قصة يأجوج ومأجوج - الجزء الثالث

قصة ذي القرنين
قصة يأجوج ومأجوج 3
كان جلّ ما افتريناه في الجزء السابق من هذه المقالة هو أن يأجوج ومأجوج هم الذين نسميهم في عالم المعرفة الحديثة بالديناصورات، وأن هذه المخلوقات هي كائنات غير أرضية، قد غزت الأرض في غابر الزمان وعاثت فيها فسادا، وما توقف خطرهم إلا على يد ذي القرنين الذي استطاع أن يردم السبب (أي الطريق الفضائية) التي كانت تلك الكائنات تصل من خلالها إلى الأرض (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة). ثم توقفنا في نهاية الجزء السابق عند طرح التساؤلات التالية:
-        من هم القوم الذين طلبوا مساعدته لصد خطر يأجوج ومأجوج عنهم؟
-        متى حصل آخر انقراض لهذه الكائنات عن وجه الأرض قاطبة؟
-        وكيف كانت آلية انقراضهم؟
وكنا قد وعدنا القارئ الكريم من ذي قبل أن نحاول النبش أكثر في قصة يأجوج ومأجوج علّنا نستطيع في هذا الجزء الثالث من المقالة (إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها) تقديم افتراءاتنا على التساؤلات المثيرة الكثيرة التالية:
-        من هو ذو القرنين؟
-        لم جاء ذكره في كتاب الله؟
-        لماذا سُمّي بذي القرنين؟
-        كيف استطاع أن يتبع الأسباب؟
-        هل كان هو فقط من يستطيع بلوغ الأسباب؟ فما بال فرعون إذن يطلب من هامان بناء الصرح لبلوغ الأسباب؟
-        وكيف فعل فرعون ذلك؟
-        وما وجه الشبه بين فرعون وذي القرنين؟
-        ولماذا طلب فرعون بناء الصرح على وجه التحديد؟
-        وما هو الصرح الذي بناه هامان لفرعون؟
-        وهل فعلا اطلع فرعون بعد أن بُني له ذلك الصرح على إله موسى كما جاء على لسانه عندما طلب ذلك من هامان؟
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
-        وهل كان فرعون هو فقط من بُني له صرح؟
-        ألم يكن لسليمان أيضا صرحا؟
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
-        فما وجه الشبه بين صرح فرعون وصرح سليمان؟
-        ألم يكن لسليمان ملكا عظيما؟
-        لم كان ملك سليمان عظيما مقارنة بملك من سيأتي بعده؟
-        وكيف يمكن أن يتشابه ملك سليمان بملك من كان قبله كذي القرنين مثلا؟
-        ألم يؤتي سليمان من كل شيء؟
-        ألم يؤتي ذو القرنين من كل شيء سببا؟
-        فما الفرق بين ما أوتي لذي القرنين وما أوتي لسليمان؟
-        الخ.
(دعاء: فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأسأله من الخير الذي بيده ما لا ينبغي لأحد بعدي إنه هو العليم الحكيم، وأن يجعل فضله وحده عليّ وعلى أهلي عظيما، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، إنه هو العليم الخبير –  آمين)
أما بعد،
السؤال الأول: من هم القوم الذين وجدهم ذو القرنين دون السدين؟
جواب مفترى: إنهم القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا. وانظر – إن شئت- في قوله تعالى:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
السؤال: ما معنى أن هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولا؟ وما الذي يمكن أن نستنبطه من ذلك؟
باب: يفقهون
 وردت مفردة يفقهون (ومشتقاتها) في القرآن الكريم في سياقات عديدة، فلنحاول أن نتدبر المفردة في سياقاتها الخاصة، سائلين الله أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم:
أولا، جاء الخطاب القرآني موجها للناس (بني آدم) علهم يستطيعون أن يفقهوه:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
ثانيا، كان الهدف من تصريف الآيات حتى يفقه الناس:
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
فكان تفصيل الآيات خاصا بالذين يفقهون:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
(دعاء: اللهم أسألك أن أكون من الذين يفقهون تصريف آياتك ومن الذين يفقهون تفصيل آياتك – آمين)
ثالثا، كان القلب هو أداة التفقه (إن صح القول):
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (127)
فكان مانع الكافرين والمنافقين عن التفقه هو تلك الأكنّة التي غطت على قلوبهم:
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
(دعاء: أسالك رب أن لا تجعل على قلبي أكنة تمنعني أن أفقه آياتك – آمين)
ويتم ذلك بالطبع:
رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
(دعاء: اللهم أعوذ بك أن أكون ممن طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون – آمين)
لذا، صعب على الكافرين أن يفقهوه:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65)
وكذلك كان حال المنافقين:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
مع اختلاف بسيط وهو أن المنافقين (على عكس الكافرين) قد يفقهون بعضه (أي قليلا منه):
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
رابعا، جاء الطلب الإلهي من طائفة من المؤمنين أن تنفر ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
خامسا، لمّا كان القلب هو أداة التفقه كان ذلك شاملا الجن والإنس، فالجن لها قلوب وللإنس قلوب، وقلوبهم جميعا قد تفقه وقد لا تفقه:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
السؤال المربك: إذا كان للإنس والجن قلوب قد تفقه وقد لا تفقه، فما الفرق بين الإنس والجن في التفقه؟
أولا، نحن نؤمن أن كل شيء يسبح بحمد ربه، ولكننا جميعا لا نفقه تسبيحهم، أليس كذلك؟
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
السؤال: لماذا لا نفقه تسبيحهم؟ فما الذي يمنعنا أن نفقه تسبيح كل شيء؟
جواب مفترى: لأننا لا نفهم قولهم (أي لغتهم)، أو لنقل الطريقة التي يسبحون بها. ولو فهمناها (نحن نظن) لاستطعنا أن نفقه تسبيحهم.
السؤال: هل نفقه نحن الناس قول بعضنا البعض؟
جواب: نعم
سؤال: ولكن هل نفقه كل قولنا عن آخره؟
جواب: ليس بالضرورة. فها هم قوم شعيب لا يفقهون كثيرا مما يقول الرجل:
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
ولكن بالرغم أنهم لا يفقهون كثيرا مما يقول الرجل، إلا أنهم يفقهون (لا شك) بعضه، أليس كذلك؟
والآن لنعد بهذه الفكرة إلى قصة القوم الذين وجدهم ذو القرنين دون السدين، لنجد بأنهم قوم لا يكادون يفقهون قولا:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
السؤال: إذا كان هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولا، فهل يمكن أن يكونوا من الناس (الإنس)؟
رأينا المفترى والخطير جدا: كلا، فمادام أنهم لا يكادون يفقهون قولا، فهم إذن ليسوا من الناس، لأن الناس لا شك يفقهون القول وإن كانوا (نحن نفتري القول) قد لا يفقهون حديثا كما جاء في الآية الكريمة التالية:
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
ليكون السؤال الذي يجب أن يطرح على الفور هو: ما الفرق بين أن تفقه القول وأن تفقه الحديث؟
الافتراء الخطير جدا الذي سنحاول تبيانه في الصفحات التالية هو التفريق بين القول والحديث والكلام:
الكلام: هو القول المنقول
القول: هو حرفية الكلام
الحديث: هو مراد القول
فالقرآن الكريم هو – لا شك عندنا- كلام الله:
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6)
لكن بالرغم أن القرآن الكريم هو كلام الله إلا أنه ليس بقول الله (أي كما نطق به الإله نفسه). وذلك لأن الإله (نحن نفتري الظن) لا يتحدث لغة بشرية، لذا جاءت مهمة كل رسول ليبلّغ قومه بلسانهم:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وكذلك كانت مهمة محمد أن يبلغ بلسان عربي مبين:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)
فكان القرآن الكريم هو (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) قول محمد وليس قول الله (وإن كان كما قلنا آنفا هو كلام الله):
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
السؤال: ما علاقة هذا بقصة القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا، ما الذي منعهم أن يفقهوا القول؟ وما الفرق بينا وبينهم في ذلك؟
جواب: ربما نستطيع نحن الإنس أن نفقه بعضه (كقول)، وقد لا نفقه كثيرا منه (كقول) كما كان حال قم شعيب مثلا. لذا نحن بحاجة أن نتفقه فيه، لكن المؤكد أنه حتى لو فقهنا بعض القول فقد لا نفقه حديثه:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
باب: حديثا
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
السؤال: كيف يمكن أن نفقه بعض القول وقد لا نفقه الحديث منه؟
رأينا المفترى: قد نقرأ الألفاظ، فنعرفها، وقد نتوقف عندها طويلا لنتدبرها، لكن بالرغم من ذلك كله، فإننا قد لا ندرك مرادها. فأنت قد تعرف مفردات الآية الكريمة، فتدرك القول فيها، ولكن قد يصعب عليك أن تربط بعضها ببعض حتى تدرك المراد منها.
مثال: الأعراف
سأحاول تقديم المثال هنا للتفريق بين "فقه القول" و "فقه الحديث"، والهدف هو تبيان كيف أننا نفشل في فقه الحديث حتى وإن فقهنا القول (أو بعضه)، والمثال الذي نقدمه هنا هو مفردة الأعراف التي وردت في النص القرآني أكثر من مرة.
أما بعد،
لعل القارئ للنص القرآني من أهل اللسان العربي يعرف مفردة "الأعراف" جيدا. وقد يستطيع الكثير منهم أن يردوها إلى جذرها (ع ر ف)، وهم لا شك يعلمون مشتقاتها، كما قد يستطيع بعضهم (خاصة أهل المنابر الإعلامية منهم) أن يحدث الناس عنها ساعات وساعات، وقد يتفنن في صياغة المعلومة التي تجذب المشاهد أو السامع فيلصقه بمجلسه حتى نهاية الحديث، لكن يبقى التساؤل المثير التالي: هل فهم أهل اللسان العربي قاطبة المراد من هذه المفردة كما وردت في السياقيين القرآنيين التاليين؟
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
رأينا: كلا وألف كلا. نحن نكاد نجزم الظن (مفترينه من عند أنفسنا) بأن أهل اللسان العربي (على فصاحتهم المزعومة) وخاصة أهل الدراية منهم (على درجة علمهم الموهومة) قد أخفقوا في فهم هذه المفردة بعد تدارسها أربعة عشر قرنا من الزمن. كلام خطير أليس كذلك؟
السؤال: ما معنى هذه المفردة إن صح ما تزعم؟ يسأل صاحبنا مستغربا
رأينا: لكي نبين مرادنا فيها، دعنا نستعرض بداية ما جاء في بطون بعض أمهات كتب التفسير عنها، ثم  نحاول تبيان الغلط الذي نظن أن أهل الدراية من سادتنا العلماء قد وقعوا فيه، فغابت الحقيقة المراد تجليتها في النص القرآني نفسه عن الناس قرونا طويلة، وهدفنا مرة أخرى هو التميز بين "فقه القول" من جهة و "فقه الحديث" من جهة أخرى.
الافتراء: نحن نفتري الظن هنا بأن أهل اللسان العربي عامتهم وخاصتهم لم يفقهوا الحديث المراد من مفردة الأعراف في الآيتين السابقتين وإن كانوا قد فقهوا بعض القول منها.
الدليل
لنتدبر- عزيزي القارئ- ما جاء في الطبري حول الآية الكريمة التالية:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وبينهما حجاب
القول في تأويل قوله تعالى : { وبينهما حجاب } يعني جل ثناؤه بقوله : { وبينهما حجاب } وبين الجنة والنار حجاب , يقول : حاجز , وهو السور الذي ذكره الله تعالى فقال : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } 57 13 وهو الأعراف التي يقول الله فيها : { وعلى الأعراف رجال } كذلك : 11389 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عبد الله بن رجاء , وعن ابن جريج , قال : بلغني , عن مجاهد , قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار. 11390 - حدثني محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن مفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وبينهما حجاب } وهو السور , وهو الأعراف .
وعلى الأعراف رجال
وأما قوله : { وعلى الأعراف رجال } فإن الأعراف جمع واحدها عرف , وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو عرف , وإنما قيل لعرف الديك : عرف , لارتفاعه على ما سواه من جسده ; ومنه قول الشماخ بن ضرار : وظلت بأعراف تعالى كأنها رماح نحاها وجهة الريح راكز يعني بقوله : " بأعراف " : بنشوز من الأرض ; ومنه قول الآخر : كل كناز لحمه نياف كالعلم الموفي على الأعراف وكان السدي يقول : إنما سمي الأعراف أعرافا , لأن أصحابه يعرفون الناس . 11391 - حدثني بذلك محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 11392 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا ابن عيينة , عن عبيد الله بن أبي يزيد , سمع ابن عباس يقول : الأعراف : هو الشيء المشرف . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا ابن عيينة , عن عبيد الله بن أبي يزيد , قال : سمعت ابن عباس يقول , مثله . 11393 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثني أبي , عن سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الأعراف : سور كعرف الديك . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس , مثله . 11394 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار سور له باب . قال أبو موسى : وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد , أنه سمع ابن عباس يقول : إن الأعراف تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار , سور له باب . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن منصور , عن حبيب بن أبي ثابت , عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس , قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار. * حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار . * حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { وعلى الأعراف رجال } يعني بالأعراف : السور الذي ذكر الله في القرآن وهو بين الجنة والنار . * حدثنا الحارث , قال : ثنا عبد العزيز , قال : ثنا إسرائيل , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الأعراف : سور له عرف كعرف الديك . 11395 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن إسرائيل , عن جابر , عن أبي جعفر , قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار . 11396 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , قال : ثني عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول : الأعراف : السور الذي بين الجنة والنار . واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك , فقال بعضهم : هم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء , ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم . ذكر من قال ذلك : 11397 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق , قال : قال الشعبي : أرسل إلي عبد الحميد بن عبد الرحمن وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش , وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا , فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة . فقالا : هات ! فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف , فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة , فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار , قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ! فبينا هم كذلك , اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال : اذهبوا وادخلوا الجنة , فإني قد غفرت لكم ! . 11398 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عن الشعبي , عن حذيفة , أنه سئل عن أصحاب الأعراف , قال : فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة , وخلفت بهم حسناتهم عن النار. قال : فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير وعمران بن عيينة , عن حصين , عن عامر , عن حذيفة , قال : أصحاب الأعراف : قوم كانت لهم ذنوب وحسنات , فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار , فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه فينفذ فيهم أمره . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن يمان , عن سفيان , عن جابر , عن الشعبي , عن حذيفة , قال : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فيقول : ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي , { لا خوف عليكم } اليوم { ولا أنتم تحزنون } * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن يونس بن أبي إسحاق , عن عامر , عن حذيفة , قال : أصحاب الأعراف قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار , وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة . 11399 - حدثنا المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن أبي بكر الهذلي , قال : قال سعيد بن جبير , وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود , قال : يحاسب الناس يوم القيامة , فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة , ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار . ثم قرأ قول الله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } 7 8 : 9 ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجع ; قال : فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف . فوقفوا على الصراط , ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار , فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم ! وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار , قالوا : { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } 7 47 فيتعوذون بالله من منازلهم . قال : فأما أصحاب الحسنات , فإنهم يعطون نورا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم , ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا , فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة . فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون , قالوا : ربنا أتمم لنا نورنا ! وأما أصحاب الأعراف , فإن النور كان في أيديهم , فلم ينزع من أيديهم , فهنالك يقول الله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } فكان الطمع دخولا . قال : فقال ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشرا , وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة . ثم يقول : هلك من غلب وحدانه أعشاره . 11400 - حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع , قال : أخبرني ابن وهب قال : أخبرني عيسى الخياط عن الشعبي , عن حذيفة , قال : أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار , وهم آخر من يدخل الجنة , قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار. 11401 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا أبو داود , قال : ثنا همام , عن قتادة , قال : قال ابن عباس : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم ولا سيئاتهم على حسناتهم . 11402 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد , قالا : ثنا جرير عن منصور , عن حبيب بن أبي ثابت , عن عبد الله بن الحارث , عن ابن عباس , قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار , وأصحاب الأعراف بذلك المكان , حتى إذا بدا لله أن يعافيهم , انطلق بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك , فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها , حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن , فقال : تمنوا ما شئتم ! قال : فيتمنون , حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة . فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها , يسمون مساكين الجنة . 11403 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن حبيب , عن مجاهد , عن عبد الله بن الحارث , قال : أصحاب الأعراف يؤمر بهم إلى نهر يقال له الحياة , ترابه الورس والزعفران , وحافتاه قضب اللؤلؤ. قال : وأحسبه قال : مكلل باللؤلؤ. وقال : فيغتسلون فيه , فتبدو في نحورهم شامة بيضاء فيقال لهم : تمنوا ! فيقال لهم : لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفا ! وإنهم مساكين أهل الجنة . قال حبيب : وحدثني رجل : أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن حبيب بن ثابت , عن مجاهد , عن عبد الله بن الحارث , قال : أصحاب الأعراف ينتهى بهم إلى نهر يقال له الحياة , حافتاه قضب من ذهب - قال سفيان : أراه قال - : مكلل باللؤلؤ . قال : فيغتسلون منه اغتسالة , فتبدو في نحورهم شامة بيضاء , ثم يعودون فيغتسلون فيزدادون , فكلما اغتسلوا ازدادت بياضا , فيقال لهم : تمنوا ما شئتم ! فيتمنون ما شاءوا. فيقال لهم : لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفا ! قال : فهم مساكين أهل الجنة . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا ابن عيينة , عن حصين , عن الشعبي , عن حذيفة , قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فهم على سور بين الجنة والنار { لم يدخلوها وهم يطمعون } * حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : كان ابن عباس يقول : الأعراف بين الجنة والنار , حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم , ولا سيئاتهم على حسناتهم . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : قال ابن عباس : أهل الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . 11404 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد , عن جويبر , عن الضحاك , قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . 11405 - وقال : ثنا يحيى بن يمان , عن شريك , عن منصور , عن سعيد بن جبير , قال : أصحاب الأعراف استوت أعمالهم. * حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو بن عون , قال : أخبرنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم , فوقفوا هنالك على السور . 11406 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن منصور , عن حبيب بن أبي ثابت , عن سفيع أو سميع - قال أبو جعفر : كذا وجدت في كتاب سفيع - عن أبي علقمة قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . وقال آخرون : كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا. ذكر من قال ذلك : 11407 - ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن يمان , عن أبي مسعر , عن شرحبيل بن سعد , قال : هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم . 11408 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني الليث , قال : ثني خالد , عن سعيد , عن يحيى بن شبل : أن رجلا من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف , فقال : " هم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم , فقتلوا , فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله , وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم , فهم آخر من يدخل الجنة " . 11409 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا يزيد بن هارون , عن أبي معشر , عن يحيى بن شبل مولى بني هاشم , عن محمد بن عبد الرحمن , عن أبيه , قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف , فقال : " قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم , فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار , ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة " . وقال آخرون : بل هم قوم صالحون فقهاء علماء . ذكر من قال ذلك : 11410 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن خصيف , عن مجاهد , قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون , فقهاء علماء . وقال آخرون : بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم . ذكر من قال ذلك : 11411 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , عن أبي مجلز , قوله : { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال : هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار . قال : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } إلى قوله : { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } . قال : فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم : { ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } قال : فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة , { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } 11412 - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا المعتمر , قال : سمعت عمران , قال : قلت لأبي مجلز : يقول الله : { وعلى الأعراف رجال } وتزعم أنت أنهم الملائكة ؟ قال : فقال : إنهم ذكور وليسوا بإناث . 11413 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن سليمان التيمي , عن أبي مجلز : { وعلى الأعراف رجال } قال : رجال من الملائكة يعرفون الفريقين جميعا بسيماهم , أهل النار وأهل الجنة , وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا محمد بن أبي عدي , عن التيمي , عن أبي مجلز , بنحوه . 11414 - وقال : حدثنا يحيى بن يمان , عن سفيان , عن التيمي , عن أبي مجلز , قال : أصحاب الأعراف الملائكة . * حدثني المثنى , قال : ثنا يعلى بن أسد , قال : ثنا خالد , قال : أخبرنا التيمي , عن أبي مجلز : { وعلى الأعراف رجال } قال : هم الملائكة . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن عمران بن حدير , عن أبي مجلز : { وعلى الأعراف رجال } قال : هم الملائكة . قلت : يا أبا مجلز يقول الله تبارك وتعالى رجال , وأنت تقول ملائكة ؟ قال : إنهم ذكران ليسوا بإناث . * حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد عن عمران بن حدير , عن أبي مجلز , في قوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال : الملائكة , قال : قلت : يقول الله رجال , قال : الملائكة ذكور . قال أبو جعفر : والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم : هم رجال يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم , ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده ولا أنه متفق على تأويلها , ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة . فإذ كان ذلك كذلك , وكان ذلك لا يدرك قياسا , وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن الرجال اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق غيرهم , كان بينا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة قول لا معنى له , وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره . هذا مع من قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار وإن كان في أسانيدها ما فيها . وقد : 11415 - حدثني القاسم , قال : ثني الحسين , قال : ثني جرير عن عمارة بن القعقاع , عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير , قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف , فقال : " هم آخر من يفصل بينهم من العباد , وإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد , قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلكم الجنة , وأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم " .
يعرفون كلا بسيماهم
القول في تأويل قوله تعالى : { يعرفون كلا بسيماهم } يقول تعالى ذكره : وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم , وذلك بياض وجوههم ونضرة النعيم عليها . ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم , وذلك سواد وجوههم وزرقة أعينهم , فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم : سلام عليكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 11416 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال : يعرفون أهل النار بسواد الوجوه , وأهل الجنة ببياض الوجوه . 11417 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال : أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار , وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه , ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين , وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام , لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها , وهم داخلوها إن شاء الله . 11418 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { بسيماهم } قال : بسواد الوجوه وزرقة العيون . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون , وسيما أهل الجنة مبيضة وجوههم . * حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو بن عون , قال : ثنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوهم ببياض الوجوه , وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه . 11419 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن جويبر , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام , وكان حسم أمرهم لله , فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه , ف { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه , فذلك قوله : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } 11420 - حدثنا عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , قال : ثنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك , في قوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب أصابوا ذنوبا ; وكان حسم أمرهم لله , فجعلهم الله على الأعراف , فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه , فتعوذوا بالله من النار ; وإذا نظروا إلى أهل الجنة , نادوهم أن سلام عليكم , قال الله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : وهذا قول ابن عباس . 11421 - حدثني محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { يعرفون كلا بسيماهم } يعرفون الناس بسيماهم , يعرفون أهل النار بسواد وجوههم , وأهل الجنة ببياض وجوههم . 11422 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { يعرفون كلا بسيماهم } يعرفون أهل النار بسواد وجوههم , وأهل الجنة ببياض وجوههم . 11423 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال : أهل الجنة بسيماهم بيض الوجوه , وأهل النار بسيماهم سود الوجوه . قال : وقوله { يعرفون كلا بسيماهم } قال : أصحاب الجنة وأصحاب النار , ونادوا أصحاب الجنة , قال : حين رأوا وجوههم قد ابيضت. 11424 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا المحاربي , عن جويبر , عن الضحاك : { يعرفون كلا بسيماهم } قال : بسواد الوجوه. 11425 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن يمان , عن مبارك , عن الحسن : { بسيماهم } قال : بسواد الوجوه , وزرقة العيون . والسيماء : العلامة الدالة على الشيء في كلام العرب , وأصله من السمة نقلت واوها التي هي فاء الفعل إلى موضع العين , كما يقال : اضمحل وامضحل . وذكر سماعا عن بعض بني عقيل , : هي أرض خامة , يعني : وخمة ; ومنه قولهم : له جاه عند الناس , بمعنى : وجه , نقلت واوه إلى موضع عين الفعل وفيها لغات ثلاث : " سيما مقصورة " , و " سيماء " ممدودة , و " سيمياء " بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها ومدها على مثال الكبرياء , كما قال الشاعر : غلام رماه الله بالحسن إذ رمى له سيمياء لا تشق على البصر
ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون
وأما قوله : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } أي حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه . واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } فقال بعضهم : هذا خبر من الله عن أهل الأعراف أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف , غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها . ذكر من قال ذلك : 11426 - حدثني محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن مفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : أهل الأعراف يعرفون الناس , فإذا مروا عليهم بزمرة يذهب بها إلى الجنة قالوا : سلام عليكم ! يقول الله لأهل الأعراف : { لم يدخلوها وهم يطمعون } أن يدخلوها. 11427 - حدثني محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , قال : تلا الحسن : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. 11428 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : أنبأكم الله بمكانهم من الطمع . 11429 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن أبي بكر الهذلي , قال : قال سعيد بن جبير , وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود , قال : أما أصحاب الأعراف , فإن النور كان في أيديهم فانتزع من أيديهم ; يقول الله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : في دخولها . قال ابن عباس : فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة . 11430 - حدثني الحارث , قال : ثنا عبد العزيز , قال : ثنا إسرائيل , عن جابر , عن عكرمة وعطاء : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قالا : في دخولها . وقال آخرون : إنما عني بذلك أهل الجنة , وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة : سلام عليكم , وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها , ولم يدخلوها بعد . ذكر من قال ذلك : 11431 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا وكيع , قال : ثنا جرير , عن سليمان التيمي , عن أبي مجلز : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : الملائكة يعرفون الفريقين جميعا بسيماهم , وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة أصحاب الأعراف , ينادون أصحاب الجنة : أن سلام عليكم ! لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها
الاستنباطات المفتراة من عند أنفسنا
بناءً على ما جاءنا في هذا "التفسير العظيم"، فإننا نجلب انتباه القارئ إلى النقاط التالية التي نظن أنها جوهرية في هذا النقاش، وهي:
أولا، أجمع أهل الدراية من سادتنا العلماء أن الأعراف هو حاجز بين الجنة والنار " وبين الجنة والنار حجاب , يقول : حاجز , وهو السور الذي ذكره الله تعالى فقال : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } "
ثانيا، أن الرجال على الأعراف هم من حبستهم ذنوبهم عن دخول الجنة ومنعتهم حسناتهم عن دخول الجنة، فهم ينتظرون رحمة ربهم "إن الأعراف تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار"
ثالثا، ذكر بعض أهل الدراية من غريب القول أن الرجال الذين على الأعراف هم "قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم , فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار , ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة"
رابعا، ذكر بعض أهل الدراية من غريب القول أن الرجال الذين على الأعراف: "هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار"
خامسا، انتهى الأمر إلى إسناد الكلام إلى حديث مروي عن النبي محمد هذا نصه كما ورد في نهاية كلام أهل التأويل في هذا التفسير العظيم: ""سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف , فقال : " هم آخر من يفصل بينهم من العباد , وإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد , قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلكم الجنة , وأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم "
سادسا، غنى عبدالحليم حافظ (ربما في سبعينيات القرن الماضي) من قصائد نزار قباني "لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار"، فثارت ثائرة أهل الدراية من سادتنا العلماء في زمانه، فخرجت الفتاوى التي تكفر عبد الحليم وسيده نزار قباني من كل حدب وصوب، وكان ظن أهل العلم أن هؤلاء "المارقين" من أهل الطرب واللهو قد كفروا "بالأعراف". ومن أراد المجادلة فليرجع إلى ما دار من جدال حينئذ حول هذه القضية بين "الكافرين التابعين لعبد الحليم ونزار و "المؤمنين" وهم من صُكّت لهم مفاتيح الجنان والفردوس الأعلى فحفظوها في جيوبهم وأخذوا يفتحون أبوابها الثمانية لمن يشاءون ويغلقونها في وجه من أرادوا. وأنا مالي؟!!!
لكن، يبقى التساؤل قائما: هل هذه هي حقيقة الأعراف؟ وهل هذا هو "فقه الحديث" الذي نطلبه جاهدين من الآيات الكريمة التي تتحدث عن الأعراف:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
رأينا المفترى:
أولا، ظن كثير من أهل الدراية من سادتنا العلماء بأن الأعراف عبارة عن حاجز أو حجاب بين الجنة والنار، الأمر الذي يدفعنا على الفور إلى طرح تساؤلنا التالي: ألا تتحدث الآية الكريمة نفسها عن وجود حجاب وعن وجود أعراف في الوقت نفسه. فانظر – إن شئت- في الآية الكريمة نفسها:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
فكيف يمكن أن يكون الأعراف (نحن نسأل) حجاب وفي الوقت ذاته هناك حجاب وهناك أعراف في الآية الكريمة نفسها؟ ألا يدل ذلك أن هناك حجاب وهناك أعراف؟ ألا يدل ذلك على أعلى درجات القصور في فقه الحديث؟ ألم يكن الأجدر بعلماء الأمة أن يطرحوا التساؤل التالي: ما الفرق بين الحجاب والأعراف اللذان وردا في الآية الكريمة نفسه؟
ثانيا، إذا كان الأعراف حاجزا يشبه عرف الديك (كما ظن الكثيرون منهم)، فكيف سيكون عليه رجال؟ وما بال النساء؟ أم هل الأمر في استواء الحسنات والسيئات مقتصرة فقط على الرجال؟ فلم لا يكون على الأعراف نساء كما عليه رجال؟ من يدري؟!
ثالثا، من الذين يعرفون بسيماهم؟ هل رجال الأعراف أنفسهم أم الذين ينادي عليهم رجال الأعراف؟ انظر الآية جيدا:
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
أليس المعروفون بسيماهم هم المنادى عليهم (رِجَالاً)؟ فكيف بأهل العلم يتحدثون أن من يعرفون بسيماهم هم رجال الأعراف أنفسهم؟ ألا يدل ذلك على أعلى درجات القصور في فقه الحديث؟ انظر التفسير السابق.
رابعا: من الذي لم يُغْني عنهم جمعهم وما كانوا يستكبرون؟ هل هم رجال الأعراف أنفسهم أم الذين ينادي عليهم رجال الأعراف؟
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
فكيف إذن يظن أكثر أهل العلم أن من لم يُغْني عنهم جمعهم هم أصحاب الأعراف أنفسهم؟ أليس هم المنادى عليهم من الرجال الذين يعرفونهم أصحابُ الأعراف؟ ألا يدل ذلك على أقصى درجات القصور في فقه الحديث؟
خامسا: من الذي يعرف من؟ أليس رجال الأعراف هم من يعرفون كل الآخرين بسيماهم؟
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
السؤال: لماذا يعرف رجال الأعراف كلا (أي كل الآخرين) بسيماهم؟ فما هي مهمة رجال الأعراف إذن؟ أليست هي إذن التعرف على الآخرين؟
جواب: نحن نظن أن على الأعراف رجال  (وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ) مهمتهم أن يتعرفوا على الآخرين من الرجال الذين ينادون عليهم (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً)، وذلك لأن رجال الأعراف يعرفون هؤلاء القادمين عليهم من بعيد بسيماهم (يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ)، فتتم المناداة عليهم من بعيد. فمن هم إذن رجالُ (أو أصحابُ) الأعراف؟
(دعاء: اللهم رب العرش العظيم أسألك بأسمائك الحسنى وكلماتك التامة أن أكون من أصحاب الأعراف – أمين)
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن رجال الأعراف هم (نحن نفتري القول) الشهداء على الناس، قال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
نتيجة مفتراة: فالله هو من يتخذ منا شهداء لنكون شهداء على الناس، أليس كذلك؟
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون ممن اتخذتهم شهداء على الناس – آمين)
ولعل أغرب ما في الأمر أن أهل الدراية قد نقلوا مفردة الشهيد من معناها القرآني الحقيقي وهي (نحن نظن) الشهادة على الآخرين كما جاء في السياقات القرآنية العديدة:
 وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ ۖ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا ۚ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا ۖ فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
إلى معنى القتل في سبيل الله، بالرغم أن الأمرين واضحان تماما في النص القرآني:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
نتيجة مفتراة 1: الشهداء هم الذين يشهدون على الآخرين
نتيجة مفتراة 2: من قتل في سبيل الله لا يسمى شهيدا وإنما يسمى "مقتول في سبيل الله" وكفى.
السؤال: هل هذا فقه حديث؟
رأينا: صحيح أن أهل الدراية من سادتنا العلماء يعرفون مفردة الأعراف جيدا، لذا فهم يفقهون بذلك القول منها، لكنهم عندما أخفقوا في فهمها فهما قرآنيا (أي كما أرادها الله في كتابه الكريم)، فهم بذلك لم يفقهوا الحديث منها. فأهل الأعراف هم مجموعة من الرجال يقفون على منصة مرتفعة، مهمتهم الأساسية التعرف على القادمين إليهم من بعيد من الرجال، وهم من عندهم المقدرة على معرفة كل القادمين إليهم بسيماهم، ولا أظن أن من يستطيع أن يعرف الآخرين بسيماهم يقل في القدرة على الشهادة عن من جاءت الآية الكريمة التالية بحقه:
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
فمحمد (كرجل) هو شهيد على الناس لأنه يستطيع أن يعرف الرجال الآخرين بسيماهم كما كان يستطيع أن يعرفهم في لحن القول. لذا عندما يكون محمد الرجل (كواحد من أصحاب الأعراف - وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ) واقفا هناك يستطيع التعرف علينا، وذلك لسبب بسيط وهو ما هو واضح بسيمانا:
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وهذه المهمة لا تقتصر على محمد فقط، وإنما على كل من كان من الرجال من أصحاب الأعراف:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
ومهمتهم الرئيسية حينئذ هي التعرف على الرجال الآخرين:
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
والوسيلة هي هذه "السيما" الفارقة الواضحة في وجه الرجال القادمين من بعيد التي لا تكون فقط للمؤمنين وإنما للمجرمين أيضا:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
ومهمة التعرف لا تقتصر فقط على الأنبياء والرسل وإنما على كل من اتخذه الله شهيدا:
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
نتيجة مفتراة: عندما يتخذ الله الرسول شهيدا علينا، ويتخذ منا شهداء على الناس، تكون مهمة هؤلاء الشهداء هي التعرف على كل الرجال القادمين إليهم، فنحن نتخيل أصحاب الأعراف ويكأنهم واقفين على منصة تسمى (نحن نظن) الأعراف (من التعرف) لينظروا إلى القادمين من بعيد، وما أن يرونهم بأم أعينهم حتى يستطيعوا أن يميزوا المؤمن منهم من المجرم، وتكون الآلية هي "سيماهم"، فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا.
عودة إلى قصة يأجوج ومأجوج؟
دعنا نعود إلى قصة القوم الذين وجدهم ذو القرنين دون السد وهم لا يكادون يفقهون قولا بالفهم المفترى التالي: عندما تجد إنسان لا يفقه قولا، فهو لا يعرف المفردات نفسها، فأنت (كعربي اللسان) لا تفقه قولا صينيا (إذا لم تكن تعرف ذلك اللسان)، فإن نطق أحد أهل اللغة الصينية ببعض المفردات على مسامعك، فأنت لا شك لا تستطيع أن تعرف أيا منها نطق بها هذا الرجل، فلا تستطيع أن تميز المفردات الصينية بعضها من بعض مادام أنك لا تعرف اللسان الصيني. ومادام أنك لا تفقه القول الصيني فأنت بكل تأكيد لا تستطيع أن تفقه حديثه (أي مراد قوله)، فلو قال لك شخص ما باللغة الصينية "أعطني عشرة دولارات" فإنك لن تعمد على الفور إلى محفظتك لتخرج له النقود، ولن ترد عليه بالقول بأني لا أملك النقود أو أني لا أريد أن أعطيك فاعذرني، وهكذا. والسبب في ذلك هو (نحن نظن) أنك أخفقت في فقه القول بداية مادام أنك لا تعرف اللسان الصيني أساسا. وستكون ردك فعلك على قوله لمن حولك هو "ماذا يقول هذا الشخص؟"
ولكن بالمقابل، لو قال لك زميلك الذي يتحدث لسانك وتتحدث لسانه "أعطني عشرة دولارات"، لفقهت قوله على الفور، ولأدركت أن الحديث عن النقود وعن إعطاء النقود، وهكذا. ولكن بالرغم من فقهك لقوله هذا، فسيكون ردك عليه متماشيا بالضبط مع ما فقهت من حديثه (وليس من قوله)، فإذا علمت أنه شخص انتهازي وهو عادة ما يطلب ذلك من الناس، فربما تعتذر له على الفور بالقول "أسف، لا أملك النقود"، وربما تضطر للكذب لتخرج نفسك من هذه الورطة، وربما يأتي ردك عليه بالقول "متى ستعيدها لي"، وربما تقول له "اسأل عليا فهو من يقرضك عادة" ، وهكذا. إن مراد القول أن مفردات العبارة لن تصعب عليك، ولكن فقه الحديث قد يخونك بعض الشيء.
السؤال: كيف كان القوم الذين وجدهم ذو القرنين لا يفقهون قولا؟
جواب مفترى: لأنهم ببساطة لا يستطيعون أن يفهموا قول أحد، لأنهم ليسوا من الذين يتخاطبون بالقول:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
السؤال: إذا كانوا لا يكادون يفقهون قولا، فكيف جرى الخطاب بينهم من جهة وذي القرنين من جهة أخرى؟
رأينا: هم لم يفقهوا قول ذي القرنين ولكن ذو القرنين كان هو من فقه قولهم، فجرى الخطاب (نحن نظن) بقولهم وليس بقول ذي القرنين، فاللغة التي استخدمت في الخطاب بين الطرفين هي لغتهم وليس لغة ذي القرنين.
السؤال: كيف حصل ذلك؟
جواب: لأن الله كان قد آتى ذا القرنين من كل شيء سببا:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
فمادام أن ذا القرنين قد أوتي من كل شيء سببا فهو (نحن نظن) يعرف الطريق إلى كل شيء بما فيها كيفية مخاطبة الأقوام الأخرى كافة.
الدليل
الفرق بين ملك سليمان وملك ذي القرنين
لو تفقدنا الآية الكريمة التالية الخاصة بسليمان لوجدنا الفصل واضحا بين شيئين اثنين وهما: منطق الطير والإتيان من كل شيء:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ولو ربطنا ما جاء في هذه الآية الكريمة مع ما أوتي ذي القرنين لوجدنا علامة فارقة جدا:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
لتكون المقارنة على النحو التالي:
  1. سليمان أوتي من كل شيء
  2. ذو القرنين أوتي من كل شيء سببا
نتيجة مفتراة: لما لم يؤتى سليمان من كل شيء سببا، لذا جاء تعليمه منطق الطير منفصلا (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ)، ولكن ذو القرنين لم يكن بحاجة إلى ذلك مادام أنه قد أوتي من كل شيء سببا. وهذا يدلنا على واحدة من الفروقات بين ملك سليمان وما كان من التمكين لذي القرنين.
ثانيا، نحن نعلم من صريح اللفظ القرآني أن سليمان قد دعا ربه أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
ولكن الملفت للانتباه هو أن سليمان لم يسأل ربه ملكا لم يكن لأحد من قبله، ليكون السؤال هو: لماذا؟
جواب: لأن سليمان يعلم تماما ما كان من ملك ذي القرنين من ذي قبل، فسليمان لم يطلب ملكا أعظم من ملك ذي القرنين لأن ذا القرنين قد سبقه إلى ذلك:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
فما الذي سيسبق سليمان إليه مادام أن الله قد آتى ذا القرنين من قبل من كل شيء سببا؟ فحد الملك الأقصى هو ما كان لذي القرنين، لذا جاءت دعوة سليمان بملك لا ينبغي لأحد من بعده:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
مثال: لا شك أن هناك الكثيرون الذين سبقونا إلى العلم، وما محمد إلا خير مثال على ذلك، فهل سيكون لنا علم أعظم مما كان لمحمد مثلا؟
رأينا: كلا وألف كلا، فالله قد آتى رسله علما وحكما، فسبق كل منهم إلى نوع من العلم لم يسبق إليه غيره، فإبراهيم اختصه الله بحكم وعلما، وكذلك كان موسى ويوسف ولوطا، وكذلك كان محمد.
منطقنا المفترى: مادام أن الله قد آتى إبراهيم مثلا حكما وعلما، فهل نستطيع أن نحصل على علم أعظم من علم إبراهيم نفسه؟
جواب: كلا، وألف كلا.
منطقنا المفترى: مادام أن الله قد آتى يوسف مثلا حكما وعلما، فهل نستطيع أن نحصل على علم أعظم من علم يوسف نفسه؟
جواب: كلا، وألف كلا.
منطقنا المفترى: مادام أن الله قد آتى موسى مثلا حكما وعلما، فهل نستطيع أن نحصل على علم أعظم من علم موسى نفسه؟
جواب: كلا، وألف كلا.
السؤال: ما الذي يمكن أن نطلبه من ربنا إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أننا نستطيع أن نطلب من ربنا واحدة من اثنتين أو كليهما:
  1. أن يعلمنا ما كان من علم إبراهيم ويوسف وموسى وغيرهم
  2. أن يؤتينا علما جديدا لا ينبغي لأحد من بعدنا فنكون نحن من سبقنا غيرنا إليه
(دعاء: اللهم أسألك أن تعلمني ما كان من علم من سبقونا كما أدعوك وحدك أن تعلمني علما لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت العليم الحكيم – آمين).
عودة على ذي بدء
عندما دعا سليمان ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
كانت النتيجة على النحو التالي:
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
لذا كان ملك سليمان هذا مختلفا في طبيعته وحجمه مقارنة بما كان لذي القرنين. فإذا كانت الريح تجري بسليمان رواحها شهر وغدوها شهر ليبلغ الأرض التي باركنا فيها، فقد وصل ذو القرنين مغرب الشمس وقد بلغ مغربها. وإذا كانت الكرة الأرضية قد طويت لـ سليمان كلها، فقد نفذ ذو القرنين من أقطار السموات فبلغ ملكه الأرض (بين السدين) ومغرب الشمس ومطلعها، أي لقد حكم ذو القرنين حدود الشمس. لكن هل الحجم هو فقط الاختلاف بين حكم الاثنين؟
التساؤل القائم: إذا كان الله قد سخر لسليمان الجن والشياطين (كل بناء وغواص منهم)، وآخرين مقرنين في الأصفاد:
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
وأن الجن كلهم قد خضعوا لملك سليمان، بدليل أنهم قد تنفسوا الصعداء بموته:
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
فهل سخر الله الشياطين (والجن قاطبة) لذي القرنين؟
وإذا كان قد حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
فهل حشر مثل ذلك لذي القرنين؟ لم لا يذكر القرآن شيئا كهذا عن ذي القرنين؟ ثم من هم الذين كانوا برفقه ذي القرنين على الدوام؟ فمن هم مثلا الذين طلبوا منه أن يعذب أو أن يتخذ حسنا بالقوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس؟
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
رأينا المفترى: نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) بأن القرآن الكريم لا يذكر أن الله قد سخر لذي القرنين (كما كان لسليمان) الجن والشياطين لأن ذا القرنين نفسه كان من الجن، فهو ليس من الإنس. ليكون السؤال الآن: من هو ذو القرنين هذا؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من طرح تساؤل آخر نظن أن له علاقة مباشرة بالإجابة عن التساؤل السابق، والتساؤل الجديد هو: لماذا سمي بذي القرنين أصلا؟ فلقد ابتدأت قصته في كتاب الله بالآية الكريمة التالية:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)
فهل نعرف لم جاء ذكر بطلنا هذا بهذا الوصف الذي صدقه الوصف الإلهي "ذِي الْقَرْنَيْنِ" له؟
هذا ما سنبدأ به النقاش بحول الله وتوفيقه في الجزء القادم من هذه المقالة. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما، وأن ينفذ قوله ومشيئته له بحكم وعلم لا ينبغي لأحد من بعدي إنه هو العليم الحكيم – آمين.
المدّكرون:         رشيد الجراح                           &                 علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح