لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 7؟


يمكن تلخيص جلّ ما جاء في الجزء السابق من مقالتنا هذه باستعراض وتدبّر الآيات الكريمة التالية معاً مرة أخرى:


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ الروم (47)


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فاطر (25)


وخلصنا إلى نتيجة مفادها أن التفريق بين الأنبياء من جهة والأنبياء الرسل من جهة أخرى ربما يكون – في رأينا- على النحو التالي:


الرسل :هم أنبياء مبشرين منذرين، كُلّفوا بحمل الرسالة إلى أقوام لم يبلّغوها من قبل، فجاءوا أقوامهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ومتى كذّبوا ربما وقع عذاب الله على تلك الأقوام بطلب من ذلك النبي الرسول


الأنبياء: هم أنبياء غير مبشرين ولا منذرين، ولكنهم ورثة بيت النبوة فقط، فاكتسبوا شرف النبوة من آباءهم الذين سبقوهم، وكانوا يعيشون في نفس القوم الذين أبلغوا الرسالة عن طريق آباءهم وأجداهم من الأنبياء المبشرين المنذرين، ولم يقع على أقوامهم عذابا من الله من بعدهم.









وعندما حاولنا إسقاط هذا الفهم على حالتي إسماعيل وإسحق (أبناء إبراهيم)، فخرجنا بتصور حول ما جاء في الآيتين التاليتين، حيث تحدثت إحداهما عن مهمة إسماعيل والأخرى عن أخيه إسحق:


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا مريم (54)


فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا مريم (49)


فكان إسماعيل نبياً رسولا، بينما كان إسحق نبياً ولم يكن رسولا.


كما زعمنا الظن بأن إسكان إسماعيل في ذاك الواد كان هو السبب المباشر ليتحصل لإسماعيل شرف الرسالة الذي لم يتحصل لأخيه إسحق، وحسبنا أن إسماعيل قد سكن في ذلك الواد بين قوم لم يبلّغوا الرسالة من قبل، فكان من واجب هذا النبي أن يبلغهم رسالة ربهم، فأصبح هو رسولهم وأصبحوا هم قومه. بينما كان بقاء إسحق في نفس القوم الذين أبلغهم والده إبراهيم رسالة ربهم سبباً كافياً أن لا تتجاوز مهمته شرف وراثة بيت النبوة، فاستمر إسحق في نفس قوم أبيه إبراهيم. (للتفصيل انظر الجزء السابق من مقالتنا هذه).






إن النتيجة الكبيرة التي خلصنا إليها من نقاشنا السابق والتي ربما نبني عليها جل النقاش اللاحق تتمثل في الفهم التالي:
إن قوم إسماعيل ليسوا هم قوم أبيه إبراهيم بينما كان قوم إسحق هم أنفسهم قوم أبيه إبراهيم.


وفي نهاية ذلك الجزء من المقالة، حاولنا التعريج على قضية تخص الصلاة الإبراهيمية فيما قد يبدو للوهلة الأولى بأنه خروج عن صلب الموضوع، لنطرح حول ماهية تلك الصلاة جملة من التساؤلات لمن أراد التدبر، وهنا نجد لزاماً إعادة ذلك النقاش مرة أخرى لننطلق من خلاله إلى محاولة فهم بعض الإشكالات في الفكر الديني التي طرحناها في الأجزاء السابقة من هذه المقالة، خصوصاً إشكالية حديث الإفك وقضية تحول قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى البيت الحرام بعد أن صلّوا باتجاه القبلة الأولى فترة من الزمن.






الصلاة الإبراهيمية في الصلاة



لقد دعونا في الجزء السابق إلى تدبر ما يقرأ المسلمون جميعاً في التشهد الأخير من كل صلاة يؤدونها والتي تسمى بالصلاة الإبراهيمية في معظم مراجع أهل العلم:


اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم


اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم

وكانت دعوتنا تلك تحمل معها جملة من التساؤلات حول ما نقول في تلك الصلاة عندما نجلس للتشهد الأخير، فلنعيد طرح تلك التساؤلات مرة أخرى، لنحاول الخروج ببعض الأفهام التي نظن أنها غير مسبوقة في هذا السياق:


1. ألم يقل لنا أهل العلم أن محمد من ذرية إبراهيم وولده إسماعيل؟


2. إن كان ما قالوه صحيحاً، كيف إذاً نصلي على محمد وآله مقابل إبراهيم وآله؟


3. أليس آل محمد هم آل إبراهيم؟


4. كيف بنا نفصل بين آل محمد وآل إبراهيم إذاً؟


5. وكيف بنا نطلب المقارنة بين الطرفين وكأنهم طرفان منفصلان تماماً؟


6. من هم آل محمد ومن هم آل إبراهيم إذاً لنطلب من الله الصلاة على محمد وآله كما كانت على إبراهيم وآله؟


7. وأيهما يحاول التشبه بالآخر؟


8. وإذا كانا نحن من يطلب أن يتحصل لمحمد وآله ما كان قد تحصل لإبراهيم وآله من ذي قبل، فكيف يمكن فهم أفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم؟


9. أليس من المنطقي أن يحاول غيرنا التشبه بنا ما دمنا نحن الأفضل (كما يروج لمثل هذه النظرية كثير من أهل العلم)؟


10. الخ.






إنّ أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباطات عند تدبر الصلاة الإبراهيمية هو الإقرار بالتالي:


1. الفصل التام (لا بل والمقابلة) بين طرفين متكافئين: يكون الطرف الأول إبراهيم وآله ويكون الطرف الثاني محمد وآله


2. الطلب من الله بالنعمة على الطرف الثاني (محمد وآله) كما أنعم من ذي قبل على الطرف الأول (إبراهيم وآله)


3. الفهم بأن محمد وآله هم من يطلبون التشبه بإبراهيم وآله وليس العكس.


4. الدعوة إلى تدبر كيف يختلف محمد وآله عن إبراهيم وآله إن كان محمد – كما علمنا- هو نفسه من ذرية إبراهيم وولده إسماعيل.






ذرية إبراهيم ورثة النبوة



عند تدبر السياقات القرآنية التي تحدثت عن ذرية إبراهيم، نجد الصبغة الغالبة على النص القرآني تأتي على ذكر إسحق ويعقوب على وجه التحديد وغالباً ما غاب ذكر إسماعيل عن المجموعة كما في السياقات القرآنية التالية:


وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) الأنعام





فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
مريم 


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
العنكبوت 


قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) الأنبياء





وورد الحديث عن إبراهيم مقترناً بإسحق ويعقوب صراحة، بينما فصل إسماعيل عنهم مع مجموعة أخرى من أنبياء الله:


وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)



وعندما تحدث يوسف عن الذرية التي انحدر منها، لم يأتي على ذكر إسماعيل أبداً:


قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يوسف

نتيجة مهمة: لم يأتي الحديث عن إسحق على وجه التحديد في القرآن الكريم بمعزل عن أبيه إبراهيم إطلاقاً، فلم يذكر إسحق في آية لوحده ولم يذكر في مجموعة من أنبياء الله ورسله لم يكن فيهم والده إبراهيم، ولنستعرض جميع السياقات القرآنية التي جاء فيها ذكر نبي الله إسحق لنجد التلازم الذي لا انفكاك فيه عن والده إبراهيم:


أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133البقرة 


قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136البقرة 


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  140البقرة


قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  84آل عمران


إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163النساء 


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84
الأنعام 


وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ 71
هود 


وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 6
يوسف 


وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ 38
يوسف 


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ 39
إبراهيم 


فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا 49
مريم 


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72
الأنبياء 


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 27
العنكبوت 


وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ 112
الصافات 


وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ 113
الصافات 


وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ  45
ص


ولكن – بالمقابل- ورد ذكر إسماعيل بمعزل عن والده إبراهيم، فجاءت آية تخص إسماعيل وحده:


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا 54مريم 


وجاءت آيات أخرى تذكر إسماعيل في مجموعة من أنبياء الله لم يذكر فيهم والده إبراهيم:


وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ 86
الأنعام 


وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ 85
الأنبياء 


النتيجة: لم يفصل إسحق عن والده إبراهيم في النص القرآني إطلاقاً، بينما تم الفصل بين إبراهيم وإسماعيل في أكثر من موضع في كتاب الله.






إبراهيم وإسماعيل وإسحق


تم الربط بين إبراهيم وإسماعيل وإسحق في موضعين


1. عند الحديث عن الذرية:


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ 39إبراهيم 


2. عند الحديث عن عبادة التوحيد:


فقد جاء ذكر إسماعيل مصاحباً لإبراهيم وإسحق ويعقوب عند الحديث عن العبادة (وغالباً ما صاحب ذلك الحديث عن رسل آخرين)، فعندما سأل يعقوب أبناءه مثلاً عن ما سيعبدون من بعده، جاء ردهم على النحو التالي:


أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133
البقرة 


قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136
البقرة 


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140
البقرة 


قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ84
 آل عمران 


إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163
النساء 

إبراهيم وإسماعيل



وجاء الحديث مفرداً إسماعيل مع أبيه إبراهيم (بمعزل عن إسحق)عند الحديث عن البيت الحرام فقط:


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125
البقرة 


وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127
البقرة 


وهنا فقط غاب الحديث عن إسحق مع والده إبراهيم، ونتوقف لـ نلخّص جل النقاش السابق في النتائج التالية:


1. كان ذكر إسحق مصاحباً على الدوام والده إبراهيم، فلم يذكر إسحق منفصلاً عن والده إطلاقاً


2. ذكر إسماعيل لوحده منفصلاً عن والده في أكثر من سياق قرآني


3. جاء الحديث عن إسحق وإسماعيل معاً عند الحديث عن ذرية إبراهيم وعند الحديث عن عبادة التوحيد


4. جاء الحديث عن إسماعيل مع والده إبراهيم دون إسحق فقط عند الحديث عن البيت الحرام






افتراء من عند أنفسنا: لقد كوّن إبراهيم فرعين من الذرية، امتدت ذرية النبوة في فرع منهم، وهي ذرية إسحق، وانقطعت النبوة من ذرية الفرع الثاني وهم ذرية إسماعيل، وكانت ذرية إسحق ملاصقة على الدوام جدّهم إبراهيم ما دام أن إسحق مكث في نفس قوم أبيه إبراهيم، فكان قوم إسحق هم أنفسهم قوم أبيه إبراهيم، فأصبحوا هم آل إبراهيم، بينما انفصلت ذرية إسماعيل عن جدهم إبراهيم مادام أن إسماعيل قد أصبح رسولاً لقوم غير قوم أبيه، فلم يصبحوا هؤلاء جزءاً من آل إبراهيم.






إبراهيم كان أمة



وردت الآية الكريمة التالية في كتاب الله عند الحديث عن إبراهيم:


إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 120النحل 

فما معنى أن يكون إبراهيم أمة؟


افتراء من عند أنفسنا: الأمة هم القوم الذين تجمعهم عقيدة واحده، ومتى تفرق القوم على أساس عقائدي أصبحوا أكثر من أمة.


وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 159الأعراف 


فقوم موسى هم كل من كانت رسالة موسى موجهة لهم كبني إسرائيل وآل فرعون معاً، فهم جميعاً قوم موسى، ولكنهم لم يكونوا جميعاً أمة واحدة، لأن منهم أمة يهدون بالحق، وأمة (أو ربما أمم) أخرى لا يهدون بالحق.


فالخلق كانوا جميعاً أمة واحدة، ولم يتفرقوا إلى أمم كثيرة إلا بعد أن جاءتهم البينات من عند ربهم على أيدي أنبياء مبشرين منذرين:


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

وقد شاءت إرادة الله أن لا يكون الناس جميعاً أمة واحدة:


وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 48
المائدة 


وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ 33
الزخرف 

وكان الاختلاف في العقيدة هو السبب في أن ينقسم الناس (القوم) أو الأمة الواحدة إلى أكثر من أمة:


وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19يونس 


وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 93النحل 

وقد جاء بصريح اللفظ القرآني أننا نحن (أتباع محمد) أمة مستقلة:


كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 110 آل عمران

وطلب منا أن يخرج من تلك الأمة الأم أمة صغرى تكون مهمتها على النحو التالي:


وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 104آل عمران 


كما خرج من أهل الكتاب أمة ذات مواصفات محددة:


لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ  113آل عمران


وقد خرج من قوم موسى أمة كانت مهمتها على النحو التالي:


وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 159الأعراف 

لذا سيكون تقسيم الناس يوم القيامة على أساس أممي:


فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا 41النساء 


ويدخل الناس النار على أساس أممي:


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ - الآية 38 
الأعراف 

كما كان لكل أمة أجل في الدنيا:


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ 34الأعراف


وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - الآية 164الأعراف


قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ 49يونس

وكما كان لكل أمة رسولهم:


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ 47يونس 


والملفت للانتباه أيضاً أن الأمم تختلف كذلك في المناسك:


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ 34الحج 


لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ 67الحج 


وتجدر الإشارة هنا إلى أن العنصر الزمني غير ضروري في تشكيل الأمة، فمن يتبع عقيدة الأمة التي سبقته فهو جزء من تلك الأمة حتى لو لم يعيش بين ظهرانيهم، فهي ما يكتسب الأبناء من عقيدة عن آباءهم:


بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ 22الزخرف 


وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ 23الزخرف 


نتيجة (1): الأمم مجموعة من الناس ذات عقيدة تختلف عن غيرها في الرسول وفي الأجل وفي موعد الدخول إلى النار بغض النظر عن العنصر الزمني.


نتيجة (2): لقد كان إبراهيم أمة لأن الجميع كانوا ينتمون إلى إبراهيم، فكان إبراهيم بذلك أمة واحدة، ولكن حصل هناك اختلاف، فانقسمت أمة إبراهيم إلى أمتين، إحداهما تخص إسحق وذريته، والأخرى تخص إسماعيل وقومه.






إبراهيم كان إماما


لا يذكر القرآن الكريم أن نبياً أو رسولاً كان إماما للناس كافة إلا إبراهيم:


وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)البقرة 


السؤال: لماذا كان إبراهيم فقط هو الإمام للناس كافة؟


الجواب: إننا نظن أن إبراهيم كان إماماً للناس كافة لأن الجميع لا يختلفون في أن يكون هذا النبي على وجه التحديد هو أمامهم، فاليهود لا ينكرون أن إبراهيم إمام لهم، والنصارى لا ينكرون ذلك، ولا تنكر أمة محمد أحقية إبراهيم بالإمامة.


نتيجة: الإمام هو محل اتفاق الجميع فلا ينكره أحد منهم[1]






إبراهيم يفصل نفسه عن قوم إسماعيل



نستطيع أن نزعم الظن أن إبراهيم قد فصل نفسه عن إسماعيل وقومه، ويمكن تقديم الدليل على ذلك باستعراض جملة من الملاحظات من النص القرآني.


الملاحظة الأولى: لو تدبرنا السياق القرآني التالي، لربما وجدنا فيه ما يثير الانتباه، فإبراهيم يسكن جزءاً من ذريته في ذلك الواد ويطلب من الله أن تهوي إليهم أفئدة من الناس، وها هو يدعو لهم على النحو التالي:


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126البقرة 


فإبراهيم إذن يطلب من الله أن يرزق أهل ذلك البلد من الثمرات، أليس كذلك؟


السؤال: هل أعتبر إبراهيم نفسه جزءاً من أهل هذا البلد الذي يدعو له بالخير؟


الجواب: لا أظن ذلك


الملاحظة الثانية: لو استعرضنا السياق القرآني التالي لربما تعززت الفكرة أكثر:


رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ


السؤال: لماذا طلب إبراهيم أن يبعث الله في أولئك القوم رسولاً منهم؟ لِمَ لَمْ يطلب إبراهيم أن يكون ذلك الرسول من إبراهيم وذريته؟ لم لم يقل إبراهيم مثلاً "ربنا وابعث فيهم رسولاً منا؟


ولنمعن التفكر كذلك بكيفية استجابة الله دعاء نبيه إبراهيم، فقد فبعث فيهم رسولاً من أنفسهم:


لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  164آل عمران


الملاحظة الثالثة: وها هو إبراهيم يدعو ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام:


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ 35إبراهيم 


ولكن الغريب (الذي يجب تدبره جيداً) هو أن محمداً قد خرج رسولاً في قوم يعبدون الأصنام!!






نتيجة كبيرة جداً وخطيرة جداً: كان محمد من ذرية إبراهيم لكنه لم يكن من ولد إبراهيم وإنما من قوم إسماعيل أنفسهم


وقبل أن ينعت القارئ كلامنا هذا بما شاء من عبارات الازدراء، لا نجد أفضل من أن نطلب منه أن يتدبر قول الحق أولاً في الآية الكريمة التالية:


أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)مريم 


ويقارن ذلك بما جاء عن بني إسرائيل:


وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) الإسراء 2-3


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) آل عمران 33-34


نتيجة: صحيح أن جميع أنبياء الله هم ذرية بعضها من بعض، ولكن يجب التميز بين الذرية المباشرة، والذرية غير المباشرة، فبنو إسرائيل (بما فيهم أنبياء ورسل بني إسرائيل) ليسوا من ذرية نوح المباشرة ولكنهم من ذرية من حملنا مع نوح، والمنطق نفسه (ربما) ينطبق في حالة محمد، فهو بلا شك من تلك الذرية الطيبة ولكنه ليس من نسل إبراهيم المباشر. وبكلمات أكثر دقة يمكننا الزعم بأن محمدا ليس من آل إبراهيم.






عودة على بدء


إن هذه النتيجة (التي ربما لن يتقبلها الكثيرون بالترحيب والتصفيق) تعيدنا مباشرة للحديث عن الصلاة الإبراهيمية التي –لا شك- تفصل فصلاً قاطعاً (لا بل وتقيم مقابلة الند بالند) بين محمد وآله من جهة وإبراهيم وآله من جهة:


اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم


اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم


نعم، هذا هو ظننا، لقد كان إبراهيم أمة وكان إماما للناس كافة، ولكن بالرغم أنه بقي إماما لم يختلف الناس على إمامته، انقسمت أمته إلى أمتين مختلفتين متنافستين، فخرج آل إبراهيم من ذرية إسحق (مادام أن إبراهيم لم يفصل نفسه عن القوم الذين لبث فيهم إسحق)، وانقطع آل إبراهيم في ذرية إسماعيل (مادام أن إبراهيم فصل نفسه عن القوم الذين مكث فيهم إسماعيل). فاستمرت النبوة في بيت إسحق (فكان يعقوب وكان يوسف)، وانقطعت من بيت إسماعيل، فلم يأتي أنبياء مباشرة من بعد إسماعيل (كما كان الحال بالنسبة لأخيه إسحق الذي جاء من بعده يعقوب ثم يوسف)، وقد تحدثنا سابقاً أنه كلما حصل انقطاع في بيت النبوة، أصبح لزاماً أن تعود للظهور بالرسالة (أي برسول نبي)، فكانت دعوة إبراهيم تتلخص في أن يخرج الله من أولئك القوم رسولاً وليس فقط نبياً:


رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ


فاستجاب الله دعوة نبيه إبراهيم بالمنّة على المؤمنين برسول من أنفسهم:


لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  164آل عمران






فخرج محمد من أولئك القوم أنفسهم، فتشكلت أمة جديدة موازية ومنافسة للأمة الأولى. فأصبح هناك آل محمد كما كان هناك آل إبراهيم من ذي قبل.


السؤال: لماذا لم يدعو إبراهيم ربه بأن يخرج من ذرية إسحق (أو من قوم إسحق) رسولاً من أنفسهم كما فعل في حالة إسماعيل؟


الجواب: إننا نظن أن إبراهيم كان يعلم أن النبوة لن تنقطع من هذا البيت (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، فهو بيت النبوة الذي ستمتد به أغصان تلك الشجرة الطيبة، فهو يعلم أن تلك الأمة ستحظى بشرف رسالات كثيرة، فجاء معظم أنبياء الله ورسله من بعد إبراهيم من تلك السلالة الطاهرة (أي من ذرية إسحق) باستثناء محمد عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة وأتم السلام.






لماذا كان الذبح من نصيب إسماعيل



لو تدبرنا السياق القرآني الذي يتحدث عن رؤيا إبراهيم الخاصة بذبح ولده لوجدنا فيها شيئاً يثير التفكير ويدعو إلى الحيرة، فلنحاول تسليط الضوء على الأمر من زوايا جديدة، قال تعالى:


فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) الصافات


وهنا نجد لزاما إثارة تساؤلين اثنين وهما:


1. لماذا لم يذكر القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة أسم الابن الذي سيقدمه إبراهيم للذبح؟


2. لماذا يستشير إبراهيم ولده في الأمر ما دام أنه أمر رباني؟


السؤال الأول: لماذا لم يُذْكر أسمُ الغلام على وجه التحديد؟


لقد شكلت هذه القضية إحدى محاور الاختلاف بين الفكر اليهودي التوراتي والفكر الإسلامي القرآني، فأهل التوراة يظنون أن إبراهيم قدّم ابنه إسحق للذبح، بينما يصرّ المسلمون أن إسماعيل هو من اقتاده والده إلى المذبح وهو من افتداه ربه بالذبح العظيم:


فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) الصافات


فأين يا ترى تكمن الحقيقة؟


إننا نظن أن طرح السؤالين السابقين ربما يسلط الضوء على هذه الإشكالية بشيء من الموضوعية التي ربما يخلو منها الطابع الشوفاني المدفوع بالذاتية الضيقة التي غالباً ما تغشي الأبصار عن إدراك الأمور على حقيقتها. ولكن كيف؟


الجواب: إننا نظن أن عدم ذكر أسم الولد المطلوب للذبح بصريح اللفظ في الآية ربما يدلنا – من حيث المبدأ- على أن إبراهيم لم يكن يقصد ولداً بعينه، فربما يكون الذبح من نصيب إسحق وقد يكون من نصيب إسماعيل. وهنا يطلب من كل طرف تقديم أدلته التي تسند موقفه العقائدي، وفي هذا الجزء من المقالة سنحاول تقديم دليلين على الأقل نستطيع من خلالهما الترويج لفكرنا الإسلامي الذي يصر على أن الذبح كان من نصيب إسماعيل على وجه التحديد، فأين الدليل على ذلك؟


الدليل الأول: وجود مانع مؤقت يمنع إبراهيم من ذبح إسحق بينما لم يكن هناك مانع مؤقت يحجز إبراهيم عن ذبح إسماعيل، ولكن كيف؟


الجواب: لقد جاءت البشرى لإبراهيم وامرأته بإسحق على النحو التالي:


وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ هود (71)


إن المدقق في هذا السياق القرآني يجد أن البشرى لم تأتي بإسحق فقط وإنما بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، أليس كذلك؟ إن أبسط ما يمكن أن نستنبطه من هذا هو وجود مانع (ولو مؤقت) يمنع إبراهيم من ذبح إسحق، فإسحق يجب أن يكبر ويتزوج ليتحصل له يعقوب (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قبل أن يقتاده والده إلى المذبح، فلو قام إبراهيم بذبح إسحق (أو حتى لو جاء الأمر لإبراهيم بذبح إسحق) فسيبرز عندها سؤال لا مفر منه وهو: كيف ستتحصل الذرية من بعد إسحق بيعقوب؟ لذا فنحن نزعم استحالة أن يذبح إبراهيم إسحق حتى يكبر الغلام ويتزوج وتتحصل له الذرية بيعقوب.


نتيجة 1: لابد لإبراهيم أن ينتظر إسحق ليكبر ويتزوج وتتحصل له الذرية إن كان هو المقصود بالذبح الذي راءه في منامه.


وهنا يطرح السؤال التالي: هل يستطيع إبراهيم أن ينتظر كل هذا الوقت (وهو شيخ كبير في السن) حتى يكبر إسحق ويتزوج وتتحصل الذرية له بيعقوب لينفذ أمر ربه الذي راءه في منامه؟


الجواب: لا أظن ذلك.


ولكن – بالمقابل- لمّا لم تكن هناك بشرى بالذرية من بعد إسماعيل، فإننا لا نرى وجود مناع (ولو مؤقت) يوقف إبراهيم عن تنفيذ أمر ربه، لذا نجد إبراهيم يخاطب الغلام بالقول:


فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ...


فإبراهيم يحدد إذاً من هو الغلام (من بين ولديه) الذي يرى أنه يذبحه.






الدليل الثاني: أما الدليل الآخر الذي يثبت زعمنا أن إسماعيل (وليس إسحق) هو المقصود بالذبح فيمكن استنباطه بتلسيط الضوء على سؤالنا الثاني الذي يتعلق باستشارة إبراهيم ولده بالأمر.


السؤال الثاني: لماذا استشار إبراهيم ولده بخصوص الذبح مادام أن الأمر جاء من الله؟


فها هو إبراهيم يقول لابنه في السياق نفسه " فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ":


فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)هود 


ألا ترى عزيزي القارئ أن في ذلك حكمة عظيمة؟ ولكن كيف؟


الجواب: نحن نعلم أن رؤيا إبراهيم هي حق من الله، فإبراهيم مأمور بذبح ولده بأمر من ربه عن طريق رؤية يراها في منامه، أليس كذلك؟ فما دام الأمر كذلك، هل يحق لإبراهيم أن يستشير ولده لينفذ أمر ربه؟ إذن، كيف بإبراهيم يستشير ولده في الأمر؟ وماذا لو رفض الابن طلب والده؟ ألم يرفض ولد نوح طلب والده من قبل؟ هل سيتخلى إبراهيم عن أمر ربه فلا يذبح ولده لو رفض الولد طلب والده؟


كلا، لا شك أن إبراهيم لم يجد مناصاً من ذبح ولده، فذاك أمر رباني ما كان لإبراهيم إلاّ أن ينفذه مهما كانت إرادته أو إرادة ولده، صحيح أن إبراهيم قد يجادل في الأمر، فهو – لا شك- أواه، لكنه نبي أواب منيب في النهاية:


إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)هود 


إذن، لماذا استشار إبراهيم ولده في الذبح مادام أنه في النهاية ذابحه لا محالة؟


الجواب: لقد كان الذبح هو البلاء المبين:


قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)


السؤال: كيف كان ذبح الابن بلاء مبين؟


افتراء من عند أنفسنا: لم يذكر الذبح للأبناء في القرآن الكريم إلا في قصة فرعون مع بني إسرائيل، فنحن نعلم أن فرعون كان يذبّح أبناء بني إسرائيل ويستحي نسائهم، وقد نعت الله ذلك بالبلاء:


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)البقرة 


وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)الأعراف 






وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)إبراهيم 






السؤال: لماذا كان فرعون يذبّح هؤلاء الأطفال (أبناء بني إسرائيل)؟


الجواب: إنه النسب


النتيجة: لم يذبح الأطفال كبلاء من الله إلا بسبب نسبهم، فلا ننسى أن ذبح أبناء بني إسرائيل على أيدي فرعون كان – دون أدنى شك- بلاءً مباشراً من الله وذلك بصريح اللفظ القرآني:


وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.


افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الظن بأن الله قد ابتلى إبراهيم (كما سيبتلي بني إسرائيل من بعد) بذبح ولده لسبب يتعلق بنسب الغلام، ولكن كيف؟


الجواب: إننا نزعم الظن أن البلاء الإلهي لإبراهيم بذبح إسماعيل كان فتنة إلهية للأب إبراهيم وللابن إسماعيل وللزوجة هاجر للتأكد من نسب الغلام[2]، ولنبدأ بتفصيل هذه القضية في سطور.






الذبح بلاء مبين لإبراهيم



السؤال: كيف كان ذبح إسماعيل بلاء مبين (أو لنقل فتنة) لوالده إبراهيم؟


الجواب: إن هذا يعيدنا إلى صفة مميزة لإبراهيم النبي الرسول: إنها الشك. لقد كان الشك صفة ملازمة لهذا النبي في رحلة حياته حتى يكون من الموقنين وحتى يأتي الله في النهاية بقلب سليم، فنحن نعلم من جملة الحوادث التي حصلت مع إبراهيم بأن هذا النبي الرسول لا يتقبل الأمور ببساطة، ولكنه يخضعها للشك في البداية حتى يصل إلى درجة اليقين في النهاية، فقد كان ذلك واضحاً في قصته الأولى مع رحلة الإيمان يوم أن قلّب وجهه في السماء باحثاً عن ربه:


وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)الأنعام 


وكذلك كانت قصته مع أحياء الموتى يوم أن طلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتى:


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)البقرة 


وقد كان الشك ملازماً لإبراهيم يوم أنْ ظنّ أنّ الله قد وهب له إسماعيل، فهو لم يكن على يقين بقدرته الطبيعية على الإنجاب بعد أن أصبح شيخاً كبيرا، ففي حين أن تأكيداً ربانياً جاءه بهبة الله له إسحق ومن وراء إسحق يعقوب على لسان رسل الله يوم جاءوا معذبين قوم لوط:


وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)هود 


لم يأتي مثل هذا التأكيد الرباني بخصوص إسماعيل، وعندما حاولنا تدبر السياقات القرآنية في هذا الصدد سابقاً وجدنا أن نبي الله إبراهيم لم يشكر ربه مباشرة بعد أن رزق بإسماعيل، وانتظر حتى رزق بإسحق كبشرى من الملائكة، فشكر الله عندئذ على الاثنين معاً كهبة ربانية:


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)


(أنظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة)


افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن صورة ولد نوح لم تكن غائبة من ذهن إبراهيم، لذا ما كان الله ليذر إبراهيم في حالة الشك تلك، فقد طلب منه أن يذبح ولده مادام أن في قلبه شيء من الشك في نسب الغلام، لتكون الرسالة الربانية على نحو: إن كنت يا إبراهيم تشك في نسب ولدك، فاذبحه. وعندها فقط ستأتي ربك بقلب سليم، فلا يجوز لهذا النبي الكريم أن يبقي شيئاً من الشك في قلبه، وهذا ما سيكون من أمر إبراهيم بعد أن يصدّق الرؤيا وينفذ أمر ربه بذبح ولده :


إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)


أليس هذا فعلا بلاء مبين للأب إبراهيم؟






الذبح بلاء مبين لإسماعيل



إن من أبسط أبجديات العقيدة أن أبناء الأنبياء لا يعصون أمر ربهم، فما أن يعلموا أن هذا أمر رباني حتى يكون السمع والطاعة هو العقيدة التي لا يمكن أن يزعزعها شيء مهما عظم (حتى وإن تطلّب الأمر التضحية بالنفس)، فإبراهيم يعلم أن أبناء الأنبياء لا يعصون أمر ربهم، لذا فإن الظن عند إبراهيم كان على النحو التالي: إن كان هذا الغلام (إسماعيل) من صلبه حقاً، فلن يرد لأبيه طلبا خصوصاً إذا ما كان هذا الطلب أمرا ربانيا. وإن هو رفض، فلا تنقص إبراهيم الفطنة أن يستنبط أن الولد ليس من أهله، فإبراهيم يعلم تمام العلم أن ولد نوح لم يعص طلب أبيه ويؤثر أن لا يركب معه إلاّ لأنه ليس من أهله، فلقد كان ولد نوح نتاج الخيانة التي اقترفتها امرأته، وعند عقد المقارنة بين هذه النبيين الكريمين يمكننا الزعم أنه لو كان إسماعيل نتاج خيانة الزوجة، فلن يستجيب إلى طلب والده (بالضبط كما فعل ابن نوح من قبل)، وبهذا المنطق نفسه يمكن أن نفهم سبب استشارة إبراهيم ولده إسماعيل في أمر الذبح بالرغم أنه لا محالة منفذ أمر ربه عندما قال له:


" يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ"


إننا نظن أنه لو كان إبراهيم على يقين تام من صحة نسب ولده لما قال له (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ")، ولجاء النص على نحو (" يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وكفى.


ولو تدبرنا النص أكثر لوجدنا أن الوالد يخاطب ولده بصيغة " يَا بُنَيَّ" ليرى كيف سيرد الولد على والده، فجاء الجواب من إسماعيل بصيغة "يَا أَبَتِ"


ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ


ليتأكد للوالد بأن الولد هو من نسل والده، ولو رجعنا إلى حالة نوح للحظة لوجدنا أنه على الرغم أن نوح قد خاطب ولده بصيغة يا بني (بالضبط كما فعل إبراهيم):


وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)هود 


إلا أن الولد لم يرد عليه بصيغة "يا أبت" (كما كان الحال بالنسبة لإسماعيل)، وبكلمات بسيطة يمكن القول أنه في حين أن إسماعيل قد أقر لوالده بالأبوة:


قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ


لم يقر ابن نوح بأبوة أبيه له:


قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)هود 


لذا يمكننا أن نزعم الظن أن سبب طلب إبراهيم الرأي من ولده بخصوص الذبح ربما يكون على النحو التالي: إبراهيم عنده اثنان من الأبناء (إسماعيل وإسحق)، يقول لأحدهم:


يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ"


ليفهم الغلام من كلام والده ما يشبه زعمنا التالي: أنك إن رفضت طلبي فإني لا محالة ذاهب لأذبح أخيك بدلاً منك، لأني لا أستطيع كنبي رسول إلاّ أن أنفذ أمر ربي، فانظر ماذا ترى، عندها سيكون البلاء المبين للغلام على النحو التالي: إما أن يقبل أبوة والده وينفذ له أمر ربه، أو أن يرفض تلك الأبوة فيكون الذبح من نصيب أخيه، أليس في ذلك بلاء مبين ليس فقط للوالد وإنما للولد أيضاً؟






الذبح بلاء مبين لسارة



إن من أساسيات عقيدتنا في تفسير النص القرآني هو مبدأ المخالفة بنص، وهذا يعني أن مخالفة ما هو مألوف أو متوقع يجب أن يكون بنص صريح، فابن النبي يجب أن يكون صالحاً كأبيه، وإن كان غير صالح فيجب أن يرد في ذلك نص صريح كما كان الحال بالنسبة لأبن نوح، وزوجة النبي يجب أن لا تكون خائنة، وإن هي كانت خائنة فيجب أن يرد في ذلك نص صريح كما كان الحال بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط، بينما يجب أن تكون زوجة الكافر مثله، وإن هي كانت على النقيض منه (أي مؤمنة) فيجب أن يرد في ذلك نص صريح كما كان الحال بالنسبة لامرأة فرعون.


وعند تطبيق مبدأ المخالفة بنص في حالة هاجر، فإننا نظن أن المرأة لم تكن خائنة، فلو كانت خائنة فلابد من وجود نص قرآني يبين ذلك صراحة، وعندما حاولنا تدبر قصة الذبح من هذا المنظور، لم نجد أن هاجر (والدة إسماعيل) قد اعترضت على ذبح ولدها بطلب من والده وبأمر من ربهم جميعا، وهنا تكمن الفتنة والبلاء العظيم للمرأة، فلو لم يكن الولد إسماعيل من صلب والده إبراهيم (وهي بلا شك الأعلم بالحقيقة)، لما كانت الأم ستتقبل ذبح ولدها من قبل رجل هو ليس بأبيه أصلاً، فالمرأة الكريمة الشريفة لا يمكن أن تضحي بشرفها مهما كان الثمن، فنحن نتخيل السيناريو على النحو التالي: عندما شاهدت المرأة (إن كانت فعلاً حظرت الموقف) الوالد يتل الولد للجبين وأنه ذابحه لا محالة، عندها سيكون الصراع قوي وحاسم بين الإقرار بشرفها وترك الوالد يذبح ولده لأنه فعلاً والده، أو الصدق مع نفسها والاعتراف بالخيانة (إن هي خانت أصلاً) لإنقاذ ولدها، فلا يمكن لامرأة أن تتقبل فكرة أن يُذْبح ولدها على يد رجل هو ليس بأبيه، ولكن لما سكتت سارة وأقرت بأمر ربها بأن يذبح الوالد ولده، لم يكن سيخفى على إبراهيم أنها امرأة طاهرة شريفة






استراحة قصيرة: حادثة الإفك خير للمسلمين وليس شراً لهم



جاء في كتاب الله حول حادثة الإفك في سورة النور التي فَصّلت كثيراً من الأمور المتعلقة بالزنا وعواقبه قوله تعالى:


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)النور 


وهنا نطرح السؤال الذي لابد من مناقشته بشيء من التفصيل وهو: كيف كانت حادثة الإفك خيرا للمسلمين وليس شراً لهم؟ ألم يدب الخلاف في الأمة بسبب تلك الحادثة؟ ألم يتفاقم الخلاف بين الحزبين الأكبر في الإسلام (أهل السنة وأهل التشيع) كهزات ارتدادية لحادثة الإفك؟ ألم...؟ الخ.


الجواب: إننا نؤمن إيماناً يقينياً أن حادثة الإفك كانت خيراً للمسلمين ولم تكن شراً لهم (كما جاء في السياق القرآني)، وربما نستطيع إثبات هذه العقيدة إن نحن تدبرنا الموضوع من زاوية خيانة نساء الأنبياء التي ابتدأناه في سلسلة مقالاتنا هذه تحت عنوان (لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟)، ولكن كيف؟


لا يستطيع أحد أن ينكر أن بعض نساء الأنبياء قد وقعت فعلاً في الخيانة، وليس أدل على هذا من خيانة امرأة نوح وامرأة لوط:


ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)التحريم 


فالقول بأن نساء الأنبياء لا يمكن أن يقعن بالفاحشة هو ليس أكثر من كلام مدفوع بالعاطفة (كإيمان الدراويش) يخلو من الدليل العقائدي، لأن بعض نساء الأنبياء اقترفن الفاحشة فعلاً، ومن هذا المنطلق، لم يكن لإبراهيم أن يؤمن إيماناً يقينياً بأن نساءه لا يمكن أن يقعن بالفاحشة، وكذلك كان الحال بالنسبة لمحمد، فاحتمالية وقوع نسائهم بالفاحشة هي احتمالية واردة لا يمكن ردها فقط لمجرد أنها زوجة نبي، فمتى حصل هناك اتهام (أو حتى شك) بخيانة نساء الأنبياء لابد من وجود الدليل على إثبات التهمة المنسوبة إليها أو تبرئتها من تلك التهمة.


نحن نظن أن الخلاف الذي وقع في قوم إبراهيم تعلق جزء منه بهاجر، فاتهمت بالفاحشة، ولما كان إبراهيم لا يستطيع أن يثبت التهمة أو أن يردها عنها، كان قراره يتمثل في الفصل بين نساءه، فأخذ تلك المرأة التي أصبحت محل اتهام ليسكنها في غير المكان الذي تسكنه الزوجة الأولى التي يستحيل أن تتهم بمثل هذه الفعلة (لأنها امرأة عجوز لم تنجب إلا ببشرى من الملائكة).


ولقد حاولنا تبيان أن حادثة الذبح كانت عبارة عن بلاء مبين للعائلة بأكملها لإثبات نسب الغلام ورد التهمة عن أمه هاجر.


أما في حالة حديث الإفك الذي حصل حول بيت النبي محمد، فلقد سكت النبي نفسه فترة من الزمن لأنه لا يستطيع أن ينفي أو أن يثبت التهمة المنسوبة لإحدى زوجاته، فسكوت النبي لفترة طويلة من الزمن وإعراضه عن عائشة دليل على أن النبي لم يكن يستثني احتمالية وقوع نساء الأنبياء في الفاحشة، فلو كانت الفاحشة مستبعدة عن نساء الأنبياء (كما يظن غالبية مشايخنا) لما كان النبي بحاجة أن يعرض عن عائشة عندما سمع الخبر، ولربما خرج للناس ليقول لهم أن نساء الأنبياء لا يمكن أن يقعن بهذا الفعل، ولربما تناقل المسلمون عشرات الأحاديث التي تنفي التهمة عن زوج النبي، ولكن لمّا كانت احتمالية وقوع نساء الأنبياء في الفاحشة أمرا غير مستبعد، كان لابد من وجود الدليل على التبرئة من التهمة أو إثباتها بنص قرآني صريح.


وهنا لابد من ملاحظة فرق ربما يكون جوهري بين حالة إبراهيم وحالة محمد، ففي حالة إبراهيم بقي الحديث عن الأمر طيّ الكتمان (أي في السر)، فأسرع إبراهيم إلى فض الخلاف عندما فصل بين نساءه بالسكن، ولكن حديث الإفك الذي حصل حول بيت محمد لم يبقى في السر، ولكنه أصبح حديثاً علنياً يتحدث به كل المسلمين:


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)النور 


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)النور 


تشير الآيتان الكريمتان إلى أن الحديث في الإفك قد أصبح حديث العامة، ونحن نظن أنه لو بقي الأمر غير مكشوف، وبقي حديثا في السر، لربما فعل النبي محمد ما فعل جده إبراهيم، فلربما أخذ عائشة (أو امرأته المتهمة بالخيانة إن أحبت بعض الفرق أن تظن أن هذه الآية تخص زوجة غير عائشة)، ولربما أسكنها في مكان آخر، ولو كان لتلك المرأة ولد لربما دخل الشك إلى بعض القلوب بأن ذلك الغلام ليس من نسب النبي ولربما أمر النبي أن يذبح ذلك الولد كما أمر جده إبراهيم بذبح ولده من قبل، ولكن لما أصبح حديث الإفك حديثا في العلن، وأخذ الجميع يخوضون فيه بين مصدّق ومكذب، وسبب اختلافا بين الناس، كان لابد من وجود دليل على إثبات التهمة على المرأة أو تبرئتها منها، عندها جاء الخطاب الإلهي واضحاً بالتبرئة للمرأة من التهمة المنسوبة لها، لذا أصبح الحديث عن خيانة زوجة من زوجات النبي (بغض النظر من تكون) ليس أكثر من بهتان عظيم بصريح اللفظ القرآني:


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)


ونستطيع أن نستنبط من هذه الآية الكريمة ما يلي:


1. أصبح الحديث في الإفك حديثا في العلن


2. أن التحدث بهذا الأمر من باب الاتهام لإحدى نساء النبي بالخيانة هو بهتان عظيم






فما هو البهتان؟


لو دققنا جيداً في السياقات القرآنية التي تتحدث عن البهتان لوجدنا أنه أمر خاص بالنساء، فلقد ورد الحديث عن التهمة الكلامية الموجة لإنسان بري (وخاصة النساء) على أنها بهتانا مبينا وبهتانا عظيما في أكثر من موضع من سورة النساء:


وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 20النساء 


وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 112النساء 


وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا 156النساء 


ولا شك أن في ذلك امتحان للمؤمنات (كما هو امتحان للمؤمنين جميعاً)، فجاء في سورة الممتحنة:


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 12الممتحنة 


والذين تكلّموا بهذا البهتان المبين هم بلا شك عصبة متحزّبة، لها أهدافاً تحاول الوصول إليها من خلال هذه الفتنة، لذا جاء حول حادثة الإفك في سورة الأحزاب ما يلي:


وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [3]58الأحزاب 


وجاء الخير (كل الخير) للمؤمنين في سورة النور عندما تمت التبرئة الإلهية لنساء النبي من هذه التهمة:


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ 16النور 


ولو دققنا النظر في آية الإفك أكثر لوجدنا أن الذين جاءوا بالإفك هم عصبة:


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)النور 


وعند تدبر بقية السياقات القرآنية لم نجد أن العصبة قد تجمعت إلاّ لتدبير مؤامرة كتلك التي حاكوها ليوسف:


إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)يوسف 


فنحن لا نجد أن العصبة يمكن أن تتجمع إلا لتنفيذ مؤامرة تخدم أهدافاً خاصة، لا يكون فيها خيراً –حسب ظنهم وحسبتهم- إلا لهم، ولكن تتدخل القدرة الإلهية بالمكر لأن الله هو خير الماكرين:


... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)الأنفال 


فينقلب السحر على الساحر، فلقد ظنّ إخوة يوسف (وهم عصبة) أنهم سيجنون الخير من فعلتهم تلك، فكانت النتيجة على عكس ما خططوا ونفذوا، فجاء الخير (كل الخير) لمن مكروا به (وهو يوسف)، فكان في فعلتهم تلك خيراً ليوسف وأخيه وشراً لهم، وبنفس المنطق، لقد ظنت تلك العصبة التي دبرت حادثة الإفك أنهم بذلك يستطيعون الإيقاع بالمسلمين، والمكر بهذا الدين وأهله، عندما يتعرضون بالبهتان لبيت النبي، فجاء الخير بأن أنزل الله قرآن يتلى يطهر أهل البيت كله:


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) الأحزاب 32-33


ليكون رداً إلهياً على كل من يتعرض لبيت النبي بالسوء (ليس فقط في زمن النبي) وإنما في كل زمن وحين، وليبقى الحديث في ذلك ليس أكثر من بهتان مبين، ولتبقى تلك الحادثة ليس أكثر من حديث إفك مفترى.


ما هو الإفك؟



عند استعراض آيات الكتاب التي تتحدث عن الإفك، نجد أن الإفك يحمل في ثناياه معنى الخداع كما كان الحال بالنسبة لسحرة فرعون:


وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)الأعراف 


فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)الشعراء 


وفيه الافتراء على الآخرين والكذب:


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)الفرقان 


أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) الصافات


فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)الأحقاف 


وفيه معنى أن هذه الخدعة غالباً ما تكون غير مسبوقة:


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)الفرقان 


إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)العنكبوت 


وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى ۚ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)


وإن هي كانت مسبوقة يصبح إفكاً قديما:


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ الأحقاف (11)


ولا شك أن هذا القول (الإفك) سيكون فيه قول مختلف، يذهب كل فريق مذهبه:


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)






نتيجة: لقد تمت تبرئة أهل بيت النبي من الوقوع في الخيانة بخبر ينزل من السماء قرآناً يتلى في كل وقت وحين، وقد نعت الله قول من يتحدث بهذا بأنه بهتان مبين، فكان هذا خيرا للمسلمين في كل وقت وحين، ولنتخيل لو أن الحديث بالإفك بقي سراً ولم يتحدث الناس به، لربما لم ينزل قرآناً يتلى بتبرئة نساء النبي من الخيانة، ولربما لم يجد المدافعون عن بيت النبي دليلاً يصدق ظنهم وعقيدتهم، ولربما ظل النقاش ومن ثم الدليل على التبرئة في هذه الأمة غير قطعي الثبوت كما كان الحال في بني إسرائيل الذين لم يترددوا في نعت امرأة نبيهم ورسوله إبراهيم بالخيانة، ونعت ولده إسماعيل بأنه الولد غير الشرعي لإبراهيم.


النتيجة: إنّ خيانة نساء الأنبياء لا يمكن أن تثبت أو تنفى إلا بنص صريح في القرآن الكريم، فمن كانت خائنة ورد فيها نص صريح بالخيانة كامرأة نوح وامرأة لوط، ومن اتهمت بالخيانة ورد نص صريح بتبرئتها (كنساء النبي)، ومن لم تكن مثار جدل لم ينزل بحقها نص يثبت عليها التهمة أو ينفي عنها الخيانة.[4]






وللحديث بقية


14 اذار 2012






المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان


بقلم د. رشيد الجراح



















[1] وبهذا المنطق يمكن كذلك أن نفهم لم كان كتاب موسى فقط إماما:


وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ (12)الأحقاف 


إننا نظن أن السبب أن كل الامم (اليهود والنصارى والمسلمين) لا تختلف في حقيقة كتاب موسى، بينما ينكر اليهود الإنجيل والتوراة، وينكر النصارى القرآن ككتاب إلهي، لذا فالإنجيل ليس إماماً والقرآن ليس إماماً.


[2] فنحن نعلم أن بنو إسرائيل حتى هذه اللحظة ينعتون إسماعيل بأنه الأبن غير الشرعي لإبراهيم، متشككين في نسب الغلام لأبيه، فجاءت قصة الذبح هذه لتكون خيراً لإسماعيل وأمه بدل أن تكون شراً لهم وذلك لاثبات نسب الغلام لأبيه ورد التهمة عن الزوجة بالخيانة، وقد تكرر مثل هذا السيناريو بالاتهام المبطن للزوجة بالخيانة في آل بيت النبي محمد في حادثة الافك، وسنرى لاحقاً كيف كانت حادثة الافك – كما أكد النص القرآني- خيراً للمسلمين وليس شراً لهم.


[3] وربما نستطيع أن نستنبط أن الذي دبّر حادثة الإفك كان شخصاً واحداً وذلك – ما يمكن أن نفهمه حتى اللحظة- من ما جاء في قوله تعالى:


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)


فالذين جاءوا بالإفك كانوا عصبة (جماعة)، ولكن الذي تولى كبره (وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ) كان شخصاً واحداً وهو من توعده الله بالعذاب العظيم (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فالله لم يتوعد من جاءوا بالإفك (العصبة) بذلك العذاب العظيم، ولكنه توعد بذلك العذاب الذي تولى كبره فقط، فالذي تولى لا شك كان يهدف إلى الإفساد في الإرض وتقطيع الأرحام:


فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)محمد 






[4] وقد كان جزء من ذلك الخير أن نزل في ذلك السياق القرآني نفسه آيات الشهادة على الزاني والزانية، فكان من رحمة الله بالناس أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء:


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)


لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)


ولنتخيل كيف يمكن أن تكون حال المسلمين لو أن الزنا يثبت بشاهدين اثنين فقط كباقي القضايا التي تتطلب الشهادة كالسرقة وقضايا الميراث وغيرها، فالله قد شدّد الشهادة على ثبوت الزنا بعد حادثة الإفك مباشرة، فكان ذلك خيراً للمؤمنين والمؤمنات جميعاً.