قصة يوسف 25: اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا (2)





قصة يوسف 25: اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا (2)



سنتابع في هذا الجزء الجديد من المقالة نفسها حديثنا المفترى من عند أنفسنا عن قصة قميص يوسف، لنطرح التساؤل التالي: أين ذهب قميص يوسف هذا الذي ألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا؟

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا

رأينا المفترى من عند أنفسنا: لما كان هذا القميص (نحن نظن) هو جزء من الإرث النبوي الذي وصل إلى يوسف عن طريق والده يعقوب الذي احتفظ به من عند والده إسحق الذي ورثه من أبيه إبراهيم الذي ألبسه الله إياه يوم أخرجه من النار ليواري به سوءته بعد أن التهمت النار لباسه الذي كان يغطي سوءته عندما ألقاه القوم في النار، ما كان من وصله هذا الإرث العظيم ليفرط فيه، وذلك لأن مصدره هو ذلك اللباس نفسه الذي استطاع الشيطان أن ينزعه عن أبوينا في الجنة، فأخرهما مما كانا فيه:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)

وقد افترينا الظن في الجزء السابق أن اللباس الذي نزعه عنهما كان جزءا مما كانا فيه:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)  

فاضطرا للهبوط منها، مادام أن الحاجة قد أصبحت ملحة لهما للتغوط (العري) والتبول (التضحى)، لأن حياتهما في الجنة كانت لا تتطلب ذلك إطلاقا قبل الوقوع في المعصية:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)

(للتفصيل انظر الجزء السابق)

السؤال: أين ذهب ذلك اللباس (القميص) إذن بعد يوسف؟

عند محاولتنا الإجابة على هذا التساؤل وطرح تصور أشمل لأحداث القصة نفسها ينسجم مع القص القرآني في مواطن أخرى، وجدنا أن الحاجة ملحّة لطرح التساؤل التالي أيضا: هل كان اللباس (القميص) هو فقط ما خرج به إبراهيم من النار بعد أن ألقاه القوم فيها؟

رأينا المفترى: حاولنا افتراء القول من عند أنفسنا في مقالة سابقة لنا (لماذا قدم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟ الجزء الثالث عشر) بأن إبراهيم قد خرج من النار بشيئين اثنين وهما:

1.     القميص (أي اللباس) الذي ستر الله به عورة إبراهيم

2.     العصا التي مكنته من الخروج من ذلك الجحيم سالما دون أذى

الدليل

لو دققنا في السياقات القرآنية الخاصة بقصة إلقاء إبراهيم في النار، لوجدنا القوم يلقون به في الجحيم من فوق بنيان مرتفع جدا:

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

فكانت الضرورة تستدعي أن يُلقى بإبراهيم من مكان مرتفع، بعيد عن ألسنة اللهب حتى لا تصيب من أَلقى إبراهيم في النار بأذى (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)، فمن قام بفعل إلقاء إبراهيم من القوم من فوق ذلك البنيان لابد أنه كان بمأمن من النار نفسها. وقد حاولنا في الجزء الثالث عشر من تلك المقالة أن نطرح التساؤلات التالية الخاصة بإلقاء إبراهيم في النار:

1.     كيف تم إلقاء إبراهيم في النار؟

2.     كيف نجا إبراهيم من السنة اللهب؟

3.     كيف خرج إبراهيم منها سالما دون أن ينكسر له عظم مادام أنه قد ألقي من فوق بنيان؟

وبعد محاولتنا تدبر ما جاء في كتاب الله حول كيفية إلقاء إبراهيم في النار من الآية الكريمة التالية:

          قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

وجدنا أنه بإمكاننا تصوير المشهد على النحو التالي:

-         أن القوم قد قاموا ببناء بنيان خاص ليتم إلقاء إبراهيم من فوقه في الجحيم (ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا)، فالبنيان لم يكن أساسا موجودا ولكن تم تجهيزه لتلك الغاية فقط.

-         أن عملية الإلقاء قد تمت بشكل قوسي من الأعلى إلى الأسفل لأنها حركة إلقاء كحركة إلقاء السحرة عصيهم وحبالهم مثلا، الخ. فمن يلقى من فوق بنيان مرتفع إلى أسفل (كالجحيم) لا ينزل بشكل مستقيم، ولكن بشكل قوسي يتناسب طردياً مع ارتفاع البنيان، فكلما ارتفع البنيان زادت المسافة التي سيحط بها الجسم الملقى من فوقه إلى الأسفل، فيبتعد الجسم الملقى من فوق البنيان عن البنيان نفسه بمقدار ارتفاع البنيان فوق الأرض كما في الشكل التالي:





وربما يدلّنا هذا – حسب منطقنا المفترى من عند أنفسنا- بأن البنيان الذي بنوه لإبراهيم لم يكن ملاصقاً للجحيم التي سيلقونها بها، وفي هذا تصور طبيعي لأن النار ستكون في تلك اللحظة مشتعلة، فمن البديهي إذن أن يكون البنيان الذي سيلقون بإبراهيم من فوقه بعيداً عن ألسنة اللهب، لأن نفرا من القوم سيكونوا متواجدين فوق البنيان ليقوموا هم بأنفسهم بإلقاء إبراهيم في الجحيم (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)، إذن لابد أنهم قد حسبوا الأمر بطريقة رياضية صحيحة تجعلهم أنفسهم في مأمن من ألسنة اللهب المتطاير (النار)، وربما يرشدنا هذا إلى الظن بأن البنيان كان مرتفعا جداً ليحط إبراهيم في سواء الجحيم، لأن الآية الكريمة نفسها تدلنا أيضا بأنه كان من المفترض أن يحط إبراهيم في الجحيم:

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

ونحن نتصور (ربما مخطئين) بأن الجحيم هو مكان منخفض تشتعل في داخله النار، فالجحيم – في تصورنا- هو وعاء النار، ولكن لابد أن يكون مكانا منخفضا كالحفرة (أو الوادي)، بدليل أن من أراد أن ينظر فيه فعليه أن يطّلع اطلاعا:

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ                                                         الصافات (55)

وليس أدل على انخفاض الجحيم مما جاء في قوله تعالى:

إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ                                                   الصافات (64)

وهنا ربما تأتي المفارقة التي نود أن نجلب انتباه القارئ الكريم لها، وهي أن الأمر الإلهي قد صدر للنار بأن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم نفسه:

          قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ                                           الأنبياء (69)


فسلم إبراهيم من النار بأمر ربها، ولكن ألا ترى – عزيزي القارئ- بأنه لم يصدر أمر إلهي مماثل للجحيم؟ فكيف إذن حطّ إبراهيم من أعلى البنيان إلى الجحيم كل هذا المسافة الشاهقة جدا ولم يصب بأذى؟ نحن نسأل.

تخيلات: نحن نتخيل أن القوم قاموا بتشييد بناء مرتفع جداً يلقوا بإبراهيم من فوقه، وقاموا – في الوقت ذاته- بحفر ما يشبه الوادي (أو أن ذلك الواد كان أصلاً موجودا في جغرافية المنطقة ذاتها) ليكون هو الجحيم الذي سيستقر فيه إبراهيم بعد أن يلقوه فيه من فوق البنيان الذي بنوه على شفا تلك الحفرة، وقاموا بإشعال نار عظيمة في ذلك الوادي (الجحيم) أو أنها أصلاً كانت مشتعلة على الدوام هناك (كأن تكون بركاناً نارياً مثلاً)، وحملوا إبراهيم إلى أعلى البنيان، وألقوا به من أعلى البنيان إلى سواء الجحيم.

إذا كان هذا هو فعلا ما حدث، ألا يحق لنا إذن أن نطرح التساؤلات التالية:

1.     كيف خرج إبراهيم من الجحيم؟

2.     ألم يصب إبراهيم بأذى بسبب إلقاءه من فوق ذلك المكان المرتفع (البنيان) إلى ذلك المكان المنخفض (الجحيم)؟ ألم تتكسر بعض عظام إبراهيم بسبب ذلك السقوط؟ ألم يتأذى جسم إبراهيم بسب الإلقاء من الأعلى إلى أسفل؟

3.     كيف استطاع إبراهيم أن يخرج من تلك الحفرة (الجحيم) التي سقط بها؟

إن أحد التساؤلات الرئيسة التي حاولنا الخوض فيها في ذلك الجزء من المقالة ونود أن نجلب انتباه القارئ لها في هذا الجزء من المقالة الجديدة هو: ماذا حل بإبراهيم نتيجة سقوطه من فوق البناء (المرتفع) في سواء الجحيم (المنخفض)؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأن إبراهيم لم يصب بأذى نتيجة ذلك السقوط (الإلقاء) بسبب العصا، التي ساعدته في سقوطه من الأعلى إلى أسفل ومن ثم في خروجه من الجحيم الذي أُلقي فيه سالما دون أذى.

إن صح هذا الافتراء، فإننا مدينون للقارئ الكريم بالإجابة على التساؤلات التالية:

-         أين الدليل على هذه التخريصات المفتراة من عند أنفسنا؟

-         من أين جاءت تلك العصا؟

-         ماذا كانت الآلية التي تعمل بها تلك العصا حتى ساعدت إبراهيم في سقوطه من أعلى إلى أسفل؟

-         أين ذهبت تلك العصا؟

-         الخ.


حاولنا في ذلك الجزء من المقالة أن نربط قصة إبراهيم هذه بقصة العصا التي جاء خبرها مفصلا في قصة موسى، والتي تطرقنا لها بشيء من التفصيل في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: باب السامري 1 وباب السامري 2. وقد كان الافتراء الأكبر الذي حاولنا تسويقه حينئذ هو أن العصا التي كانت بيمين موسى هي نفسها تلك العصا التي ساعدت إبراهيم للخروج من النار التي ألقي فيها، فمكنته من الخروج من الجحيم سالما. وقد استنبطنا الدليل على ذلك (ربما مخطئين) من السياق القرآني التالي:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)                             طه

وقد كانت نتيجة محاولتنا تدبر هذا السياق القرآني هو تقديم الافتراء التالي: لم يكن موسى هو أول من امتلك تلك العصا، وذلك لأن الله قد تعهد بنفسه بأن يعيد تلك العصا نفسها سيرتها الأولى:

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)

ليكون السؤال الذي طرح على الفور هو: ما هي سيرة تلك العصا الأولى التي تعهد الله لموسى بأن يعيدها؟

وقد دعانا طرح هذا السؤال إلى طرح سؤال آخر ربما لا يقل أهمية عن سابقه وهو: لم جعل الله سر "قوة" موسى (إن صح القول) في عصا يحملها الرجل معه بيمينه؟

جواب مفترى: إننا نظن أنه لولا أن تلك العصا ذات دلالة "وسيرة" عظيمة سابقة، وأنها مهمة بذاتها، لما كانت جل "قوة" موسى متركزة في تلك العصا، فالله - من حيث المبدأ- يستطيع أن يؤيد موسى في قصته مع فرعون بطرق أخرى كثيرة ومتعددة، والله – من حيث المبدأ- يستطيع أن يؤيد موسى ليقهر السحرة بطريق أخرى كثيرة ومتعددة، والله – من حيث المبدأ- يستطيع أن يشق البحر لموسى بوسيلة غير العصا، والله – من حيث المبدأ– قادر على أن يفلق الحجر لتنفجر منه عيون الماء لموسى وقومه بوسيلة أخرى، وهكذا. أليس الله على كل شيء قدير؟

لكن، لماذا – نحن نسأل- قضت مشيئت الله أن تتم كل تلك الأمور باستخدام العصا؟ أليس في ذلك سر عظيم ربما يكمن في تلك العصا بذاتها؟

افتراء خطير جدا: نحن لا شك نفتري الظن من عند أنفسنا بأن تلك العصا كانت ذات قيمة، وأنها لم تصل إلى موسى عن طريق الصدفة، ولكنها وصلت إليه كحق مكتسب لأنها – في ظننا- جزء من ميراث النبوة، بدليل أن موسى قد نسب ملكيتها لنفسه عندما سأله الله عنها:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)

(للتفصيل انظر سلسة مقالاتنا تحت عنوان: قصة موسى)

عندها طلب الله منه أن يلقيها، فرأى موسى ما أودع الله في تلك العصا من "قوة" عجيبة، وطلب منه أن يأخذها ليعيدها سيرتها الأولى:

          قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)

لذا ظننا أن باستطاعتنا الخروج بالاستنباط المفترى التالي: إن سيرة تلك العصا لم تبدأ عند موسى ولكنها بدأت من قبل ذلك. عندها كان لابد من طرح التساؤلات التالية:

-         من أين جاءت عصا موسى؟

-         كيف وصلت تلك العصا إلى موسى؟

-         ما هو مصدر تلك العصا؟

-         ما هي سيرتها الأولى التي تعهد أن بنفسه أن يعيدها؟

-         الخ.

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن مفترين القول من عند أنفسنا بأن عصا موسى التي كانت بيده في الواد المقدس يوم أن لقي ربه هناك هي نفسها التي استخدمها إبراهيم للخروج من الجحيم بعد أن ألقاه القوم فيها من فوق البنيان.

الدليل

من أجل جلب الدليل على مثل هذا الافتراء الخطير جدا كان لابد من طرح تساؤل آخر لا يقل أهمية عن سابقه وهو: كيف كان يتنقل إبراهيم من مكان إلى مكان آخر بعد أن أصبح شيخا كبيرا؟

رأينا: ربما يستطيع المتدبر للسياقات القرآنية الخاصة بإبراهيم أن يجد أن إبراهيم كان يستطيع الانتقال من الأرض التي باركنا فيها للعالمين حيث تتواجد امرأته سارة مع طفلها إسحق والبيت الحرام ببكة حيت تتواجد امرأته هاجر مع طفلها إسماعيل بكل يسر وسهوله. كما قد يجد بأن إبراهيم قد كان دائم الترحال بين المكانين:

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

السؤال: أليست المسافة بين المكانين كبيرة جداً؟ ألم يكن إبراهيم قد بلغ سن الشيخوخة؟ ألم تأتي الهبة الربانية لإبراهيم بإسماعيل وإسحق أصلا على الكبر؟

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)

السؤال المربك لنا: كيف كان يستطيع إبراهيم إذن تحمل أعباء السفر (إن كان تقليديا) بين المكانين بالرغم من البعد الجغرافي بينهما وبالرغم من تقدمه في السن؟

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نظن أن إبراهيم كان يستطيع التنقل بين المكانين بسرعة كبيرة جدا ربما لا تقل عن السرعة التي انتقل فيها محمد في ليلة الإسراء من مكة عند البيت الحرام إلى المسجد الأقصى في الأرض التي باركنا فيها في ليلة واحدة:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ                                                الإسراء  (1)

فانتقال محمد بين المكانين في ليلة واحدة (نحن نتخيل) تشكل – في رأينا- أنموذجاً عملياً لما كان يستطيع إبراهيم القيام به في انتقاله بين المكانين ذاتهما، فمحمد كان قد أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة، وكذا – نحن نفتري القول- كان انتقال إبراهيم بين المكانين. لكن هذا الطرح يثير التساؤل التالي على الفور: ماذا كانت واسطة (الأداة) التنقل التي استخدمها إبراهيم ومحمد في انتقالهما بين المكانين؟

الرأي السائد: غالباً ما حاول أهل الفكر الديني من سادتنا العلماء أهل الدراية تسويق فكرة أن النبي محمد قد امتطى ما يسمونه "البراق" في رحلته تلك، وأخذ أهل الرواية من كلام أهل الدراية هذا مجدهم في تقديم تصوراتهم لذاك "الكائن العجيب"، فيصورونه تارة ويكأنه دابة أو حيوان، ويصورونه تارة أخرى ويكأنه كائن أسطوري بأجنحة عملاقة تطوي الأرض بزمن يصعب على العقل البشري تدبره، حتى ذهب أكثرهم إلى الظن بأن ذلك الكائن قد كان هو الوسيلة نفسها التي عرج بها محمد إلى السموات العلى. من يدري؟!!!

رأينا البديل المفترى من عند أنفسنا: بعيداً عن جدلية التسميات (سمّه براقاً أو ما شئت) فإني أعتقد جازماً أن القرآن الكريم قد أثبت الواسطة باستخدام حرف الجر الباء المصاحب للفعل أَسْرَى الذي جاء فيه قول الحق "أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ"، لكنه في الوقت ذاته لم يذكر صراحة اسم تلك الوسيلة على وجه التحديد. والدليل لدينا هو وجود حرف الجر بـ الذي يدل على استخدام الواسطة "أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ"، لذا نحن نرى وجاهة أن نسوق الظن التالي: لقد استخدم محمد في رحلة تلك واسطة للتنقل، ولكن ما هي؟

رأينا المفترى: لما كان إبراهيم يحتاج إلى تنفيذ ما يحتاج إليه كان يستخدم تلك العصا نفسها التي استخدمها للخروج من الجحيم الذي ألقي فيه دون أن يصيبه أذى، وهي نفسها التي كان يستخدمها كلما كان يريد أن ينتقل من مكان إلى مكان. وهذا بالضبط ما نفهمه من الآية الكريمة التي جاءت تصور لنا التعهد الإلهي بأن يعيد تلك العصا سيرتها الأولى على يد موسى:

          قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)

لذا، لما كان موسى بحاجة أن يشق البحر استخدم العصا، ولما كان يحتاج أن يستسقي لقومه استخدم العصا في ضرب الحجر فانبجست منه عيون الماء، ولما كان بحاجة أن يقهر السحرة وكذبهم استخدم تلك العصا. لذا نحن نظن أن تلك العصا كانت هي الأداة التي كانت تمكن موسى من فعل كل ما كان يحتاج إلى فعله.

السؤال: من أين جاءت العصا لإبراهيم؟ وكيف وصلت إليه؟

رأينا: لو تدبرنا العلاقة بين الأرض التي باركنا فيها للعالمين ومكة حيث البيت الحرام كأول بيت وضع للناس في سير رسل الله، لوجدنا أن الرحلة الأولى بين المكانين لم يقم بها محمد ولم يقم بها إبراهيم وإنما قام بها آدم من ذي قبل:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)

فلقد افترينا القول من عند أنفسنا في مقالتنا تحت عنوان: أين كانت جنة آدم؟ وفي مقالتنا أين حصلت مناداة الله نبيه موسى؟ بأن جنة آدم الأولى  كانت في الأرض التي باركنا فيها للعالمين (أي بيت المقدس وما حوله التي ترد في النص القرآني باسم سيناء)، وما أن حصلت المعصية الأولى عندما أكل آدم من تلك الشجرة التي تخرج من طور سيناء بناء على نصيحة الشيطان لهما:

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)

حتى جاء الأمر الإلهي لآدم وزوجه بالهبوط من تلك الجنة والانتقال إلى مكان آخر:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

فحط بهم الترحال (نحن نظن) في مكة، حيث تم هناك وضع أول بيت للناس:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

وهو البيت نفسه الذي عاد إبراهيم ليرفع القواعد منه مع ولده إسماعيل من جديد:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

ليكون الافتراء الأكبر الذي نحاول تسويقه هو أن الرحلة بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس حصلت بدايةً في عهد آدم، وسار إبراهيم في رحلته تلك على خطى الرحلة الأولى، وأسري بمحمد في خط سير الرحلة نفسها. فالرابط بين هذين المكانين حصل ثلاث مرات في تاريخ البشرية: في عهد آدم، وفي عهد إبراهيم، وفي عهد محمد.

السؤال: إذا كانت العصا التي كانت بيد إبراهيم هي التي وصلته من آدم، فكيف وصلت بعد ذلك إلى موسى؟

هذا هو السؤال الذي حاولنا جاهدين الوصول إليه بعد هذه الإعادة لافتراءات كثيرة تعرضنا لها في مقالات سابقة منفصلة.

جواب مفترى: نحن نظن أن جوابنا المفترى على هذا السؤال يحمل في ثناياه التفاصيل نفسها التي حاولنا تسويقها عن قصة القميص، فكما زعمنا القول بأن القميص (اللباس) كان هو لباس آدم الأول، وهو الذي نزعه الشيطان عن آدم، ليبد لهما سوءاتهما، وهو الذي ألبسه الله إبراهيم ليواري به سوءته، وهو الذي بقي كميراث بيت النبوة فانتقل من إبراهيم إلى إسحق إلى يعقوب فيوسف. فإن التفاصيل نفسها تنطبق على العصا، ولكن كيف ذلك؟

رأينا: نحن نظن أن آدم قد سكن الجنة وكان يستطيع أن يأكل منها (مع زوجه) رغدا حيث يشاءا، وأن الله كان قد طلب من الملائكة السجود لآدم، فكان آدم إذن يستطيع تنفيذ مراده في الحال مادام أن الملائكة لا تستطيع إلا أن تسجد لآدم (باستثناء إبليس وجنده من الشياطين). ليكون التساؤل الذي يجب أن ننطلق منه الآن هو: كيف كان يستطيع آدم أن ينفذ أوامره في الجنة؟ وما هي آلية قيامه بإصدار تلك الأوامر؟ وما هي الآلية التي كانت تنفذ بها أوامره تلك على أرض الواقع؟

رأينا المفترى: بعيدا أن التخيلات المجازية التي قلما تسمن أو تغني من جوع، فإن الحاجة ملحة لوضع تصور متكامل عن ما كان يحدث في الجنة قبل وقوع آدم وزوجه في المعصية. فكيف يمكن تصوير المشهد حينئذ؟

جواب مفترى (1): نحن نظن أن الملائكة هم من كانوا مأمورين بتنفيذ أوامر آدم على أرض الواقع وهذا بالضبط ما يمكننا أن نفهمه من أهمية سجود الملائكة لآدم بأمر من ربهم من قبل:

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)

وما تخلف عن هذا الأمر الإلهي إلا إبليس نفسه:

فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74)

وبرر إبليس فعلته تلك بالحجة التالية:

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76)

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)

فطرده الله منها، فكان رجيما:

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)

ولنقرأ السياق القرآني التالي الذي يصور المشهد كاملا:

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

نتيجة مفتراة: اتخذ الله قراره باستخلاف آدم في الأرض (الجنة)، فاسجد له الملائكة الذين سينفذون أوامر آدم، فكانت خيرية آدم عليهم واضحة، فأبدى البعض منهم احتجاجه على هذا القرار الإلهي:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

فاختص الله آدم بعلم الأسماء كلها:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

وقام بعرضهم على الملائكة ليبين الفرق بين ما يملك آدم من العلم وما يملكون هم منه، فبان الفرق واضحا كما جاء في قول الملائكة أنفسهم:

قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

فطلب الله من آدم أن ينبئهم بأسمائهم:

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

فأصبح جليا للجميع بأن هذا المخلوق الجديد له خيرية لا يمكن مجاراته بها، فعندها طلب الله من الملائكة جميعا السجود لآدم، فما تخلف عن ركب الساجدين إلا إبليس:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

فجاء القرار الإلهي بإخراج إبليس منها مرجوما:

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)

وطلب الإله من آدم أن يسكن وزوجه الجنة يأكلان منها رغدا حيث شاءا:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)

محذرا في الوقت ذاته آدم وزوجه من عداوة الشيطان لهما:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)

لكن بالرغم من هذا التحذير الإلهي الصريح لهما، استطاع إبليس أن يجلب عليهم خيله ورجله عندما نزل آدم وزوجه عند نصيحة الشيطان لهما بالأكل من الشجرة:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

التي حذرهما الله من الاقتراب منها من ذي قبل:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

السؤال المحوري قيد النقاش هو: كيف كانت طبيعة حياة آدم وزوجه في الجنة قبل الوقوع في هذه المعصية؟

جواب: لقد كانت حياة رغدا (وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً).

السؤال: وكيف ذلك؟

جواب: عكس الشقاء، لأن الخروج منها سيكون كذلك (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)

السؤال: وكيف يمكن أن نفهم ذلك؟

جواب:  نحن نظن أن هذا ما يمكن أن تدلنا عليه الآيات الكريمة التالية:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)

السؤال: وكيف يمكن أن نتصور ذلك بمفرداتنا الدراجة التي نستطيع من خلالها فهم ما كان يحدث فعلا على أرض الواقع؟

جواب مفترى: للإجابة على هذا التساؤل نحن نظن أنه لابد من التعريج على التساؤلين السابقين وهما:

1.     كيف كان آدم يصدر أوامره؟

2.     ومن الذي كان يتلقى من آدم الأوامر لتحقيقها على أرض الواقع؟

الباب الأول: كيف كان يصدر آدم أوامره في الجنة؟

جواب: كان آدم يفعل ذلك (نحن نفتري الظن من عند أنفسنا) بما كان يمتلك من علم الأسماء الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

فكان آدم – نحن نفتري الظن- يعلم المسميات الحقيقية لكل الأشياء، لذا كان يستطيع أن يطلبها (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: النظرية العالمية الجزء الأول و النظرية العالمية الجزء الثاني).

السؤال: كيف كانت آلية تنفيذ طلبات آدم وزوجه؟

جواب: لقد كان الملائكة (باستثناء إبليس بالطبع) هم من ينفذون أوامر آدم على أرض الواقع.

السؤال: لماذا كانت الملائكة تنفذ أوامر آدم؟

جواب مفترى خطير جدا: لأن آدم كان يستطيع أن يجبر الملائكة على فعل ذلك له.

السؤال: ومن أين جاءت قدرة آدم على إجبار الملائكة للرضوخ لأوامره وطلباته؟

جواب (عن جد) خطير جدا: لقد كان يفعل ذلك لأنه كان يمتلك تلك العصا

تخيلات: نحن نظن أنه لما كان الملائكة مأمورون جميعا بالسجود لآدم، كان لابد لهم من تنفيذ أوامره والنزول عن رغباته لتنفيذ طلباته على أرض الواقع، فكان الملائكة بذلك (نحن نتخيل) كعمال مأمورين بتنفيذ أوامر سيدهم.

لا شك أن مثل هذا الافتراء الخطير سيثير حفيظة الكثيرين اللذين قد يظنون أن في هذا تقليل (أو ربما قدح) في شأن الملائكة، لكننا ندعوهم للتوقف عند سؤالين اثنين وهما:

1.     من هم الملائكة أصلا؟

2.     كيف سجد الملائكة لآدم؟

الفكر السائد: غالبا ما سوّق الفكر السائد الملائكة "كـ كينونات" هلامية يصعب على الناس فهمها أو إدراك حقيقتها، وظن العامة من الناس أن هذه المخلوقات هي ذات قدرات خارقة جدا يصعب تخيلها. ومن أراد الاستزادة فما عليه إلا أن ينظر في بطون الكتب الصفراء ليرى بأم عينه ما خط أهل الرواية عن أهل الدراية من أقوال وآراء حول كينونة الملائكة. وإلى القارئ الذي قد لا يجد الوقت الكافي لديه ليبحث عن ذلك في بطون تلك الكتب أو على الشبكة العنكبوتية، فإننا نقدم له ما جاءنا في الطبري مثلا عن مفردة الملائكة التي وردت أول مرة في كتاب الله في الآية الكريمة التي نحاول هنا الوقوف عند بعض معانيها:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

للملائكة
القول في تأويل قوله تعالى : { للملائكة } قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملك , غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز , وذلك أنهم يقولون في واحدهم ملك من الملائكة , فيحذفون الهمز منه , ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح , لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها , فإذا جمعوا واحدهم ردوا الجمع إلى الأصل وهمزوا , فقالوا : ملائكة . وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها , فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة فيجري كلامهم بترك همزها في حال , وبهمزها في أخرى , كقولهم : رأيت فلانا , فجرى كلامهم بهمز رأيت , ثم قالوا : نرى وترى ويرى , فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز , حتى صار الهمز معها شاذا مع كون الهمز فيها أصلا . فكذلك ذلك في ملك وملائكة , جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم , وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر : فلست لإنسي ولكن لملأك تحدر من جو السماء يصوب وقد يقال في واحدهم : مألك , فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب , وشأمل وشمأل , وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك , أن يجمع إذ جمع على ذلك : مالك , ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا , ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة , كما يجمع أشعث : أشاعث وأشاعثة , ومسمع : مسامع ومسامعة . قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك : وفيها من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب وأصل الملأك : الرسالة , كما قال عدي بن زيد العبادي أبلغ النعمان عني ملأكا أنه قد طال حبسي وانتظاري وقد ينشد " مألكا " على اللغة الأخرى , فمن قال : ملأكا , فهو مفعل من لأك إليه يلأك : إذا أرسل إليه رسالة ملأكة . ومن قال : مألكا , فهو مفعل من ألكت إليه آلك : إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا , كما قال لبيد بن ربيعة : وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل فهذا من ألكت . ومنه قول نابغة بني ذبيان : ألكني يا عيين إليك قولا ستهديه الرواة إليك عني وقال عبد بني الحسحاس : ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة , لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده .

انتهى الاقتباس من هذا العلم العظيم!!!

وقد أدى بالغالبية الساحقة من سادتنا العلماء أهل الدراية والرواية أن ينزهوا الملائكة عن كل ما يظنون أنه لا يليق، الأمر الذي دفع بالكثير منهم إلى الظن بأن إبليس ليس منهم، لأنه خرج عن الأمر الإلهي بالسجود لآدم. وانظر- إن شئت- ما أوصله لنا أهل الرواية عن أهل الدراية كما ورد في الطبري نفسه:

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
القول في تأويل قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } قال أبو جعفر : أما قوله : { وإذ قلنا } فمعطوف على قوله : { وإذ قال ربك للملائكة } كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معددا عليهم نعمه , ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم , فخلقت لكم ما في الأرض جميعا , وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة , فكرمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي , وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له . ثم استثنى من جميعهم إبليس , فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم , وأنه ممن قد أمر بالسجود معهم , كما قال جل ثناؤه : { إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } 7 11 : 12 فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لآدم . ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدم , فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم . ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم ؟ فقال بعضهم بما : 573 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة , يقال لهم " الجن " خلقوا من نار السموم من بين الملائكة . قال : فكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار , وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت . 574 - وحدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن خلاد , عن عطاء , عن طاوس , عن ابن عباس , قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل , وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما , فذلك دعاه إلى الكبر , وكان من حي يسمون حنا . 575 - وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى , قال : حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن خلاد , عن عطاء , عن طاوس , أو مجاهد أبي الحجاج , عن ابن عباس وغيره بنحوه , إلا أنه قال : كان ملكا من الملائكة اسمه عزازيل , وكان من سكان الأرض وعمارها , وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة . 576 - وحدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جعل إبليس على ملك سماء الدنيا , وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن , وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة , وكان إبليس مع ملكه خازنا . 577 - وحدثنا القاسم بن الحسن , قال : حدثنا حسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان , وكان له سلطان سماء الدنيا , وكان له سلطان الأرض . قال : قال ابن عباس : وقوله : { كان من الجن } , إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها , كما يقال للرجل : مكي , ومدني , وكوفي , وبصري . قال ابن جريج : وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة , فكان اسم قبيلته الجن . 578 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما , عن ابن عباس , قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن , وكان إبليس منها , وكان يسوس ما بين السماء والأرض . وحدثت عن الحسن بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك بن مزاحم , يقول في قوله : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } 18 50 قال : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة , ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء . 579 - وحدثنا محمد بن المثنى , قال : حدثني شيبان , قال : حدثنا سلام بن مسكين , عن قتادة , عن سعيد بن المسيب , قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا . 580 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } 18 50 كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن . وكان ابن عباس يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وكان على خزانة سماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جن عن طاعة ربه . وحدثنا الحسين بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله { إلا إبليس كان من الجن } 18 50 قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن . 581 - وحدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : حدثنا محمد بن إسحاق , قال : أما العرب فيقولون : ما الجن إلا كل من اجتن فلم ير . وأما قوله : { إلا إبليس كان من الجن } 18 50 أي كان من الملائكة , وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا , وقد قال الله جل ثناؤه { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } 37 158 وذلك لقول قريش : إن الملائكة بنات الله . فيقول الله : إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها , وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبا . قال : وقد قال الأعشى , أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري , وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله : ولو كان شيء خالدا أو معمرا لكان سليمان البري من الدهر براه إلهي واصطفاه عباده وملكه ما بين ثريا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر قال : فأبت العرب في لغتها إلا أن " الجن " كل ما اجتن . يقول : ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا , وما سمي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا , فما ظهر فهو إنس , وما اجتن فلم ير فهو جن . وقال آخرون بما : 582 - حدثنا به محمد بن بشار , قال : حدثنا ابن أبي عدي , عن عوف , عن الحسن , قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط , وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس . 583 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة , قال : كان الحسن يقول في قوله : { إلا إبليس كان من الجن } إلجاء إلى نسبه فقال الله : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } الآية . .. وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . 584 - وحدثنا ابن حميد , قال : حدثنا يحيى بن واضح , قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي , حدثنا إسماعيل بن إبراهيم , قال : حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي , عن شهر بن حوشب قوله : { من الجن } قال : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة , فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء . 585 - وحدثني علي بن الحسين , قال : حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال , قال : حدثني سنيد بن داود , قال : حدثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى , عن موسى بن نمير , وعثمان بن سعيد بن كامل , عن سعد بن مسعود , قال : كانت الملائكة تقاتل الجن , فسبي إبليس وكان صغيرا , فكان مع الملائكة فتعبد معها . فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا , فأبى إبليس ; فلذلك قال الله : { إلا إبليس كان من الجن } 18 50 586 - وحدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة بن الفضل , قال : حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر , عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر , عن صالح مولى التوأمة , عن ابن عباس , قال : إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن , فكان إبليس منهم , وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض فعصى , فمسخه الله شيطانا رجيما . 587 - قال : وحدثنا يونس , عن ابن وهب , قال : قال ابن زيد : إبليس أبو الجن , كما آدم أبو الإنس . وعلة من قال هذه المقالة , أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ومن مارج من نار , ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك . وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن . فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه . قالوا : ولإبليس نسل وذرية , والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد . 588 - حدثنا محمد بن سنان القزاز , قال : حدثنا أبو عاصم , عن شريك عن رجل عن عكرمة , عن ابن عباس , قال : إن الله خلق خلقا , فقال : اسجدوا لآدم فقالوا : لا نفعل . فبعث الله عليهم نارا تحرقهم . ثم خلق خلقا آخر , فقال : إني خالق بشرا من طين , اسجدوا لآدم ! فأبوا , فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . قال : ثم خلق هؤلاء , فقال : اسجدوا لآدم ! فقالوا : نعم . وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم . قال أبو جعفر : وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى , فخلق بعضا من نور . وبعضا من نار , وبعضا مما شاء من غير ذلك . وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم , إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس , وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته . وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية . وأما خبر الله عن أنه من الجن , فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنا , كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى , فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم . القول في معنى إبليس . قال أبو جعفر : وإبليس " إفعيل " من الإبلاس : وهو الإياس من الخير والندم والحزن . كما : 589 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته . 590 - وحدثنا موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط عن السدي , قال : كان اسم إبليس الحارث , وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا . [ قال أبو جعفر : وكما ] قال الله جل ثناؤه : { فإذا هم مبلسون } 6 44 يعني به أنهم آيسون من الخير , نادمون حزنا , كما قال العجاج : يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا وقال رؤبة : وحضرت يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس يعني به اكتئابا وكسوفا . فإن قال لنا قائل : فإن كان إبليس كما قلت " إفعيل " من الإبلاس , فهلا صرف وأجري ؟ قيل : ترك إجراؤه استثقالا إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب , فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجرى , وقد قالوا : مررت بإسحاق , فلم يجروه , وهو من أسحقه الله إسحاقا , إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه , وهو من أسماء العجم في الإعراب , فلم يصرف . وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب . وتأويل قوله : { أبى } يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له . { واستكبر } يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم . وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس , فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه , والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق . وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين , ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوته والإذعان لطاعته , بغيا منهم له وحسدا , فقرعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوته , إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدا وبغيا . ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له , فقال جل ثناؤه : { وكان } يعني إبليس { من الكافرين } من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لآدم , كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل : من إطعام الله أسلافهم المن والسلوى , وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم , خصوصا ما خص الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم ; فجحدت نبوته بعد علمهم به , ومعرفتهم بنبوته حسدا وبغيا . فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين , فجعله من عدادهم في الدين والملة , وإن خالفهم في الجنس والنسبة , كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق , وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم , فقال : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } 9 67 يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال , فكذلك قوله في إبليس : { كان من الكافرين } كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم . ومعنى قوله : { وكان من الكافرين } أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ . وقد روي عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله : { وكان من الكافرين } في هذا الموضع وكان من العاصين . 591 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : حدثنا آدم العسقلاني , قال : حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله : { وكان من الكافرين } يعني العاصين . وحدثت عن عمار بن الحسن , قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بمثله . وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه . وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله , لا عبادة لآدم . كما : 592 - حدثنا به بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فكانت الطاعة لله , والسجدة لآدم , أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته

إن القراءة في هذا التفسير "العظيم" ترشدنا إلى ما يلي:

-         اختلاف السادة العلماء أهل الدراية في ماهية الملائكة

-         اختلاف السادة العلماء أهل الدراية في ماهية إبليس

-         تضارب الآراء المنقولة عن الشخص الواحد منهم (انظر ما نقل عن ابن عباس في هذا الشأن، فقد جاء في قول بعضهم أن ابن عباس رجح أن إبليس من الملائكة وجاء في نقل آخرين أن ابن عباس استثنى إبليس من جمع الملائكة)

-         وجود أقول غريبة جدا يصعب ربطها بالسياق العام

-         عدم تقديم أحد منهم الدليل على ظنه بغض النظر عن ماهيته

-         الخ.

ولما كانت هذه حال سادتنا العلماء، فإننا نظن أن حالهم ليست بأحسن من حالنا، فتعالوا نخرّص في هذا الموضوع، علنا نستطيع أن نخرج بقصة جديدة عن تلك المخلوقات، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، ونعوذ به أن نفتري عليه الكذب أو أنقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو الواسع العليم – آمين.

أما بعد،

التساؤلات:

-         من هم الملائكة؟

-         من هو إبليس؟

-         لماذا سجد الملائكة كلهم أجمعون؟

-         لماذا رفض إبليس السجود لآدم؟

الآية الكريمة:

فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)

الافتراء الكبير: إبليس كان واحد من جمع الملائكة الذين كانوا مأمورين بالسجود لآدم.

الدليل المنطقي: إن دليلنا المنطقي الذي نحاول أن نسوقه هو لو أن إبليس لم يكن من الملائكة لما استوجب عدم تنفيذه الأمر الإلهي الطرد. فنحن نعلم بصريح اللفظ القرآني بأن الأمر الإلهي بالسجود لآدم قد كان موجها للملائكة على وجه التحديد:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)

فلو أن إبليس لم يكن من جمع الملائكة، لما صح أن يعاقب على عدم فعل أمر هو ليس مأمور به، فلقد كان يكفي إبليس أن يرد على سؤال ربه:

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)

بالقول بأن الخطاب لم يوجه إليّ، فلِم أسجد لآدم وأنت لم تأمرني بذلك؟ ألم يكن أمرك موجها للملائكة؟ فما دخلي أنا بما أمرت به الملائكة؟

رأينا البديل: لما كان إبليس من جمع الملائكة (أي هو واحد منهم) لم يستطيع أن يتنصل من الأمر الإلهي بالسجود لآدم.

الدليل النصي: نحن نظن أن هناك دليل نصي من الكتاب نفسه ربما يرشدنا (إن صح فهمنا له) إلى أن إبليس كان واحدا من الملائكة، لكن هذا الدليل يحتاج إلى أن يمنحنا القارئ الكريم فسحة من الوقت للوصول إليه، لأن الوصول إليه يحتاج إلى ربط عدة حلقات ذهنية، تفضي بمجموعها (حسب منطقنا) إلى هذه النتيجة التي نحاول تسويقها وهي الإجابة على التساؤلين الرئيسين التاليين:

-         من هم الملائكة؟

-         ومن هو إبليس؟

أما بعد،

الافتراء الأول: الملائكة هم جميعا من الذكور

فلقد كانت التهمة التي دفعها الله بنفسه عن الملائكة هي ظن الكافرين بأن الملائكة إناثا:

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا (40)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)

فالله سبحانه يستنكر قولهم هذا، ويرد التهمة عن الملائكة بأنهم ليسوا إناثا، ويعتبر ذلك من باب القول العظيم (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا). فهذا – نحن نظن- يقع في باب ما قد يقوله الشخص منا بأفواههم، فيظنون أنه من باب القول الهين وهو في الحقيقة عند الله عظيم:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

نتيجة مفتراة: الملائكة ليسوا إناثا، وإنما هم ذكورا.

ولو راقبنا الضمير المستخدم في القرآن الكريم الذي يعود على كينونة الملائكة لوجدناه أن جميع الضمائر (المنفصلة والمتصلة) التي تعود على الملائكة هي ضمائر المذكر على الدوام:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)

نتيجة مفتراة 2: الملائكة هم جميعا من الذكور المكلفين بالعبادة. وانظر – إن شئت- في قوله تعالى:

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)

نتيجة مفتراة 3: الملائكة هم من يقابلهم عندنا الناس:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

فلقد حاولنا جاهدين في أكثر من مقالة سابقة لنا أن نبين بأن مفردة الناس هي خاصة بالمكلفين بالعبادة من الذكور:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3)

وهم الذين يستطيعون نكاح النساء:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)



نتيجة مفتراة 4: الملائكة هم من الجن

فإبليس نفسه كان من الجن:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

فبالرغم أن إبليس كان من الملائكة إلا أن هذا لا يستثني أن يكون من الجن وذلك للسبب المفترى الخطير التالي الذي هو من عند أنفسنا: لأن الملائكة كلهم من الجن.

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)

نتيجة 5: المخلوقات المكلفة بالعبادة هم اثنان: الجن والإنس

فخطاب الرباني جاء موجها للجن والأنس على حد سواء:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130)

قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38)

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)

نتيجة مفتراة: الخلق نوعان وهما الجن والإنس وتشمل الذكور والإناث منهما

نتيجة مفتراة: الناس هم الذكور من الإنس

نتيجة مفتراة: الملائكة هم الذكور من الجن

السؤال: من هم الشياطين إذن؟

جواب مفترى: نحن نظن أن الشياطين هم جنود إبليس من الجن والإنس، لذا فهم أعداء الأنبياء:

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

فالشياطين لا تقتصر على الجن وإنما هناك شياطين من الإنس كذلك.

والجدول التالي يلخص الافتراءات السابقة كلها:

الإنس (تشمل الذكور والإناث)
الناس هم ذكور الإنس
شياطين الإنس
الجن (تشمل الذكور والإناث)
الملائكة هم ذكور الجن
شياطين الجن

النتيجة المفتراة التي نحاول الوصول إليها هي: الملائكة هم الذكور المكلفون بالعبادة من الجن كإبليس مثلا

ثانيا، للي أجزم أظن أن أكثر الذي أشكل على أهل العلم في هذه الجزئية هي مادة الخلق، فبعد مراجعة بطون أمهات كتب التفسير وجدنا الغالبية الساحقة من سادتنا العلماء يظنون أن مادة خلق الملائكة تختلف عن مادة خلق الملائكة، فهم يظنون أن الملائكة كائنات مخلوقة من نور بينما الجن مخلوق من نار مصداقا لقوله تعالى:

وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)

ولما كنا لا ننكر جميعا بأن مادة خلق الجآن هي النار، فإنه ربما يحق لنا أن نسال سادتنا العلماء عن الدليل على أن الملائكة كائنات مخلوقة من نور، فأين دليلكم على ذلك؟ هل يوجد في كتاب الله إشارة واحدة إلى مادة خلق الملائكة؟

رأينا: كلا وألف كلا، فالملائكة (كجان) هم جميعا مخلوقين من نار، ولو تدبرنا الآية الكريمة السابقة في سياقها الأوسع لوجدنا الربط بين هي الكائنات جميعا:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28)

لتكون النتائج على النحو التالي:

-         الإنسان مخلوق من حمأ مسنون

-         الجان مخلوق من نار السموم

-         أمر الله الملائكة الذين خلقوا من قبل من نار السموم بالسجود للبشر الذي خلقه من حمأ مسنون.

-         أذعن جمع الملائكة لهذا الأمر الإلهي وتخلف إبليس عنه:

فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)

-         برر إبليس فعلته تلك بخيريته على آدم في مادة الخلق (خيرية النار على الطين):

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)

عودة على بدء

-         لماذا إذن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟

-         لماذا رفض إبليس السجود لآدم؟

رأينا: عندما اتخذ الله قراره باستخلاف آدم كبشر، جاء التذمر من الملائكة (وهم ذكور الجن) واضحا:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء...

فعرضوا أنفسهم على ربهم ليكونوا هم خلفاءه على الأرض، وانظر إن شئت- في تتمة الآية نفسها:

... وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ...

فما كان الله ليرد ما كان قد قضت مشيئته به، فنبّه الملائكة إلى أنه هو الأعلم بذلك:

... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)

فعمد الإله إلى تعليم آدم الأسماء كلها ثم قام بعرضهم على جمع الملائكة:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)

فما استطاع الملائكة مجاراة آدم في ذلك العلم،

قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

فتحققت الخيرية لآدم بعد أن أنبأ الملائكة بأسمائهم:

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) 

وهنا استحق آدم سجود الملائكة له، إنه سجود الذي لا يعلم للذي يعلم:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

بالضبط كما حصل في حالة يوسف وإخوته:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

فلقد أقر الإخوة بأفضلية أخيهم عليهم:

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)

وبذلك استحق آدم أن يسكن الجنة لتكون حياته فيها رغدا شريطة أن لا يقربا تلك الشجرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)

فما كان ليجوع فيها ولا يعري ولا يظمأ فيها ولا يضحى:

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)

ولكن الشيطان استطاع أن يوقع آدم في المصيدة، فأصبحت حياته شقاء بعد أن كانت رغدا

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)

فكان النتيجة لذلك كله أنّ آدم قد عصى ربه، أليس كذلك؟

السؤال: كيف عصى آدم ربه؟ وما الذي حدث بمجرد أن آدم قد عصا ربه؟

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)

جواب: حصول النسيان عند آدم:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

السؤال: ما الذي نسيه آدم؟

جواب مفترى: علم الأسماء الذي علمه إياه ربه

السؤال: ما الذي حدث بعد ذلك؟

جواب: لم يستطع آدم بعد ذلك أن يجبر الملائكة على إطاعة أوامره. لقد نسي آدم اللغة (الأسماء) التي يستطيع من خلالها إجبار الملائكة (الذين سجدوا له) على تلبية طلباته. وبكلمات أخرى نقول لقد فقد آدم اللغة التي كان يستخدمها في توجيه أوامره للملائكة

السؤال: وماذا كانت تلك الوسيلة؟

رأينا: إنها العصا. لقد أصبحت عصا لأنها (نحن نظن) لم تعد تطيع آدم في تنفيذ مراده. وذلك لأن آدم قد فقد العلم الذي يجبرها على ذلك. فأصبحت عصا (غير حية) بعد أن كانت الحياة دابة فيها، بالضبط كما حصل بعد أن ألقاها موسى في النار في الواد المقدس:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)

هناك فقط عادت العصا إلى سيرتها الأولى ليستطيع من يحملها أن ينفذ أوامره مهما كانت كما حدث مع موسى منذ اليوم الأول عند النار وحتى نهاية رحلته مع بني إسرائيل.

والله أعلم

السؤال: أين هي تلك العصا؟

هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم من هذه المقالة إن شاء الله. فالله وحده أسأل أن يأذن لنا بعلم لا ينبغي لغيرنا. وأسأله وحده أن يعلمني وصاحبي عليّا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، ونعوذ به أن نكون ممن يصدون عن سبيله أو ممن يبغونها عوجا - إنه هو العليم الحكيم.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح                     &    علي محمود سالم الشرمان

وأساله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الواسع العليم – آمين.

بقلم: د. رشيد الجراح

27 أيار 2014