يواصل هذا المقال تعميق رؤيته لنظرية التطور، حيث يفرق بشكل دقيق بين مصطلحات "الخلق"، "الإنشاء"، و"الإنبات". يرى الكاتب أن "الخلق" هو تحويل المادة، بينما "الإنشاء" هو كتابة الشيفرة الوراثية (DNA) التي تمنح الكائن خصائصه، و"الإنبات" هو النمو العمودي. وبناءً على هذا، يؤكد أن خلق الله "أحسن" لأنه لا يقبل الترقي أو التطور، بل يمكن أن يُرد "أسفل سافلين". كما يحلل المقال لغويًا مفهوم "النبات" كعملية نمو عامة لا تقتصر على الأرض، ويقدم تصورًا جديدًا لقصة الخلق الأولى وعداوة إبليس لآدم.
فهرس المقال
مقدمة: ملخص وتساؤلات
خلصنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة إلى تقديم الافتراءات الخطيرة التالية التي هي لا شك من عند أنفسنا:
- الله هو أحسن الخالقين
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾
سورة المؤمنون
- لم يأت خلق الله كله جملة واحد، فكان خلقا من بعد خلق (تسلسل افقي زمني)
- لم يأت خلق الله كله بنفس المستوى وإنما جاء خلقا فوق خلق (تسلسل عامودي نوعي)
- جاء الخلق على شكل أمم
- أنشأ الله كل أمة جديدة من ذرية القوم الذين سبقوها
- احتلت كل أمة لاحقة مكانة تفوق الأمم التي سبقتها، لذا تقبع هذه الأمم فوق بعضها البعض
- داخل كل أمة هناك أيضا فوقية واضحة، فبعضها يسيطر على البعض الآخر
- الأمة الأعلى هي المهيمنة على الأمم الأدنى منها
- تستطيع الأمة الأدنى أن تلحق الضرر بالأمة الأعلى لكن هذا لا يمنع أن تكون هي بكليتها مسخرة لما هو فوقها
- كان الذباب هو الأمة الأولى، فجاء كل الخلق فوق البعوضة:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٦﴾
سورة البقرة
- كانت البعوضة (الذباب) هي الأمة الأدنى في سلم الفوقية، لكن هذه الدرجة لن يصل لها أي خالق دون الله. فأقل خلق الله درجة لن يستطيع عليه أعز الخالقين الذين هم دون الله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴿٧٣﴾
سورة الحج
- جاء خلق الجآن من قبل خلق الإنس:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴿٢٧﴾
سورة الحجر
- جاء خلق الإنس كآخر أمة، فأنشأه الله من ذرية القوم الآخرين الذين سبقوهم وهم الجن:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴿٥٠﴾
سورة الكهف
- الخ.
عندها طرحنا التساؤلات المثيرة التالية:
- لماذا جاء خلق الله بهذا التنوع الهائل؟
- لماذا جاء خلق الله بهذا الترتيب؟
- لماذا جعل الله خلقه خلقا من بعد خلق؟
- لماذا رفع الله بعض خلقه فوق بعضه الآخر درجات؟
- لم لم يأت كل خلقه جملة واحدة؟
- هل كان الإله يلهو أو يلعب؟
- لماذا كان الذباب هو أول الخلق، فكان كل الخلق الآخر فوقها؟
- لماذا جاء الإنس هو الأمة التي تحتل المرتبة الأخيرة في الزمن والأعلى في المرتبة بين جميع الأمم الأخرى؟
- كيف يمكن ترتيب جميع الأمم الأخرى (كالدواب والطير وغيرها) زمانيا (خلقا من بعد خلق) ومكانيا وظيفيا (خلقا فوق خلق)؟
- كيف نستطيع أن نبيّن للجميع (المؤمنين والكافرين) بأن الله هو فعلا أحسن الخالقين؟
- كيف يمكن أن أن نبيّن للجميع (المؤمنين والكافرين) بأن كل الخالقين الذين هم من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له؟
- ما الذي يجعل خلق الله يختلف عن ويمتاز على خلق غيره؟
- الخ
وسنحاول في هذا الجزء الجديد متابعة النقاش في القضية نفسها، محاولين تسطير افتراءات جديدة خاصة بموضوع الخلق الإلهي الذي لا يمكن أن يجاريه خلق مَنْ هم من دونه، مبتدئين النقاش بمحاولة التفريق بين الخلق من جهة والإنشاء من جهة أخرى.
باب: الفرق بين الخلق والإنشاء
دعنا نحاول النبش في الفرق بين الخلق من جهة والإنشاء من جهة أخرى، فهناك لا شك فعل الخلق وهناك أيضا فعل الإنشاء، ونحن بداية نفتري الظن بأن الخلق هو مرحلة سابقة لـ ومختلف عن الإنشاء، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾
سورة المؤمنون
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدناها تبين لنا بما لا يدع مجالا للشك بأن مرحلة الخلق هي مرحلة أولية ومقدمة (سابقة) لمرحلة الإنشاء، فالله هو من بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانَ مِن طِينٍ ﴿٧﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ﴿٨﴾
سورة السجدة
وما أن ينزل هذا الماء المهين في رحم المرأة حتى تستأنف مرحلة الخلق من جديد، فتصبح هذه النطفة التي قُذفت في رحم المرأة علقة، ثم تخلق العلقة مضغة، ثم تخلق المضغة عظاما، ثم تُكسى هذه العظام لحما:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾
سورة المؤمنون
وفي هذه المرحلة بالضبط (بعد أن تكسى العظام لحما) تأتي مرحلة الإنشاء، فيكون هذا المخلوق خلقا آخر بفعل الإنشاء (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). ويرتبط هذا (نحن نفتري الظن) بحقيقة أن يكون الله هو أحسن الخالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
جواب مفترى: تعرضنا لهذه القضية في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف عندما طرحنا التساؤل حول أن تكون قصة يوسف على وجه التحديد هي أحسن القصص، قال تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴿٣﴾
سورة يوسف
وافترينا القول من عند أنفسنا حينئذ بأن الأحسن هو الذي لا يمكن أن يجري عليه إضافات أو تعديلات، وذلك لأنه جاء في نسخته النهائية جملة واحدة. فقصة يوسف هي أحسن القصص (مقارنة مع غيرها من القصص القرآني) لأنها – برأينا- جاءت كاملة (بجمبع تفاصيلها) جملة واحدة في سورة واحدة، ولم يحصل عليها تعديل أو إضافة في أي موقع آخر من كتاب الله كما في حالة قصص الأنبياء والرسل الآخرين. فجميع قصص الأنبياء والمرسلين الأخرى (كقصة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى وداوود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد) جاء ذكرها، ووردت تفاصيلها، في أكثر من موضع من كتاب الله، وذلك على عكس قصة يوسف التي لم تذكر إلا في سورة يوسف، ولم يرد لها أي تفصيل في غير هذا الموضع من كتاب الله. (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف).
الله أحسن الخالقين: استحالة الترقي
وبناء على هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا، نحن نظن بأن الله هو أحسن الخالقين وذلك لأنه من الاستحالة بمكان أن يتم تعديل أو إضافة (أي تحسينات) على أي خلق من خلق الله. فالذبابة هي الذبابة منذ أن خلقها الله في هذا الكون الفسيح وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويستحيل أن يحصل عليها تعديل بأي شكل من الأشكال، وينسحب هذا المنطق على جميع خلق الله ابتداء من الذبابة التي هي أدنى الخلق في سلم الفوقية الذي افتريناه وانتهاء بالإنسان الذي يحتل أعلى الخلق في ذلك السلم، قال تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾
سورة التين
وبهذا نصل إلى الجزئية الأولى التي نعارض فيها نظرية التطور التي اقترحها تشارلز داروين، فنحن ننفي جملة وتفصيلا أن يحدث رقي لأي أمة من الأمم التي خلقها الله، فما أن يتم الله خلق أمة محددة حتى يكون ذلك هو خلق أحسن، يتعذر أن يجري عليه أي تعديل أو إضافة، لأن اجراء أي إضافة أو تعديل عليه ستجعله يخرج من طور الخلق الأحسن الذي خلقه الله، فيؤدي إلى هلاكه بدل أن يؤدي إلى رقيّه. ولكن يمكن - بالمقابل - أن يجري عليه ردا إلى الأسفل بدلا من رقي إلى الأعلى، قال تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾
سورة التين
الدليل: الرد إلى الأسفل وليس الترقي
الدليل
نحن نفتري القول من عند أنفسنا استحالة أن يرتقي البعوض ليصبح دابة، ولكن يمكن للدابة (كفصيلة) أن ترد إلى الوراء فتصبح بعوضا (كفصيلة)، وبهذا المنطق يمكننا القول بأنه لا يمكن للقرد أن يتطور حتى يصبح إنسانا (كما ظن داروين)، ولكن يمكن للإنسان أن يرد إلى الوراء فيصبح قردا، قال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿٦٥﴾
سورة البقرة
فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿١٦٦﴾
سورة الأعراف
فكل الدواب الموجودة في الأرض، وكل الطير التي تطير بجناحيها في جو السماء، هي – لا شك- أمم أمثالنا، لذا نحن نفتري الظن (ربما مخطئين) بأنها جاءت جميعا على نحو خلق من بعد خلق، ولكنها أنشئت (كما حصل مع الإنس) من ذرية قوم آخرين.
ولتوضيح الصورة التي في مخيالنا أكثر، نحن نفتري الظن بأن الخلق الأول قد بدأ بفلق الحب والنوى:
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿٩٥﴾
سورة الأنعام
فبدأ خلق النبات، فأخرج الحي من الميت، فحصل الإنشاء الأول:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴿٦١﴾
سورة هود
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴿٣٢﴾
سورة النجم
ولو دققنا بالمقابل- في الآية التالية:
وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿١٧﴾
سورة نوح
لوجدنا بأن الله قد أنبتنا من الأرض. وهنا يجب أن يثار التساؤلات التالية:
- كيف نفهم أن الله أنشأنا من الأرض؟
- كيف نفهم أن الله أنبتنا من الأرض؟
- ما الفرق بين إنشائنا من الأرض وانباتنا من الأرض؟
- الخ
رأينا المفترى: لقد حاول الكثيرون - معتمدين على فهمهم لهذه الآية الكريمة - وضع النظريات عن بداية خلق الإنسان. فظهرت بعض الأصوات التي تظن بأن أصل الإنسان من نبات، وظن آخرون بأن الناس كلهم خرجوا كالزرع من الأرض؟ وهكذا
وبعض النظر عن صحة أو خطأ هذه التصورات البشرية، فإننا سنحاول - بناء على فهمنا اللغوي الخاص ببعض مفردات هذه الآية الكريمة - أن نضع تصورا نظن أنه مختلف عن التصورات السابقة لقصة الخلق الأولى، وسنبدأ بحثنا هذا بطرح السؤال المبدئي وهو: ما معنى مفردة "النبات" ومشتقاتها بما يمكننا استنباطه من آيات الكتاب الحكيم؟
افتراء 1: نحن نظن أن مفردة "النبات" (وجميع مشتقاتها) تعني النمو وكفى
افتراء 2: نحن نفتري الظن أيضا بأنه ليس لشرط أن يكون هذا النمو مرتبطا بالأرض فقط. انتهى.
إعادة تعريف "النبات": النمو وليس الزرع
الدليل
لو بحثنا عن مفردة النماء ومشتقاتها (نمى، ينمو نماء، إنماء، تنامى، نموا، أنمى، نام، منمى، الخ) لما وجدناها قد وردت في القرآن على مساحة النص بأكمله. عندها سيكون السؤال الفوري هو: كيف عبر القرآن الكريم عن معنى النماء في الآيات الكريمة؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن معنى النماء الذي يرد في قواميس اللغة العربية كما في التعاريف التالية المقتبسة من معجم اللغة العربية المعاصرة:
نمى ينمي ، انم ، نماء ، فهو نام ، والمفعول منمي ( للمتعدي ) • نمى المال : زاد وكثر نماء ثروة - نمى إيراد المصنع الجديد . • نمى السعر : ارتفع وغلا . • نمى الحديث : شاع وذاع بين الناس نمى نبأ نجاح مؤتمر السلام . • نماه حسبه : رفعه وأعلى شأنه . • نمى الحديث إلى قائله : رفعه في الإسناد إليه .
نمى ينمي ، نم ، تنمية ، فهو منم ، والمفعول منمى• نمى إنتاجه : زاده وكثره ، رفع معدله . • نمى النار : أشبع وقودها . • نمى الأمر : طوره نمى العلاقات بين البلدين - تنمية التعاون الدولي - شجع التنمية الإقليمية لمنطقة الخليج - نمى شركته / مواهبه . • نمى ذاكرته : أنعشها وقواها التمارين البدنية تنمي الجسم .
قد تم التعبير عنه في كتاب الله بمفردة "النبات" ومشتقاتها.
جواب مفترى: نحن نظن أنه ليس شرطا أن يكون الانبات مرتبطا دائما بالأرض، فقد يحصل الإنبات من الأرض مباشرة، وقد يحصل الإنبات من غير الأرض مباشرة. وذلك لأن الانبات هو النمو بغض النظر عن مصدره. فالإنبات من الأرض قد جاء في قوله تعالى:
وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿١٧﴾
سورة نوح
وقد يكون الإنبات من غير الأرض مباشرة كما جاء في حق مريم:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ... ﴿٣٧﴾
سورة آل عمران
هل الإنبات مرتبط دائمًا بالأرض؟
دقق معي عزيزي القارئ -إن شئت- في الآية التالية التي تتحدث عن مريم، قال تعالى:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾
سورة آل عمران
فهذه مريم قد أنبتها الله نباتا حسنا، فهل يعني ذلك أن مريم قد خرجت من تراب الأرض مباشرة؟! من يدري؟!!!
رأينا مفترى: كلا وألف كلا. فالله قد أنبت مريم نباتا بعد أن وضعتها أمها من بطنها، فمريم قد وضعتها أمها كما تضع أي أنثى طفلها:
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنَّمَا وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿٣٦﴾
سورة آل عمران
ليكون السؤال الآن: كيف يمكن أن نفهم أن مريم قد وضعتها أمها كما تضع أي امرأة طفلها وفي الوقت ذاته يجب أن نفهم أن مريم قد أنبتها الله نباتا كما جاء في الآية الكريمة التالية؟
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾
سورة آل عمران
إذن، الله هو من أنبت مريم بعد أن وضعتها أمها، ولا يمكن أن يفهم من ذلك أن مريم قد نبتت من الأرض، لكن – في الوقت ذاته- يجب أن نفهم بأن ذلك كان نباتا حسنا. فكيف نفهم ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نتصور (ربما مخطئين) بأن مريم قد وُلِدت كطفلة صغيرة الحجم، وأخذت مع توالي الأيام تنبت (أي تنمو) شيئا فشيئا حتى وصلت لمرحلة حمل المسيح. وقد كان نباتها ذلك (أي نموها التدريجي) حسنا، لأنها – نحن نفهم- لم تكن تأكل من طعام الأرض قط حتى وضعت المسيح من بطنها عند الشجرة، وهناك جاءها الأمر الإلهي بأن تأكل وتشرب:
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴿٢٥﴾ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴿٢٦﴾
سورة مريم
فمريم كانت قبل هذه المرحلة تأكل من رزق من عند الله يأتيها إلى المحراب:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾
سورة آل عمران
فكان ذلك هو – برأينا- نباتها الحسن. فنبتت مريم (أي نمت تدريجيا) كما ينمو أي طفل مولود من البشر، لكن كان ما يميز نمو مريم عن نمو غيرها هو أنه كان نموا حسنا بسبب الطعام الذي كانت تأكل منه مريم، والذي مصدره السماء، حتى وضعت مريم ما في بطنها (المسيح عيسى بن مريم) عند جذع النخلة.
رأينا المفترى: نحن نظن بأن النباتات (كما نعرفها نحن العامة من الناس) ليست الزرع أو الشجر كالزيتون والنخل والأعناب، ولكنها عملية نمو هذه الكينونات، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿١١﴾
سورة النحل
فهذه جميعا قد سميت نباتات بالعرف الدارج، لكنها في اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن هي – برأينا- ليست نباتات، ولكن لها تسميات خاصة بها، فالزرع زرع والشجر شجر، وهكذا. والأرض هي التي تنبت البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل كما جاء على لسان بني إسرائيل لنبيهم موسى:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿٦١﴾
سورة البقرة
والحبة التي تغرس في الأرض هي التي تُنبت السنابل، كما جاء في قوله تعالى:
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٦١﴾
سورة البقرة
وكل ذلك كان موزونا بأمر الله:
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴿١٩﴾
سورة الحجر
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: إنه النشوء. انتهى.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿١٤١﴾
سورة الأنعام
فالجنات قد أنشئت، فكانت الثمار مختلفة في الأكل، فكانت متشابهة وغير متشابهة،
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿١٨﴾ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾
سورة المؤمنون
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٩٩﴾
سورة الأنعام
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن هذه فصائل تشترك مع بعضها البعض في صفات معينة، وتختلف عن بعضها فالبعض في صفات أخرى. ودرجة التشابه بينها وهو الذي يجعل حبها متراكبا.
رأينا المفترى: نحن نظن بأن القضية بسيطة جدا يستطيع كل إنسان أن يراها بأم عينه، وذلك بالنظر إلى ثمر تلك الجنات (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)، فالثمر المتشابه هو الذي يمكن أن تجري عليه عملية التركيب (نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)، فالتفاح كفصيلة – مثلا- متعدد الأشكال والأنواع، لكنه جميعا من الفصيلة ذاتها التي يمكن أن تركب على بعضها البعض. فثمرة شجرة ما من فصيلة التفاح يمكن أن تركّب على شجرة تفاح أخرى من فصيلة التفاحيات، ولكن يستحيل أن تركب على شجرة من فصيلة الرمان، وهكذا هو الحال بالنسبة لفصيلة الحمضيات أو اللوزيات أو الزيتون أو الرمان أو النخيل أو الأعناب، الخ.
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا لا علاقة له بالنبات، وذلك لأن جميعها تنبت (أي تنمو) تدريجبا بنفس الطريقة، فهي تبدأ بالحب، فتفلق الحب ويفلق نواتها، ثم تبدأ تخرج من الأرض تدريجيا، فتكبر وتثمر، وكل ذلك ضمن نظام محكم يستحيل أن يختل.
لكن الذي يجعلها متشابهة وغير متشابهة هو – برأينا- عملية الإنشاء التي حصلت لها.
رأينا المفترى الخطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نتجرأ على افتراء الظن بأن سبب الإنشاء هو الماء كما نفهم ذلك من الآيات الكريمة التالية:
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿١٨﴾ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾
سورة المؤمنون
فالماء – حسب فهمنا لهذه الآية الكريمة - هو الذي أنشأ الله لنا به الجنات التي فيها فواكه كثيرة منها نأكل.
الماء: مصدر الإنبات والإنشاء
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن عملية الإنشاء هي عبارة عن عملية كتابة الشيفرة الوراثية لكل فصيلة من هذه الفصائل، فكل فصيلة من هذه الفصائل لها شيفرة وراثية على شكل شريط DNA، وهو الذي – نحن نظن- يجعل كل فصيلة من هذه الفصائل مميزة عن غيرها.
وهنا نصل إلى نتيجة - حسب فهمنا لهذه اللحظة – في ظاهرها متناقضة تماما. ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
افتراء خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نفتري الظن بأن للماء وظفتين اثنتين هما:
- أن ينبت به الجنات. وإنبات الجنات هو الذي يجعل الشجر شيئا فشيئا. فهناك عنصر محدد في الماء هو الذي يجعل الشجر والزرع قادرا على النمو (الإنبات)، فما هو ذلك العنصر؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن مادة الإنبات (أي النمو التدريجي بالمفردات الدارجة) هي عملية التمثيل الضوئي التي تحتاج إلى عنصر الأكسجين.
- أن ينشئ الجنات. وإنشاء الجنات هو الذي يجعل الشجر يحتفظ بخصاصه الوراثية. فهناك عنصر في الماء هو الذي يجعل الشجر والزرع قادرا على الاحتفاظ بتلك الصفات، فما هو ذلك العنصر؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن العنصر المائي الذي ينشئ الزرع كله هو عنصر الهيدروجين. انتهى.
الدليل
لكي نجلب الدليل على افتراءاتنا هذه، علينا أن نحاول التفريق بشكل أكثر دقة بين الإنبات من جهة والإنشاء من جهة أخرى، لنطرح إذا السؤال على النحو المباشر التالي: ما الفرق بين الانبات والنشوء؟
افتراء خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الانبات والإنشاء هما عمليتا النمو التدريجي، لكن في حين أن الإنبات يكون عاموديا (إلى الأعلى)، فإن الإنشاء يكون أفقيا (على الجوانب). فالفرق بينهما هو كالفرق بين العلاقة العامودية والأفقية
الفرق بين الإنبات والنشوء: علاقة أفقية وعامودية
مثال
عندما تحاول أن تبني علاقة مع شخص، فإن ذلك يعني أن العلاقة تمر بمرحلتين اثنتين (1) أن تنشيء العلاقة أول، و (2) أن تبني العلاقة التي أنشأتها لتتعزز وتقوي. فقد تبدأ العلاقة ضعيفة، وهنا تكون العلاقة قد نشأت أفقيا، ثم ما تلبت أن تنمو (فتتطور) العلاقة عاموديا، فالبنيان فيه ارتفاع إلى الأعلى، قال تعالى:
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴿٩٧﴾
سورة الصافات
فالبنيان إذا فيه ارتفاع إلى الأعلى (ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا) حتى يتم فعل الإلقاء إلى الأسفل (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ).
رأينا المفترى الخطير جدا جدا لا تصدقوه: عندما ينزل الماء من السماء على الأرض، فإن ذلك يؤدي إلى فلق الحب، وسبب هذا الفلق هو عملية النشوء، وذلك (نحن نرى ربما مخطئين) لأن ذرتي الهيدروجين تبدأن بربط طرفي الشريط الوراثي بعضهما ببعض، فيكون ذلك نشوءا، فتمتد الجذور بشكل أفقي داخل الأرض، حتى تترابط، ويشكل ذلك القاعدة الأفقية التي سيخرج منها الزرع بعملية الانبات بطريقة عامودية إلى الأعلى بفعل عنصر الأكسجين في ذلك الماء الذي سكن في الأرض، وتكون عملية الانبات (أي الخروج العامودي) في البداية بطيئة جدا، وذلك لأن كمية الأكسجين المتواجدة تحت سطح التربة تكون قليلة، لا تساعد على الإنبات (أو النمو) السريع، لكن ما أن يخرج الزرع من تحت التراب حتى تزداد كمية الأكسجين بفعل عملية التمثيل الضوئي، فيتسارع الإنبات حتى يحصل أشده.
الدليل
رأينا المفترى: لو تم غراس البذور تحت سطح التربة على عمق أكثر من اللازم، لما حصل الانبات، لكن يمكن أن يحصل النشوء، السؤال لماذا؟
رأينا المفترى: عندما تغرس البذور تحت سطح التربة على عمق كبير، فإن عملية الإنشاء قد تتم، فيتجذر الزرع بعملية الإنشاء، أي إنشاء الروابط بين طرفي الشريط الوراثي بفعل عنصر الهيدروجين (H)، لكن الأمر سيتوقف عند ذلك الحد، ولن ينبت الزرع، وذلك لانعدام الأكسجين هناك، أو لأن كمية الأكسجين المتوافرة هناك لا تكفي لنمو الزرع حتى يصل إلى سطح التربة، وبالتالي اكتساب الأكسجين من عملية التمثيل الضوئي فوق سطح التربة. لذا يجب غراس البذور على مسافة قربية من سطح التربة حيث يتوافر عنصر الأكسجين (O) بكمية كافية لإنبات البذور حتى تصل إلى سطح التربة.
عودة إلى قصة الخلق
عندما اتخذ الإله قراره بخلق البشر، كان هناك خلق سابق وهم الجآن:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴿٢٧﴾
سورة الحجر
فجاء هذا الخلق في عملية نشأة من ذرية الأمة السابقة وهم الجآن.
الخلق، الإنشاء، الإنبات: تعريفات نهائية
رأينا المفترى: نحن نظن أن الخلق هو عبارة عن إيجاد الكينونة بالتحول من هئية إلى أخرى:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴿٢٠﴾
سورة الروم
فهناك إذا تحول من حالة التراب إلى حالة أخرى غير التراب. ويظهر هذا التحول جليا في الآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴿١٣﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾
سورة المؤمنون
فكان الطين أولا، ثم جعل هذا الطين نطفة، فتم خلق النطفة علقة، ثم خلق العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاما، فكُسِيت العظام لحما، وهنا بالضبط بدأت عملية إنشاء ذلك الخلق خلقا آخر، فكان الله هو أحسن الخالقين.
افتراء 1: الخلق هو عملية تحول من حالة إلى خالة أخرى
افتراء 2: الإنشاء هو عملية ربط أفقية لطرفي الشريط الوراثي للمادة المحلوقة
افتراء 3: الإنبات هي عملية النمو العاموي للمادة المنشأة
استراحة قصيرة: موضوع الإنشاء في مادة اللغة العربية
غالبا ما طلب منا معلم اللغة العربية أن نكتب موضوع إنشاء (أو لنقل موضوع التعبير). ليكون السؤال هو: ما هو موضوع الإنشاء؟ ولم يسمى موضوع إنشاء أصلا؟
رأينا المفترى: في نهاية درس المطالعة في درس اللغة العربية، عادة ما كان معلم اللغة العربية يطلب منّا كتابة موضوع إنشاء، وذلك من أجل أن يسطر الطالب فهمه الخاص ووجهة نظره حول الموضوع قيد الدراسة حينئذ. ولنفترض بأن درس المطالعة قد كان حول موضوع النظافة وأشكالها وأهميتها على الفرد والعائلة والمجتمع. وعندما يطلب المعلم من طلبة الصف كتابة موضوع إنشاء حول موضوع كهذا، فإن كل طالب يعمد إلى عملية إنشاء للموضوع، أي بناء الأفكار واحدة تلو الأخرى وربطها جميعا مع بعضها البعض بطريقة فردية تميز أسلوبه عن غيره من زملائه الطلبة في ذلك الفصل الدراسي. ففي حين أن جميع الطلاب يكتبون حول الموضوع نفسه، إلا أن النتيجة النهائية (product) تختلف من طالب إلى آخر، وذلك لأن كل طالب قد أنشأ الموضوع بطريقته الخاصة، فلكل طالب طريقة في الإنشاء تختلف عن طريقة الطالب الآخر (process). لكن ما يشترك فيه الطلاب جميعا هو عملية الإنشاء نفسها التي لا شك تكون تدريجية، أي خطوة بعد خطوة. وما أن يصل الطالب إلى الخطوة الأخيرة حتى يكون الموضوع قد اكتمل من وجهة نظر الطالب، فيقوم كل طالب بتسليم الموضوع الذي أنشأه إلى المعلم ليقوم المعلم بدوره بتقييم هذا الموضوع كما ورده من الطالب. ويكون دور المعلم منحصرا بعملية التقييم التي يحاول فيها مفاضلة عمليات الإنشاء التي قام بها الطلبة جميعا، فيجرى التقييم على نحو مقارنة كتابات الطلبة بعضها ببعض، فيأتي تقييم المعلم متفاوتا على مواضيع الإنشاء التي قدّمها جميع الطلبة. فالمعلم يقيم إذا عملية إنشاء (أي التدرج في بناء) فكرة النظافة كما وردته من كل واحد من الطلبة، وبالتالي كيفية ربط الأفكار الواردة في الموضع بعضها مع بعض بطريقة سليمة، توصل الفكرة جيدا، وتحدث تأثيرا في القارئ. وكلما كانت الأفكار منشأة بطريقة هندسية راقية، كلما زاد أثرها الإيجابي على القارئ للموضوع.
مفهوم الإنشاء في اللغة والبناء
ولا ينحصر فعل الإنشاء في الأمور المعنوية أو في الأمور غير الملموسة، بل ينسحب أيضا على الأمور المادية بنفس المنطق والمنهج، فنحن لا زلنا نقول "هذه بناية قيد الإنشاء"، مما يعني أن أساسيات هذا البناء قيد الإنشاء بشكل هندسي متين، وذلك عندما تكون أجزاء البناء مربوط بعضها مع بعض أفقيا بشكل سليم. والمنطق نفسه ينطبق على قولنا هذه شركة قيد الإنشاء، وهكذا.
رأينا المفترى: لا شك أن عملية إنشاء أي شيء (أي بناءه بطريقة متدرجة تمر بمراحل تطورية) يخضع لقوانين محددة ومحكمة، وهي التي يتم تقييم العمل بناء عليها. فعند إنشاء عمارة معينة، فإن المهندسين المشرفين على بنائها يقومون بتقييم البناء بعد كل مرحلة بناءً على علم الهندسة المعمارية التي تعلموها في جامعاتهم. ولو وجدوا خللا في مرحلة الإنشاء الأولى، لاستطاعوا أن يحددوه، وبالتالي العمل على تعديله في الحال، وإلا ستكون النتائج كارثية لو لم يلحظ المهندسون الخلل ويعملوا على تصويبه في وقته. وكلما كان الخلل أكبر، كلما كانت ملاحظته أسرع، فالمهندسون (بما لديهم من معرفة وخبرة عملية) يتفقدون أدق التفاصيل التي ربما لا يستطيع الشخص غير المتخصص ملاحظتها. لكن الغاية النهائية تكون على نحو أن تنشئ العمارة على أسس علمية دقيقية وسليمة.
والمنطق نفسه ينطبق على موضوع الإنشاء الذي قدمه الطالب لمعلمه، فالموضوع يجب أن يكون منشأ بطريقة سليمة تراعي تسلسل الأفكار، وترابطها، واستخدام المفردات الصحيحة والتعابير السليمة، التي تظمن وصول الفكرة بوضوح وسلاسلة للقارئ بأقل جهد ممكن، وكلما كانت الأفكار مترابطة بشكل قوي، وكلما كانت المكونات صحيحة، كلما ارتفع تقييم المعلم لهذا الموضوع. فالمعلم الذي يقيّم موضوع الإنشاء للطلبة (كما المهندس الذي يقيم مراحل إنشاء البناية الجديدة) يركز على نقطتين رئيسيتين وهما: (1) ما يريد الطالب قوله من أفكار (What to say)، و (2) كيفية ربط هذه الأفكار مع بعضها البعض بشرط توافر الدقة والسلامة في التنفيذ (How to say).
رأينا المفترى: نحن نظن أن عملية الإنشاء (إنشاء أي شيء) يجب أن يكون مبنيا على علم صحيح حتى تأتي النتيجة سليمة صحيحة. وكلما زادت دقة تفاصيل العلم الذي تمت عملية الإنشاء بناء عليه، كلما جاء المنتج أكثر جمالا وأناقة وانتظاما. لذا نحن نتجرأ على تقديم الافتراء الخطير جدا جدا التالي الذي هو لا شك من عند أنفسنا: إن عملية إنشاء الخلق الإلهي إنشاء مبنية على علم غاية في الدقة والتفصيل، وبالتالي جاء الخلق الذي أنشأه الله غاية في الانتظام، فكان الله أحسن الخالقين.
جواب مفترى من عند أنفسنا لا تصدقوه: إنه الشريط الوراثي (أو ما يسمى بالمفردات الأجنبية DNA)
الإنشاء وعلم الشريط الوراثي (DNA)
رأينا المفترى: الشريط الوراثي هو نفسه لجميع المخلوقات التي أنشأها الله إنشاء.
رأينا المفترى: إنه الخلق فوق خلق (أي الإنشاء). انتهى.
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: عندما خلق الله البعوضة، جاء بعد ذلك عملية إنشاء البعوض، فكتب الله الشريط الوراثي الأولى للبعوض. فكانت خلقا حسنا، فما جرى عليها تعديل، فكانت البعوضة هي البعوضة نفسها منذ أن خلقها الله فأنشأها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن عندما قرر الإله أن يخلق خلقا آخر فوق البعوضة، قام بتعديل الشريط الوراثي بعمليات ربط (إنشاء) مختلفة، فكتبت فيه نتيجة ذلك معلومات جديدة، أي أنشأها بطريقة جديدة، فكان خلقا آخر. وهكذا بقي الخلق يرتفع بعضه فوق بعض إلى أن وصل إلى الخلق الأخير وهو البشر، فجاء شريطه الوراثي من ذرية قوم آخرين وهم الجن، فأصبح إسمه الجينات الوراثية:
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴿١٣٣﴾
سورة الأنعام
تطور الجينات: سر تفوق الإنس على الجن
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: عندما قرر الإله خلق بشرا من طين، وطلب من الملائكة السجود له:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴿٧١﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿٧٢﴾
سورة ص
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾
سورة البقرة
دب الخصام في الملأ الأعلى:
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿٦٧﴾ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴿٦٨﴾ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿٦٩﴾
سورة ص
فلقد كان الجآن (بمن فيهم الملائكة) يظن أنه خير من الإنس (بمن فيهم آدم)، بسبب مادة الخلق التي خلق منها وهي النار، كما جاء على لسان زعيمهم إبليس:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿١٢﴾
سورة الأعراف
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿٧٦﴾
سورة ص
لكن غابت عن الجن فكرة أنه على الرغم أن مادة خلق البشر من طين، إلا أن عملية إنشاء هذا المخلوق من شريطهم الوراثي أصبحت أكثر تطورا. وهنا نصل إلى نتائج مفترة من عند أنفسنا خطيرة جدا جدا، وهي:
فتصبح الصورة في ذهننا على النحو التالي:
خلق – إنشاء - إنبات
https://youtu.be/eLCrwcrXuKk
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفانا من متابعيك بشغف منذ اكثر من ثلاث سنين على ما اذكر
ما قولك في الجن
اتمنى ان تتفرغ لتدبر الكتاب وتعمل حلقات عن هذا الموضوع فضلا لا امرا
ارجو الا تحرمنا من روائع يا استاذنا رشيد
ردحذفارجو الا تحرمنا من روائعك يا استاذنا رشيد
ردحذفمدّكر كالعادة دكتور و عبقري ماشاء جزاك الله عنا كل خير و زادك علما
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفشكرا
ردحذفإرسال تعليق