستطيعوا أن يبتعدوا عن التفسيرات المجازية لقضية "الروح". فلقد امتلأت مكتبة التراث الإسلامي بآلاف الأطنان من المرويّات (وربما الخزعبلات) حتى وجدنا كبار علمائهم قد كتبوا مؤلفات (مثل كتاب الروح لابن القيم ) يصفون بها الروح بأوصاف غريبة عجيبة ما أنزل الله (في رأينا) بها من سلطان. وإلى الذين سيشتاطون غضبا من كلامنا هذا دفاعا عن ما ألفوا عليه آباءهم، فإننا ندعوهم إلى التريث قليلا لمقارنة العلم الغزير الذي ورثوه في بطون تلك الكتب "القيّمة" مع الافتراءات التي سنسوقها من عند أنفسنا في هذا المجال، ونترك الحكم بيننا لمن أراد، منصاعين جميعا إلى قول الحق في الآيات الكريمة التالية:

            قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

(دعاء: ربنا اجمع بيننا، ثم افتح بيننا بالحق، إنك أنت الفتاح العليم - آمين)


ثالثا، لا شك عندنا أن الروح كينونة منفصلة عن الملائكة، فهناك فرق جليّ بين الملائكة من جهة والروح من جهة أخرى، فكل واحد منهما منفرد منفصل ، كل له وظائفه  وأوامره التي وكِّل بها:

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ                                                                    المعارج (4)            

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا                                     النبأ (38)

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ                                                                                       القدر (4) 

رابعا، نحن نظن أنه بالرغم أن الروح هي كينونة منفصلة عن الذات الإلهية وهي منفصلة كذلك عن الملائكة، إلا أنها ليست كينونة جامدة، فهناك تقسيمات في هذه الكينونة نفسها، فهناك فرق في ظننا- بين الروح وروح القدس والروح الأمين. فكل (نحن نفتري القول) منفصل بذاته، له من الصفات ما يميّزه عن غيره، و له من الوظائف ما يقوم به وحده دون غيره.

 الدليل :

أولا، إن  "الروح" بكليته من أمر الله:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا                                         الإسراء (85)

(دعاء: اللهم أسألك أن تنفذ مشيئتك وإرادتك لي الإحاطة علما بالكثير من ذلك القليل، إنك أنت السميع العليم - آمين)

وانظر – إن شئت –  في الآيات الكريمة التالية إن أردت أن تعلم ما هو أمر الله:

            هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

            وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

            يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

            وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)

السؤال: ما هو أمر ربك؟

جواب: انظر الآية الكريمة التالية:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

نتيجة خطيرة جدا جدا: يحصل القضاء بمجيء الأمر الإلهي (أي الروح)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38)

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)

أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)

ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا خطيرة جدا: لكي تتحقق الأمور على الأرض (أي القضاء) فلابد أن يأتي (أو أن يجيء) أمر الله:

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

الاستنباط المفترى من عند أنفسنا: الروح هو الذي ينفّذ قول الله. فيصبح تنفيذ إرادة الله في واحدة من مشيئته متى ما صدر قوله فيه هو من أمر الله، ويقوم بتنفيذ ذلك القول على أرض الواقع الروح:

مشيئة ← إرادة ← قول = الأمر الإلهي  (يتحقق بواسطة الروح)

(للتفصيل أنظر مقالة د. رشيد الجراح: مقالة في التسيير والتخيير)

ويكفينا هنا الربط بين القضاء وأمر الله (الروح)، لنزعم الظن مفترينه من عند أنفسنا بأن أمر الله (الروح) هو ضرورة لا بد منها لكي يحصل القضاء (أي تنفيذ قول الله على أرض الواقع). أما عن الكيفية فهذا ما سنحاول أن نتحدث عنه لاحقا إن شاء الله، سائلين الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، إنه هو العليم الحكيم – آمين.

ثانيا : نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) بأن روح القدس هو الموكّل بتأييد الأنبياء و الرسل في الأرض، ويظهر هذا جليا في حالة المسيح عيسى بن مريم على وجه الخصوص:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ                                                                                                                                   البقرة (87) 

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ      البقرة (253) 

إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110)

ووردت عبارة "روح القدس" مرة واحدة في سياق الحديث عن ما نزل على محمد (القرآن")

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)

السؤال: ما هو روح القدس؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن روح القدس هو كينونة من "الروح" تتنزل في مكان محدد بعينه وهو "القدس". ومنه – نحن نظن- جاءت تسمية المدينة الواقعة في الأرض المباركة، أي مدينة القدس. فتلك هي المدينة التي ينزل بها "روح القدس". وهذا هو نفسه الذي كان "سريّا" لمريم عندما وضعت المسيح:

            فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)

وهذا هو الذي كان حاضرا في النار عندما جاء موسى إليها في لقاء ربه الأول:

            فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

(للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان: أين كانت حنة آدم؟ و أين حصلت مناداة الله نبيه موسى؟). وسنعاود الحديث عن ذلك عندما يصل الحديث إلى نقطة الربط بين لمسيح وموسى.

وهذا هو الذي نزل "الكتاب" دفعة واحدة في ليلة الإسراء:

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)

فالكتاب نزل جملة واحده في تلك الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم:

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

نتيجة مفتراة: روح القدس هو الذي أيد الرسل بالكتاب الذي نزل جملة واحدة

ثالثا : أما الروح الأمين، فهو الموكّل بالتنزيل الحكيم ، أي إيصال التنزيل الحكيم ( الكتاب ) على قلب الرسل:

إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)  

فهو الذي جاء ليقرأ القرآن مفرقا على محمد ليتبعه:

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)

نتيجة مفتراة: الروح الأمين هو الذي كان يقرأ على محمد ما كان في قلب محمد من الكتاب

تخيلات مفتراة: يحصل أن يسري الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته هناك:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)

وفي تلك الليلة يهوي النجم:

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

فكانت تلك هي الليلة المباركة التي أنزل الله فيها الكتاب جملة واحدة ليؤيد به رسوله:

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)

وكانت تلك هي ليلة القدر:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

فيأتي روح القدس حاملا ذلك الكتاب كله جملة واحدة:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة لما وجدنا نفي إلهي من أن هذا القرآن قد نزل أصلا جملة واحدة بدليل قوله (كَذَلِكَ). ولكن النبي محمد يؤمر بأن لا يحرك لسانه بشيء منه حتى يقرأ عليه، فكان قرآنا مفرقا

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)

فيتوكل الروح الأمين بقراءته مفرقا ليتبع محمد ما قرء عليه شيئا فشيئا.

للتفصيل انظر سلسلة مقالات د. رشيد الجراح لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟ ابتداء من الجزء الحادي عشر)


رابعا، أما روح اللهروحناروح من عندناروح من أمرنا ، فنحن نظن أنها نسخ فرعية متعددة من الروح الكلية، فهي عدة كيانات تشكل في النهاية ما يسمى بالروح. فمردة الروح هي في ظننا تدل على الجمع والمفرد. فالملائكة والروح ستقوم جميعا صفا صفا لأنها جمع (أكثر من واحد):

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)

بينما من أرسله الله إلى مريم فقد كان روحا واحدا (مفرد):

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

وكذلك كان الروح الذي أرسله الله إلى نبينا:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)

الدليل

فهذا يعقوب النبي يطلب من أبناءه أن يذهبوا إلى أرض مصر ليتحسسوا فيها من يوسف، طالبا منهم في الوقت ذاته أن لا ييأسوا من رَوح الله (بفتح الراء):

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ                     (87)  

السؤال : كيف سيتحسس أخوة يوسف من يوسف ومن أخيه؟ ولماذا طلب منهم أبوهم يعقوب أن لا ييأسوا من رَوح الله؟ ولِم لَم يطلب منهم أن لا ييأسوا من الله نفسه؟ ولم لم يطلب منهم أن لا ييأسوا من رحمة الله مثلا كما في الآية الكريمة التالية؟

            وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

 السؤال الدقيق: ما الرسالة التي أوصلها يعقوب لبنيه عندما طلب منهم أن لا ييأسوا من رَوح الله على وجه التحديد؟

رأينا المفترى: نحن نؤمن أن يعقوب صاحب علم يفوق علم أبناءه الحاضرين عنده جميعا:

            قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ                                                                     يوسف 86

لذا، كان يريد يعقوب النبي (نحن نظن) أن يجلب انتباه من كان حاضرا عنده من أبناءه هناك إلى قضية غاية في الأهمية وهي قضية تواجد الوحي في أرض مصر، فيعقوب يعلم يقينا أن يوسف لازال على قيد الحياة، وما كان سيطلب من أبناءه أن يتحسسوا من يوسف لولا يقينه بأن الذئب لم يأكله:

            وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ                     (87)  

وهو يعلم – بعد كل سنوات الغياب هذه- بأن يوسف قد بلغ أشده واستوى، وأن الله قد آتاه حكما وعلما:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

لأنه يعلم يقينا أن يوسف هو من اجتباه ربه ليتم نعمته عليه:

            وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

لذا، فإن يوسف قد وصل الآن إلى السن الذي أصبح فيه مؤهلا لنزول روح من الله عليه لتأييده كرسول:

وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)

فأرض مصر الآن (إن كان يوسف موجود فيها – يعتقد يعقوب جازما) مؤهلة لأن تكون بركات السماء قد غطتها بنزول الروح على يوسف الذي يعيش فيها.

ومما لا شك فيه عندنا أن أخوة يوسف هم أبناء بيت النبوة (إبراهيم- إسحق- يعقوب) فهم - بلا شك- لن يخطئوا أن يتحسسوا من يوسف بمتابعة روح الله هناك، فهبطوا أرض مصر غير آيسيين من رَوح الله (وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) فوجدوا يوسف حيث تحلق تلك الروح:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)

(للتفصيل انظر مقالة د. رشيد الجراح: تحت عنوان قصة يوسف)

السؤال: إذا كانت روح من الله يحلق هناك تأييدا ليوسف تأييدا له في مصر، فهل يمكن أن نقول بأنه هو الروح الكامل التي هي من أمر الله؟

جواب: كلا، لأن ما كان في أرض مصر (كما جاء في خطاب يعقوب لبنيه) هي روح من الله وليست كل الروح. وانظر – إن شئت- الآية الكريمة نفسها:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ                   يوسف (87)

السؤال: ما الفرق بين "الروح" و "روح من الله" أو "روح منه"؟

رأينا: لو عدنا إلى قصة الخلق الأول لوجدنا أنه عندما خلق الله آدم، مثلا، لم ينفخ فيه الروح كله، وإنما نفخ فيه "من روحه"، وانظر – إن شئت- السياقات القرآنية الخاصة بالنفخ بآدم جميعها:

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ                                                                      الحجر (29)

ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ                                                    السجدة (9)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ                                                                                             ص (72)

وهذا الكلام المفترى من عند أنفسنا يقودنا على الفور إلى المفارقة الهائلة والغريبة جدا جدا التالية: انظر - عزيزي القارئ- في الذي حصل في حالة المسيح عيسى بن مريم وحاول أن تقرأ ذلك على الحقيقة (بعيدا عن التحليق في سماء المجازات). ففي حين أن الله قد أرسل إلى مريم الروح (مفرد) كاملا:

            فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا                                                     مريم (17)

إلا أن النفخ فيها كان من تلك الروح:

            وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ                                              الأنبياء (91)

السؤال: لماذا؟ وكيف حصل ذلك؟

رأينا: عندما أرسل الله إلى مريم روحه كاملا، كانت النتيجة أن تمثل ذلك الروح لها بشرا سويا، أليس كذلك؟

                فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا                                                       مريم (17)

نتيجة: الروح (رسول الله إلى مريم لديه القدرة على التمثل – أي التشكل كيفما يشاء)، ربما لهذا شاهدت مريم بأم عينها الروح بشرا سويا، فجاء قولها له على النحو التالي:

            قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

فرد عليها قائلا:

            قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)

نتيجة: كان ذلك الروح كينونة كاملة استطاعت مريم أن تشاهده بأم عينها عندما تمثل لها بشرا سويا، ولكنها لم تخفي خشيتها بأن يكون (ذلك) تقيا.

السؤال: كيف تخشى مريم أن يكون ما تشاهده (بأم عينها بشرا سويا) تقيا؟

            فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

الفكر السائد: غالبا ما ظنّ الناس أن مفردة "تقيا" التي ترد في هذه الآية الكريمة مشتقة من "التقوى- العبادة"، وانظر – إن شئت- فيما جاءنا في الطبري من عند أهل الدراية:

القول في تأويل قوله تعالى : { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } يقول تعالى ذكره : فخافت مريم رسولنا , إذ تمثل لها بشرا سويا , وظنته رجلا يريدها على نفسها . 17769 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قوله { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } قال : خشيت أن يكون إنما يريدها على نفسها . 17770 - حدثنا موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي { فتمثل لها بشرا سويا } فلما رأته فزعت منه وقال : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } فقالت : إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك , تقول : أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه , وتجتنب معاصيه ; لأن من كان لله تقيا , فإنه يجتنب ذلك . ولو وجه ذلك إلى أنها عنت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها . كما : 17771 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عمن لا يتهم , عن وهب بن منبه { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } ولا ترى إلا أنه رجل من بني آدم . 17772 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , عن عاصم , قال : قال ابن زيد : وذكر قصص مريم فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك }

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن ما جاء في الطبري (انظر ما وضعنا تحته خط) لا يصح إطلاقا لأنه لو كان الأمر على هذه الشاكلة، فسيثور السؤال التالي على الفور: لم تستعيذ مريم بربها منه إن كان ذا تقوى (كما ظنوا)؟ وهل يمكن لبشر صاحب تقوى أن يعتدي على من كانت في المحراب؟ من يدري؟!!!

السؤال: لماذا استعاذت منه مريم إذن؟ يسأل صاحبنا

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن مفردة  "تقيا" في هذه الآية الكريمة ليست مشتقة من "التقوى" بمعنى اجتناب المعاصي كما زعموا، ولكنها مشتقة – في ظننا- من "التقوى" التي تعني محاولة إخفاء العبادة لتكون خالصة لوجه الله فلا يشيبها الرياء، وبكلمات أكثر دقة نقول أن مفردة "تقيا" في الآية الكريمة السابقة مشتقة من التقوى المشتقة أصلا من "التقاة" (أي التخفي). وانظر – إن شئت- قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية:

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28)

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)

وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

فمريم – نحن نظن- تخشى أن يكون هذا الذي تمثل لها بشرا سويا تقيا، أي بمعنى (نحن نزعم) أن لديه القدرة على التخفي عن الآخرين، فلا يستطيعون أن يرونه بأم أعينهم، أي يستطيع أن يخفي نفسه عن الناظرين باستثناء من أراد هو (الروح) أن يبين له. ولكن لماذا؟ وكيف يستقيم ذلك؟

رأينا: لو عدنا إلى المكان الذي جاء الروح (رسول رب مريم) إليها لوجدنا أنه الحجاب، أليس كذلك؟

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

فكان ذلك الحجاب – برأينا- هو بمثابة المكان الذي تنام فيه مريم، ولا شك عندنا أن هذا المكان كان محصّنا بطريقة يصعب على من كان من "البشر العاديين" أن يدخله دون أن يراه الآخرون لأن المكان يقع (نحن نتخيل) دون المحراب الذي كانت تقيم فيه مريم قنوتها وسجودها وركوعها مع الراكعين:

            يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

فالمحراب هو المكان الذي كان يأتيها فيه رزق ربه، وهو المكان الذي كان يدخل عليها زكريا فيه:

            ... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

السؤال: إذا كان هذا هو المحراب، فما الحجاب؟ وكيف يختلف المحراب عن الحجاب؟

جواب: من أجل محاولتنا الإجابة على هذا السؤال، وجدنا الضرورة تستدعي طرح التساؤل التالي: لماذا ارتبكت مريم عندما رأت بشرا سويا في حجابها؟

جواب: لأن مريم لم تعتاد أن ترى في حجابها بشرا، فأصبتها الدهشة وربما الخوف من وجوده هناك، فاستعاذت بالرحمن منه إن كان تقيا:

                        قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

ونحن نظن أن السبب ربما يعود لظن مريم حينئذ أنه من الاستحالة بمكان "لبشر عادي" أن يدخل ذلك الحجاب دون أن يمر بالمحراب، وهي على يقين أنه لا يمكن لبشر عادي أن يدخل إلى ذلك المكان (أي حجابها) دون أن يمر بالآخرين فيرونه بأم أعينهم، ليكون تساؤل مريم وحيرتها حينها نابعا من التصور التالي: كيف استطاع من هو في هيئة بشر سويا أن يدخل عليها إلى هناك "إلا إن كان تقيا"، أي يستطيع أن يخفي نفسه عن الناظرين؟ فكيف حصل ذلك؟

تخيلات من عند أنفسنا: تتخذ مريم من دون قومها حجابا بعد أن انتبذت منهم مكانا شرقيا:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

فيصبح لزاما على من أراد أن يصل إليها هناك أن يمر بقومها، واعتادت مريم أن يدخل عليها زكريا في محرابها، ولكنها لم تكن معتادة دخول أحد عليها في حجابها، لذا وجبت المناداة على النساء من وراء حجاب:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)

وفي لحظة ما، لا تسمع مريم نداء من وراء حجاب مادام أنه قد اتخذت حجابا، ولكنها ترى مريم بأم عينها بشرا سويا قائما في حجابها الذي اتخذته من دون قومها، فيحدِث ذلك الدهشة والخوف عند مريم، فكانت بمثابة المفاجأة التي لا تستطيع أن تسكت عليها، فما كانت ردة فعلها إلا على النحو التالي:

            قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

السؤال: لماذا لجأت مريم إلى ربها لتستعيذ به ممن تراه بشرا سويا في محرابها؟ لِم لم تطلب النجدة من قومها؟ لم لم تحاول أن تنادى على قومها ليخلصوها من هذا الذي وجدته متمثلا لها بشرا سويا في حجابها؟ الخ.

جواب: نحن نظن أن مريم كانت شبه متيقنة بأن من تراه بشرا سويا في حجابها هو "تقيا" لأنه استطاع النفاذ إلى هذا المكان دون أن يراه أحد. فتكون ردة فعلها على نحو أن تستعيذ بالرحمن منه إن كان تقيا، لأنه لو لم يكن تقيا (أي يستطيع أن يخفي نفسه عن الأنظار) لما ترددت مريم (نحن نظن) من المناداة على قومها، ليصدوه عنها، لكنها لما شكّت بأن هذا الذي تمثل لها بشرا سويا هو تقيا (أي يستطيع أن يخفي نفسه عن الناظرين) لا يمكن لأحد أن يصده عنها إلا الرحمن، فلجأت مباشرة إلى ربها لتستعيذ به من هذا الذي يقف أمامها بشرا سويا في حجابها:

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

ولو أمعنا التفكر في العلاقة بين مريم وأهل السماء لوجدنا أن مريم كانت قد اعتادت أن تجد أهل السماء يحضرون لها رزقها في المحراب:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

ولكن الذي ربما يصعب المجادلة فيه أن من كان يحضر لها الرزق من السماء هم الملائكة، لأنهم هم من نادوا زكريا وهو قائم يصلي في المحراب ليزفوا له البشرى بيحيى:

            فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)

فالملائكة لم تكن تتعدى حدود المحراب. لذا نحن نستبعد أن تظن مريم أن من دخل عليها الحجاب وتمثل لها بشرا سويا هو أحد من الملائكة. فمن يكون – يا ترى؟

جواب: لا يستطيع القيام بذلك إلا "الروح":

            تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)

            تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

نتيجة مهمة جدا: يستطيع الروح أن يصل إلى مكان لا تصله الملائكة. فعندما تعرج الملائكة إلى الله تصل إلى حد معين لا تستطيع أن تتجاوزه ولكن الروح يستطيع أن يقترب من الذات الإلهية أكثر، انظر ترتيب المفردات:

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ

وبالمنطق نفسه، نحن نفتري القول أنه عندما كانت الملائكة تتنزل على مريم كانت تصل إلى محرابها وهناك يكون الحد الذي لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه، ولكن الروح يستطيع أن يتعدى ذلك ليصل إليها من وراء الحجاب، ولو راقبنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن الرسول الذي يوحي بإذن الله (وهو الذي نظن أنه الروح) يستطيع أن يتجاوز الحجاب:

            وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

تلخيص ما سبق: كان الله هو من أرسل إلى مريم روحه كاملا:

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

فكان ذلك الروح هو رسول ربها إليها:

            قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)

فكان ذلك الرسول يستطيع أن يتمثل (أي تشكل)، فتمثل لمريم بشرا سويا

            فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

كما كان يستطيع أن يكون تقيا (أي يخفي نفسه عن الناظرين، فلا يراه إلا من أرسل إليه):

            قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)

فما أبدت مريم مقاومة لأنها أيقنت أن الأمر خارج عن نطاق سيطرت أحد من البشر مادام أن الله قد جعله أمرا مقضيا:

            قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)

            قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)

السؤال الكبير جدا: كيف كان المسيح أمرا مقضيا؟

رأينا: للإجابة على هذا السؤال لابد من إثارة التساؤل التالي: كيف وهب رسول رب مريم (وهو الروح) لها غلاما زكيا؟ أي كيف كانت آلية ذاك "الوهب"؟

جواب مفترى من عند أنفسنا ندعوكم أن لا تصدقوه إذا لم تجدوا الدليل من كتاب الله يثبته: لقد دخل شيء من ذاك الروح (الذي تمثل لها بشرا سويا) في فرج مريم بطريقة النفخ:

             وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ  (91) 

            وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

السؤال: وكيف حصل ذلك؟

تخيلات من عند أنفسنا: أرسل الله روحه كاملا إلى مريم (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)، فتمثّل لها في حجابها الذي اتخذته من دون قومها بشرا سويا (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). استغربت مريم أن يصل بشرا إلى هذا المكان، فاستعاذت بالرحمن منه إن كان تقيا، أي لا يستطيع الآخرون رؤيته (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا). هدأ الروح من خوف مريم بأن أخبرها بهويته على أنه رسول ربها (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ)، وأن مهمته تكمن في أن يهب لها غلاما زكيا (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)، استغربت مريم أن يكون لها غلام ولم يمسسها بشر ولم تكن بغيا (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)، فأكد لها رسول ربها بأنه كذلك (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ)، أي سيكون له غلاما زكيا دون أن يمسسها بشر، وأن هذا هين على ربها (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا). فكيف حصل ذلك.


جواب: كان المسيح أمرا مقضيا (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا)، وأنظر- إن شئت- السياق القرآني كاملا:

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)

السؤال: وكيف تم ذلك؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا الذي نطلب من القارئ الكريم أن لا يصدقه ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يثبته: نحن نفتري القول أن ذلك حصل عندما انفصل جزء من الروح (المتمثل لها بشرا سويا)، وتحرك بطريقة النفخ (كحركة الدخان الذي يتصاعد من النار)، ودخل ذلك الجزء المنفصل عن الروح في فرج مريم حاملا معه ذاك التراب الذي مسح عليه الرب بنفسه (المسيح)، فأصبح بعد ذلك المسيح عيسى بن مريم - رسول الله- كلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)

فأصبح في المسيح شيء من روح الله، استطاع من خلاله أن ينفذ مراده بما لم يقدر عليه سواه من البشر:

وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)


وللحديث بقية


المدّكرون:                  رشيد سليم  الجراح                           محمد عبد العزيز السيسي.                                      علي محمود سالم الشرمان


بقلم: د. رشيد الجراح           &         م. محمد السيسي


27 آذار 2014