فقه الصلاة – الجزء الرابع
فهرس المقالة
- مقدمة
- مصدر التشريع الأوحد: القرآن الكريم
- مقارنة بين جمع القرآن وجمع الحديث
- التفريق بين قول النبي وفعله
- منهجية استنباط الأحكام من القرآن
- كشف أثر الصناعة البشرية على النص القرآني
- خاتمة
مقدمة
حاولنا في الأجزاء السابقة من هذه المقالة تقديم تصورنا المفترى من عند أنفسنا في العديد من القضايا الخاصة بالصلاة مثل عدد الصلوات وأوقاتها والصلاة الوسطى (الجزء الأول) وكذلك مشروعية الوضوء وفقهه (الجزء الثاني) والتفريق بين ما يسمى بالصلاة المفروضة والصلاة المندوبة أو ما يسمى بصلاة السنة (الجزء الثالث). وسنتابع في هذا الجزء الرابع من المقالة التعرض لبقية القضايا التي نظن أن لها علاقة بفقه الصلاة كما يمكن لنا أن نستنبطها من كتاب الله. وهنا سنتعرض لموضوعات مثل:
- الأقوال والحركات في الصلاة
- عدد الركعات
- علاقة الصلاة بالعبادات الأخرى وخاصة الزكاة
- الخ
أما بعد،
بداية لابد لي في هذا الصدد أن أحاول تبيان قضيتين اثنتين أظن أنهما مفصليتان في هذه الصدد، وهما:
- مصدر المعلومة الموثوقة
- طريقة استنباط المعلومة الصحيحة من المصادر الموثوقة
مصدر التشريع الأوحد: القرآن الكريم
رفض الأحاديث كمصدر موثوق
لعلنا لا نختلف جميعا بأن أول مصدر للمعلومة يثق به الجميع من أصحاب الفكر الديني الإسلامي هو القرآن الكريم. وفيما دون ذلك، يقع الجميع في الاختلاف. فإن كنت أنت تقبل بالرواية التي ترد في صحيح البخاري مثلا، فإن غيرك قد لا يثق بها. وبالمقابل فإن كنت أنت تثق بالمعلومة التي ترد في كتاب الكافي للكليني، فإن غيرك يرفضها جملة وتفصيلا. وهكذا يتعاظم الخلاف كلما ذهبنا إلى ما دون ذلك في مصادر التشريع الأخرى المعروفة لدى العامة وأهل الاختصاص على حد سواء.
وحتى لا نفتح على أنفسنا باب الخلاف من بدايته، فإننا سنلتزم كليا بجلب المعلومة من مصدر التشريع الأول كما نفهم نصوصه، مسطرين في الوقت ذاته افتراءات خطيرة هي لا شك من عند أنفسنا، مبنية بكليتها على فهمنا (ربما الخاطئ) لما جاء في قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية:
الافتراءات
أولا، نحن نؤمن بالله وبآياته المتلوة والمرئية (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)
ثانيا، نحن لا نؤمن بأي حديث بعد ذلك (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)
ثالثا، نعوذ بالله من كل أفاك أثيم سطر حديثا دون آيات الله، ثم طلب من الناس أن يؤمنوا به (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)
رابعا، نعوذ بالله من أنفسنا إن كنا من أصحاب الإفك
خامسا، نعوذ بالله أن نكون ممن يسمعون آيات الله فيتصرف كأنه لم يسمعها (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
سادسا، نعوذ بالله أن نكون ممن إذا علم من آيات الله شيئا أن يتخذها هزوا (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)
سابعا، نعوذ بالله أن نكون ممن يتخذون من دونه أولياء (ِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
ثامنا، نحن نؤمن يقينا بأن آيات الله هي الهدى (هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ)
الرد على شبهات الاستشهاد بالأحاديث
وهنا ربما يستشيط الكثيرون غضبا ظنّا من عند أنفسهم أننا لا نؤمن بقول أو بفعل الرسول الكريم، لذا يجب أن يكون مفهوما عند الجميع افتراؤنا التالي الذي هو لا شك من عند أنفسنا، ألا وهو: نحن نؤمن إيمانا مطلقا بكل ما قال محمد (فهو الذي لا ينطق عن الهوى)، لكننا في الوقت ذاته لا نؤمن بما تناقله الناس على أنه قول محمد، وأطلقوا عليه لفظ الحديث النبوي. فمشكلتنا لا تكمن في ما قاله محمد وإنما بطريقة نقلهم والغاية من نقلهم لهذه الأحاديث.
وهنا قد ينبري البعض بالقول بأن الأحاديث لا تتعارض مع الآيات، وربما نحن بحاجة أن نفهم هذه الأحاديث أولا على حقيقتها قبل القطع بأنها تتعارض مع منطوق الآيات الكريمة.
رأينا المفترى: ربما استطيع الرد على مثل هذا الظن بطرح السؤال الثاني على الفور، ألا وهو: ما الغاية (أو لنقل ما الحاجة) من وجود حديث لا يتناقض مع الآيات الكريمة؟
جواب: ربما يظن البعض بأن الحديث جاء مفسرا للآيات الكريمة، فربما كان منطقهم هذا على نحو أننا قد لا نستطيع فهم الآيات الكريمة نفسها، لذا جاء الحديث ليوضح لنا هذه الآيات.
رأينا المفترى 1: هل يوجد أحاديث كافية لتفسر لنا جميع الآيات الكريمة؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فما الغاية من وجود بعض الأحاديث التي تفسر بعض الآيات؟ ولم لا يوجد أحاديث تفسر جميع الآيات؟ نحن نسأل طبعا.
رأينا المفترى 2: إذا كان هناك أحاديث تفسر بعض الآيات، ألا يدل ذلك على أن الآيات والأحاديث المفسرة لها (كما قد يزعم البعض) يؤديان الغرض ذاته؟ فما الغاية إذن من وجود هذه الأحاديث مادام أنها تعطي المدلول ذاته الذي تقدمه لنا الآيات الكريمة؟ ألا يصبح ذلك يقع في باب الزيادة التي ربما لا طائلة منها؟ وهل يمكن أن يصل بشر (حتى محمد نفسه) إلى درجة أن يصوغ المعنى بقالب لغوي أفضل من القالب الغوي الذي استخدمه الإله نفسه لصياغة الفكرة نفسها؟ فمن إذن أصدق من الله قيلا؟
رأينا المفترى: إذا كان الحديث يدل على المعنى ذاته الذي تقوله الآية الكريمة نفسها، فلا داع إذن (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) لوجود الحديث لأن الله هو أصدق القائلين:
وهنا قد يرد البعض بالقول أن الحديث يساعدنا في تفسير الآية الكريمة التي ربما لا نستطيع تفسيرها بأنفسها.
رأينا المفترى: نحن نظن أن تفسير الآيات قد جاء مباشرة من عند الله، فهو من قال في كتابه الكريم:
منطقنا المفترى
وهنا ربما يريد البعض أن يستدرك قائلا بأن الحديث يكمل الآية الآيات الكريمة، فهو – برأي البعض - لا يناقض الآيات الكريمة، وهو أيضا لا يقول الشيء ذاته الذي تقوله الآية الكريمة، ولكنه مكملا للآيات الكريمة.
جواب مفترى: نحن نرفض مثل هذا القول جملة وتفصيلا لأن الله هو من أكمل دينه يوم أن ختم تنزيل آيات الكتاب الحكيم حيث قال:
مقارنة بين جمع القرآن وجمع الحديث
وهنا قد يستدركنا البعض بالقول بأن الذين نقلوا لنا القرآن الكريم هم أنفسهم الذين نقلوا لنا أحاديث الرسول الكريم، فكيف بكم تثقون بنقل القرآن ولا تثقون بنقل الأحاديث؟ ربما يريد بعضهم أن يسأل.
رأينا المفترى: نحن لا نقبل بمثل هذا المنطق المفترى من عند الكثيرين للسببين اثنين على الأقل، وهما:
- أن القرآن لم ينقل إلينا بطريقة نقل الحديث، وذلك لأن الله هو من تولى جمع قرآنه، قال تعالى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
فالله (نحن نؤمن) هو من تكفل بمهمة جمع القرآن، وهو (نحن نؤمن) من تكفل أيضا بعملية تبيان القرآن. فالقرآن جمع من لدن عزيز حكيم، وقد تم تبيانه أيضا من لدن عزيز حكيم. فالقرآن مكتمل بذاته، لا يحتاج إلى شيء آخر ليسنده.
- لو صحّ منطق أهل الحديث بأن عملية جمع الحديث ونقله تواز عملية جمع ونقل القرآن، فإننا ندعوهم على الفور إلى أن يأتونا بآيات صحيحة وأخرى حسنة وثالثة ضعيفة ورابعة موضوعة وخامسة مدسوسة، وهكذا، بالضبط كما رُتِّبت أحاديثهم في التصنيفات التي هي من صناعتهم أنفسهم. فمنطق القول عندنا هو على النحو التالي: لو أن جمع الحديث ونقله مواز لعملية جمع ونقل القرآن، لما وجدنا تصنيفات لهذه الأحاديث تبدأ بالصحيح المتواتر وتنتهي بالمدسوس. ولو أن جمع القرآن ونقله مواز لعملية نقل وجمع الحديث (كما يرغب البعض أن يزعم)، لوجدنا تصنيفا لآيات الكتاب الحكيم تماثل تصنيف الأحاديث التي نقلوها. لكن لمّا كان جمع القرآن ونقله قد تم بتعهد إلهي مباشر، كانت جميع آيات الكتاب الحكيم ثابتة، لا يعتريها علة، ولا تشوبها شائبة. وبالمقابل لما كان جمع الحديث ونقله هو صناعة بشرية، ظهر على الفور عيبها، فكان لزاما إدراج تصنيفات لها بناء على درجة صحتها، والموثوقية في نقلها، فما كانت جميعها صحيحة، فكان منها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمدسوس. انتهى.
إن من أخطر التبعات التي حلّت بالأمة من جراء صناعة الحديث التي راجت في الفكر الإسلامي هو ما جاء في الآية الكريمة التالية:
نعم، لقد أدى الانشغال بالحديث إلى هجر القرآن. فلو بحثت حولك – عزيزي القارئ الكريم- لوجدت بأن الشغل الشاغل لعلماء الأمة (إن وجدوا أصلا) هو الاشتغال بصناعة الحديث. لا بل لقد كان الأخطر من هذا هو أن جلّ التشريعات الدينية التي قدمها علماء الإسلام قد جاءت مبنية على صنعة الحديث. ففقه المعاملات في الإسلام بُني بكليته على أحاديث منسوبة للرسول الكريم، وجل تشريعات العبادة التي يقوم بها الناس مبنية أيضا على أحاديث منسوبة للرسول الكريم. وقلما نجد أن المشرع يستند في تشريعه على آيات الكتاب الحكيم. فهل تجد في كل الفكر الإسلامي – عزيزي القارئ- بحثا علميا واحدا كرس فيه الباحث جهده لتبيان آية كريمة واحدة من كتاب الله؟ من يدري؟!
ولو دققت عزيزي القارئ الكريم لما حصل يوم أن اشتغل الناس بصناعة الأحاديث، لوجدت على الفور أنهم قد تفرقوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون. فربما يستحيل أن تقنعني بأن صحيح البخاري هو كتاب صحيح مادام أنه يخلو من حديث واحد رواته هم أهل البيت، وبالمقابل يستحيل أن تقنعني بأن الأحاديث في الكافي هي أحاديث صحيحة مادام أن كل رواتها هم أهل البيت. فيستحيل (أنا أظن) أن يأتي هذا من قبيل المصادفة.
ولا يمكن لي أن أرى (ربما مخطئا) بأن إسلام العباس وأبو سفيان قد جاء من قبيل المصادفة. فكلا الرجلين (كما تقول رواياتهم) قد أسلم يوم فتح مكة. والأغرب من هذا كله أن الدولة الإسلامية التي نشأت في أعقاب الخلافة الراشدة، قد حطت رحالها في بيت هذين الرجلين. فكانت أولا في بني أمية (من سلالة أبي سفيان) ثم انتقلت مباشرة بعد ذلك بني العباس (سلالة العباس ابن عبد المطلب).
أما الإسلام الذي جاء به محمد ابن عبد الله، فيمثله القرآن الكريم، ولا شيء غير القرآن الكريم. إذن، نحن نطلقها من هنا صرخة قوية للعودة إلى كتاب الله، تعالوا نحتكم جميعا إلى كتاب الله، تعالوا نشتغل بكتاب الله، تعالوا نبذل الجهد لتبيان أسرار هذا الكتاب العظيم إن كنتم فعلا تؤمنون أنه كلام الله الأزلي الذي لا تنضب كنوزه.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: دعنا نحاول الإجابة على هذا التساؤل بالانتقال إلى قضية نظن أنها مفصلية في باب الحديث عن الأخذ (أو عدم الأخذ) بالأحاديث المتوافرة بين أيدينا، ألا وهي قضية التفريق بين قول محمد مقابل فعل محمد.
أما بعد،
التفريق بين قول النبي وفعله
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بداية أن مهمة محمد (كما هي مهمة الرسل من قبله) هي التبليغ:
ونحن نؤمن يقينا بأن محمدا ليس بدعا من الرسل، لأنه ببساطة متبعا فقط لما يوحى إليه:
تساؤلات محيرة: إذا كان محمد رسولا قد خلت من قبله الرسل، فأين أحاديث هؤلاء الرسل الذي جاءوا من قبله كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى؟ لم لا نجد في كتب التاريخ ما نقله الناس عن هؤلاء الرسل؟ لم نخص محمدا على وجه التحديد بأحاديث تنقل عنه ولا نجد مثل ذلك في سيرة عيسى أو موسى أو إبراهيم أو نوح؟
هل لو وجدت – عزيزي القارئ- أحاديثا تناقلتها الناس عن عيسى (غير الإنجيل)، فهل تؤمن بها؟ وهل لو وجدت أحاديث تناقلتها الناس عن موسى (غير التوراة)، فهل تؤمن بها؟
إن كنت فعلا تؤمن بتواتر الأحاديث التي ينقلها الناس، فها هم قد نقلوا لنا مثلا أحاديث متواترة كثيرة عن صلب المسيح عيسى بن مريم، فهل تؤمن عزيزي المسلم بأحاديثهم تلك؟ من يدري؟!
منطقنا المفترى: إذا كان كلام الله في التوراة والإنجيل لم تسلم من تحريفاتهم، أتريدني بعد ذلك كله أن أؤمن بحكاياتهم؟! ما لكم كيف تحكمون؟!
جواب: إذا كنت أنت تؤمن بأحاديث رواها البشر، فأنا على العقيدة التي مفادها أني لا أؤمن إلا بكلام رب البشر، وكل حديث دون الله وآياته هو إفك مفترى، وكفى:
ولو دققت - عزيزي القارئ- في هذه الآيات الكريمة، لوجدت بأنها قد وردت في كتاب الله في سورة الجاثية، والمتدبر لهذه السورة العظيمة سيجد الآية الكريمة التالية:
إذن، لتكن جاهزا عزيزي المؤمن إلى أي كتاب تريد أن تدعى في ذلك اليوم العصيب، أما أنا فغير كتاب الله لا أقبل كتابا مهما كان مصدره. فالله وحده أدعوه أن أكون ممن يدعون إلى كتابه، وأعوذ به وحده أن أكون ممن يدعون إلى غيره، إنه هو السميع العليم - آمين.
الدليل
لو تدبرنا كتاب الله في كل آياته التي تتحدث عن الرسول الكريم على مساحة النص القرآني، لوجدنا مثلا الآية الكريمة التالية:
فمحمد إذن يستحيل أن ينطق عن الهوى، فكل ما قاله محمد هو قول صحيح على إطلاقه، لا شائبة فيه.
ولو تدبرنا آيات الكتاب الحكيم مرة أخرى، لوجدنا الآية الكريمة التالية:
لذا، يستحيل أن يتقول محمد على الله ما لا يجب.
لكن – بالمقابل- لو تدبرنا آيات الكتاب الحكيم الخاصة بما فعل محمد، لوجدنا الآيات الكريمة التالية:
إذن، نحن نجد كثيرا من أفعال محمد قد وقعت على غير ما كان يجب أن تكون عليه، لذا جاءه الأمر الإلهي بالانتهاء عن ذلك:
تساؤلات مثيرة:
- هل لو زار محمد نفرا من الناس، هل كان المؤمنين من حوله ملزمين أن يزوروا من زارهم النبي؟
- هل لو ترك النبي طعاما ما، هل كان المؤمنين من حوله ملزمين أن يتركوا ذاك الطعام؟
- هل لو نام الرسول الكريم تحت شجرة معينة، هل كان المؤمنين من حوله ملزمين أن يناموا تحت الشجرة نفسها؟
- هل لو دخل الرسول الكريم الخلاء في ساعة محددة من النهار أو الليل، هل كان المؤمنين من حوله ملزمين أن يفعلوا مثل ما فعل؟
- الخ
منطقنا المفترى: إن من أساسيات المنطق عند كل صاحب تشريع هو التوضيح لمن حوله أنهم ملزمين بكل ما يقول لهم لكنهم ربما غير ملزمين بكل ما يفعل فيهم.
مثال
تخيل - عزيزي القارئ- أن أحد المشرعين كان مدخنا، فهل يعني ذلك أنه قد أباح التدخين لمجرد أنه هو مدخن؟ متى يمكن أن نفهم أن هذا المشرع قد أباح أو قد حضر التدخين؟
رأينا المفترى: نحن لا نؤمن أن ذلك يصبحا تشريعا نافذا إلا أن صدر قوله بذلك. فإن هو قال أن التدخين مباح أو أن التدخين محظور، عندها فقط يصبح ذلك تشريعا وجب الأخذ به. لكن فعله الأمر بنفسه (دون قول له فيه) لا يمكن أن يكون سببا في ترخيص الفعل أو حضره؟
ولتقريب الصورة للأذهان، كم مرة ترى أحد علماء الدين يدخن، فهل تأخذ (أنت كمسلم) الفتوى بالتدخين من مجرد رؤيتك لهذا الشخص يدخن؟ ألن تسأله (حتى لو رأيته يدخن) إن كان التدخين حلالا أو حراما؟ فحتى لو كان مدخنا بنفسه، فلربما كانت فتواه تقضي بحرمة التدخين، وهكذا.
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: لما كان الصحابة يريدون مراقبة النبي في كل أفعاله (حتى بما كان يفعله داخل بيته) للاقتداء به، جاءهم الأمر الإلهي بالنهي على النحو التالي:
رأينا المفترى: لما كنا نؤمن يقينا بأن محمدا بشر، فهو إذن يعيش حياة طبيعية، ربما تميل نفسه إلى فعل أشياء غير تلك التي يجب عليه أن يفعلها. فهو من كان قد أعجب بحسن بعض النساء، لكن الله هو من منعه أن ينكحهن:
وهو من حرم على نفسه ما أحل الله، فجاءه الأمر الإلهي بالعدول عن ذلك، ففرض له تحلة يمينه:
وهكذا.
دلالة حديث تأبير النخل
قال الإمام مسلم في كتاب الفضائل:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِىُّ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِىُّ وَتَقَارَبَا فِى اللَّفْظِ وَهَذَا حَدِيثُ قُتَيْبَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ؟ فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا
قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ:
إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وقال الإمام أحمد في المسند:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى نَخْلِ الْمَدِينَةِ فَرَأَى أَقْوَامًا فِى رُءُوسِ النَّخْلِ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ قَالَ يَأْخُذُونَ مِنَ الذَّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ فِى الأُنْثَى يُلَقِّحُونَ بِهِ فَقَالَ مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِى شَيْئًا فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ وَنَزَلُوا عَنْهَا فَلَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ السَّنَةَ شَيْئًا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ إِنْ كَانَ يُغْنِى شَيْئًا فَاصْنَعُوا فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ
لقد أثار الكثيرون الدنيا وربما لم يقعدوها حول ما جاء في هذا الحديث، طارحين التساؤل المثير التالي: كيف يكون الرسول وحيا يوحى وفي الوقت ذاته يوقع الناس من حوله في هذه الإشكالية؟ فلسان حال الكثيرين منهم يقول بأنه لو كان محمد وحيا يوحى، لما أوقع من حوله من المؤمنين في هذه الإشكالية، ولأرشدهم إلى وجوب تأبير النخل حتى تحمل الثمار كالمعتاد.
رأينا المفترى: لو تفقدنا هذا الحديث المنسوب إلى النبي الكريم، لوجدنا أنه يصور لنا فعلا قام به النبي الكريم وليس قولا تلفظ به (فهو فعل يخص تأبير النخل)، ولو تفقدنا نهاية هذا الحديث، لوجدنا في آخره غاية ما نبغي إيصاله في هذه العجالة من الكلام، وهو القول التالي:
... وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: لو أردنا أن نحلق في خيالنا لنرى ما حصل حينئذ، لربما افترينا الظن من عند أنفسنا (ربما مخطئين) بأن القصة قد حصلت على أرض الواقع على النحو التالي: لما جاء وقت تأبير النخل بوجود النبي الكريم بين ظهراني المؤمنين من حوله في المدينة، لم يعمد النبي إلى فعل ذلك بنفسه، فلم يقم مثلا (نحن لازلنا نتخيل) بتأبير النخل العائد إليه شخصيا، ولمّا كان المؤمنين من حوله دائمي المراقبة لأفعاله، ووجدوا أنه لم يفعل ذلك بنفسه، ربما ظن الكثيرون (ممن يحاولون الاقتداء به) بأن هذا وحي إلهي لمحمد، فلربما كان ظنهم على نحو أنه لو كان تأبير النخل ضرورة، لربما قام به محمد بنفسه. لذا عدل كثير من الناس حينئذ عن تأبير النخل الخاص بهم في ذلك العام ظانين أنهم بذلك يقتدون بفعل نبيهم. لكن لما حصلت المشكلة، فلم يحمل النخل الثمار كالمعتاد، راجعوا الرسول الكريم بذلك، عندها أرشدهم إلى أنه لم يفعل ذلك لأن هذا شأن خاص بهم، وفي الوقت ذاته أرشدهم إلى أهمية الالتزام بما يقول فقط، وانظر عزيزي القارئ الكريم نهاية هذه الرواية:
وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا سؤال مشروع يجب أن نجد الإجابة المرضية له، لكن قبل محاولتنا الإجابة على هذا التساؤل المثير، دعنا نرد على هذا التساؤل بسؤال آخر: هل تضمن لي عزيزي القارئ الكريم بأن ما نقل عن النبي الكريم قد نقل بصحيح اللفظ كما قاله هو؟ لِم نجد الحديث الواحد قد تمت روايته بأكثر من طريقة وبألفاظ متعددة؟
وما الفرق؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذه قضية محورية لابد أن تنقلنا إلى باب جديد في النقاش يخص طريقة استنباط الأحكام من القرآن الكريم أو من ألفاظ الحديث الصحيحة كما قالها النبي الكريم بدقة اللفظ الذي نحاول جاهدين الوصول إليه.
منهجية استنباط الأحكام من القرآن
نحن نظن أن طريقة استنباط المعلومة الصحيحة يجب أن تكون مبنية على الأسس التالية التي هي لا شك مفتراة من عند أنفسنا:
- كلام الله يؤخذ على الحقيقة، لذا لا مجاز في كلام الله
- كلام الله كامل لا زيادة فيه
- كلام الله كامل لا نقص يعتريه
- كتاب الله يبين بعضه بعضا
- كتاب الله محكم فيستحيل أن يدخل عليه شيء أو أن يؤخذ منه شيء
- كتاب الله هو تبيان لكل شيء، لذا لابد أن ذكر كل شيء موجود في كتاب الله
- ألفاظ كتاب الله دقيقة، فيستحيل أن يعارض بعضها بعضا
- المعلومة الموجود في كتاب الله مطلقة الصحة والثبات
- أي معلومة خارج كتاب الله تتعارض مع أي آية في كتاب الله، فهي إذن معلومة خاطئة
- الخ.
ولتوضيح الصورة أكثر، دعنا نحاول تصوير الأمر على نحو ما يحصل في المحاكم، فإن المحامي الفذ هو الذي يحاول أن يوقع خصمه في تناقضات، ليقيم بذلك الحجة عليه. فإذا ما كان كلام المتهم متناقضا (أي يناقض بعضه بعضا)، كان ذلك أكبر حجة يلجأ إليها المحامي لإدانته.
ولو طبقنا هذا المبدأ على أي نص كالقرآن الكريم أو كالأحاديث المنسوبة للرسول الكريم، فإن أي تناقض في النص نفسه يعد عيبا فيه، ينقص من قيمته، لا بل ويقدح في مصداقيته، وقد لا أخفي سرا أن أول حافز كان عندي للبحث في كتاب الله هو محاولة إيجاد تناقضات في النص، ليكون سببا مقنعا لي لتركه على كليته، لكن الصاعقة كانت تقع على رأسي دائما أن زيادة البحث في كتاب الله كانت على الدوام تنفي وجود أي تناقض في كتاب الله، فالنص منسجما تماما مع بعضه، لا يترك مجالا للتشكيك فيه، وخلال رحلتي العلمية بين النصوص الكثيرة، لم أجد نصا واحدا يخلو من التناقض إلا كتاب الله. فكانت القناعة تزداد عندي يوما بعد يوم أنه من الاستحالة بمكان أن يكون هذا الكتاب قد أحكم من غير لدن عزيز حكيم. فكل عمل من صنع من هم من دون الله هو نص مختلف، يستحيل أن يصل إلى درجة الكمال. لذا نحن نتحدى أن يأتينا أحد بأي تناقض في كتاب الله. فإن هو فعل، فأنا على استعداد أن أترك هذه الصنعة برمتها إلى غير رجعة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يصبح من الاستحالة بمكان أن يحسن أحد من دون الله صياغة نص يكون هو بذاته تبيانا لكل شيء، قال تعالى:
الإحكام والانسجام كمقياس للمصداقية
الدليل
دراسة حالة 1: دقة الألفاظ (العصبة والنسوة)
دعنا نقدم مثالا بسيطا لنبين من خلاله كيف يكون كتاب الله شامل في المعلومة محكما في صياغته، أي كيف يقدم كتاب الله المعلومة كاملة غير منقوصة بأدق وسيلة تخلو من التكلف تماما.
المثال
لو قرأ البعض الآية الكريمة التالية التي ترد فيه مفردة "عُصْبَةٌ":
لربما ظن الكثيرون بأن هذا كلام عام لا يُحمل على وجه الدقة، فلسان حالهم يقول بأن إخوة يوسف الذين تآمروا عليه كانوا "عصبة"، لأنهم مجموعة من الرجال، وكفى. أليس كذلك؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن ننفي جملة وتفصيلا مثل هذا الفهم، ونظن جازمين بأن مفردة عُصْبَةٌ هي لفظة دقيقة جدا يستحيل أن تستبدل بلفظة أخرى غيرها، وذلك لأن العصبة تعني عشرة من الرجال على وجه التحديد.
منطقنا المفترى: لما كان ليعقوب النبي من الأبناء اثنا عشر ولد (بمن فيهم يوسف)، جاءت الآية الكريمة لتشير إلى الفصل الواضح بين يوسف وأخيه من جهة (اثنان) وبقية الأخوة العشرة الآخرين (أي العصبة) من جهة أخرى، فانقسم الأخوة في صفين: يوسف وأخوه في صف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يقابله إخوته العشرة الآخرون في صف آخر (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ). فكانوا هؤلاء العشرة من الأبناء معا يكونون بنص القرآن عُصْبَةٌ:
(للتفصيل انظر قصة يوسف الجزء الثالث والجزء العشرين)
ولو دققنا في السياق القرآني جيدا مرة أخرى، لوجدنا أن مؤامرة أخرى قد حيكت في أرض مصر ضد يوسف، وكان المتآمرون عليه حينئذ هم "النسوة" اللاتي راودنه عن نفسه، كما جاء على لسان يوسف يوم أن جاءه رسول الملك:
ليكون السؤال المطروح على الفور: كم كان عدد هؤلاء النسوة اللاتي راودن يوسف عن نفسه؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن عدد أولئك النسوة كان عشرة بالضبط. انتهى.
الدليل
دقق عزيزي القارئ بما قالته العصبة (أخوة يوسف) عن أبيهم مقابل ما قالته النسوة في المدينة عن امرأة العزيز
المؤامرة الأولى ضد يوسف: عصبة | المؤامرة الثانية ضد يوسف: نسوة |
---|---|
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
|
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
|
فلا شك عندنا أن الذي أحب يوسف حبا جما في البداية هو أبوه يعقوب، فنعت أخوة يوسف تصرف أباهم هذا على نحو أنه من باب الضلال المبين (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)، ولما كانت امرأة العزيز هي من أحبت يوسف لاحقا حبا جما، نعت النسوة تصرفها هذا على نحو أنه يقع كذلك في باب الضلال المبين (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ). ليصبح التقابل في ذهننا على النحو التالي:
المؤامرة الأولى | المؤامرة الثانية |
---|---|
الضحية: يوسف الغلام | الضحية: يوسف الفتى |
المتهم: يعقوب (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) | المتهم امرأة العزيز (فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) |
المتآمرون رجال: إخوة يوسف (عُصْبَةٌ) | المتآمرون نساء: النسوة في المدينة (نِسْوَةٌ) |
منطقنا المفترى من عند أنفسنا: إن صح مثل هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا، فإن الحاجة تدعونا إلى استنباط القول بأن العصبة من الرجال الذين تآمروا على يوسف كانوا عشرة في العدد، وأن النسوة من النساء اللائي تآمرن على يوسف كن عشرة من النساء.
وربما يسعفنا في ذلك دقة الوزن اللفظي لمفردتي العصبة والنسوة، فبالرغم من بعد السياقين عن بعضهما البعض، إلا أن حبكة القصة، ودقة اللفظ تجبرنا على الربط بينهما، ومن ثم الاستدلال (ربما مخطئين) بأنهما متطابقتين بكل شيء، ماعدا الجنس، ففي حين أن العصبة خاصة بالرجال، فإن النسوة خاصة بالنساء، لكنهما متطابقتين في الوظيفة في القصة كتطابقهما في اللفظ:
عُصْبَةٌ | نِسْوَةٌ |
---|---|
عشرة من الرجال يحيكون موآمرة ضد شخص بعينه | عشرة من النساء يحكن موآمرة ضد شخص بعينه |
ولو حاولنا تدقيق النظر في المفردتين لوجدنا أنهما متطابقتين في الميزان الصرفي، وأن الاختلافات بينهما تبين في الجدول التالي:
عُصْبَةٌ (رجال) | نِسْوَةٌ (نساء) |
---|---|
عُ : عين مضمومة (تذكّر أن هؤلاء رجال) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) |
نِ: نون مكسورة (تذكّر أن هؤلاء نساء) ... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) |
صْ : صاد ساكنة (تذكّر أن هؤلاء رجال) | سْ: صاد ساكنة (تذكّر أن هؤلاء نساء) |
بَ : باء مفتوحة | وَ : واو مفتوحة |
ةٌ : تاء مربوطة منونة | ةٌ : تاء مربوطة منونة |
المجموع: خمسة حروف + خمس حركات | المجموع: خمسة أحرف + خمس حركات |
لا أريد أن أطيل في الشرح هنا، لكني لا أتردد أن أبوح بالعقيدة التي مفادها أننا لو دققنا في النص القرآني أكثر، لاستطعنا (بحول الله وتوفيق من) أن نحدد هؤلاء العصبة وأولئك النسوة ليس فقط بالعدد وإنما أيضا بالاسم والشخصية. ربما يكون هذا الكلام سابقا لأوانه، لذا سأترك الحديث عنه هنا، لأعود إليه لاحقا بحول الله وتوفيق منه عند متابعة الحديث عن قصة يوسف. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، وإن يأتيني علما لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الحكيم العليم – آمين.
ولتوضيح الصورة دعنا ننتقل إلى قضية غاية في الخطورة تخص النص القرآني نفسه، ألا وهي ماهية الكتاب الذي هو من عند الله مقابل ما كان من عند البشر.
أما بعد،
أولا، نحن نؤمن بأن الله هو من تعهد بحفظ كتابه
ثانيا، نحن نؤمن أن القرآن قد جاء منطوقا ولم يأت مكتوبا
ثالثا، نحن نعرف بأن عملية نسخ القرآن (المقروء) في مصحف مكتوب قد قام بها البشر، فلم يكن ما أنزل على محمد كتاب في قرطاس:
بل كان كله آيات بينات في صدور الذين آتوا العلم:
رابعا، نحن نعرف أن التنقيط والتشكيل وعلامات الوقف قد أدخلت على النص المكتوب، فهي ليست مما أنزل في الكتاب
الخ.
كشف أثر الصناعة البشرية على النص القرآني
الدليل: باب وبالوالدين إحسانا
ربما يجد القارئ العادي للقرآن الكريم (من مثلي) الإرباك الشديد في أن ترد عبارة بالوالدين إحسانا (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) واقعة في هذا السياق القرآني:
تسبقها الدعوة إلى عدم الإشراك بالله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ويتبعها الدعوة إلى عدم قتل الأولاد خشية الإملاق (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ).
فلقد كنت على الدوام أتساءل عن السبب أن يحرم الله علينا البر بالوالدين كما حرم علينا أن لا نشرك به شيئا، فكان السؤال الذي يخالجني هو: هل البر بالوالدين من الأشياء التي حرمها الله علينا؟
وقد حاول أحد القراء لمقالاتنا أن يثير هذا التساؤل سابقا، فحاولنا أن نقدم له إجابتنا على هذا الأمر على عجل حينئذ، لكننا سنحاول التفصيل بالقضية هنا لعلاقتها بفحوى موضوع النقاش.
أما بعد،
نحن نكاد نجزم أن السبب في هذا الخطأ في الفهم يعود إلى طريقة قراءة الآية الكريمة، فبالرغم أن هناك كثير من المتخصصين بعلم القراءات، إلا أننا نظن أنهم قد فشلوا جميعا في قراءة هذه الآية الكريمة كما يجب، والغلط الذي وقع به هؤلاء يكمن – في ظننا- في علامات الوقف والوصل في هذه الآية الكريمة، فنحن نظن أن علامات الوقف على هذه الآية الكريمة يجب أن تكون على نحو استبدال علامة (ۖ) التي وضعوها بأيديهم بعد مفردة عَلَيْكُمْ كما في الرسم القرآني:
بعلامة الوقف الإلزامي (ۘ) قبل مفردة عَلَيْكُمْ، لتصبح علامات الوقف على الآية الكريمة على النحو التالي:
بالضبط كما نقرأ الآية الكريمة التالية بالوقف بعد مفردة يَسْمَعُونَ:
رأينا: كلا وألف كلا، هذا ما لا نتقبله إطلاقا لأن هذه – نحن نظن- من الأشياء التي حرمها الله على كل الأمم وليس علينا فقط. لذا يجب أن تقرأ الآية بالوقف على النحو التالي:
فتصبح بذلك شريعة نافذة على الجميع.
ثانيا، نحن نظن أن أهل الدراية من سادتنا العلماء قد أخفقوا في فهم معنى مفردة عَلَيْكُمْ في هذه الآية الكريمة. ولكن كيف ذلك؟
جواب: لو تدبرنا الآيات الكريمة التي ترد فيها هذه المفردة (عَلَيْكُمْ)، لوجدناها بمعنى الظرفية التي تخص مجموعة محددة بذاتها في كثير من الآيات الكريمة:
ولكن الذي ربما يؤسف له أن علماءنا الأجلاء أهل الدراية والرواية قد غفلوا (ربما عن غير قصد) أن هناك في كتاب الله استخدام آخر لمفردة عليكم تدل على معنى الإلزام أو الإجبار كما في الآية الكريمة التالية:
فنحن بنص الآية الكريمة ملزمين بأنفسنا وغير ملزمين بما يفعل غيرنا. والآية الكريمة التالية تلزمنا بنصر من استنصرنا من الذين آمنوا:
والشيطان ليس ملزما بما نفعل لأن مهمته لم تتجاوز حدود الدعوة التي قبلناها بأنفسنا لانتفاء وجود سلطان له علينا:
ويتكرر هذا الاستخدام لمفردة عليكم في سياقات قرآنية كثيرة:
لقد قدمنا هذا الدليل لنبين بأن علامات الوقف التي أدخلت على النص القرآني هي صناعة بشرية، بان ضعفها بمجرد أن حاولنا نحن (على ركاكة منطقنا وقلة حيلتنا) تدبر آيات الكتاب الحكيم نفسها. فهي الكفيلة بأن تفضح الأيدي التي دست في كتاب الله على الفور وذلك لأنه نص محكم لا يمكن التلاعب فيه.
ولتوضيح الصورة أكثر دعنا ننتقل إلى مثال آخر يخص هذه المرة تشكيل مفردات الكتاب الحكيم التي لا ينكر أهل العلم أنها من صناعتهم أنفسهم.
لكن علينا التنبيه مرة أخرى أنه قد وجب الآن على كل من لا يريد المساس بإرث الآباء والأجداد أن ينسحب فورا من متابعة القراءة، وذلك لأننا سنتجرأ على كلام ربما يصعب على أذنيه الاستماع له. ولا يفوتنا أن نذكر الجميع بأن كلامنا هنا لا يعدو أن يكون أكثر من اجتهاد بشري قابل للخطأ. لذا سنكون شاكرين ومقدرين لكل من يجد الهفوات في كلامنا هذا أن يصححه لنا، ونحن على استعداد أن نلق به كله في سلة المهملات فورا إن ثبت لنا خطأه. فنحن طلاب علم نبحث عن المعلومة الصحيحة الموثوقة، ولسنا من أصحاب العقائد الذي يبحثون عن ما يثبت قولهم بأي وسيلة كانت.
أما بعد،
دراسة حالة 3 (أ): تشكيل آيات "غلبت الروم"
دعني أبدأ النقاش هنا بالافتراء الخطير التالي: أنا أظن جازما بأن الحركات التي وضعت على هذه الآيات الكريمة قد جاءت بناء على فهم أهل الدراية العام لمنطوق هذه الآيات الكريمة، وأنها لم توضع بناء على فهم لإحكام النص القرآني ذاته.
بداية لابد من الاعتراف ورد الفضل إلى أصحابه، لذا وجب التنبيه أن فكرة البحث في هذه الآيات الكريمة قد جاءتني من عند أحد الأخوة المعلقين على أحد وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، فهو من أشار في تعليقه ذاك أن هذه الآيات لا تقرأ بهذه الطريقة التقليدية، وأن القراءة الصحيحة يجب أن تكون على نحو أن الروم كانوا هم الغالبين وليس المغلوبين). الأمر الذي أثار فضولي للتحقق من مصداقية افتراءه هذا، فعدت أنبش في بطون الكتب عما جاء فيها حول هذه الآيات الكريمة، فوجدت العجب الذي دعاني أن أحاول التفصيل في الأمر. فخلصت إلى قصة بديلة تختلف تماما عن كل الموروث السائد. ولما كانت الفطنة تنقني على الدوام لم أسجل اسم هذا الشخص الكريم الذي لفت انتباهي إلى القضية لأضع اسمه مع اسمي في نهاية هذه المقالة، لأن جزء كبير من الفضل في ذلك يعود إليه. وإذا كان هذا الشخص من القراء لمقالاتنا فإني ادعوه أن يراسلني على الفور وسيجد اسمه بإذن الله مكتوبا في نهاية هذه المقالة على أساس أنه أحد المؤلفين لها إن هو رغب في ذلك. فله منا خالص الشكر وندعو الله له بالأجر إن كان في ذلك أصلا أجر لنا جميعا. والله من وراء القصد.
دراسة حالة 3 (ب): رواية جديدة لمعركة مؤتة وبدر
معركة مؤتة: حكاية جديدة
دعنا بداية نناقش ما وصلنا عن تفسير هذه الآيات الكريمة على لسان أهل الرواية كما نقلوه لنا من عند أهل الدراية. فهذا ما جاء مثلا في تفسير الطبري (شيخ المفسرين) لهذه الآيات الكريمة:
غلبت الروم
وقوله : { غلبت الروم } اختلفت القراء في قراءته , فقرأته عامة قراء الأمصار : { غلبت الروم } بضم الغين , بمعنى : أن فارس غلبت الروم . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما : 21221 -حدثنا ابن وكيع , قال : ثني أبي , عن الحسن الجفري , عن سليط , قال : سمعت ابن عمر يقرأ " الم غلبت الروم " فقيل له : يا أبا عبد الرحمن , على أي شيء غلبوا ؟ قال : على ريف الشام . والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره { الم غلبت الروم } بضم الغين , لإجماع الحجة من القراء عليه . فإذ كان ذلك كذلك , فتأويل الكلام : غلبت فارس الروم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 21222 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن سعيد , أبو سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس , قال : ثنا أبو إسحاق الفزاري , عن سفيان بن سعيد الثوري , عن حبيب بن أبي عمرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب , وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس , لأنهم أهل الأوثان , قال : فذكروا ذلك لأبي بكر , فذكره أبو بكر للنبي صلي الله عليه وسلم فقال : " أما إنهم سيهزمون " , قال : فذكر ذلك أبو بكر للمشركين , قال : فقالوا : أفنجعل بيننا وبينكم أجلا , فإن غلبوا كان لك كذا وكذا , وإن غلبنا كان لنا كذا وكذا ; قال : فجعلوا بينهم وبينه أجلا خمس سنين , قال : فمضت فلم يغلبوا ; قال : فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلي الله عليه وسلم , فقال له : " أفلا جعلته دون العشر " , قال سعيد : والبضع ما دون العشر , قال : فغلب الروم , ثم غلبت ; قال : فذلك قوله : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } قال : البضع : ما دون العشر { لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر . 21223 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري , قال : ثنا موسى بن هارون البردي , قال : ثنا معن بن عيسى , قال : ثنا عبد الله بن عبد الرحمن , عن ابن شهاب , عن عبيد الله , عن ابن عباس , قال : لما نزلت { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } الآية , ناحب أبو بكر قريشا , ثم أتى النبي صلي الله عليه وسلم , فقال له : إني قد ناحبتهم , فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : " هلا احتطت فإن البضع ما بين الثلاثة إلى التسع ". قال الجمحي : المناحبة : المراهنة , وذلك قبل أن يكون تحريم ذلك . 21224 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله { الم غلبت الروم } إلى قوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } قال : قد مضى كان ذلك في أهل فارس والروم , وكانت فارس قد غلبتهم , ثم غلبت الروم بعد ذلك , ولقي نبي الله صلي الله عليه وسلم مشركي العرب , يوم التقت الروم وفارس , فنصر الله النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين على مشركي العرب , ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم , ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب على العجم . قال عطية : فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك , فقال : التقينا مع محمد رسول صلي الله عليه وسلم ومشركي العرب , والتقت الروم وفارس , فنصرنا الله على مشركي العرب , ونصر الله أهل الكتاب على المجوس , ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين , وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس , فذلك قوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } - حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , في قوله { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } غلبتهم فارس , ثم غلبت الروم . 21225 - حدثني أبو السائب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن مسلم , عن مسروق , قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان , واللزام , والبطشة , والقمر , والروم . * حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الأعلى , قال : ثنا داود , عن عامر , عن ابن مسعود , قال : قد مضى { الم غلبت الروم } 21226 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء جميعا , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { الم غلبت الروم } إلى قوله { أكثر الناس لا يعلمون } قال : ذكر غلبة فارس إياهم , وإدالة الروم على فارس , وفرح المؤمنون بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان . 21227 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن أبي بكر بن عبد الله , عن عكرمة , أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض , قالوا : وأدنى الأرض يومئذ أذرعات , بها التقوا , فهزمت الروم فبلغ ذلك النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة , فشق ذلك عليهم وكان النبي صلي الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم , ففرح الكفار بمكة وشمتوا , فلقوا أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم , فقالوا : إنكم أهل الكتاب , والنصارى أهل كتاب , ونحن أميون , وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب , وإنكم إن قاتلتمونا لأظهرن عليكم , فأنزل الله { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } الآيات , فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار , فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا , ولا يقرن الله أعينكم , فوالله ليظهرن الروم على فارس , أخبرنا بذلك نبينا صلي الله عليه وسلم , فقام إليه أبي بن خلف , فقال : كذبت يا أبا فضيل , فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله , فقال : أناحبك عشر قلائص مني , وعشر قلائص منك , فإن ظهرت الروم على فارس غرمت , وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين ; ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره , فقال : وما هكذا ذكرت , إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع , فزايده في الخطر , وماده في الأجل ". فخرج أبو بكر فلقي أبيا , فقال : لعلك ندمت , فقال : لا , فقال : أزايدك في الخطر , وأمادك في الأجل , فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين , قال : قد فعلت. 21228 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال ثني حجاج , عن أبي بكر , عن عكرمة , قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال , فدعاها كسرى , فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك , فأشيري علي أيهم أستعمل , فقالت : هذا فلان , وهو أروغ من ثعلب , وأحذر من صرد , وهذا فرخان , وهو أنفذ من سنان , وهذا شهربراز , وهو أحلم من كذا , فاستعمل أيهم شئت ; قال : إني قد استعملت الحليم , فاستعمل شهربراز , فسار إلى الروم بأهل فارس , وظهر عليهم , فقتلهم , وخرب مدائنهم , وقطع زيتونهم ; قال أبو بكر : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا , قال : أما إنك لو رأيتها , لرأيت المدائن التي خربت , والزيتون الذي قطع , فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته . قال عطاء الخراساني : ثني يحيى بن يعمر , أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم , وبعث كسرى شهربراز , فالتقيا بأذرعات وبصرى , وهي أدنى الشام إليكم , فلقيت فارس الروم , فغلبتهم فارس , ففرح بذلك كفار قريش , وكرهه المسلمون , فأنزل الله { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } الآيات , ثم ذكر مثل حديث عكرمة , وزاد : فلم يزل شهربراز يطؤهم , ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ثم مات كسرى , فبلغهم موته , فانهزم شهربراز وأصحابه , وأوعبت عليهم الروم عند ذلك , فأتبعوهم يقتلونهم قال : وقال عكرمة في حديثه : لما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب , فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى , فبلغت كسرى , فكتب إلى شهربراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان , فكتب إليه : أيها الملك , إنك لن تجد مثل فرخان , إن له نكاية وضربا في العدو , فلا تفعل . فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه , فعجل إلي برأسه . فراجعه , فغضب كسرى ; فلم يجبه , وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهربراز , واستعملت عليكم فرخان ; ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة : إذا ولي فرخان الملك , وانقاد له أخوه , فأعطه هذه ; فلما قرأ شهربراز الكتاب , قال : سمعا وطاعة , ونزل عن سريره , وجلس فرخان , ودفع الصحيفة إليه , قال : ائتوني بشهربراز , فقدمه ليضرب عنقه , قال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي , قال : نعم , فدعا بالسفط , فأعطاه ثلاث صحائف , وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى , وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد , فرد الملك , وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم : أن لي إليك حاجة لا يحملها البريد , ولا تبلغها الصحف , فالقني , ولا تلقني إلا في خمسين روميا , فإني ألقاك في خمسين فارسيا ; فأقبل قيصر في خمس مائة ألف رومي , وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق , وخاف أن يكون قد mكر به , حتى أتته عيونه أن ليس معه إلا خمسون رجلا , ثم بسط لهما , والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما , مع كل واحد منهما سكين , فدعيا ترجمانا بينهما , فقال شهربراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي , بكيدنا وشجاعتنا , وإن كسرى حسدنا , فأراد أن أقتل أخي , فأبيت , ثم أمر أخي أن يقتلني , فقد خلعناه جميعا , فنحن نقاتله معك , فقال : قد أصبتما , ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين , فإذا جاوز اثنين فشا . قال : أجل , فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما , فأهلك الله كسرى , وجاء الخبر إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الحديبية , ففرح ومن معه . 21229 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { الم غلبت الروم } قال : غلبتهم فارس على أدنى الشام { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } الآية , قال : لما أنزل الله هؤلاء الآيات صدق المسلمون ربهم , وعلموا أن الروم سيظهرون على فارس , فاقتمروا هم والمشركون خمس قلائص , خمس قلائص , وأجلوا بينهم خمس سنين , فولي قمار المسلمين أبو بكر , وولي قمار المشركين أبي بن خلف , وذلك قبل أن ينهى عن القمار , فحل الأجل , ولم يظهر الروم على فارس , وسأل المشركون قمارهم , فذكر ذلك أصحاب النبي للنبي صلى الله عليه وسلم قال : " ولم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا دون العشر , فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر , وزايدوهم في القمار , ومادوهم في الأجل " , ففعلوا ذلك , فأظهر الله الروم على فارس عند رأس البضع سنين من قمارهم الأول , وكان ذلك مرجعه من الحديبية , ففرح المسلمون بصلحهم الذي كان , وبظهور أهل الكتاب على المجوس , وكان ذلك مما شدد الله به الإسلام وهو قوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } الآية . 21230 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي , في قوله { الم غلبت الروم } إلى قوله { ويومئذ يفرح المؤمنون } قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بمكة أن الروم ستغلب , قال : فنزل القرآن بذلك , قال : وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس , لأنهم أهل الكتاب . 21231 - حدثنا ابن وكيع قال : ثنا المحاربي , عن داود بن أبي هند , عن عامر , عن عبد الله , قال : كانت فارس ظاهرة على الروم , وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم , وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس , لأنهم أهل كتاب , وهم أقرب إلى دينهم : فلما نزلت { الم غلبت الروم } إلى { في بضع سنين } قالوا : يا أبا بكر : إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين , قال : صدق , قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص , إلى سبع سنين , فمضت السبع , ولم يكن شيء , ففرح المشركون بذلك , وشق على المسلمين , فذكروا ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم : فقال : " ما بضع سنين عندكم ؟ " قالوا : دون العشر , قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين " قال : فما مضت السنتان , حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس , ففرح المسلمون بذلك , فأنزل الله : { الم غلبت الروم } إلى قوله { وعد الله لا يخلف الله وعده } * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن الأعمش , ومطر عن أبي الضحى , عن مسروق , عن عبد الله قال : مضت الروم . 21232 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } قال : أدنى الأرض : الشام { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } قال : كانت فارس قد غلبت الروم , ثم أديل الروم على فارس , وذكر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : " إن الروم ستغلب فارسا " , فقال المشركون : هذا مما يتخرص محمد , فقال أبو بكر : تناحبونني ؟ والمناحبة : المجاعلة , قالوا : نعم , فناحبهم أبو بكر , فجعل السنين أربعا أو خمسا , ثم جاء إلى النبي صلي الله عليه وسلم , فقال رسول صلي الله عليه وسلم : " إن البضع فيما بين الثلاثة إلى التسع , فارجع إلى القوم , فزد في المناحبة " , فرجع إليهم . قالوا : فناحبهم فزاد . قال : فغلبت الروم فارسا , فذلك قول الله : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء } يوم أديلت الروم على فارس . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا معاوية بن عمرو , عن أبي إسحاق الفزاري , عن سفيان , عن حبيب بن أبي عمرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس { الم غلبت الروم } قال : غلبت وغلبت . فأما الذين قرءوا ذلك : " غلبت الروم " بفتح الغين , فإنهم قالوا : نزلت هذه الآية خبرا من الله نبيه صلي الله عليه وسلم عن غلبة الروم . ذكر من قال ذلك : 21233 - حدثنا نصر بن علي , قال : ثنا المعتمر بن سليمان , عن أبيه , عن سليمان , يعني الأعمش , عن عطية , عن أبي سعيد , قال : لما كان يوم ظهر الروم على فارس , فأعجب ذلك المؤمنين , فنزلت { الم غلبت الروم } على فارس. * حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا يحيى بن حماد , قال : ثنا أبو عوانة , عن سليمان , عن عطية , عن أبي سعيد , قال : لما كان يوم بدر , غلبت الروم على فارس , ففرح المسلمون بذلك , فأنزل الله { الم غلبت الروم } إلى آخر الآية . - يحيى بن إبراهيم المسعودي , قال : ثنا أبي , عن أبيه , عن جده , عن الأعمش , عن عطية , عن أبي سعيد , قال : لما كان يوم بدر , ظهرت الروم على فارس , فأعجب ذلك المؤمنين , لأنهم أهل كتاب , فأنزل الله { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } قال : كانوا قد غلبوا قبل ذلك , ثم قرأ حتى بلغ { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } وقوله : { في أدنى الأرض } قد ذكرت قول بعضهم فيما تقدم قبل , وأذكر قول من لم يذكر قوله. 2123 - حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله { في أدنى الأرض } يقول : في طرف الشام . ومعنى قوله أدنى : أقرب , وهو أفعل من الدنو والقرب . وإنما معناه : في أدنى الأرض من فارس , فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله { في أدنى الأرض } عليه منه. وقوله : { وهم من بعد غلبهم } يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس. وقوله : { من بعد غلبهم } مصدر من قول القائل : غلبته غلبة , فحذفت الهاء من الغلبة . وقيل : من بعد غلبهم , ولم يقل : من بعد غلبتهم للإضافة , كما حذفت من قوله : { وإقام الصلاة } 24 37 للإضافة . وإنما الكلام : وإقامة الصلاة . وأما قوله : { سيغلبون } فإن القراء أجمعين على فتح الياء فيها , والواجب على قراءة من قرأ : " الم غلبت الروم " بفتح الغين , أن يقرأ قوله : " سيغلبون " بضم الياء , فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون , حتى يصح معنى الكلام , وإلا لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء , لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون , وذلك إفساد أحد الخبرين بالآخر. وقوله : { في بضع سنين } قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معنى البضع فيما مضى , وأتينا على الصحيح من أقوالهم , بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد : 21235 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا الحكم بن بشير , قال : ثنا خلاد بن أسلم الصفار , عن عبد الله بن عيسى , عن عبد الرحمن بن الحارث , عن أبيه , عن عبد الله بن عمرو , قال : قلت له : ما البضع ؟ قال : زعم أهل الكتاب أنه تسع أو سبع . وأما قوله : { لله الأمر من قبل ومن بعد } فإن القاسم . 21236 - حدثنا , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قوله : { لله الأمر { دولة فارس على الروم } { ومن بعد } دولة الروم على فارس . وأما قوله : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء } فقد ذكرنا الرواية في تأويله قبل , وبينا معناه
ملاحظات
أولا، إن أول ما يمكن أن نجده في هذا التفسير "العظيم" هو أن التشكيل (أي وضع الحركات) على كلمات هذه الكريمة هو صناعة بشرية، فهو إجماع أهل القراءة كما جاء في التفسير نفسه:
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره { الم غلبت الروم } بضم الغين , لإجماع الحجة من القراء عليه .ثانيا، يقر المفسر الجليل بأن هناك احتمالية في أن تشكل على غير هذا النحو، كما جاء في نهاية كلامه:
وأما قوله : { سيغلبون } فإن القراء أجمعين على فتح الياء فيها , والواجب على قراءة من قرأ : " الم غلبت الروم " بفتح الغين , أن يقرأ قوله : " سيغلبون " بضم الياء , فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون , حتى يصح معنى الكلام
الدليل
مهما حاول البشر أن يدسوا أيديهم في كتاب الله، فإن كتاب الله يبقى حافظا لنفسه، ولو دققنا في مفردة غَلَبِهِمْ لوجدنا أنها تؤكد صحة ما نفتريه من قول. فالكلمة تدل أن الروم فعلا قد غلبوا. ولو أن الروم كان قد غَلبوا فعلا، لجاءت المفردة على نحو (غُلْبِهِمْ) بضم الغين وتسكين اللام وليس (غَلَبِهِمْ) بفتح الغين.
منطقنا المفترى: نحن نود أن نلقي بهذه التفسيرات القديمة في مكانها الصحيح المعهود الذي تعرفونه، لنحاول بدلا عن ذلك تقديم رأينا المفترى الذي ربما يكون (نحن نظن) أكثر وجاهة من سابقيه، ونطالب القارئ الكريم أن ينظر إلى رأينا هذا بعين الناقد، فيرده لنا إن وجد فيه الفجوات التي تعيبه. وسنكون له بكل تأكيد شاكرين مقدرين.
أما بعد،
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا
أولا، جهّز الرسول الكريم جيش مؤتة لملاقاة الروم، في أول مواجهة تاريخية بين جيش المسلمين وعدوهم خارج جزيرة العرب، فكانت المواجهة بينهم وبين الروم (وليس الفرس يا علماء المسلمين). فكان جيش مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، وكان القائد الثاني جعفر بن أبي طالب والقائد الثالث هو عبد الله بن رواحة، فانطلق الجيش بقيادة زيد، وكان خالد بن الوليد في صفوف الجند في ذلك الجيش.
ثانيا، ما أن حط جيش المسلمين خارج الجزيرة العربية حتى كان معسكرهم في مؤتة (جنوب الأردن).
ثالثا، من هناك (من أرض مؤتة) بدأت فعاليات المعركة باستكشاف لجيش الروم، فمن غير المنطقي أن يبدأ الجيش (أي جيش) معركة دون جمع معلومات أولية عن جيش الأعداء. لذا نحن نتخيل بأن جيش المسلمين قد عسكر في أرض مؤتة التي لازالت بعيدة عن متناول جيش الروم.
رابعا، من هناك (أي من ارض مؤتة) انطلقت السرايا الأولية لاستكشاف جيش الروم، فكانت السرية الأولى قد تجهزت بقيادة القائد الأول وهو زيد بن حارثة. فانطلق زيد على رأس سرية باتجاه أرض الخصم في أدنى الأرض، وهي الأرض القريبة من منطقة البحر الميت في الأردن (أدنى الأرض)، وهي الأرض التي تبعد عن أرض مؤتة قليلا. انظر الخريطة حيث مؤتة تقع بالقرب من مدينة الكرك الأردنية التي تقع على مقربة من البحر الميت:
خامسا: ما أن بدأت مناوشات تلك السرية بقيادة زيد بن حارثة حتى انتهت بمصرع زيد. فرجعت السرية بزيد، ودفن في أرض مؤتة (منطقة المزار الجنوبي).
سادسا، ما أن قضى زيد نحبه في تلك المواجهة الأولية حتى كان الخبر قد شاع في المدينة على لسان محمد، فهو الذي أخبر من حوله أن زيد قد صرع.
سابعا، لكن مصرع زيد لم يكن ليثني المؤمنين عن الاستمرار في المواجهة والإصرار عليها، فانطلقت السرية الثانية من أرض معسكر المسلمين في مؤتة باتجاه جيش الروم في أدنى الأرض (منطقة البحر الميت) مرة أخرى، لكن هذه المرة بقيادة جعفر ابن أبي طالب، وانتهت المواجهة الفرعية الثانية بمقتل زيد. عادت السرية بجعفر وتم دفنه إلى جانب صاحبه في المنطقة نفسها التي دفن فيها صاحبه من قبل.
ثامنا، ما أن قضى زيد نحبه حتى شاع الخبر في المدينة على لسان محمد، فهو الذي أخبر من حوله بأن جعفر قد صرع، فطلب أن يعمل بعض أهل المدينة طعاما لأهل جعفر.
تاسعا، بالرغم من الدعوات التي بدأت تتعالى بوجوب عدم الاستمرار في المواجهة، أصر القائد الثالث للمؤمنين وهو عبد الله بن رواحة على الاستمرار فيا، فخرج هو بنفسه على رأس السرية الثالثة إلى أرض الروم (أي في أدنى الأرض)، لكن لم يكن الأمر ليختلف كثيرا، فكانت النتيجة مصرع عبد الله بن رواحة. فعادت السرية بعبد الله وتم دفنه إلى جانب صاحبيه في الأرض نفسها.
عاشرا، ما أن قضى عبد الله نحبه حتى شاع الخبر في المدينة على لسان محمد، فهو الذي أخبر من حوله بأن عبد الله بن رواحه قد صرع.
أحد عشر، في هذه اللحظة، حصل اجتماع لجيش المسلمين كلهم لاختيار قائدا لهم بعد أن قتل القادة الثلاثة الذين عيّنهم رسول الله على رأس الجيش. فوقع الاختيار من قبل الجميع على خالد.
ثاني عشر، ما أن وقع الاختيار على خالد حتى شاع الخبر في المدينة على لسان محمد، فهو الذي أخبر من حوله بأن الجيش قد اختار قائدا له، وهذا القائد الجديد هو سيف من سيوف الله مسلط على عدوهم.
ثالث عشر، كان خالد رجلا عسكريا من الطراز الأول، فما أن وجد أن الكفة تميل بكليتها لصالح جيش الروم، حتى اتخذ قراره بالانسحاب، لأن تبعات الاستمرار في المواجهة ستكون لا محالة كارثية على المسلمين.
معركة بدر: رواية جديدة
لو عدنا إلى المواجهة في يوم بدر، لوجدنا أنها لم تكن على نحو واحد مقابل اثنين، بل أكثر من ذلك بكثير، لكن النصر قد تحقق للمؤمنين، ولو دققنا في تفاصيل مجريات المعركة، لوجدنا الملاحظات التالية:
- لم يقتل من الكافرين العدد الكبير (حوالي سبعين رجلا في روايات أهل العلم)
- كان معظم الذين قتلوا من الكافرين هم من رؤوس الكفر في مكة
- أن قتل هؤلاء كان على نحو أن جميعهم قد سقطوا عن خيولهم، فأجهز عليهم من كان قريبا منهم من المؤمنين (كحالة أبي جهل الذي تصوره الروايات لنا بأن غلامين صغيرين هم الذين أجهزوا عليه بعد أن سقط عن فرسه)
- أن جيش الكافرين قد فرّ بأكمله بمجرد قتل جزء يسير منهم
- الخ
وبالمقابل، ألم يؤيد الله نبيه في تلك المعركة بأكثر من ثلاثة آلآف من الملائكة منزلين، ووعد بأن يمددهم بخمسة آلآف من الملائكة مسومين؟
رأينا المفترى: دعنا نقدم لكم – يا سادة- تصورنا المفترى من عند أنفسنا لما حصل في يوم بدر، ثم نترك لكم بعد ذلك الاختيار بين ما وجدتموه عند أهل العلم من قبلنا من روايتهم الموثوقة وما تجده عندنا من شطحات فكرية ربما لا تصل إلى درجة العلم من الكلام المفترى من عند البشر الذين قلما يصيبون وكثيرا ما يخطئون.
أما بعد،
نحن نؤمن أن الله هو من ينصر رسوله وهو من يؤيده بجنود لا نراها:
كما نؤمن يقينا بأن الله قد أمدّ رسوله في يوم بدر بثلاثة آلآف من الملائكة منزلين، ووعد أن يمدهم بخمسة آلآف من الملائكة مسومين:
لكننا نؤمن يقينا بأن هؤلاء الملائكة لم يقاتلوا الكفار في تلك المواجهة إطلاقا لأن مهمتهم كانت تتمثل فقط في تثبيت الذين آمنوا (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ):
ونؤمن أيضا بأن الله هو من ألقى بنفسه الرعب في قلوب الذين كفروا (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ)
فما الذي فعله محمد؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن محمد لم يكن يهدف إلى إبادة جيش المشركين كله، فما كانت خطته تقضي بذلك، لأنه يعلم يقينا بأن هؤلاء جميعا مغرر بهم من قبل سادتهم وكبرائهم، فهم لا يعلمون تماما ما يفعلون. لكنه في الوقت ذاته، كان يهدف إلى إبادة رؤوس الكفر الذين جروا هؤلاء البسطاء إلى هذه المواجهة المصيرية، كأمثال أبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم. في خضم المعركة، وجه محمد (نحن نتخيل) سكينته التي أنزلها الله عليه في ذلك اليوم باتجاه هؤلاء على وجه التحديد، فما كان المؤمنون والمشركون المتواجدون حينئذ في ساحة المعركة يرون إلا هؤلاء (المتجبرون) يتساقطون عن خيولهم الواحد تلو الآخر، وهم لا يعلمون يقينا من الذي أسقطهم عن خيولهم، وما كانت مهمة المؤمنين بعد ذلك إلا أن يجهزوا على هؤلاء المتساقطين من رؤوس الكفر. فعلى الغلامان صدر أبي جهل وأجهزا عليه، وكذلك فعل بلال بأمية ابن خلف (كما شاهدنا في فلم الرسالة).
لما أن رأى جيش المشركين ما حلّ برؤوس قادتهم حتى كان الرعب الذي ألقاه الله في صدورهم قد فعل فعله فيهم، فهربوا جميعا مرة واحدة، دون إدراك منهم (ولا حتى من المؤمنين) عن ما كان يدور فعلا على أرض المعركة. فهم لا يفهمون مصدر هذه القوة الرهيبة التي تطيح برؤوس الكفر من بعيد. فالكفار مرعوبين، والمؤمنين في نعاس يغشاهم، والمعركة تدور رحاها من هناك (من داخل خيمة النبي نفسه).
وتكرر مثل هذا النصر في مواطن أخرى كثيرة، ولعل ما حصل في يوم حنين يؤكد مثل هذا التصور المفترى من عند أنفسنا. فبالرغم من كثرة المقاتلين في صف محمد يوم حنين، إلا أن هذه الكثرة لم تكن لتغني عنهم من الله شيئا:
فالأرض ضاقت بالمؤمنين يوم حنين فولّوا مدبرين، فما تبقى في ساحة المعركة إلا محمد نفسه (وربما قليل ممن كانوا حوله من المؤمنين الأولين كأبي بكر)، وما أن ولى المؤمنون مدبرين حتى كان محمد قائما بشخصه في مواجهة مباشرة مع جيش المشركين كله في يوم حنين، فتمكن بتأييد مباشر من ربه بأن يدحرهم جميعا بتلك السكينة التي كانت بيده:
ولو تدبرنا الدقة اللفظية في الآيتين السابقتين، لوجدنا على الفور أن السكينة لم تنزل منذ بداية المعركة، ولكنها نزلت بعد أن ولى المؤمنون مدبرين (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، وما أن ولوا مدبرين حتى أن أنزل الله سكينته على رسوله وأنزل جنودا لم يروها (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا)، فكانت الغلبة لمحمد عليهم جميعا.
تخيلات مفتراة من عندنا: لما انتهى إلى محمد وصحبه خبر قدوم جيش الكفار إلى المدينة، لم يكن ذلك ليفزع محمد، فكان قراره أن ينتظر قدومهم في المدينة، فهو سيتكفل بمقارعتهم جميعا كما فعل في بدر. لكن المؤمنين لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى درجة الثقة المطلقة بما يستطيع محمد فعله حيال جيش المشركين (خاصة من لم يكن منهم ممن حضر يوم بدر)، فكان خوفهم على أموالهم وأهليهم أكبر من إيمانه بما يستطيع محمد فعله بنفسه حيال جيش المشركين، لذا كان قرارهم على نحو الخروج لمواجهة جيش المشركين خارج مدينتهم.
لما رأى محمد ما كان منهم، اتخذ قراره بأن يؤدبهم جميعا، فيلقنهم درسا لن ينسوه، يتمثل في أن المقارعة مع الكافرين ليست مقارعة عددية وأن النصر فعلا من عند الله. لذا تركهم في هذه المواجهة وشأنهم.
في بداية اللقاء دحر محمد جيش المشركين كما فعل في بدر حتى لا تكون غلبة حاسمة للمشركين عليه وعلى جيشه، ولكن لما كانت نفوس بعض المؤمنين لازالت غير مؤمنة تمام الإيمان، غر هؤلاء ما رأوه من المغانم، ربما ظانيين أنهم هم فعلا من صنعوا ذلك النصر الأولي على جيش المشركين، فانفضوا إليها وتركوا محمدا قائما مع قلة قليلة من المؤمنين الحقيقيين من حوله، ولما شاهد محمد فعلتهم هذه، تراجع بمن معه من المؤمنين الحقيقيين إلى جبل أحد، تاركا هؤلاء المتعجلين إلى الغنائم، يقارعون جيش خالد الذي التف حولهم، فكانت الخسارة الشديدة والقاسية عليهم.
ما أن انقضت هذه المعركة حتى تعلم كثير من المؤمنين الدرس، وأيقنوا أنه ما كان يجب مخالفة ما يقضي محمد فيهم:
لذا، ما أن جاء وقت معركة الخندق حتى كان غالبية العظمة من المؤمنين من حول محمد قد تعلموا الدرس، فما طالبوا بالخروج من المدينة، فنزلوا عند قضاء الرسول، فحصلت المعركة على تخوم المدينة. لكن بقية فئة قليلة من المنافقين، فكان لزاما أن يعلمهم محمد.
ولو تدبرنا سير المعركة في غزوة الخندق، لوجدنا أن الحصار حول المدينة قد استمر عدة أيام وليالي، فكان نتيجة هذا الحصار انكشاف الفئة المنافقة الذين تركوا المعركة متعللين بأن بيوتهم عورة وما هي بعورة:
فلقد انتظر محمد وقتا من الزمن قبل أن يحسم المعركة (نحن نتخيل) من أجل كشف زيف إيمان هؤلاء المنافقين، وما أن عَلِم محمد الصابرين وعلم المنافقين حتى تصرف على الفور، فكان النصر من الله على شكل ريح أرسلها مع جنود لا يراها الناس.
الربط التاريخي واللغوي: معركة اليرموك ولفظ "بضع سنين"
عودة على بدء: قصة معركة مؤتة
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: لما كان خالد رجل عسكري من الطراز الأول، لم يكن ليزج الجيش في معركة خاسرة مسبقا، فهو يعلم الآن أن المقاتلين من المؤمنين فيهم ضعفا (بسبب عدم وجود النبي بينهم)، لذا لن يزج الجيش في معركة يفوق فيها جيش الكافرين جيش المسلمين بالعدد أضعافا كثيرة. لذا اتخذ قراره بالانسحاب فورا.
ما أن عاد جيش المسلمين بقيادة خالد إلى المدينة حتى ظن أهل المدينة أنهم فرارا.
تصورات تاريخية
لو دققنا في تاريخ هذه الواقعة، لوجدنا بأن معركة مؤتة قد حصلت في السنة الثامنة للهجرة في أصح روايات أهل الدراية. ولو دققنا في معركة اليرموك، لوجدناها قد حصلت في السنة الخامسة عشر للهجرة. فيكون الفارق الزمني بين الواقعتين هي فقط بضعة سنين (أي سبعة سنين على وجه الدقة).
الدليل
لو دققنا في مفردة بِضْعِ التي ترد في هذا السياق القرآني:
لما وجدناها قد وردت مرة أخرى إلا في قصة سجن يوسف:
فلقد لبث يوسف في السجن بضع سنين، ليكون السؤال الحتمي هو: كم سنة على وجه التحديد لبث يوسف في السجن؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن يوسف قد لبث في سجنه سبع سنين. انتهى.
من أجمل ما قرات
ردحذفاخي احسنت و زادك الله من فضله
ردحذفاما عن الاية الكريمة التي يخاطب الرسول زيد بامسك عليك زوجك يا زيد و اتق الله يا زيد و ان الله مبدي ما في نفسك من كلام مفترى على زوجك يا زيد ايا كان سامع عنها كلام سيء من غيره و تخشى الناس يا زيد من كثرة كلامهم و الله احق ان تخشاه يا زيد فالرسول هنا بريء من خائنة القلوب و بريء من طمعه في زوج زيد
اما عن لفظ امين فاعتقد و لله العلم انه اعجمي فلنقل اللهم تقبل
تحياتي لك اخي و لرقي كتاباتك و و بساطة منطقك
المقال جميل ولكن اين عدد ركعات الصلاة ف الموضوع 😴 ذكرت في بداية المقال بإنو هدف المقال هو كذا وكذا...
ردحذفوإن قرأت الآية كما هى غُلبت الروم، فلا تتنافى مع طرحكم الكريم. فقد تؤخذ أنها بشرى للمؤمنين بأن الروم غُلبت حتى وإن كانت لهم الغلبة فى المواجهة الفائتة، أو تقرير لما سيحدث ولا يغيب عنكم الاستخدام القرءانى للأزمنة لا يلتزم بما نستخدمه نحن فقد يستخدم الله الزمن الماضى للتعبير عما سيقع فى المستقبل والأمثلة على ذلك لا يخفى عليكم وهى أكثر مما تحصى.
ردحذفيا حبيبي يا. رشيد ازاي بتقول ان المحرمات وصايا؟!!
ردحذفوكمان بتدعي ربنا ان تلتزم بوصاياه وهي محرمات بنص الايه (( قل تعالوا اتل ما حرم ربكم مش وصايا ربكم او وصايا الله... أخي لم أكن انتظر منك هذا الانحراف ❤️🙏🌹 كان أجدر بك أن تقول انك لا تعلم أن الإحسان للوالدين جاء بعد الا تشركوا به أو بالله لحكمه انت لا تعلمها....
ولكن انت مميز
السلام عليكم اعتقد ان اول من تنبه الي ان اية غلبت تقراء بالفتحة على الغين هو الباحث ابن قرناس
ردحذفولعله هو من كتب او علق لانه يقول بذلك وان المعركة بين المسلمين والروم وان الروم هم من غلب المسلمين في تلك المعركة وانسحب خالد
اتمنى ان يجتمع المتدبرون من امثالك في مؤتمر مع الباحث ابن قرناس والمهندس علاء بابكر والدكتور محمد مشتهري للخروج من ازمتنا في بعد الناس عن القران واتخاذ اقوال منسوبه للرسول تخالف القران وتسيئ لشخص الرسول وصحبه
السلام عليكم دكتور
ردحذفهل بدا الرسول قتال الروم وهو منهي عنه ان يبدا المسلمون بقتال احد ولكن للدفاع
ماذهب ايه الباحث ابن قرناس هو ان قريش استعانت بالروم في غزوة الخندق التي افشلها الله بدون قتال
فوجب تاديبهم وكذلك الفرس عندما استعانت بهم قريش مع اهل الطائف في معركة حنين فوجب تاديب هاتين الامبراطوريتين واسقاطهم لكي لاتعود لهم القبائل وتستعين بهم وتقضي على المسلمين في عقر دارهم ولهذا انفذ ابو بكر جيش اسامة واكمل عمر المهمة واسقط فارس
وشكرا دكتور
إرسال تعليق