قصة موسى 2: فرعون الطفولة


كان الجزء السابق من هذه المقالة منصباً على إيجاد الدليل على زعمنا الذي مفاده أن  فرعون كان عنده (1) دافعاً و(2) علماً دفعاه إلى تقتيل أبناء بني إسرائيل (واستحياء نسائهم)، وحاولنا حينئذ تسويق فهمنا لدافع فرعون على نحو أنه ما أن هلك يوسف واستتب الملك لبني إسرائيل في أرض مصر حتى جاءت ثورة الفراعنة (أهل مصر الأصليين) لتطيح بحكم ملوك بني إسرائيل في أرض مصر وتؤسس جمهورية الفراعنة الأولى. وبكلمات أخرى، فقد افترينا الظن أن المصريين (أهل البلد الأصليين) لم يطيقوا ذرعاً ببني إسرائيل بعد زمن من هلاك يوسف، فأخذوا يدبّرون الأمر حتى استطاعوا الإطاحة بالنظام الملكي الذي كان سائداَ زمن نبي الله يوسف في أرض مصر، وبدل أن يستمر النظام ملكياً في تسميته أصبح فرعونياً، وما أن وصل الفراعنة إلى سدة الحكم حتى أخذوا ينتقمون أشد الانتقام من أعدائهم اللدودين وهم الإسرائيليين، فقتلوهم و استعبدوهم (أي اتخذوهم عبيداً):
 وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
          وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
وهنا سنتوقف لنطرح جملة من التساؤلات: من الذي قتّل أبناء بني إسرائيل؟ ومن الذي عبّد بني إسرائيل؟ كيف قتّل آل فرعون أبناء بني إسرائيل؟ وكيف استعبد فرعون بني إسرائيل؟ ولماذا استعبد فرعون بني إسرائيل وهم اللذين كانوا يقتلون في أرض مصر؟ ألم يستطع آل فرعون بعد كل ذاك التقتيل الذي أحدثوه في أبناء بني إسرائيل أن ينهوا وجودهم كلياً؟ من الذي بقي من بني إسرائيل حتى يستعبد؟ وكم استمر تقتيل آل فرعون لأبناء بني إسرائيل؟ وكم استمر استعباد فرعون لمن تبقى منهم؟ ومن الذي تبقى من سلالة بني إسرائيل حتى يأتي موسى طالباً من فرعون أن يرسلهم معه؟
          أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
فهل بقي من بني إسرائيل الكثير حتى يأخذهم موسى معه؟ فهل بقي منهم غير الشيوخ والأرامل؟ وما حاجة موسى بمثل هؤلاء مادام أن أبناء بني إسرائيل كانوا يقتلون منذ زمن على يد آل فرعون؟
من هو فرعون؟
للإجابة على التساؤلات السابقة، نجد لزاماً طرح التساؤل المثير التالي أولاً: من هو فرعون الذي تربى موسى في بيته؟ ومن هو فرعون الذي هرب موسى منه؟ ومن هو فرعون الذي عاد موسى ليقول له قولاً ليناً؟ هل هو نفس الشخص؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه ليس الشخص نفسه، ففرعون الذي تربى موسى في بيته يختلف – في رأينا- عن فرعون الذي عاد إليه موسى بالرسالة؟

الدليل
نحن نعلم من النص القرآني أن موسى قد وقع في يد آل فرعون عندما ألقته أمه في التابوت وألقته في اليم:
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
وكان فرعون هو من يحكم أرض مصر آنذاك، أليس كذلك؟
نتيجة: موسى طفل رضيع (أو ربما أنهى الرضاعة للتو)[1]، وفرعون هو حاكم مصر المطلق آنذاك، فكم - يا ترى- كان عمر فرعون عندما وقع موسى (الطفل الرضيع في يده)؟ من يدري!!!
وهذا موسى يتربى الآن في آل فرعون ويلبث في بيوت آل فرعون فترة من الزمن كما جاء على لسان فرعون نفسه بعد أن عاد إليه موسى بالرسالة:
          قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
نتيجة: موسى يلبث سنين من عمره في بيوت الفراعنة، فكم - يا ترى- أصبح عمر فرعون بعد أن تربى موسى في بيوت آل فرعون سنين من عمره؟ من يدري!!!
وحصل أن ناصب موسى العداء لفرعون حتى اضطر للخروج من المدينة (عاصمة فرعون) ولم يكن يستطيع دخولها إلا (ربما) متخفياً، وكان ذلك – كما زعمنا لأن موسى جعل من نفسه الشخص الذي يريد الإصلاح ضد من كان جبارا في الأرض كما جاء على لسان من أراد موسى أن يقتله:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ                                        القصص (19)
وكبر موسى مناصباً فرعون (الجبار في الأرض) العداء حتى بلغ أشده واستوى، وهناك وآتاه الله العلم والحكم:
          وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
نتيجة: فكم – يا ترى- أصبح عمر فرعون الآن بعد أن بلغ موسى أشده واستوى؟ من يدري!!!
وما أن يبلغ موسى أشده حتى عاد ليدخل المدينة (عاصمة فرعون) ولكن على حين غفلة من أهلها[2]، وهناك وكز رجلا فقتله لأنه لم يكن من شيعته:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ          القصص (15)         
وهرب موسى بسبب فعلته تلك من المدينة مرة أخرى بعد أن جاءه الرجل من أقصى المدينة ليحذره من تآمر الملأ به:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وتوجه تلقاء مدين، ليمكث فيها عشرة حجج ليأجر الرجل لقاء أن أنكحه إحدى ابنتيه:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
نتيجة: فكم – يا ترى- أصبح عمر فرعون بعد كل هذه السنين؟ من يدري!!!
ولما قضى موسى الأجل في أرض مدين بعد ثمانية أو عشر حجج (مدة العقد المتفق عليها مع الرجل) سار بأهله تاركاً أرض مدين خلفه متجهاً إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين[3]:
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
وهناك (في الواد المقدس عند النار) جاء التكليف لموسى بالذهاب إلى فرعون ومعه الآيات البينات:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

نتيجة: فكم – يا ترى- يكون عمر فرعون الآن (بعد كل هذه السنين) إن كان هو نفسه الذي تربى موسى في بيته؟ وأين هي – يا ترى- امرأة فرعون التي دافعت عن  موسى إذن؟ ولم لا يذكرها موسى ولو على سبيل الصدفة؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن فرعون هذا الذي ذهب موسى ليبلغه رسالة ربه لم يكن هو فرعون ذاك الذي تربى موسى في كنفه. ونجزم الظن بأن فرعون الذي تربى موسى في بيته تحت حماية امرأة فرعون قد مات هو امرأته وقد انتقل الحكم إلى فرعون آخر هو الذي أمر موسى بأن يبلغه رسالة ربه ويطلب منه السماح لبني إسرائيل بالخروج من أرض مصر إلى الأرض المباركة التي كتب الله لهم.
الدليل
أولاً، نحن نجد دليلاً على ظننا بأن فرعون الأول قد مات وجاء مكانه فرعون جديد من عبارة "عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا" التي ترد في السياق القرآني التالي:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ          القصص (15)         
فالآية الكريمة تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن موسى قد دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، أليس كذلك؟
السؤال: كيف دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها؟ فهل يعقل أن يكون أهل المدينة كلهم غافلين؟ وما معنى أن يكون أهل مدينة على حين غفلة؟
رأينا: نحن نظن أن غفلة أهل المدينة كانت مؤقتة، فهي قد حصلت لفترة محدودة بدليل أن ذلك قد حصل "عَلَىٰ حِينِ"، فلو كان أهل المدينة في غفلة دائمة لكانوا إذن غافلين[4]، ولكن لمّا كانت غفلتهم في رأينا مؤقتة وقصيرة جاء النص على صيغة "عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ".
ولو راقبنا النص أكثر لوجدنا أن تلك الغفلة المؤقتة القصيرة قد أصابت أهل المدينة أجمعين  بدليل أنها كانت "عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا"، فأهل المدينة كانوا حينئذ في غفلة أجمعين، فكيف كان ذلك؟
ولو تدبرنا النص أكثر لوجدنا أن المدينة كان يسودها الفوضى بدليل أن الخصام كان داباً بين من هم من شيعة فرعون من جهة ومن هم من شيعة موسى من جهة أخرى بدليل أن موسى وجد رجلين يقتتلان على هذا الأساس (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ).
السؤال: كيف أصبح من هم من شيعة موسى (بني إسرائيل) قادرين على الوقوف في وجه آل فرعون؟ وهل يجرؤ من هم من بني إسرائيل على الوقوف في وجه من هم من آل فرعون داخل مدينة فرعون نفسها؟ فلا ننسى أن موسى نفسه لم يستطع فعل ذلك وكان أصلاً هارباً منها؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن السبب الذي دفع بكل هذه الأمور أن تحدث دفعة واحدة هو موت فرعون الأول. فما أن مات فرعون الأول حتى أصبح كل أهل المدينة في غفلة. فنحن نفتري الظن أن الغفلة لا تصيب مدينة (أي مدينة) بأكملها إلا لحظة أن يغيب حاكمها، فتصبح أشبه بالغابة يأكل القوي فيها الضعيف، ولكن أين الدليل على ذلك؟
لو تدبرنا النص القرآني جيداً لوجدنا أن الحاكم لا يجب أن يغفل عن رعيته، فالله نفسه لا يغفل عن العباد:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
          وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ                                                المؤمنون (17)
ومتى غفل الحاكم عن المحكوم دبت الفوضى في البلاد، ومتى غفل ولي الأمر عن الرعية تركوا فريسة سهلة للذئاب. وليس أدل على ظننا هذا مما قال نبي الله يعقوب لأبنائه يوم أن طلبوا منه أن يرسل معهم أخاهم يوسف إلى المرعى:
          قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ                      يوسف (13)
فيعقوب يفهم أنه إن غفل إخوة يوسف عن أخيهم فسيكون أخوهم فريسة سهلة للذئب.

ثانياً، لو تدبرنا النص القرآني جيداً لوجدنا أن الرجل الذي جاء محذراً موسى، كان يحذره من الملأ الذين يأتمرون به وليس من فرعون نفسه:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
ما علاقة هذا كله بفحوى الموضوع قيد البحث هنا؟
جواب: لو تدبرنا السياقات الخاصة ببني إسرائيل في أرض مصر زمن حكم الفراعنة لوجدنا أنهم قد مروا بتجربتين اثنتين:
1.     التقتيل  
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
2.     الاستعباد
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
نتيجة: فبنو إسرائيل (1) قتّلوا في أرض مصر و (2) استعبدوا في أرض مصر، فكيف يمكن الربط بين الحدثين؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أنه خلال حكم فرعون الأول (الذي التقط موسى من اليم) كان التقتيل جار على أشده في أبناء بني إسرائيل، وكان الذي يقوم بذلك ليس فرعون نفسه فقط ولكن آل فرعون:
          وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
وخلال تلك الفترة وقف موسى خصماً عنيداً لفرعون ونصب من نفسه الشخص الذي يريد الإصلاح ضد من كان جباراً في الأرض، وكانت نتيجة تلك العداوة "السياسية" أن اضطر موسى للخروج من المدينة. ولكن ما انتهى عهد ذلك الفرعون الأول ووصل الفرعون الثاني إلى الحكم حتى توقف التقتيل في أبناء بني إسرائيل وأصبح استعبادهم هو البديل، ونحن نفتري الظن أن الذي دفع بموسى أن يعود إلى المدينة بعد فترة غياب عنها هو موت ذلك الفرعون الأول الذي ناصبه موسى العداء، ونظن أن ذلك حصل في وقت كان أهل المدينة في غفلة، أي لم يكن لهم حاكم بعد، فتجرأ موسى على العودة خلال هذه الفترة الانتقالية في الحكم، التي ظهر فيها أن بني إسرائيل قد حاولوا مقاومة التقتيل الذي كان جار فيهم زمن الفرعون الأول. وما أن وصل الفرعون الثاني إلى سدة الحكم حتى بدأ حكمه بإصدار المرسوم الأول له والقاضي – في ظننا- بتوقيف التقتيل في بني إسرائيل، ربما ليعيد للمدينة هدوءها بعد الفوضى التي عمتها خلال الفترة الانتقالية.
الدليل
لو تدبرنا النص القرآني التالي كما جاء على لسان موسى مخاطباً هذا الفرعون الجديد لربما توصلنا إلى ما يمكن أن يدعم ظننا هذا:
          فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
فالمتدبر للنص القرآني يجد أن موسى يوجه الخطاب لهذا الفرعون على أنه هو من عبّد بني إسرائيل ولا يتهمه بتقتيلهم، لاحظ – عزيزي القارئ- كيف جاء الضمير في الآية 21 بصيغة الجمع وتحول مباشرة إلى صيغة المفرد الخاص بفرعون نفسه عند الحديث عن تعبيد بني إسرائيل، ففرعون هذا هو – في ظننا المفترى- من عبّد بني إسرائيل ولكنه لم يقتّلهم.
ثانياً، لو تأملنا النص القرآني التالي لوجدنا أن تقتيل أبناء بني إسرائيل قد توقف قسطاً من الزمن:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
فالمتدبر للنص يجد أن هناك استئناف لعملية التقتيل والاستحياء بعد عودة موسى، فهذا الفرعون الثاني لم يقدم – في ظننا- على تقتيل بني إسرائيل إلا بتحريض من الملأ من قومه بعد عودة موسى:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
فيرد عليهم حينها بأنه سيستأنف التقتيل والاستحياء من جديد
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
ثالثاً، ربما يفسر مثل ظننا هذا ما جاء على لسان بني إسرائيل أنفسهم عندما خاطبوا نبيهم عن ما حل بهم من قبل موسى ومن بعده:
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
فالقوم يضعون جزء من اللوم على عودة موسى لأنها سببت لهم الأذى الذي كان حالا بهم من قبل أن يأتيهم موسى و من بعد ما جاءهم بتلك الرسالة (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). فالآية تشير إلى أن تغيراً في حالهم قد حصل بعد عودة موسى بالرسالة، وموسى يطلب منهم الصبر على ذلك:
          قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
فنحن نظن أن الأذى قد وقع على بني إسرائيل من قبل أن يأتيهم موسى وعاد الأذى ليقع عليهم من بعد ما جاءهم موسى، لذا نحن نستشعر أن خلال هاتين المرحلتين توقف الأذى عن بني إسرائيل في أرض مصر، ونحن نظن أن هذه الفترة هي فترة حكم هذا الفرعون الثاني. وسنرى تبعات هذا الظن على شخصية هذا الفرعون الجديد لاحقاً بحول من الله وتوفيق منه وحده، فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علماً لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم).
تلخيص لما سبق
نحن نظن أن تقتيل أبناء بني إسرائيل من قبل فرعون جاء على الدوام بتحفيز من آل فرعون أنفسهم، فآل فرعون كانوا دائمين على تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)، ولكن لمّا انتقل الحكم من الفرعون الأول (الذي ألتقط موسى في اليم) إلى الفرعون الثاني (الذي عاد له موسى بالرسالة) توقف التقتيل في أبناء بني إسرائيل، وانتقل إلى مرحلة الاستعباد، وكان ذلك على يد الفرعون الثاني. ولما عاد موسى بالرسالة عاد التحريض مرة أخرى على بني إسرائيل من قبل ملأ قوم فرعون أنفسهم:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
عندها "وعد" هذا الفرعون الجديد باستئناف التقتيل في أبناء بني إسرائيل واستئناف الاستحياء في نساء بني إسرائيل فقط بعد عودة موسى، ولنتابع قراءة الآية نفسها:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
وقد كانت سطوة آل فرعون على بني إسرائيل سابقة:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن هذا الفرعون الثاني لم يقتّل أبناء بني إسرائيل إطلاقاً ولكنه استعبدهم طيلة فترة حكمه (وكان ذلك طيلة فترة غياب موسى عن أرض مصر)، ووعد باستئناف التقتيل في أبناء بني إسرائيل بعد عودة موسى بالرسالة إلى أرض مصر.
تبعات هذا الظن
ربما يفسر لنا مثل هذا الظن سبب أن يبعث الله لهذا الفرعون رسولين ليقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو أن يخشى:
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
لو تدبرنا هذه الآيات الكريمة جيداً لربما استطعنا أن نخلص إلى القول بأن مشكلة فرعون الحقيقية كانت على نحو "إِنَّهُ طَغَىٰ"، فالله قد أرسل إلى فرعون رسولين لأنه قد طغى، أليس كذلك؟
السؤال: كيف طغى فرعون؟
رأينا: لو تدبرنا السياقات القرآنية الخاصة بالطغيان لوجدنا أن الطغيان غالباً ما يصاحب العلم:
          اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن الإنسان الذي يطغى هو من كان لديه العلم ولكنه حاول أن يخفي بعلمه هذا الحقيقة عن من حوله:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
فالذين يحاولون أن يزيدوا على ما أنزل الله هم يقعون في فعل الطغيان لأنهم يحاولون بفعلتهم تلك أن يجعلوا ما عندهم يطغى على ما جاء من عند الله بالضبط كالصورة التي يمكن أن نتخيلها من عملية طغيان الماء على الأرض:
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
فعندما يطغى الماء على الأرض يصبح من الصعب معرفة تضاريس الأرض التي تحت الماء لأن الماء قد شكل عائقاً لمعرفة حقيقة ما تحته. ولا يكون ذاك الطغيان إلا من عمل السفهاء الذين يريدون الفساد في الأرض ليعلو فيها كفرعون مثلاً:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
نتيجة: نحن نظن أن الذين في طغيانهم يعمهون هم من اشتروا الضلالة بالهدى، لذا نحن نظن أن فرعون هذا قد اشترى الضلالة بالهدى، فكانت مشكلته تتمثل في أنه قد طغى. ولما كان الطغيان من أجل العلو في الأرض كان لا شك مبنياً على علم. لذا نحن نتجرأ أن نفتري الظن بأن فرعون هذا كان صاحب علم ولكنه استخدم علمه ليطغى. فأخفى الحقيقة عن الناس وكان ذلك هو سبب أنه أوقع قومه في الضلالة ولم يرشدهم إلى الهدى:
          وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ                                                                  طه (79)
ولو حاولنا التمييز بين ما فعل فرعون من جهة وما فعل قارون من جهة أخرى لوجدنا أنه في حين أن فرعون كان قد طغى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ) فإن قارون كان قد بغى عليهم:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
السؤال: كيف بغى قارون عليهم؟
نحن نظن أن "البغي" يعني "اعتداء طرف على طرف آخر" كحالة الخلطاء الذين يبغي بعضهم على بعض
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24)
أو كحالة البحرين اللذان لا يبغيان، ليبقى كل واحد منهم ملتزم بحد له لا يتجاوزه:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
نتيجة مفتراة: لم تكن مشكلة هذا الفرعون تكمن في أنه قد بغى ولكنه كان قد طغى، ربما لنفهم أن فرعون كان صاحب علم، فحاول بعلمه هذا أن يطغى ليغطي على الحقيقة التي لا يريد الناس أن يطلعوا عليها لأنها في ظننا كانت ستكلفه الكثير، فما هي تلك الحقيقة؟ ولماذا حاول أن يغطيها؟

فرعون الطفولة  
عودة على بدء
حاولنا جاهدين التمييز بين فرعون الأول الذي عاش موسى في كنفه، وفرعون الثاني الذي عاد موسى له بالرسالة. وافترينا الظن بأن فرعون الأول كان يقتّل أبناء بني إسرائيل لأنه هو من استطاع الإطاحة بحكم الملوك من بني إسرائيل (أي فترة حكم بني إسرائيل في مصر بعد يوسف وقبل انتقالهم إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى):
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
فكان ذلك الفرعون يحاول تصفية حساباته مع خصومه السياسيين.
وتربى موسى في كنفه بعد أن تدخلت امرأة فرعون (بتدبير إلهي) فأنقذت موسى من القتل:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
واتخذت من موسى ولداً لها، وتربى موسى في آل فرعون ولبث فيهم سنين من عمره:
          قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
وظننا (مفترين القول) في مقالات سابقة لنا أن سبب قبول هذا الفرعون الأول بعرض امرأته بأن تتخذ من موسى ولداً لها يعود إلى ضعفه الجنسي وعدم قدرته على الإنجاب (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: من هي زوجة موسى؟)
واختارت هذه المرأة الكريمة الإيمان على الكفر، فلم تطق العيش مع فرعون كامرأة له، فتوجهت بالدعاء إلى ربها بأن يبني لها بيتاً عنده في الجنة وينجيها من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
فانتقلت تلك المرأة إلى الرفيق الأعلى، وبقي موسى في آل فرعون يعيش في كنف أهل البيت الذين كفلوه:
          وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ القصص (12)
وزعمنا في مقالة سابقة لنا أن أم موسى كانت قد تزوجت بعد وفاة زوجها الأول (والد موسى) بذلك الرجل الصالح الذي ظننا أنه هو نفسه نبي الله ذو الكفل[5]، فرجع موسى بذلك إلى حضن أمه:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)                                  القصص
وظننا كذلك أن هذا الرجل الصالح (وهو نبي الله ذو الكفل) هو نفسه والد هارون عليه السلام الذي تربطه بموسى صلة قرابة من طرف الأم:
          قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي          طه (94)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                                                                                                                   الأعراف (150)
كما افترينا القول أن ذا الكفل هذا هو نفسه شقيق امرأة فرعون الصالحة التي آثرت الموت على العيش كامرأة لفرعون الجبار في الأرض. (وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه تبعات هذا الظن على شخصية موسى وقصة موسى بأكملها مع فرعون، لذا فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علماً لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم)
كما افترينا القول بأنه عندما كبر موسى وتربى في أهل هذا البيت الكريم (بيت ذي الكفل) لم يطق ذرعاً بما كان يفعل فرعون من التقتيل في بني إسرائيل، فنصّب من نفسه الرجل الذي يريد الإصلاح ضد هذا الجبار المتكبر كما جاء على لسان من أراد موسى أن يبطش به:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
ولكن بسبب سطوة هذا الجبار في الأرض، لم يستطع موسى البقاء في المدينة، فهرب منها كثائر سياسي ضد حكم هذا الجبار المتسلط، فأصبح عدوا لموسى كما كان عدواً لله:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي[6]                                                                                                   طه (39)
ولم يستطع موسى أن يدخل المدينة من جديد إلا يوم أن سمع بخبر موت هذه الطاغية.
نتيجة مفتراة: إن ما يهمنا من التعرض مرة أخرى لهذه التفاصيل المفتراة من عند أنفسنا هو الخروج بالاستنباط المفترى التالي: لم يكن لفرعون الأول هذا ذرية من نسله (أي لم يكن له ولد مادام أنه أصلاً قد قبل فكرة التبني التي طرحتها عليه امرأته) لكي يرث الحكم من بعده. لذا نحن نفتري القول بأنه ما أن مات هذا الفرعون الأول حتى راحت المدينة كلها في غفلة لأن الحكم لم ينتقل بسهولة إلى الفرعون الجديد مادام أنه ليس الوريث الشرعي لفرعون الأول. الأمر الذي نظن أنه دفع ببعض بني إسرائيل إلى محاولة الوقوف في وجه الفراعنة من جديد، فانقسم الناس إلى شيع. كما نتجرأ لنفتري القول بأنه ما أن سمع موسى بخبر موت هذا الطاغية حتى عاد ليدخل المدينة، وهناك وجد رجلين يقتتلان على هذا الأساس:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ          القصص (15)          
والمدقق في النص القرآني يجد أن موسى لم يتردد لحظة واحدة عن نصرة من هو من شيعته على الذي هو من عدوه (فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ).
فدبت (نتيجة موت ذلك الفرعون والتباطؤ في نقل الملك) الفوضى في المدينة، وليس أدل على ذلك من أن الرجل الذي كان يقاتل من بني إسرائيل في الأمس ضد آل فرعون لا زال يقاتل في اليوم التالي:
          فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ        القصص (18)
فنحن نفتري الظن بأنه لو كان الأمن يسود المدينة، ولو كان الحكم مستتباً، لما استطاع هذا الرجل من بني إسرائيل أن يبقى في حالة قتال مع من هم من شيعة فرعون طيلة هذه الفترة. فسطوة آل فرعون غالبة على بني إسرائيل:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
ولو دققنا في النصوص أكثر لوجدنا أنه عندما جاء الرجل الصالح ليحذر موسى من مغبة ما يمكن أن يحصل له، جاءه ليحذره من الملأ وليس من فرعون نفسه:
          وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ                                                                                                                                                  القصص (20)
السؤال: أين هو فرعون إذن؟
افتراء من عند أنفسنا: ذلك هو الوقت الذي مات فيه فرعون الطفولة، فكانت المدينة كلها في غفلة:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ          القصص (15)
حيث كانت المدينة أشبه بالغابة يأكل القوي فيها الضعيف لغياب الحاكم صاحب الكلمة الفصل، وكان الناس ينتظرون من سيؤول الملك إليه، فكان الملك - في رأينا – من نصيب هذا الفرعون الجديد (فرعون الرسالة) الذي طغى، وهو صاحب العلم الذي حاول بعلمه أن يضل قومه أنفسهم وليس فقط بني إسرائيل:
          وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ                                                                           طه (79)
فرعون الرسالة
-        من هو هذا الفرعون الثاني؟
-        كيف وصل إلى الحكم؟
-        ماذا فعل ببني إسرائيل؟
-        هل فعلاً كان صاحب علم؟
-        ما مصدر علمه؟
-        الخ
هذا ما سنتعرض له بحول الله وتوفيقه في الجزء القادم من هذه المقالة، فالله وحده أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً، وأسأله تعالى أن يعلمني الحق فلا أفتري عليه الكذب وأن لا أول عليه إلا الحق إنه هو العليم الحكيم.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح




[1] سنرى لاحقاً أن أم موسى قد وضعت موسى في التابوت وألقته في اليم يوم فطامه:
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
وهو ما نظن أنه السبب الذي من أجله حرم الله على موسى المراضع (من قبل) حتى رده إليها:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
[2] وسنرى لاحقاً لما عاد موسى في هذا الوقت بالذات ليدخل المدينة، وكيف كان ذلك على حين غفلة من أهلها، فهل يعقل أن يكون أهل المدينة كلهم غافلون؟ وكيف عرف موسى غفلتهم تلك؟ وما معنى الغفلة أصلاً؟
[3] فنحن لا نظن أن موسى كان ذاهباً إلى أرض مصر بأهله لأن القوم كان لهم عليه ذنب، وقد كان موسى خائفاً أن يذهب إلى هناك حتى بعد أن أرسله الله إلى فرعون:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
فهل يعقل أن يذهب موسى بنفسه وأهله إلى فرعون ليسلم نفسه لقمة سائغة له ولآل فرعون أجمعين بعد ذنبه الذي لهم عليه؟ لا أظن ذلك. وأعتقد جازماً أن موسى كان ذاهباً إلى الأرض المباركة ليبحث عن الهدى:
            إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
وسنتحدث بتفصيل أكثر عن هذه القضية بحول الله وتوفيقه لاحقاً، فالله أسأل أن يهديني إليه سبيلاً وأن أجد هداي عنده وحده إنه هو السميع العليم.
[4] كما جاء في الآيات الكريمة التالية:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَٰلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ                                                           الأنعام (131)                     
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ                                                                                                                            الأعراف (179)

[5] للتفصيل انظر مقالتنا: لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 14؟
[6] لذا نحن نفتري الظن أن هذا ليس هو الفرعون الذي بعث الله موسى وهارون إليه ليقولا له قولا ليناً لأنه ببساطة كان عدواً لله. فلا أظن أن من كان عدوا لله يمكن أن يتذكر أو أن يخشى.