تبحث المقالة في الديناميكيات داخل بيوت الأنبياء، مع التركيز على التحديات التي تثيرها النساء وكيف يمكن أن تؤثر الخلافات بين الزوجات على الذرية. تناقش المقالة فكرة أن النبوة موروثة وتستكشف صراع أبناء الأنبياء على هذا الميراث، وتضرب الأمثلة من قصص إبراهيم ويعقوب وذرّيتهم. كما تحلل الفرق في استخدام القرآن بين كلمتي "أبويه" و"والديه"، وتجادل بأن "أبويه" قد تشير إلى شخصين من الذكور وليس بالضرورة الأب والأم، مستشهدة بقصة يوسف. أخيرًا، تميز المقالة بين مفهوم "البيت" الذي يشير إلى الملكية الخاصة و**"المسكن"** الذي قد يكون مكانًا مؤقتًا، وتربط هذا التمييز بكيفية إدارة إبراهيم لذريته ومنع الصراع.
ولا شك لدينا أن إبراهيم قد وجد – كما سنبين لاحقاً- أنّ هذا الصراع لن يتوقف عند ذاك الحد، لذا كان لابد له من التصرف بحكمة ليحافظ على كل أهل بيته، فلا يطغى طرف منهم على الطرف الآخر. كما أكدنا في ذلك الجزء من المقالة أنّ النساء كن المحرك الرئيس لذاك الصراع، فعلاقة سارة بهاجر ستؤثر بشكل هائل على علاقة إسحق بإسماعيل في المستقبل، وربما ستسبب صراعاً بين أبناء نبي الله إبراهيم.
كما حاولنا تبيان أن النساء كن على الدوام سبباً في إثارة الشبهات حول بيوت الأنبياء، فامرأة نوح وامرأة لوط كنّ المثل الأسوأ على الأذى الذي لحق بأنبياء الله بسببهن، ولكنّ مشكلة نساء الأنبياء لم تكن على الدوام واضحة المعالم كما كان الحال بالنسبة لنوح أو لوط، فبالرغم أن نساء إبراهيم لم تصل بهن الحال إلى درجة الخيانة، إلا أن بيت إبراهيم لم يكن يخلو من المشاكل التي كان سببها النساء، فعلى أقل تقدير نستطيع القول بأننا لم نجد في كتاب الله أن نساء إبراهيم كن زوجاته، فلقد تحدث النص القرآني عند امرأة إبراهيم التي كانت قائمة:
وتحدث عن امرأته التي كانت مقبلة:
ولم يتحدث عن أي منهما على أنها زوجته (للتفصيل حول الفرق بين المرأة والزوجة في النص القرآني انظر مقالتنا ماذا ستفعل النساء في الجنة؟)
وقد تفاقمت المشكلة أحياناً في هذه البيوت حتى وصلت الحاجة في بعض الأحيان إلى تأكيد رباني بطهارة تلك البيوت، فالله نفسه هو من طهّر بيت إبراهيم:
ولا ننسى أنّ الإرادة الإلهية تدخلت أيضاً لتدفع الأذى عن بيت محمد نفسه:
ولو دققنا النظر في كلا الحالتين، لوجدنا الخطاب موجهاً مباشرة للنساء، فامرأة إبراهيم التي عجبت من أمر الله هي من وجّه الله لها الخطاب بطهارة أهل البيت، ونساء النبي مجتمعات هن من توجه الخطاب إليهن بطهارة بيت النبي محمد (فلا ننسى حادثة الإفك). إن مراد القول هو أن نساء بيت النبي (إبراهيم، محمد، الخ) كن سبباً رئيسياً في الحاجة إلى أن ينزل خبر من السماء بطهارة بيت ذاك النبي، فلا أظن أن نساء النبي (أي نبي) سيسكتن إن حصل خلاف بشأن إحدى نسائه.
وما كان هذا الصراع سيتوقف عند النساء أنفسهن، ولكننا نجد أن الصراع قد امتد إلى ذرية الأنبياء متى كان هناك خلاف بين نساء النبي، وسنقدم المثال التالي لتوضيح الفكرة
صراع أبناء الأنبياء
سنحاول في هذا الجزء تبيان كيف استطاع إبراهيم بحكمته أن يحد من الصراع القائم بين نسائه، والذي كان من الممكن أن يمتد إلى ذريته لو لم يقْدِم على حل المشكلة من جذورها، لا بل ويسخرها لتخدم أهل بيته جميعاً بدلاً أن تكون سبباً في إيقاع الأذى بهم، ولكن كيف؟
رأينا: نحن نظن أن إبراهيم استطاع بحكمته أن يتجنب المشكلة التي أوقع فيها يعقوب – مثلاً- نفسه، فجميعنا يعلم ما حصل بين أبناء يعقوب بسبب نزغ الشيطان بينهم، ولنبدأ القصة بتفاصيلها البسيطة التي قد نتفق عليها جميعاً لنرى في نهاية المطاف أن يعقوب لم يستطع أن يتصرف بحكمة جده إبراهيم.
فها هو يوسف - أحد أبناء يعقوب- يرى الرؤيا التي يحدّث بها أبيه فقط:
فما يكون من والده إلا أن يطلب من ولده أن لا يبوح بالخبر لإخوته، لأنّ النتيجة ستكون في نظره وخيمة إن هو فعل:
فهو يرى أن ولده هذا قد اجتباه ربه على جميع إخوته:
وهنا نطرح جملة من التساؤلات التي ربما ستسبب مفارقات عن ما هو سائد من أفهام حول القصة:
- هل أخبر يوسف إخوته برؤياه وقد نهاه أبوه أن يفعل ذلك؟
لا أظن ذلك (فلقد نهاه أبوه عن فعل ذلك)
- هل أخبر يعقوب أولاده رؤيا أخيهم يوسف؟
لا أظن ذلك (فهو من نهى ابنه عن البوح بالخبر حتى لإخوته)
- كيف إذاً علم أبناء يعقوب خبر الرؤيا؟
لا أظن أنهم علموا خبر الرؤيا (فلا يوجد في النص القرآني دليل يثبت أنهم قد علموا خبر الرؤيا، فهم لم يناصبوا يوسف العداء بسبب الرؤيا، ولكنهم ناصبوه العداء لظنهم أن يوسف وأخيه أحب إلى أبيهم منهم، معتقدين أنهم عندما يطرحوا يوسف أرضا سيخلو لهم وجه أبيهم، أليس كذلك؟)
- هل منع ذلك أبناء يعقوب أن يكيدوا لأخيهم ما دام أن خبر الرؤيا لم يصلهم؟
كلا، لقد دبّ الخلاف (أي نزغ الشيطان) بينهم حتى دون علمهم بخبر الرؤيا.
- لكن لماذا؟ لماذا نشب الخلاف بين إخوة يوسف بالرغم أنه لم يصلهم خبر تلك الرؤيا؟
الجواب: إنه صراع الضرائر
الدليل
لنرقب كيف قسم إخوة يوسف أنفسهم إلى فريقين:
فالآية الكريمة تشير - بما لا يدع مجالاً للشك- أنّ أخوة يوسف يرون أنفسهم فريقين متنافسين، يخطب كل منهم ود أبيهم، فما يكون منهم (الفريق الأول) إلا أن يمكروا بيوسف لأنه (بالنسبة لهم) ليس منهم:
نعم، هكذا كان صراع أبناء الأنبياء، يقسموا أنفسهم إلى فريقين حتى وإن كانوا جميعاً أبناء نبي واحد، وتكون تلك القسمة مبنيّة على نسبهم لأمهم، فأبناء الأم الواحدة يشكلون فريقاً (وربما نداً وخصماً) لأبناء الأم الأخرى.
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن يعقوب قد أخطأ يوم أن ظن أن سكوت يوسف على الرؤيا ستمنع عنه المكيدة من إخوته:
ولم يكن يعقوب – نحن نظن- سيمنع يوسف من البوح برؤياه لإخوته لولا يقينه من أن الظروف التي يمكن أن تسبب الفرقة بين أبناءه متوافرة، وهو يرى أن البوح بهذه الرؤيا سيزيد الطين بله، فلقد كان يعقوب يطمع أن يبقى أبناءوه متجمعين (وهما فريقان في نسبهم لأمهم، فالأب واحد ولكن الأم مختلفة)، فلا يضطر أن يفعل ما فعل جده إبراهيم، ففعلة يعقوب هذه تدل على أن الرجل كان راغباً في أن يُسْكِنَ كل أبناءه نفس المكان، وأن لا يضطر أن يسكن بعضهم في بلاد غير البلاد التي يسكنها الآخر، فلا أظن أن يعقوب قد غفل عن ما فعل جده إبراهيم بأولاده يوم أن أسكن بعضهم بلاداً غير تلك التي يسكنها الآخر.
ولكن المفارقة تكمن في أن النتيجة كانت بالتأكيد على عكس ما تمنى يعقوب ورغب، فلقد قسم الأبناء أنفسهم إلى فريقين متناحرين، يكيد بعضهم للبعض الآخر، لأنهم ببساطة لا يشكلون كتلة واحدة مادام أنهم ليسوا جميعاً من أم واحدة، ففريق منهم ينتمي إلى واحدة من نساء يعقوب، والفريق الآخر ينتمي إلى أخرى، فيوسف وأخوه من أم تختلف عن أم أخوته الآخرين الذين كادوا له، فالخلاف لا محالة حاصل، ولكن لماذا؟ لماذا يكيد أبناء الأم الواحدة لأخوتهم من أبناء الأم الأخرى؟
الجواب: إنه ميراث النبوة
استراحة قصيرة: أين أم يوسف؟
سألني السيد خالد (أحد المهتمين بتخاريفي) عن أم يوسف مستغرباً:
- "أين والدة يوسف؟
- لم لا يذكر القرآن عنها شيئاً؟
- أليست الأم هي من ينفطر فؤادها على فراق ولدها؟ هل نسينا أم موسى يوم فارقها طفلها بوحي من الله؟ ألم تكن لتبدي به من شدة لهفتها على ابنها لولا أن الله قد ربط على قلبها؟
- لم حزن يعقوب على يوسف أكثر من حزن أمه عليه؟
- إذا كان يعقوب قد ابيضّت عيناه على فراق ولده من الحزن، فماذا حصل ببصر أم يوسف؟ هل لا زالت تبصر بمن حولها؟
- لم خاطب يوسف على الدوام والده حتى في غيابه؟ فهو على الأقل قد بعث بقميصه إلى أبيه، ألم يكن يملك (وهو الآن رب مصر وسيدها) أن يرسل إلى أمه (ولو) هدية بسيطة يعبر لها فيها عن حبه واشتياقه لها؟ ربما كان ينتظر عيد الأم ليفعل ذلك، من يدري!
- لم لا نجد خطاباً ليوسف يتحدث فيه عن أمه؟
- أليست هذه جميعاً أسئلة مشروعة؟" يظن صاحبنا.
رأينا: إننا نظن – يا سيد خالد- أنّ والدة يوسف لم تكن موجودة إطلاقا في خضم الأحداث كلها، لقد توفاها الله من ذي قبل.
ولكن "تمهل قليلاً"، يرد صاحبنا: "ألم يقل يوسف أنه قد رأى في منامه الشمس والقمر؟ ألا يدل ذلك على أمه وأبيه؟ ثم، ألم يؤوي يوسف إلى أبويه يوم أن دخلوا مصر؟ ألا يدل ذلك أيضاً على وجود أمه مع القوم الذين دخلوا أرض مصر؟ ألا ترى أنك تهذي يا رجل؟ ألا تكفيك كل هذه الأدلة التي ساقها الأقدمون للحديث عن أم يوسف وأبيه معاً؟"
رأينا: كلا وألف كلا، ذلك ما ظن المفسرون وكثير من علماءنا الأجلاء، ونحن نستميحهم العذر لنخالفهم الرأي مرة أخرى
نظرة جديدة
غالباً ما فهم العامة (بسبب تفاسير معظم أهل العلم بالطبع) أن قصة الشمس والقمر اللذين ذكرا في قصة يوسف ربما تشير أن المقصود في الخطاب هما أمه وأبيه، أليس كذلك؟ ولكننا نحب أن نثير تساؤلاً بسيطاً جداً، وليعذرنا السادة القراء على سخافة سؤالنا:
السؤال: أيهما الأب وأيهما الأم؟ هل الأم هي الشمس أم القمر؟ وهل الأب هو الشمس أم القمر؟ فأيهما أيهما؟ نحن نرجوا سادتنا العلماء الذين استنبطوا أنّ الشمس والقمر هما أم يوسف وأبوه (أو العكس) أن يسعفونا بالتعرف على الأم والأب بشيء من التفصيل؟
أما نحن، فإننا نعتقد جازمين أن الشمس والقمر لم يكونا أم يوسف وأبوه، ولكن من هم إذاً؟
الجواب: في حين أن سادتنا العلماء (وهم ربما على حق) حملوا معنى "أبويه" التي وردت في قصة يوسف على أنها أمه وأبيه، نرى (ونحن بالتأكيد مخطئين) أننا نملك ما يشبه الدليل من كتاب الله على أن مفردة "أبويه" ربما تحمل معنى غير المعنى الذي ظنه من سبقنا، ولكن كيف؟
الفرق بين أَبَوَيْهِ و وَالِدَيْهِ في النص القرآني
رأينا: لم يميّز كثير من أهل العلم بالدقة المنشودة بين مفردتين متقاربتين في النص القرآني وهما: والديه وأبويه، فيوسف قد رفع على العرش أبويه ولم يرفع والديه، دقق –عزيزي القارئ- في النص جيداً:
لا شك أن يوسف قد رفع على العرش شخصين بدليل أن مفردة أَبَوَيْهِ تدل على المثنى، أليس كذلك؟ ولكن السؤال المطروح هنا هو: من هم هذان الشخصان؟ هل فعلاً كانا أمه وأباه؟ أم كان شخصين آخرين؟
رأينا: إننا نرى أنه بالإضافة إلى أن معنى مفردة "أَبَوَيْهِ" في النص القرآني يمكن أن يكون الأب (مذكر) والأم (مؤنث) كما ظن من سبقنا، يمكن كذلك أن تحمل المعنى بأن يكون الاثنان مذكر (أي أب وأب) وليس فقط مذكر مع مؤنث (أي أب وأم)، ولكن لماذا؟
نحن نظن أنه لو جاء النص القرآني على نحو أن يوسف قد رفع والديه على العرش، لربما سلمنا بصحة ما قاله مشايخنا وذلك لأن مفردة "والديه" – كما سنبين بعد قليل- لا تحمل في النص القرآني إلا على معنى الأب والأم معاً، ولكن لما كان يوسف قد رفع أبويه (وليس والديه) على العرش، ربما بقي لنا ما يمكن أن ندلوا بدلونا فيه.
الدليل
عند دراستنا للسياقات القرآنية الكثيرة التالية وجدنا أن الحديث عن الأب والأم معاً غالباً ما ورد في النص القرآني بصيغة "الوالدين":
لذا، فإننا نرى أن الخلط جاء واضحاً عند كثير من أهل العلم بين مفردة أبويه عند الحديث عن يوسف:
مع مفردة أخرى في النص القرآني التي تتحدث بصريح اللفظ عن الأم والأب معاً وهي مفردة والديه، فها هو يحيى يتحدث عن والديه:
وكذلك جاءت الوصيّة من الله للإنسان خيراً بوالديه:
ونهى الله الإنسان عن الإساءة إلى والديه:
وغالباً ما جاء الحديث عن الأم مفصلاً عند الحديث عن الوالدين:
فالأم هي والدة:
لذا جاء حديث عيسى بن مريم عن والدته:
والأب هو كذلك والد:
النتيجة: عندما تحدث يوسف عن من رفعهم على العرش، جاء حديثه عن أَبَوَيْهِ وليس عن وَالِدَيْهِ، أليس كذلك؟ لذا يصبح الظن عندنا يميل أكثر إلى الاعتقاد بأن يوسف قد رفع على العرش رجلين.
ولكن تمهل قليلاً- استوقفنا صاحبنا خالد قائلاً-: "إذا كان الأب والأم معاً هما في النص القرآني والدين، فأين الدليل على أن الأبوين يمكن أن يكونا شخصان من نفس الجنس (أي أب وأب)؟"
الجواب: لو استعرضنا ما قاله يعقوب نفسه لابنه يوسف يوم أنْ قص عليه الرؤيا، لربما وجدنا ما يثير الانتباه:
فيعقوب إذاً يتحدث مع يوسف عن إبراهيم وإسحق على أنهما أبويه (وليس والديه)، أليس كذلك؟
النتيجة: الأبوين يمكن أن يكونا رجلين وليس فقط رجل وامرأة[1]
السؤال: من هم أبواه اللذان رفعهما على العرش؟
الجواب: لا شك عندنا أن أحداهما كان يعقوب، أما الآخر فيمكن استنباطه من الآية الكريمة التالية:
نعم، لقد كان ليوسف في بلاد الشمس - موطنه الأصلي أب (وهو يعقوب)، وكان له في بلاد القمر – أرض مصر- أب آخر (وهو الذي اتخذه ولدا). فالمسافة بين أبيه في موطنه الأصلي (يعقوب) وأبيه في أرض مصر تمثلها المسافة بين الشمس والقمر في كبد السماء، فما أن تغيب الشمس حتى يظهر القمر[2].
ولما دخل أبوه (الشمس) يعقوب أرض مصر لم ينسى يوسف أباه الذي أحسن إليه في أرض مصر واتخذه ولدا، فرفع أبويه على العرش، ولكن يوسف توجه بالخطاب إلى أبيه يعقوب الذي يعلم خبر الرؤيا من قبل بالقول:
عودة على بدء
لم يكن قرار يعقوب السكوت على رؤيا يوسف ستمنع نشوب الخلاف بين أبناءه لرغبته في أنه يمكن أن يبقيهم مجتمعين معاً في أرض واحدة، فالخلاف على ميراث النبوة كان – كما سيظهر من شططنا لاحقاً- أكبر من قدرة الأبناء على التحمل، فهم بلا شك يعلمون أن ميراث النبوة سيكون من نصيب طرف على حساب طرف آخر، ولا شك أن جميعهم كان طامعاً أن يكون هو صاحب الحظ العظيم.
لقد حصلت الفرقة بين أبناء يعقوب (وإن لم يكن باختياره) عندما كانوا متجمعين في مكان واحد، فتفرق الجمع، ليسكن كل طرف منهم بلاداً غير تلك التي يسكنها الآخر، وكانت النبوة من نصيب طرف واحد منهم دون الطرف الآخر، لدرجة أن أبناء يعقوب أنفسهم اضطروا في لحظة ما أن يعترف بعضهم بأفضلية الآخر عليه:
السؤال: ما دام أنهم جميعاً أبناء نبي واحد، لِمَ يؤثر الله بعضهم على بعض، كما ظنوا؟
إن هذا السؤال يعيدنا على الفور للحديث عن أبناء إبراهيم إسماعيل وإسحق لنطرح التساؤل التالي: هل أضطر أحد أبناء إبراهيم أن يقر بفضل أخيه عليه؟ هل اضطر إسماعيل للاعتراف بفضل إسحق عليه؟ أو بالمقابل، هل اضطر إسحق للاعتراف بفضل إسماعيل عليه؟
الجواب: كلا
السؤال: لماذا؟ لماذا لا نستطيع نحن المسلمين (لا بل من غير المفترض) أن نفضل أحد أبناء إبراهيم (إسماعيل أو إسحق) على الآخر في حين أننا لا نختلف في الوقت ذاته بفضل يوسف على إخوته؟
الجواب: كان ذلك جزءاً من حجة إبراهيم التي آتاه الله إياها، ولا تخفى على أحد، لقد تمكن إبراهيم بحكمته أن يمنع وقوع المكيدة بين أبناءه، لا بل واستطاع –كما سنرى لاحقاً- أن يثبت الفضل لهم جميعاً، فلا إيثار لأحدهما على الآخر، فكان إسحق نبياً من الصالحين كما كان إسماعيل نبياً من الصالحين. فتحقق هدف إبراهيم المعلن من إسكانه جزءاً من ذريته بواد غير ذي زرع وهو إقامة الصلاة:
وهنا قد يبادرنا البعض بالسؤال: كيف حافظ إبراهيم على بيته بتلك الطريقة كما تزعم؟
رأينا- إننا نظن أن الجواب يكمن في مفردة واحدة وهي كلمة "البيت"، ولكن كيف؟
لقد أصاب الوهنُ بيتَ إبراهيم، فقام إبراهيم على الفور بإنقاذ بيته بأن أنشأ بيتاً جديداً غير البيت الذي كان أهله سيكنوه معاً.
لإبراهيم بيتان بدلاً من بيت واحد
لنقرأ النص القرآني التالي:
لا شك عندنا أن هذا الحوار حصل في بيت إبراهيم الأول الذي كانت يسكنه إبراهيم مع نساءه سارة وهاجر، وقد تحدثنا أن الملائكة قد نزلت ببيت سارة، فهي التي كانت قائمة، وهي التي ضحكت، وهي التي جاءتها البشرى بالذرية، فحتى تلك اللحظة كان لإبراهيم بيت واحد، يسكنه مع نسائه وما تحصل له من ذرية حتى تلك اللحظة، ولكن إبراهيم آثر بعد أن تحصلت له ذرية جديدة من امرأته الأولى أن يأخذ جزء من أهل ذلك البيت (امرأته الثانية مع طفلها إسماعيل) ليسكنهم في واد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، وما هي إلا سنوات حتى يشتد ساعد ولده إسماعيل حتى يبدأ إبراهيم مع ولده إسماعيل برفع القواعد من البيت:
فيصبح لإبراهيم بيتان: بيته القديم (في الأرض التي باركنا فيها) الذي لازال مكان سكن زوجته الأولى سارة مع ولدها إسحق، وبيت جديد (عند بيت الله الحرام) يسكنه ابنه إسماعيل مع أمه هاجر.
نتيجة: لقد قسم إبراهيم ذريته إلى نصفين، وأسكن كل قسم منهم في مكان غير المكان الذي يسكنه الآخر، ولكن لماذا فعل ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: لو لم يفعل إبراهيم ذلك – نحن نفتري- لطغى قسم منهم على الآخر كما كان الحال بالنسبة لذرية يعقوب، ولأصبح بيت إبراهيم الأول ليس أكثر من مسكن ولن يكون بيتاً. إن إنشاء البيت – في رأينا- يعني تحقيق الاستقلالية لكل طرف عن الطرف الآخر. لم يكن إبراهيم يريد أن يتحول بيته إلى مسكن.
استراحة قصيرة: ما الفرق بين البيت والمسكن في النص القرآني؟
سنحاول أن ندافع عن الإفتراء التالي الذي هو من عند أنفسنا: يمكن إدعاء ملكية البيت ولكن لا يمكن إدعاء ملكية السكن.
الدليل
جاء في القرآن الكريم عند الحديث عن النحل:
بينما جاء الحديث عن النمل على النحو التالي:
وهنا نتوقف لنطرح السؤال التقليدي المعهود عن التناوب في استخدام المفردات بالقول: لماذا تتخذ النحل بيوتاً بينما تدخل النمل المساكن؟ ما الفرق بين البيت (كما في حالة النحل) والمسكن (كما في حالة النمل)؟
رأينا: إننا نظن أن البيت هو المكان الذي تنشئه بنفسك ولا يأخذه أحد غيرك، في حين أن المسكن قد لا تكون أنت من شيدته بيديك، وربما تشيده بيديك ولكن قد تؤول ملكيته بعد فترة من الزمن إلى غيرك.
الدليل
ما هو البيت؟
مما لا شك لدينا أن العنكبوت هي من تنسج بيتها بيدها، فلا تسكن في مكان شيّده غيرها:
وها هم القوم ينحتون بيوتهم بأيديهم:
ولا شك لدينا أن امرأة فرعون ستسكن في بيت بالجنة لن يكون من نصيب غيرها إطلاقاً:
فالبيت ملكية خاصة لا حق للآخرين فيه، فقد نهى الله أن يدخل أحد بيتاً غير بيته دون إذن صاحبها:
إلا تحت ظرف واحد وهو أن تكون تلك البيوت غير مسكونة (ليس لأحد الحق في ملكيتها):
ونحن نظن أن السبب في ذلك هو أن ملكية البيت تعود للمرأة، فصحيح أن النبي هو شخص واحد لكن كان للنبي أكثر من بيت، فقد كان عدد بيوته بعدد زوجاته:
فالنبي -لا شك- هو شريك في كل هذه البيوت، ولكن ليس لأحد من نساءه الحق في بيت ضرائرها، ويقتصر حقها في البيت الذي تسكن هي فيه.
وقد أثبت الله في كتابه الكريم حق ملكية البيت للمرأة (كما هو لزوجها):
ما هو المسكن؟
ولكن بالمقابل، عندما سكن آدم وزوجه الجنة، لم يكونوا هم من شيدوا المكان، ولم يحتفظوا بملكيته، فقد جاءت اللحظة التي خسروا فيها المكان:
وقد يسكن قوم الأرض من بعد قوم آخرين:
وها هم نفر من بني إسرائيل يسكنون قرية لم يشيدوها بأيديهم:
وقد يفنى أهل المكان ويبقى سكنهم قائما:
والرجل قد يسكن إلى أكثر من زوجة:
فالليل لا شك هو سكن لأنه لا يدوم:
نتيجة: لقد اثبت الله أن للنحل بيتا لأن ذلك البيت هو ملكية خاصة من صنع النحل أنفسهم، فلا تسكن النحل في بيت لا تصنعه بنفسها، ولا تسكن على أنقاض الآخرين، ولا يصلح لأن يسكن به الآخرين إن هي هجرته، ولا شك أن النحل الذي يسكن ذلك البيت هو من نصيب الإناث، فذكور النحل ليسوا من سكانه الأصليين، فهم موجودون لحاجة في ذلك البيت، وما أن تنقضي الحاجة إليهم حتى يتم التخلص منهم. والبيت غالباً ما يكون عرضة للتفكك لأن البيت غالباً ما يكون ضعيفاً قد لا يستطيع أن يصمد أمام الشدائد.
أما النمل بالمقابل فهو يتواجد في مساكن لأن النمل – نحن نظن- لا يصنعوا ذلك المسكن بأنفسهم، فربما يسكنون فيه على أنقاض غيرهم، وربما يهجروه وينتقلوا منه إلى مكان آخر، فيأتي من يتخذه سكناً جديداً، وذلك لأن المسكن يتصف بالقوة، فقد يقارع الخطوب (كما قارع مسكن النمل جند سليمان)، وكما تحملت مساكن الأقوام العذاب الذي نزل بسكانها ولكنها بقيت قائمة من بعدهم، فأورثها الله قوماً آخرين.
إبراهيم والعنكبوت والنحل والنمل
هل أنشأ إبراهيم سكناً أم بيتاً؟
الجواب: بيتاً
رأينا: لا شك أن أهم صفة يمكن أن تطلق على عائلة إبراهيم أنهم أهل البيت، ولكن ماذا حلّ بذاك البيت؟
لقد كان لإبراهيم بيت أصابه الوهن بسبب الخلاف الذي نشب بين نسائه، فانقسم البيت الواحد إلى بيتين، وبالرغم أنّ إبراهيم كان شريكاً في كلا البيتين، إلا أن القسمة كانت مبنية على أساس ملكية الزوجة، فلا حق لسارة ببيت هاجر ولا حق لهاجر ببيت سارة.
لماذا سمح إبراهيم بهذا الانقسام؟
الجواب: لقد سمح إبراهيم بذلك ليتم له تقسيم ميراث النبوة بالعدل بين أبناءه، ولكن كيف؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من أن نستجلي الصورة في قضايا متشابكة كثيرة نتناولها من خلال طرح الأسئلة التالية:
- لماذا تورّث النبوة؟
الحديد (26)
- لماذا استمرت النبوة في بيت إسحق وانقطعت من بيت إسماعيل؟
- لماذا كان الذبح من نصيب إسماعيل؟
- كيف كان إبراهيم أمة؟
- لماذا دعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً من أنفسهم ولم يفعل ذلك لإسحق؟
ونحن نملك اليقين أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات ستفضي بنا للحديث عن قضايا قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن صلب الموضوع، لكننا نرى أنها كانت نتائج حتمية لهذه الحوادث التاريخية الحاسمة، نذكر منها:
- لماذا حصلت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) على وجه التحديد؟
- لماذا لم يكن محمد راض كل الرضا عن القبلة التي هو عليها؟ ولماذا تقبل الله تقلب وجه محمد بالسماء فغير القبلة إلى الجهة التي يرضاها محمد؟
- كيف تصرف محمد في حادثة الإفك؟ ولماذا كانت حادثة الإفك خيراً لبيت محمد وللمؤمنين ولم تكن شراً لهم:
- لماذا انقطعت النبوة مع نهاية رسالة محمد، فكان محمد خاتم النبيين؟
الأحزاب (40)
هذا ما سنتناوله بحول الله وتوفيقه في الجزء السادس من هذه المقالة
وللحديث بقية
15 شباط 2011
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
[1] نحن لا نستثني أن يكون الأبوين رجل وأمرأة ولكن هذا لا يمنع أن يكونا رجلين كما في حالة يوسف:
[2] وسنرى لاحقاً أن هذا كان جزءاً من العقاب ليعقوب نفسه على ما أخطأ بحق أبناءه، فعندما اختص يعقوب احد أبناءه بمعاملة تميزه عن بقية إخواته حتى أصبح سلوك يعقوب ذاك واضحاً للقاصي والداني، ولم يعد إخفاءه ممكناً، فهو نفسه لم ينكر ذلك، كان ذلك سبباً في أن يكيدوا أخوة يوسف لأخيهم، لذا جاء العقاب – في نظرنا- ليعقوب النبي من نفس الفعل، لقد اشتغل قلب يعقوب بيوسف أكثر مما يجب على حساب إخوته، لذا نرى أن الله شطر حب الأب في قلب يوسف بين أبوين، وفي هذا حكمة عظيمة لكل أب، فلا يعطي حبه لأحد من أبناءه على حساب الآخرين لأن ذاك الأبن ربما يجد في قلبه متسعاً من المكان لأكثر من أب. ففي حين أن لهفة يعقوب على يوسف قد بدت على محياه، فضعف جسمه وابيضت عيناه من الحزن فأصبح كظيما، لا نجد ذلك عند يوسف بنفس الدرجة والمقدار. فلقد حملّ ألقى الفكر الإسلامي مسؤولية الخلاف الذي نشب بين يوسف واخوته على كاهل الأبناء ونسوا (وربما تناسوا) نصيب الأب في تلك المشكلة.
[3] لذا نفهم أن هذه المكرمة الإلهية لبني إسرائيل لم تكن حقاً مشروعاً إلى الأبد، فالله لم يتخذ تلك الأرض بيتاً لبني إسرائيل (حتى يكون ملكية خاصة لبني إسرائيل فلا يحق لأحد غيرهم ادعاء ملكيتها كما يظنون)، وإنما اتخذها مسكناً لهم، تتبدل الأقوام التي تسكنه، لذا لم يغلق الله الباب أمام غيرهم ليتخذوا تلك الأرض مسكناً فترة من الزمن. فتلك الأرض جعلها الله ميراث لعباده الصالحين (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان ماذا كتب في الزبور؟)
وبهذا يمكن أن نفهم أن أهل الجنة هم على الدوام في حالة تغيير للمكان الذي سيسكنون فيه، فلن يستقروا على الدوام في مكان واحد:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة (72)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الصف (12)