قصة يوسف 16: وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ


انتهينا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى افتراء القول من عند أنفسنا أنه قد توافر ليوسف نوعان من العلم وهما:
1.     العلم الذي تحصل له من أبيه يعقوب وهو علم الفتوى في الرؤيا
2.     العلم الذي تحصل له من أبيه الذي تربى في بيته وهو علم تأويل الأحاديث
وكانا هذان هما أبويه اللذين رفعهما على العرش معا:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا...  


ولكن واحد منهم فقط هو من وجه إليه يوسف الخطاب بعد أن رفع كليهما على العرش، انظر تتمة الآية السابقة:
... وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وزعمنا الظن بأن اسم الإشارة هَذَا في قوله (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ) هو – نحن نفتري القول- إشارة من يوسف بيده إلى مكان محدد وهو ذلك العرش (أي الشاشة) التي يبين من خلالها أمر ما هو كائن. فلقد رفع يوسف أبويه عليها ليرى أبوه يعقوب على وجه التحديد تأويل الرؤيا كما تظهر على عرش يوسف.
كما افترينا القول بأن العرش هو العلّم الذي تعلّمه يوسف في بيت أبيه الثاني الذي اشتراه من مصر. فذاك الرجل كان صاحب علم بالعرش، فلم يكن يحتاج يوسف أن يريه إياه. ولكن يعقوب هو الذي يحتاج أن يرى ما تحصل لولده يوسف من إتمام نعمة ربه عليه كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق، وكما سيكون في ذلك تمام النعمة الإلهية على آل يعقوب من بعده:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فكان ذلك – في رأينا- هو علم تأويل الأحاديث الذي تعلمه يوسف بعيدا عن والده يعقوب في بيت ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر :
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
كما افترينا القول بأن العلم الذي تلقاه يوسف في بيت أبيه الأول يعقوب كان هو علم الفتوى بالرؤيا:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وقد سقنا الدليل على ذلك من مشاهدة مفادها بأن ذلك العلم كان متوافرا في بيت يعقوب من ذي قبل. فيوسف هو أول من رأى شيئا، فقصصه مباشرة على والده يعقوب:
          إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
ونحن نعتقد جازمين بأن يعقوب كان على دراية بالفتوى في الرؤيا، وذلك على أقل تقدير لسببين اثنين:
1.     أن يوسف لم يتردد أن يقصص رؤياه على والده طالبا خبرها، فلو لم يكن يعقوب على دراية بذلك لما لجأ إليه يوسف من باب من يريد معرفة الفتوى بها
2.     والأهم من ذلك بأن رد يعقوب يشير بما لا يدع مجالا للشك بمعرفته (وأبناءه جميعا) بالفتوى فيها، فيعقوب هو من حذّر ولده من أن يقصص رؤياه هذه على إخوته لأن العاقبة ستكون وخيمة:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
فلو لم يكن يعقوب على يقين بأن إخوة يوسف قادرين على الفتوى بتلك الرؤيا لما اضطر أن ينبّهه إلى خطر قصّها على إخوته. إن تحذير يعقوب ليوسف يؤكد – ربما بما لا يدع مجالا للشك- بأن إخوة يوسف كانوا قادرين على الفتوى في الرؤيا.
نتيجة: لقد كان علم الفتوى بالرؤيا متواجدا في آل يعقوب جميعا. فكان يعقوب على دراية بهذا العلم كما كان أبناؤه جميعا على دراية به.
وقد كان أخطر ما افتريناه من قول في نهاية ذلك الجزء من المقالة هو أن ذلك العلم (الفتوى بالرؤيا) قد كان متوافرا في بيت يعقوب لأنه علم قد ورثه من أبويه إبراهيم وإسحق وقام بتعليمه لأبنائه من بعده ليستمر ذلك العلم في بيت النبوة. وقد كان الدليل الذي سقناه على هذا الافتراء الخطير مستنبطا (وربما نكون مخطئين) من فهمنا لما جاء في  الآية الكريمة التالية التي تبيّن – كما نفهمها- أن أول خبر بالرؤيا جاء ذكره في كتاب الله قد جاء على لسان إبراهيم نفسه:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
ولو تفقدنا القرآن كلّه لما وجدنا خبر ذلك سابقا لإبراهيم في حادثة ذبحه ولده هذه.
وقد دعانا هذا الظن إلى طرح التساؤل التالي: لماذا ابتدأ الحديث عن الرؤيا في كتاب الله عند إبراهيم نفسه؟ وما الذي رءاه إبراهيم فعلا؟ وكيف أقدم نبي الله وخليله إبراهيم على ذبح ولده لمجرد أنه قد رأى ذلك في المنام؟ الخ.
هذا ما سنحاول النبش فيه سائلين الله وحده أن يهدينا إلى الحق الذي نقول فلا نفتري عليه الكذب، وندعوه وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا إنه هو الواسع العليم.
أما بعد
السؤال الأول: ما الفرق بين ما رءاه إبراهيم وما رءاه غيره؟
جواب: لقد حصلت رؤيا إبراهيم في المنام:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وما تكررت الرؤيا في المنام إلا في حادثة واحدة أخرى في كتاب الله وهي ما رأى محمد في منامه بخصوص المعركة التي كان مقدما عليها:
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
السؤال: لماذا كانتا رؤيا منام؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لو دققنا في الآية الكريمة التالية:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
لربما جاز لنا أن نفتري القول بأن نفس إبراهيم ونفس محمد كانتا متوفيتان عندما رءا ما رءاه في المنام بدليل أن الله يتوفي الأنفس في منامها (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
نتيجة: عندما تكون النفس متوفاة في منامها، يكون الله هو من توفاها (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: عندما يتوفى الله الأنفس في منامها، تكون تلك النفس المتوفاة لازالت عند ربها، الأمر الذي يشجعنا على افتراء الظن بأن ما تراه الأنفس وهي متوفاة عند ربها يكون حقيقيا، فينفذ على أرض الواقع كما هو في المنام، فلا يحتاج إلى فتوى. فهذا إبراهيم يرى في المنام أنه يذبح ابنه فلا يحتاج أن يفتي في ذلك، فيعمد إلى إخبار ولده بالأمر على الحرفية التي رءاها في منامه:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
والله هو من أرى محمدا في منامه جيش الأعداء قليلا ليقضي أمرا كان مفعولا:
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
فحصل ذلك على أرض الواقع بحرفيته عندما التقى الجمعان:
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ (44)
فلم يكن محمد ليفتي في ذلك لأن تلك الرؤيا كانت رؤيا في المنام، عندما كان الله هو متوفي تلك النفس.
ولكن – بالمقابل- لو تدبرنا حديث الرؤيا في كل القرآن الكريم غير هاتين الحادثتين، لما وجدنا أن ذلك يحصل في المنام. فهذا يوسف يخبر والده يعقوب بما رءاه حيث لا نجد أن ذلك قد حصل في المنام:
          إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
نتيجة: لقد كانت رؤيا يوسف رؤيا عادية ولم تكن رؤيا في المنام
وها هو صاحبيه السجن يرون رؤيتيهما ولكن ذلك لم يكن في المنام:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
وهذا الملك يرى رؤيته الشهيرة ولكنها لم تكن في المنام:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وفي هذه الحالات جميعا لم تكن الأمور تحصل على أرض الواقع بالحرفية التي تمت فيها الرؤيا، فكانت بحاجة في هذه الحالات جميعا إلى فتوى أو إلى تأويل.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أنه إذا كانت الرؤيا تحصل في المنام فلا تحتاج إلى أن يفتى فيها. ولكن إن حصلت الرؤيا في غير المنام فهي بحاجة أن يفتى فيها. وهنا يأتي دور العارف بالفتوى ليستطيع أن يسقط تلك الرؤيا التي لم تكن في المنام على أرض الواقع. فلم يستطع من هم حول الملك حينئذ مثلا أن يفتوه في رؤياه، فجعلوا ذلك من باب أضغاث الأحلام التي لا يعلمونها:
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)     
ولكن لم يتردد يوسف (وهو عليم بالفتوى) بأن يحدثهم بخبرها، فلم تكن فتواه إلاّ صادقة الحدوث كما أخبرهم بها:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وهذا بالفعل ما حصل على أرض الواقع.
السؤال: كيف استطاع يوسف القيام بذلك؟ ولِم لَم يستطع غيره القيام بذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى أن يوسف يستطيع (بما آتاه الله من علم بذلك) أن يزيل ما كان يشوب تلك الرؤيا من الأضغاث، فعادت واضحة كما لو كانت قد تمت رؤيتها في المنام كما كان الحال في قصة ذبح إبراهيم لابنه أو في قصة رؤية محمد لجيش الأعداء في منامه.
السؤال: وما الفرق؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الرؤيا التي يراها الإنسان تنقسم إلى نوعين:
1.     الرؤيا التي يراها الإنسان في منامه كما في ذبح إبراهيم لأبنه أو في رؤيا محمد جيش الأعداء. وفي هذه الحالة تأتي مفردة الرؤيا مصاحبة لمفردة المنام:
يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً
2.     الرؤيا التي يراها الإنسان في غير منامه كما في رؤيا يوسف نفسه أو في رؤيا صاحبيه السجن أو في رؤيا الملك، وهنا تغيب مفردة المنام تماما من الخطاب:
يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
السؤال: وكيف يمكن أن يرى الإنسان رؤيا في غير منامه؟ وهل يمكن أن يكون هناك رؤيا أصلا في غير المنام؟ يسأل صاحبنا.
جواب مفترى: نعم يمكن أن تحدث الرؤيا في غير المنام؟
السؤال: وكيف يكون ذلك؟
جواب: إن هذا السؤال ينقلنا على الفور للحديث عن قصة النوم نفسها في كتاب الله، مبتدئين النقاش بطرح السؤال التالي: كيف ينام الإنسان؟ ومتى يمكن أن يعتبر الإنسان في حالة نوم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن للنوم آلية محددة لابد من فهمهما قبل التسرع إلى تقديم استنباطات خطيرة كتلك التي ننوي أن نقحم أنفسنا فيها. لكن الذي يمكن أن يبرر فعلتنا هذه هو أننا نحاول أن نتفكر بالأمر دون أن نجزم بحقيقته. فما ستخطه أيدينا من قول لا يعدو أن يكون أكثر من كلام مفترى من عند أنفسنا لا نطلب من القارئ الكريم أن يصدّقه ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يثبته. لذا يجب التريث قبل الاقتناع، وعلى كل من يقرأ هذه السطور أن يأخذها بحذر شديد وأن ينظر إليها بعين الناقد المتفحص وليس بعين القارئ المقلد. ونحن لا نعدم الأمل أن ندعو الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن ينفذ مشيئته لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا إنه هو السميع المجيب – آمين.

أما بعد
تعرضنا في مقالة سابقة لنا تحت عنوان "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" إلى تقديم جملة من الافتراءات الخاصة بآلية النوم، ولا نجد ضيرا أن نعيد خطوطها العريضة هنا لما لها – في ظننا- من ترابط مباشر مع قصة رؤيا المنام في كتاب الله كما نظن أننا نفهمه.
لقد كان الحديث حينئذ منصبا على الآية الكريمة التالية:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا                   الإسراء
وقد كانت التساؤلات التي أثرناها حينئذ هي :
  1. ما هو الطائر الذي ألزمنا الله إياه في أعناقنا؟ و
  2. لماذا ألزمنا الله إياه؟ أو ما هي الوظيفة التي يقوم بها هذا الطائر؟
وقد حاولنا تسويق افتراء من عند أنفسنا مفاده أن ذلك الطائر هو الموكّل بحمل نفس الإنسان من عنقه ليذهب بها عند الله والعودة بالنفس من هناك إلى الإنسان مرة أخرى في كل مرة يخلد فيها الإنسان إلى النوم. فالله هو من يتوفى الأنفس في منامها في عملية تشبه وفاة النفس بالموت. ولكن الفرق بين الحالتين هو أن الله يمسك النفس التي توفيت بالموت ولكنه يرسل التي توفيت بالمنام إلى أجل مسمى كما نفهم ذلك من الآية الكريمة التالية:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
وهذا يدعونا إلى الاعتقاد الجازم بأن نفس الإنسان تخرج منه لتذهب عند ربها كلما خلد صاحبها إلى النوم وتعود إليه كلما استيقظ من نومه.
كما افترينا القول بأن هناك من وكلّه الله من خلقه ليتواجد على الدوام في عنق الإنسان لينقل نفسه من وإلى جسد الإنسان وهو ذلك الطائر الذي ألزمنا الله إياه في أعناقنا كما نفهم ذلك من الآية الكريمة التالية:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا        الإسراء
نتيجة مفتراة: نفس الإنسان موكل بها طائر يروح بها ويرجع مادام أن الموت لم يقضي على الإنسان بعد.
(للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)

تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن هناك طائرا ألزمه الله في أعناقنا يقوم بمهمة أوكله الله بها وهي حمل نفس الإنسان ليذهب بها إلى ربها في كل وفاة للإنسان سواء بالموت أو بالنوم، ولكن في حين أن الوفاة بالموت تنهي مهمة ذلك الطائر وللأبد، تبقى مهمة ذلك الطائر مستمرة عندما تكون الوفاة بالنوم، فعندما يخلد الإنسان إلى النوم يقوم ذلك الطائر بحمل نفس الإنسان الذي أخلد بها إلى النوم ويطير بها ليضعها عند ربها، وحتى يستيقظ الإنسان من نومه فلا بد أن يعود ذلك الطائر بتلك النفس إلى صاحبها، ويبقى ذلك الطائر ملازما لعنق الإنسان لا يتزحزح من هناك حتى يعود إلى الإنسان إلى نومه مرة أخرى، وهكذا.
تبعات هذا الظن المفترى من عند أنفسنا: ربما يفسر مثل طرحنا هذا قضية ما يراه الإنسان في نومه (أي الأحلام التي تحصل في المنام، والتي غالباً ما أعيت علماء النفس الذين وضعوا النظريات العلمية لتفسيرها).  فسنحاول هنا أن نسقط فهمنا للنص القرآني على هذه الظاهرة، ولكن قبل القيام بذلك نجد لزاماً التأكيد – كما فعلنا على الدوام- بأن ما نقوله لا يعدو أن يكون أكثر من افتراءات من عند أنفسنا، فهي بلا شك ليست موجودة في كتاب الله، بل هي ما نظن نحن أن الدليل القرآني يصدقها. لذا فالباب مفتوح على مصراعيه للتحقق مما نقول سواء بالإثبات أو النفي، ونحن على استعداد للتخلي عن أفكارنا وطرحها كلها في سلة المهملات إن بان الدليل العقائدي الذي يدحضها.
أما بعد،
قصة الأحلام؟
-        لماذا يحلم الإنسان في نومه؟
-        لماذا يرى الإنسان في نومه ما يراه في حقيقته وما لا يراه في حقيقته؟
-        لماذا لا تكون الأحلام مركزة واضحة؟ لماذا تتداخل الصور والأحداث في الأحلام؟
-        كيف ينام الإنسان أصلاً؟
-        لماذا يقلق الإنسان فلا يستطيع النوم أحياناً؟
-        لماذا يغط النائم أحيانا في سبات عميق فترقد حركته في سريره تماما فيشعر من حوله أنه مرتاح في نومه؟
-        لماذا يبقى أحيانا أخرى يتقلب في فراشه حتى يشعر من حوله بأنه غير مرتاح في نومه؟
-        لماذا تحدث مع الإنسان سقطات النوم؟
-         الخ
افتراءات من عند أنفسنا
نحن نتخيل أن كل ذلك يحدث بسبب رحلة الطائر عندما يحمل نفس الإنسان ذهاباً وإياباً في وفاة الإنسان في نومه، ولكن كيف؟
جواب مفترى: عندما يحمل ذلك الطائر نفس الإنسان المتوفى بالنوم فإنه يطير بها مباشرة ليودعها عند بارئها، وفي خلال تلك الرحلة الطويلة جداً بمسافتها، القصيرة جداً بزمنها، تكون نفس الإنسان حاضرة يقظة، فترى من المناظر والمشاهد ما هو مألوف لها وما هو غير مألوف، ولما كانت رحلة ذلك الطائر لا تذهب بنفس الإنسان وتعود بها في طريق واحد في كل مرة ، وإنما تذهب في اتجاهات مختلفة وتسلك مسارات متعددة (ربما بسبب الازدحام المروري)، يرى الإنسان من خلال نفسه المحلقة في جو السماء وهو نائم أشياء مختلفة ويستطلع أحداث متعددة في آن واحد. ولما كانت الرحلة سريعة جداً (محكومة لا شك بسرعة ذلك الطائر)، ولما كان التحليق عالياً (بسبب الارتفاع بالنفس)، لا تستطيع نفس الإنسان أن تركز على حدث واحد في كل مرة أو أن ترى جميع تفاصيله بوضوح تام، فتتداخل الصور والأحداث، ويصعب أحياناً على الإنسان أن يجمعها معاً أو أن يجد بينها رابط واضح متى أفاق من نومه بعد عودة نفسه إلى عنقه.
ولو راقبت طريقة نوم الإنسان لوجدنا أن فعل الذهاب في النوم يحدث بسرعة فائقة جداً، صحيح أنك ربما تأخذ وقت طويل لتنام ولكن فعل الذهاب بالنوم لا يحدث تدريجياً، وإنما يحدث مرة واحدة، فإما أن تنام أو أن لا تنام، وذلك لأن الطائر – في رأينا- سريع جداً في نقله لتلك النفس إلى بارئها، وهذا ما يحدث أيضاً عند اليقظة من النوم، فالطائر يعود في سرعة فائقة حتى لا تكاد تشعر بها.
وترى النائم أحيانا يغط في سبات عميق يكاد لا يفيق منه إلا رغما عنه، وتراه أحيانا أخرى دائم التقلب في فراشه، ونحن نفتري الظن بأن ذلك يحدث لمجرد أن يتحرك ذلك الطائر بالنفس، فمادام أن الطائر لم يضع النفس في مستودعها عند بارئها يبقى يتحرك يمينا وشمالا، ويبقى الإنسان النائم يتقلب تبعا لحركة ذلك الطائر بتلك النفس، وما أن يحط ذلك الطائر تلك النفس في منتهاها وترقد حركته حتى يرقد الإنسان في سريره تماما وكأنه قد توفي بالموت. فغالب ما يغط بعض الأطفال في سبات عميق حتى يسبب ذلك في بعض الأحيان قلقل عند الأم التي تحاول أن توقظ طفلها لتتأكد بأنه لازال حيا وليس ميتا. إن مراد القول هو أن حركة الإنسان في سريره أو سكونه فيه تعتمد تماما – نحن نفتري القول- على حركة ذلك الطائر الذي حمل نفسه ليودعها عند بارئها.   
ثم، ألم يحصل لك – عزيزي القارئ- ولو مرة واحدة أن حاولت النوم وما أن غفوت حتى شعرت أنك تهوي في مكان سحيق؟ أو أنك تسقط من مكان مرتفع؟ ألم تستيقظ على الفور فزعا مرعوبا؟ فلماذا؟
رأينا: ربما يحدث هذا لأن حركة إقلاع ذلك الطائر بالنفس التي حملها لم تكن موفقة. فعندما حمل ذلك الطائر تلك النفس الموكّل بها وطار بها ليأخذها عند ربها، لم يفلح أن يقلع بها إقلاعا طبيعيا كما يحدث في الغالب، لذا حصل ويكأنه يسقط من أعلى فعاد بنفس الإنسان إليه ولكن بطريقة فيها شيء من الجهد هذه المرة، وهو ما أظن أنه يسبب للإنسان الشعور بالضيق في تلك الحالة، فيصحو الإنسان ويكأنه مخنوقة نفسه.
(للتفصيل انظر مقالتنا وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)
أما ما يهمنا أكثر من هذا الطرح هنا هو التمييز بين نوعين من النوم وهما:
1.     عندما تكون نفس الإنسان متوفاة عند ربها، أي عندما يصل ذلك الطائر الحامل لتلك النفس إلى المحطة الأخيرة التي يستودعها فيها عند ربها.
2.     عندما تكون نفس الإنسان لازالت محلقة يحملها ذلك الطائر في جو السماء في رحلة الذهاب والعودة
ونحن نكاد نجزم القول (ربما مخطئين) أن النوم الحقيقي هو عندما تكون تلك النفس قد وصلت إلى ربها فتوفها الله بنفسه:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
ولكن عندما تكون نفس الإنسان لازالت محمولة من قبل ذلك الطائر في رحلة الذهاب والعودة فإن الإنسان لا يكون في حالة نوم لأن الله لم يتوفى تلك الأنفس بعد، فالله يتوفى الأنفس عندما يصل بها الطائر إلى محطتها النهائية. ويمكن تشبيه ذلك (ولله المثل الأعلى) بالقطار الذي يحمل بضاعة ليوصلها إلى نهاية الطريق ليستلمها صاحبها (أي يتوفاها) بنفسه، فمادامت البضاعة لازالت في القطار فإنها لا تكون قد توفيت، ولا يمكن أن يحدث لها وفاة إلا عندما يتسلمها صاحبها ويتأكد بأنها قد وصلت كاملة وسليمة.
وهنا يجب أن نميز بين ما يراه النائم في الحالة الأولى (عندما تكون نفسه مستقرة عند ربها الذي توفاها) وما يراه عندما تكون نفسه لازالت محلقة في جو السماء سواء في رحلة الذهاب أو العودة.  فما الفرق؟
رأينا المفترى: عندما يرى النائم شيئا في منامه (أي عندما تكون نفسه عند ربها الذي توفاها) فإن كل ما يراه يكون على الحقيقة، وهذه ما يمكن أن نطلق عليها مفهوم رؤيا المنام بالمفردات القرآنية (أو الرؤيا الحق بمفرداتنا) كما حصل في حالة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده، فعمد إلى تطبيقها على أرض الواقع كما رءاها في منامه:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وكما حصل في رؤيا محمد جيش الأعداء قليلا في منامه:
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
فحصل ذلك على أرض الواقع بحرفيته عندما التقى الجمعان:
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ (44)
ولكن عندما يرى النائم أشياء متداخلة في منامه يصعب عليه إسقاطها على أرض الواقع كما رءاها، فإن ذلك يحصل – نحن نفتري الظن- عندما تكون النفس لازالت محلقة في جو السماء يحملها ذلك الطائر في رحلة الذهاب والعودة، وهنا تتداخل الصور والمناظر والأحاديث، فيصعب على الشخص أن يميز الغث فيها من السمين فلا تكون أكثر من أضغاث أحلام، وهذا بالضبط ما أراد ملأ الملك – نحن نفتري القول- أن يقولوه للملك عندما طلب منهم الفتوى برؤياه:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)
فنحن نفتري القول بأن الأضغاث (مفرد ضغث) هي المتشابهات المتداخلات التي ربما يصعب فصلها عن بعضها البعض. فلقد اتهم كثير من الناس ما جاءتهم به رسلهم على أنه من باب أضغاث الأحلام:
بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5)  
ونحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود إلى عدم قدرتهم على تمييز (وبالتالي عدم قدرتهم على فهم) ما جاءت رسل الله أقوامهم به من الخطاب. فكان جل ما يطلبون هو آية يرونها بأم أعينهم (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ). فالذي لا يستطيع أن يفهم الآية المتلوة (أي المسموعة) فهو بحاجة إلى آية مرئية (أي آية مبصرة).
فهم يسمعون ما يتلى عليهم ويكأنه أضغاث أحلام تشابكت خيوط بعضها ببعض فأصبح من المتعذر عليهم تفكيكها لفهم ماهيتها.
وهذا بالضبط – نحن نظن- ما كانت عليه حالة ملأ الملك الذين لم يستطيعوا أن يفتوه فيما قصه عليهم من خبر رؤياه:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
فجاء جوابهم على النحو التالي:
          قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)
فالصورة التي نقلت إليهم على لسان الملك الذي قص عليهم رؤياه تحوي في ثناياها كثير من المفردات المتداخلة والمتشابهة، فهناك البقرات السمان والبقرات العجاف (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) حيث فعل الأكل. وهناك – بالمقابل- السنبلات الخضر والأخر اليابسات يخلو من فعل الأكل (وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)، فكيف بهم سيسقطوا كل ذلك على أرض الواقع؟
رأينا: بالرغم أن ما رءاه الملك كان رؤيا إلا أنها لم تكن رؤيا منام لأنها لو كانت رؤيا في المنام لقال الملك حينها شيئاً كهذا:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى (في المنام) ....
وعندها لن يكون مضطرا للبحث عن من يؤول له تلك الرؤيا، وذلك لأنها ستكون رؤيا حق تنطبق على أرض الواقع كما شاهدها في منامه. لذا فإن تلك الرؤيا لم تحصل عندما كانت نفس الملك نائمة متوفاة عند الله، ولكن الذي رءاه حصل – برأينا- في خلال رحلة الطائر الذي كان لازال محلقا بنفس الملك في جو السماء في رحلة الذهاب والعودة. ولو دققنا أكثر في الصورة التي رسمها الملك لوجدنا أن فيها مشهدين مختلفين وهما:
1.     مشهد سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ)
2.     مشهد سبع سنبلات أخر وأخر يابسات (وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)
السؤال: كيف رءا الملك هذا المشهدان؟ هل رءاها معا في الوقت نفسه؟ أم هل رءا أحدهما ثم رءا الآخر؟
جواب مفترى: نحن نعتقد أن الملك لم يراهما معا في الوقت ذاته ولكنه رءا أحدهما يحصل قبل الآخر بدليل التتابع في الآية الكريمة نفسها. فالملك يرى أولا مشهد البقرات السمان اللاتي يأكلهن السبع العجاف ثم يرى بعد ذلك مشهد السنبلات الخضر والأخر اليابسات. فما استطاع أن يركب المشهد الثاني (السنبلات) على المشهد الأول (البقرات). فتداخلات المشاهد بعضها ببعض حتى أصبحت من باب الأضغاث التي وصفها له الملأ من حوله:
          قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)
السؤال: ما الذي فعله يوسف؟ وكيف استطاع يوسف أن يفتيه في تلك الرؤيا؟
جواب: لقد كان يوسف قادرا على فصل المشاهد عن بعضها البعض، ومن ثم تركيبها مع بعضها البعض من جديد. فكيف فعل يوسف ذلك؟
رأينا المفترى
أولا، كانت الزراعة هي موضوع الرئيس فيما رءاه الملك بدليل أن يوسف قد بدأ فتواه لتلك الرؤيا على النحو التالي:
          قَالَ تَزْرَعُونَ
ثانيا، كانت الفترة الزمنية هي سَبْعَ سِنِينَ وكان ذلك مستنبطا – برأينا- من وجود البقر، فجاءت فتواه على النحو التالي:  
سَبْعَ سِنِينَ
ثالثا، كانت العملية ستكون دَأَبًا لوجود السنبلات:
دَأَبًا
رابعا، كانت الوفرة موجودة في البقرات السمان:
فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
خامسا، كانت عملية أكل ما تركوه في سنبله واضحة من أكل البقرات (السنين) بعضها البعض:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
الدليل
تحليل المفردات: الفرق بين السنابل والسنبلات
لو دققنا في رؤيا الملك لوجدناه يتحدث عن سبع سُنبُلاَتٍ:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
السؤال: لماذا لم يقل الملك أنه قد رءا سبع سَنَابِلَ كما جاء في الآية الكريمة التالية مثلا:
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
فما الفرق بين السنابل والسنبلات؟ نحن نسأل
رأينا المفترى: عندما تنبت حبة واحدة سبع سنابل (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) فإن ذلك يشير بكل تأكيد إلى الكمية وليس إلى النوع وذلك لأن ما تنبته الحبة الواحدة سيكون نوعا واحدا، فحبة القمح ستنبت سبع سنابل من القمح، وحبة الشعير ستنبت سبع سنابل جميعها سنابل شعير، وهكذا. فتتضاعف الكمية أضعافا كثيرة ولا يختلف النوع.
لكن بالمقابل عندما تحدث الملك عن ما رءاه لم يكن يشير – نحن نظن- إلى نوع واحد من السنابل وإلا لجاء قوله على نحو:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ (وسبع سنابل خضر وأخر يابسات)
ولكن لما جاء اللفظ على نحو أن الذي رءاه الملك كان سُنبُلاَتٍ (وليس سنابل) فإن ذلك يعود - في ظننا- على النوع وليس على الكمية. فالكمية محددة بمفردة سبع، ولكن النوع يأتي من مفردة سُنبُلاَتٍ:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
نتيجة: مفتراة: لقد كان الذي رءاه الملك هو سبع أنواع من المحاصيل (سُنبُلاَتٍ). ولو أن الجفاف سيصيب نوعا واحدا من السنبلات لما شكل ذلك مشكلة كبيرة لأهل مصر حينئذ. ولكن المشكلة كانت – بكل تأكيد- تطال كل أنواع المحاصيل الزراعية في أرض مصر (أي السنبلات). فما الذي فهمه يوسف من ذلك؟
رأينا المفترى: ما كان من يوسف إلا أن يفتيهم بأن المشكلة التي ستنشأ ستطال جميع أنواع المحاصيل التي تنبت في أرض مصر والتي عددها سبعة محاصيل (سُنبُلاَتٍ)، لذا نحن نتجرأ على القول بأن عبارة وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ تشير إلى مجموع المحاصيل الحقلية التي سيطالها الجفاف في كل سنة (أي بقرة) ولا علاقة لها بالفترة الزمنية لتصبح الصورة على النحو التالي: سيصيب الجفاف سبع محاصيل حقلية في كل سنة، وهي المحاصيل نفسها التي ستتأثر بذلك، ونحن نظن أنها جميع المحاصيل التي تنبت في أرض مصر حينئذ.
السؤال: أين تنبت تلك المحاصيل السبعة؟ هل تنبت في أرض واحدة؟ هل يمكن أن تنبت جميعها في الأرض نفسها؟
رأينا: كلا، فلابد أن لكل محصول من هذه المحاصيل مكانه من الأرض لينبت فيه، فبعضها يحتاج إلى أرض غزيرة الأمطار وبعضها يحتاج إلى أرض أقل غزارة، وبعضها يعتمد على الري من مياه الأنهار، وهكذا. لذا فإن تلك المحاصيل السبعة تتوزع جغرافيا في عرض البلاد وطولها، فالملك يكون بذلك قد رءا أرض مصر كلها وقد طالها الجفاف ومن ثم القحط: إنها الأرض التي تزرع بها هذه المحاصيل السبعة (سُنبُلاَتٍ) جميعها.
السؤال: ما هي تلك المحاصيل السبعة؟ أو بكلمات أكثر دقة نسأل: ما هي السنبلات السبعة التي رءاها الملك؟
جواب مفترى: إنها ما يمكن أن نستنبطه من الآية الكريمة التالية:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
نتيجة مفتراة: لو تفقدنا هذه الآية الكريمة جيدا لوجدنا أن هناك (1) جنات من الأعناب و(2) النخل و(3) الزرع بينهما. فنحن نتخيل أن جنات الأعناب (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ) هي التي يتفجر خلالهما النهر ليسقيها من ماءه (وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا)، وعلى أطرافها يكون النخل حيث تبدأ الصحراء (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ)، وبين ذاك النخل على أطراف الصحراء وجنات الأعناب حيث وفرة مياه النهر يكون الزرع (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا).
ونحن نفتري الظن بأن الزرع على وجه التحديد هو الذي يسقى بماء المطر، وعندما يخرج نأكل منه وتأكل منه أنعامنا:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
السؤال: ما هو ذلك الزرع الذي يسقى بماء المطر فيخرج من الأرض لنأكل منه وتأكل منه أنعامنا؟
جواب: لا شك أنه الزرع الذي يكون مختلفا ألوانه، وهو الذي يهيج حتى يصبح مصفرا بلونه ويصبح حطاما في النهاية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21)
سؤال: وما هو ذلك الزرع في أرض مصر؟
جواب: إنها ما كانت تزرع مصر حينئذ من المحاصيل وهي مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا، والتي طلبها بنو إسرائيل عندما كانوا في الأرض المقدسة بعدما ضجروا من الطعام الواحد:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)
السؤال: لكن هذه خمسة فقط (بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)؟ فأين الاثنتين الأخريين؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
جواب: دعنا نعود مرة أخرى إلى الآية الكريمة التي ذكرناها آنفا لنعيد تدبرها من خلال هذا السؤال:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
لاحظ عزيزي القارئ أن الآية الكريمة تتحدث عن ثلاثة أشياء وهي:
1.     جنات من أعناب            جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
2.     النخيل                      وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ
3.     الزرع                       وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
لذا نحن نفتري القول بأن الزرع الذي يكون مختلفا ألوانه، وهو الذي يهيج حتى يصبح مصفرا بلونه ويصبح حطاما في النهاية يشمل تلك المحاصيل الخمسة وهي (بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)
السؤال: وأين السنبلات الأخريات؟
جواب: نحن نجدهما في الآية الكريمة التالية:
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
السؤال: وأين الدليل على أن النخيل والأعناب كانت من ضمن السنبلات التي رءاها الملك؟
جواب: نحن نجد الدليل على ذلك في فتوى يوسف للملك:
          ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فلو دققنا في هذا السياق القرآني لوجدنا أن يوسف يتحدث عن العصر (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، وهي – في ظننا-عملية تجميع المحاصيل لتخزينها. فبعض المحاصيل تخزن جافة وبعضها يخزن بعد معالجته بطرق كثيرة ومتنوعة، وهكذا. لنطرح عندها السؤال التالي: كيف سيتم عصر المحاصيل التي جاء ذكرها على أنها من محاصيل مصر (بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا):
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)
جواب: لا شك أن واحدة من نتائج العصر هو الحصول على الخمر كما جاء على لسان صاحب يوسف السجن:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
السؤال: من أين كان سيعصر صاحب يوسف الخمر؟ هل كان سيعصره من بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا؟
رأينا: نحن لا نستبعد ذلك، ولكن لا يمكن لنا أن نستبعد أن تكون ثمرات النخيل والأعناب من المحاصيل التي ستعصر:
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: هناك – نحن نظن- سبعة محاصيل (سبع سنبلات) سيصيبها الجفاف في أرض مصر التاريخية التي كانت تحت حكم الملك صاحب الرؤيا وهي:
1.     ثمرات النخيل
2.     وثمرات الأعناب
3.     البقل
4.     القثاء
5.     الفوم
6.     العدس
7.     البصل
تخيلات من عند أنفسنا: عندما حدّث الملك من حوله بأنه قد رءا سبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فهو قد أشار بذلك – في ظننا- إلى جميع المحاصيل الزراعية التي ستتأثر بالجفاف الذي سيصيب بلاده كلها. فما كان ذلك ليخفى على شخص قد آتاه الله من العلم ما يكفي لأن يكون عليما كيوسف الصديق.

تخيلات من عند أنفسنا:
يوسف يقرأ من خلال رؤيا الملك أن الجفاف سيصيب جميع المحاصيل الزراعية المتوافرة في أرض مصر وهي سبعة، فيقوم على الفور بالتبرع بأن يقدم لهم الحل الأمثل للخروج من تلك الأزمة بأقل التكاليف وأنجعها، فجاء جوابه على النحو التالي:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
فهو إذن يطلب منهم أن يذروا كل ما يحصدوه في سنبله إلا ما يأكلوه منه في كل عام، أي أن يحاولوا أن يدّخروا إلى وقت حاجتهم قدر ما يستطيعون مما يحصدوه (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) وأن يقللوا من استهلاكهم منه قدر المستطاع.
السؤال: كيف سيذرون ما يحصدوه منه في سنبله؟
جواب: نحن نظن أن الحصيد هو المقابل للقائم:
          ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
فالقرى القائمة هي التي لازالت مرفوعة بنيانها أما القرى الحصيد هي التي تمت إزالة بنيانها فلم تعد قائمة. ويمكن أن تكون خامدة:
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
ويصبح الشيء (أي شيء) حصيدا عندما تكون الزينة قد ذهبت منه:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
والحصيد من الزرع يحتوي على الحب:
         وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10)
نتيجة مفتراة: لقد طلب يوسف من القوم أن يذروا ما حصدوا في سنبله فلا يعمدوا إلى استخراج الحب منه إلا تلك الكمية القليلة التي يحتاجونها ليأكلوا منها في عامهم (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ).      
السؤال: لماذا قدّم يوسف الحل للقوم؟ وهل كان ذلك جزء من رؤيا الملك؟ والأهم من هذا هنا هو من أين جاء يوسف بخبر العام الذي سيأتي بعد سنين الجدب والقحط حيث سيغاث الناس وسيعصرون؟
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
السؤال: هل كان ذلك العام جزءا من رؤيا الملك؟
جواب مفترى: كلا، لم يأت ذكر لذاك العام في رؤيا الملك نفسه، فلنقرأ الرؤيا مرة أخرى لنبحث فيها عن ذلك العام الذي سيغاث فيه الناس وسيعصرون:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)        
لاحظ – عزيزي القارئ- أن رؤيا الملك تتحدث عن سبع بقرات (أي سبع سنين) كما جاء في تأويل يوسف:
          قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
السؤال مرة أخرى: من أين جاء يوسف بخبر العام الذي سيغاث فيه الناس وفيه سيعصرون؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن خبر العام لم يأت من رؤيا الملك ولكن من عند يوسف نفسه؟
سؤال: ومن أين جاء يوسف بذلك؟
جواب: من العرش.
 نتيجة مفتراة: لقد استخدم يوسف العلم الذي ورثه من عند أبيه يعقوب فأفتى الناس برؤيا الملك:
          قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثم استفاد من العلم الذي تعلمه من أبيه الذي اشتراه من مصر (تأويل الأحاديث) فأنبأ الناس بما ستئول إليه الأمور بعد ذلك:
          ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
السؤال: كيف حصل ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: ما أن وصل ليوسف خبر رؤيا الملك حتى استطاع أن يفتي للناس خبر تلك الرؤيا، فأزال منها الأضغاث وأسقطها على أرض الواقع كما حصلت فعلا، ولم يتوقف عند ذلك بل ذهب إلى عرشه لينظر فيه ما ستئول إليه الأمور بعد تلك السنين من القحط، وما أن وجد خبر تلك السنين في ذلك العرش حتى نظر ليرى ما سيحصل بعد ذلك من أحداث، فكان الخبر على النحو التالي:
          ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فرأى يوسف الناس وقد أغيثوا، لأن الله هو من ينزل الغيث بعد أن يقنط الناس:
          وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
كما رءا الناس وهم يعصرون:
          ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ونحن نظن مفترين القول من عند أنفسنا أن هذا ما شاهده يوسف بأم عينه عندما نظر في العرش الذي كان عنده.
السؤال: لماذا تبرع يوسف للناس بهذه المعلومة التي لم تكن – كما نظن- جزءا من رؤيا الملك؟
جواب: لأن يوسف كان يريد أن يساعد الناس على الخروج من تلك الأزمة دون الحاجة أن يذهب بنفسه إلى الملك ليخبره بآلية الخروج منها. فيوسف – في ظننا- كان يحاول أن لا يذهب إلى الملك بنفسه، فلقد كان زاهدا في أن يصل إلى الملك؟
سؤال: إن صح ما تقول، لم إذن طلب يوسف من صاحبه السجن أن يذكره عند ربه سابقا؟
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
جواب: إن هذا السؤال يدعونا على الفور إلى إعادة النبش في تفاصيل قصة يوسف نفسها من هذا المنظور، طارحين التساؤلات التالية:
1.     من هو رب صاحبه السجن الذي طلب يوسف أن يذكر عنده؟
2.     من هو الملك؟
3.     لماذا آثر يوسف أساسا السجن؟ لم لم يطلب من ربه أن ينجيه من كيد النسوة بطريقة أخرى؟
4.     ماذا كان يفعل يوسف في داخل السجن؟
5.     كيف علم يوسف بخبر رؤيا الملك؟
6.     من هو الشخص الذي جاء يوسف في سجنه يحمل رؤيا الملك ويطلب الفتوى فيها؟
7.     من هو رسول الملك الذي جاء ليخرج يوسف من السجن؟
8.     لماذا طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه؟ وكيف سيتم ذلك؟
9.     الخ.
هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم من هذه المقالة سائلين الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.

والله أعلم

دعاء: رب أسألك أن تأذن لي الإحاطة بما لم تأذن لغيري الإحاطة به من علمك، فأسألك أن تعلّمني ما لم أكن أعلم، وأعوذ بك أن أفتري عليك الكذب عن علم، إنك أنت السميع المجيب – آمين.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح

27 كانون ثاني 2014