قصة يوسف 15: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا


لقد افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة بأن رحلة يوسف كانت عبارة عن رحلة لتلقي العلم بتأويل الأحاديث لأن والده يعقوب لم يكن يملك مثل هذا العلم، فترك حياة البداوة التي كان يعيشها بنو إسرائيل حينئذ
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)[1]


ليحط به الترحال الأول في بيت الذي اشتراه من مصر، وزعمنا القول بأن الرجل قد اشتراه من سوق مصر إلا أنه قفل به عائدا إلى بيته في الأرض المقدسة:
 وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فوجد العلم من تأويل الأحاديث في بيت ذاك الرجل الذي اشتراه من مصر. فتحقق ليوسف نوعان من العلم:
1.     علما من خلال أبيه يعقوب، فكان يوسف ذا علم من هذا الجانب
2.     علما آخر من خلال أبيه هذا الذي أراد أن يتخذه ولدا بعد أن اشتراه من مصر، فكان يوسف ذا علم آخر من هذا الجانب الآخر
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فتحصل ليوسف أكثر من علم واحد، فانتقل من مرحلة أن يكون ذا علم إلى مرحلة أن يكون عليما (أي ذو علم + ذو علم = عليم)، فشهد لنفسه بذلك:
          قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وقد افترينا الظن في أكثر من مقالة سابقة لنا بأن هذان هما أبواه اللذان رفعهما على العرش في نهاية القصة:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وبعد أن حاولنا تدبر ما جاء في الآية الكريمة التالية:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) 
خرجنا بالافتراءات التالية التي هي بلا شك من عند أنفسنا:
1.     يوسف يترك ملة قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (عقيدة الإلحاد):
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
ليكون السؤال الأول هو: من هؤلاء القوم اللذين ترك يوسف ملتهم؟
2.     يوسف يتبع ملة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ،
ليكون السؤال هو: متى ترك يوسف ملة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب ليعود إلى اتباعها من جديد؟
3.     كانت ملة آباءه تقضي بعدم الإشراك بالله شيئا:
مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ
4.     كان صاحبيه السجن في أرض مصر على ملة الشرك لأنهم كانوا يتخذون من دون الله أربابا متفرقون
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
5.     كانت تلك الأرباب هي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ
6.     يطلب يوسف من صاحبيه السجن أن يتبعوا الدِّين القيِّم (عقيدة التوحيد)
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
7.     الخ.
ونحن نظن أن جانبا من هذا التصور المفترى من عند أنفسنا قد يحل إشكالية عدم محاولة يوسف البحث عن أهله الذين ولد فيهم بعد أن استوى وبلغ أشده في بيت أهله الذين تربى فيهم، والسبب ربما يعود إلى أن أهله أولئك كانوا من البدو حيث التنقل والترحال. فلم يكن يستطيع أن يعلم أين سيكون خبرهم بعد هذه الأعوام الطويلة.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)[2]
كما ربما يفسر جانبا آخر من هذا التصور المفترى السبب الذي من أجله انتقل يوسف إلى أرض مصر للعمل فيها، فلربما كان الدافع للانتقال هو أنه انتقل من بلاد لا دين لأهلها (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) إلى بلاد كان أهلها على عقيدة الشرك (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فكانت مهمة يوسف تكمن في إيصال ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب إلى تلك الديار.
فكانت عقيدة أهل مصر تقضي بأن الناس أرباب فوق بعضهم البعض، فالترتيب الطبقي (الهرمي) كان يقضي بأن يكون الملك على قمة ذاك الهرم فهو الرب للجميع في الأرض بالإضافة إلى الإله الذي في السماء، ولكن هذا لا يتوقف عند الملك فقط، فكل فتى له ربه الذي يشتغل عنده، وليس أدل على ذلك – في ظننا- مما قاله يوسف نفسه للذي ظن أنه ناج من صاحبيه السجن:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ونحن نعتقد جازمين بأنه كان في مصر حينئذ شخص واحد (على الأقل) لا يعمل عند رب له من أرباب الأرض وهو يوسف نفسه، فقد كان يعمل في بيت تلك المرأة:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
فكان فتاها ولكنها لم تكن ربا له:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
ولما تكشّفت الحقيقة في نهاية القصة، وطلب الملك يوسف ليستخلصه لنفسه لم يكن الملك ربا ليوسف:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
وعلى الرغم أن يوسف قد اعترف بربوبية الملك للآخرين بمن فيهم رسول الملك الذي جاءه السجن ليخرجه منه:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
ولو تدبرنا هذه الآية جيدا لربما استنبطنا أن رب ذلك الرسول كان الملك (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، ولكن الملك لم يكن ربا ليوسف لأن رب يوسف هو العليم بكيد النسوة دون الحاجة أن يتحقق من ذلك (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن الصورة في أرض مصر كانت على نحو وجود الأرباب المتفرقون، حيث يملك كل رب منهم من الصلاحيات بحجم موقعه في طبقات المجتمع الهرمي الذي يعتلي سدته الملك على رأس ذلك الهرم. ونحن نفتري الظن بأن الناس في الطبقة الواحدة ليسوا أربابا لبعضهم البعض حتى وإن ساد بعضهم على بعض، فالمرأة التي راودت يوسف عن نفسه – مثلا- قد ألفت سيدها لدى الباب:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
والسبب في ذلك ربما يعود لأنهما كانا – كما افترينا سابقا- من نفس الطبقة الاجتماعية، فهي وهو (من الناحية العقدية) ليسوا أرباب لبعضهم البعض مادام أنه من أهلها (مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا). ولكن الرجل كان هو سيدها لأن مكانته الاجتماعية تقضي بأن يكون هو مسئولا عنها.
ولو راقبنا النص القرآني لربما وجدنا أن يوسف لم يكن ليتقبل الوضع الديني السائد في تلك البلاد، فما اتخذ لنفسه ربا في أرض مصر لأن ربه هو الله الواحد الأحد. ولكن هذا لا ينفي أن يكون يوسف قد تقبل الترتيب الاجتماعي في أرض مصر، فعمل عندهم بالأجر، فكان فتى للمرأة التي راودته عن نفسه.
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
وقبل أن يعمل عند الملك الذي طلب أن يستخلصه لنفسه:
          وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
السؤال: كيف حصل كل ذلك؟
جواب: دعنا نبدأ قصة يوسف منذ أن أنبأ صاحبيه السجن بتأويل رؤياهما.
أما بعد،
ما أن وصل يوسف من خلال العلم الذي تحصل له من عند أبيه الثاني بأن المحكمة قد قضت ببراءة صاحبه الأول وإثبات التهمة على صاحبه الآخر، وأن الخروج من السجن هو مصير الأول بينما الصلب وأكل الطير من الرأس هو مصير الآخر حتى جاء قوله لهما على نحو (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ):
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
فلقد وصل خبر ذلك إلى يوسف وهو في السجن قبل أن يتم تبليغ الحكم لصاحبيه السجن رسميا. ولكن السؤال الذي لا مفر منه هو: كيف علم يوسف بذلك؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: إنه العرش، وذاك هو – برأينا- العلم الذي لم يكن موجودا عند أبيه يعقوب وتحصل له في بيت أبيه الثاني وهو الذي اشتراه من مصر، لذا نحن نفتري القول بأن العلم بتأويل الأحاديث الذي تحصل ليوسف في بيت هذا الرجل كما يدل على ذلك صريح اللفظ في الآية الكريمة التالية:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
وهو العلم الذي لم يكن موجودا عند يعقوب نفسه، الذي تنبأ ليوسف بذلك بعد حادثة الرؤيا الأولى:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فكانت تلك تمام نعمة الله على يوسف والتي لم تكن ليعقوب وإن كانت لمن جاء قبله وهما إبراهيم وإسحق.
نتيجة مفتراة: لقد كانت هناك نعمة من نعم الله اختص الله بها إبراهيم وإسحق، ولم يختص بها يعقوب، ثم عادت ليتم الله بها نعمته على يوسف وعلى آل يعقوب من بعد يعقوب نفسه. وتلك النعمة هي العرش.
الدليل:
ما أن دخل يعقوب أرض مصر مع أبناءه وأهلهم جميعا:
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)
 حتى عمد يوسف إلى أن يؤوي إليه أبويه (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ)، وهما في ظننا:
1.     والده يعقوب
2.     وأبوه الذي اشتراه من مصر
وكان أول عمل قام به يوسف بعد أن دخلوا مصر آمنين وهو أنه رفع أبويه على العرش:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
ولكن الملاحظة التي لا يجب أن يغفل عنها أي قارئ لكتاب الله هي أن يوسف قد توجه بالخطاب إلى أحدهما (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)، ليكون السؤال الذي يجب أن يطرح على الفور هو: لم لم يوجه الخطاب إلى كليهما؟ ومن هو أبيه الذي توجه بالخطاب إليه؟ ولماذا؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأن أبيه الذي توجه بالخطاب إليه هذه المرة هو والده (أي الذي ولده وهو يعقوب) ولم يتوجه يوسف بالخطاب لأبيه الذي تربى يوسف عنده، وربما يعود السبب في ذلك – في رأينا- إلى أن أبيه هذا لم يكن بحاجة أن يخبره يوسف بهذه المعلومة لأنها معلومة موجودة عنده من ذي قبل. فأباه هذا الذي رباه كان على علم بهذا الأمر من ذي قبل، ولكن والده يعقوب هو الذي لم يكن على علم بذلك، فجاء خطاب يوسف من باب أن يخبر والده يعقوب بما تحصل له من علم في غيابه عنه: إنه العرش الذي رفع أبويه عليه. ولكن كيف ذلك؟
جواب: إن هذا السؤال يعيدنا على الفور إلى ما كنا قد افتريناه في مقالة سابقة لنا حول معنى مفردة العرش في النص القرآني. فأفردنا لذلك جزءا في مقالتنا تحت عنوان "مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب العرش" ضمن حديثنا حينئذ عن قصة سليمان ووالده داوود. ولعلنا نجد أن الضرورة تستدعي إعادة طرح الخطوط العريضة لتصورنا عن معنى مفردة العرش هنا، ليتم الربط لاحقا بين القصتين بحول الله وتوفيق منه.

باب العرش في قصة يوسف: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
يثبت القرآن الكريم أن مفردة الْعَرْشِ لم تذكر في النص القرآني إلا في حالات ثلاثة فقط وهي:
1.     مع الله الذي هو رب العرش العظيم:
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ                                                                                                                      التوبة 129
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)                                                                                                  المؤمنون
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ              الأنبياء (22)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ                   المؤمنون  (116)
2.     مع المرأة التي كانت في سبأ:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ (26)
3.     مع يوسف الصديق
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
ليكون السؤال التالي الذي يجب أن يطرح على الفور هو: لماذا؟ لماذا لم ترد مفردة العرش إلا مصاحبة للذات الإلهية ومع هذه المرأة في سبأ ومع يوسف الصديق في أرض مصر؟
جواب: من أجل محاولتنا الإجابة على هذا السؤال، وجدنا الضرورة تستدعي أولا النبش في معنى مفردة الْعَرْشِ نفسها، لنطرح السؤال التالي على الفور: ما هو الْعَرْشِ؟
أولا، نحن نظن أن لا علاقة بين العرش والملك (أن تكون ملكا) ولكن هناك علاقة بين العرش والتملك؟ فيجب التمييز بين الملك الذي يحكم والمالك الذي يتحكم؟ ولكن كيف ذلك؟
غالباً ما ظن الناس أن لكل مَلِك عرش، فيربطون العرش بالمَلك على الدوام، وهذا ما نظن أنه افتراء كاذب لا أساس له من الصحة، لأننا لم نجد في كتاب الله أن للمَلِك عرش. فسليمان نفسه لم يكن له عرش بالرغم من أن الملك قد تحصل له ولوالده داوود من قبله:
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ       ص 35
ولا يذكر القرآن الكريم أن ملك مصر (زمن نبي الله يوسف) قد كان له عرش:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ                                                     يوسف 50
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ                                                                                                                   يوسف 54
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ                         يوسف 72
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ   يوسف 76
ولكن بالمقابل يثبت القرآن الكريم أن يوسف نفسه كان له عرش بالرغم أنه لم يكن هو مَلِك مصر:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
كما يثبت أن المرأة التي كانت تملك قومها كان لها عرش عظيم بالرغم أن القرآني لم يصفها على أنها مَلِكة لهم، فجاء الوصف القرآني لها على أنها مالكة لهم:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ (26)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه ليس من باب الضرورة أن يكون صاحب العرش ملكا ولكن لابد أن يكون مالكا (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ).
لكن هذا الطرح يدعون أن نثير النقاش حول فرعون نفسه طارحين التساؤل التالي: لِم لَم يرد ذكر الْعَرْشِ عند الحديث عن فرعون مثلاً؟ ألم يكن لفرعون مُلك مصر؟ ألم يكن هو حاكم مصر وسيدها والرب المطاع فيها؟ فلم لا يكون له عرش؟
رأينا: على الرغم أن قصة فرعون قد تكررت عشرات المرات في القرآن الكريم، إلا أن هناك حقيقة ثابتة لا يمكن المجادلة فيها ألا وهي غياب مفردة الْعَرْشِ تماما عند الحديث عن فرعون. فما الذي نستفيده من ذلك؟
رأينا المفترى: ربما يصدق ظننا أن العرش من صفات من يملك (كتلك المرأة التي كانت تملك قومها) ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل من يملك يكون صاحب عرش (كفرعون مثلا)، ولكن لماذا؟
جواب: لأن فرعون كان – نحن نظن- يملك أرضا:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
نتيجة: كان فرعون يملك أرض مصر ولكنه لم يكن يملك كل شعبها (أي من فيها من البشر).
بينما كانت تلك المرأة – بالمقابل- تملك قومها:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وهذا المنطق ينطبق – في ظننا- على سليمان نفسه الذي كان له ملكا ولم يكن صاحب عرش قبل أن يحضر له الذي عنده علم من الكتاب عرش تلك المرأة قبل مجيئها وقومها إليه:
          قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
فملك سليمان لم يكن – نحن نفتري القول- ملك قوم وإنما كان ملك سلطان (أرض). وليس أدل على ذلك من أن الهدهد قد غاب عنه فترة من الزمن فلم يكن يدري أين هو:
          وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
السؤال: ما الفرق بين من يملك أرضا (كفرعون وسليمان مثلا) ومن يملك شعبا (كتلك المرأة)
جواب مفترى: نحن نظن أن من يملك شعبا يكون مراقبا لجميع تحركاتهم فلا يغيبون عن ناظريه. ولكن يبقى السؤال الأهم هو: كيف يستطيع فعل ذلك؟
رأينا المفترى: من خلال الْعَرْشِ. ولكن لماذا؟ 
جواب مفترى مهم جدا جدا سنحتاج له لاحقا: نحن نظن أن صاحب العرش يستطيع أن ينظر في العرش فيرى بأم عينه ما يقوم الناس به من حوله (ضمن نطاق عرشه بالطبع).

ثانيا، إن الرحمن قد استوى على عرشه استواءً، فلقد وردت فكرة استوى الرحمن على العرش سبع مرات في كتابه الكريم، فجاءت تلك العبارة في ستة مواضع من كتاب الله متلازمة مع حرف الانتقال "ثم":
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ                                                                               الأعراف  (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ                    يونس (3)

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ      الرعد (2)

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا                                                                                     الفرقان (59)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ                                                           السجدة (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ                                                                                      الحديد (4)
وجاءت في الموطن السابع خالية من حرف الجر "ثم" كما في الآية الكريمة التالية:
الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ                                                          طه (5)
ثالثا، إن ما قام به يوسف هو أنه رفع أبويه على العرش:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
رابعا: نحن نجد أن هناك تلازما بين العرش والقضاء بين الناس بالحق:
          وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ                                                                         الزمر (75)
خامسا: نحن نجد تلازما بين العرش والمراقبة التي لا تدع شيئا يخفى عن من يقوم بها:
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)                                                                     الحاقة 16-19
السؤال: لماذا لا تخفى منهم خافية؟
جواب: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى وجود العرش.
سادسا، نحن نجد أن للعرش مالك واحد فقط، فالله هو رب العرش العظيم، وقد كان لتلك المرأة عرش عظيم، ويوسف هو من رفع أبويه على العرش، لأنه ببساطه عرشه لوحده.
سابعا، نحن نجد أن وجود العرش يؤدي بالضرورة إلى انعدام الفساد:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
فلو تدبّرنا قصة ملكة سبأ لوجدنا أنها كانت تملكهم وما خرج أحد منهم عن أمرها، فكان شعبها شعباً موحداً، فشاورتهم بالأمر:
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32)
وعلى الرغم من تقديمهم المشورة إليها إلا أنهم لم يتردوا أن يرجعوا الأمر بكليته لها:
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
وكذلك أصبحت مصر في زمن يوسف الصديق، فكان من يدخلها من الآمنين:
          فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)

وعلى النقيض من ذلك كانت أرض مصر في زمن فرعون الذي لم يكن صاحب عرش وإن كان صاحب ملك، فلم يكن فرعون على علم بكثير مما يدور حوله حتى داخل بلاطه:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ                                                                     القصص (20)
نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: عندما يكون هناك عرش تتوافر لصاحبه السيطرة المطلقة فلا يخفى عليه شيء، ولا يحدث شيء دون أن يعلم به، فينتفي بذلك فساد من حوله (أي ملئه) وذلك لأنهم لا يستطيعون التفلت من سيطرة صاحب العرش عليهم.
السؤال: ما هو العرش إذن؟
جواب مفترى: إنه شاشة المراقبة التي لا تدع شيئا يخفى على صاحبها:
وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)                                                          الحاقة 17-18
نحن نظن أن هذا افتراء خطير جدا من عند أنفسنا قد يساعدنا في فهم ماهية العرش، وخاصة كيفية تحكم (أو لنقل مراقبة) الإله الواحد الأحد، رب العرش العظيم، بالكون كله. فنحن نظن أن العرش هو الذي ينظر الإله فيه ليرى كل ما يدور في الكون فلا يفوته العلم بشيء من ذلك:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ                                                                      الأنبياء 47
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)


وربما يفسر مثل هذا الفهم كيفية نزول العرش يوم الحساب، والملائكة تحمله:
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
فعرش الرحمن هو بناء رباني مرفوع على ثمانية قواعد يمكن تشبيه صورته بصورة جنات الأعناب المعروشة (أي المرفوعة على القواعد)، وهنا يتبادر للذهن سؤال مفاده: لم ثمانية؟
جواب: لأن هناك سبع سموات بعرش واحد فقط. فكيف تكون الصورة إذن؟
جواب: بداية نحن نؤمن أن الله قد خلق سبع سماوات طباقا:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3)                                                                                   الملك
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)                                    نوح
ونفهم ذلك على نحو أن تلك السماوات السبع هي سماوات متطابقة متجاورة وليست متراكبة فوق بعضها البعض (كما يتخيل ذلك الفكر الشعبي). لذا سيصار في نهاية المطاف إلى طي تلك السموات كطي السجل للكتب:
          يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
السؤال: ما علاقة ذلك بالعرش الذي سيحمله فوقنا في ذلك اليوم ثمانية:
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
افتراء من عند أنفسنا: لو كان هناك سماء واحدة وعرش واحد لكان العرش يحمله اثنان، فلنتخيل -ولله المثل الأعلى -  العرش على شكل طاولة (ولنقل شاشة مراقبة) محمولة على رجلين أو قاعدتين اثنتين.
ولكن عندما يكون هناك سماء أخرى (ثانية) متواجدة إلى جانب السماء الأولى يصبح من يحمل العرش ثلاثة: اثنان للسماء الأولى وواحد جديد في نهاية السماء الثانية (فلا ننسى أنه عرش واحد، لسمائين اثنتين).
ولو زدنا سماء ثالثة لاحتجنا لرابع ليحمل القاعدة الجديدة للعرش الذي سيمتد إلى نهاية السماء الثالثة، لتكون الصورة على نحو كلما زادت سماء جديدة زادت قاعدة جديدة للعرش حتى يبقى عرش واحد وإن تعددت السموات، وهكذا.
وعندما نصل السماء السابعة يكون عدد من يحمل العرش 8 (أي عدد السموات+1، وذلك لأننا احتجنا إلى قاعدتين ليحمل العرش عليهما في السماء الأولى واحتجنا بعد ذلك إلى قاعدة جديدة واحدة مع كل سماء جديدة ليبقى العرش واحدا وإن كثر عدد السموات)، فهي في نهاية المطاف سبع سموات بعرش واحد (وهو بلا شك العرش العظيم). لكن كيف يمكن لنا أن نتصوره.
عودة على عرش يوسف
السؤال: ما علاقة ذلك بعرش يوسف؟
          وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
بداية لابد من التأكيد على أن يوسف نفسه لم يكن هو ملك مصر ولكنه كان عزيزها. فالله لم يؤتيه ملك صر ولكنه آتاه من الملك:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
ولكن بالرغم من ذلك، كان صاحب عرش مادام أنه قد رفع أبويه عليه:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
السؤال: ما الذي تحصل ليوسف من وجود العرش عنده؟
رأينا المفترى: ما دام أن الله قد آتاه من الملك ومادام أنه كان صاحب عرش، لم يكن – نحن نفتري الظن- ليخفى عن يوسف شيئا من ذلك الملك الذي آتاه الله إياه، بدليل أن من له الملك لا يخفى عليه شيء من ملكه:
يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
وكذلك كان عرش يوسف يمكّنه من أن لا يخفى عليه شيء مما يدور في ملكه (نطاق عرشه).
وربما يفسر لنا مثل هذا الظن كيف كان يستطيع يوسف أن ينبئ صاحبيه السجن بكل طعام يرزقانه قبل أن يأتيهما:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
تصورات من خيالنا: نحن نظن أن يوسف كان يقوم بالنظر في عرشه، فيرى القادم من الناس بذلك الطعام إلى صاحبيه السجن. فيستطيع بذلك أن ينبئهما بذلك الرزق قبل أن يأتيهما.
وها هو يشير إلى تأويل رؤياه لأبيه بعد أن رفعه على العرش:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
السؤال: إلى ماذا كان يشير يوسف لوالده يعقوب وهو مرفوع على العرش عندما استخدم اسم الإشارة هذا (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد أشار يوسف إلى مكان محدد على تلك الطاولة (العرش - الشاشة) الذي رفع أبويه عليها ليري أباه يعقوب على وجه التحديد تأويل الرؤيا كما تظهر على عرش يوسف). ولو تفكرنا في الآية أكثر لوجدنا أن يوسف قد رفع أبويه الاثنين على العرس (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)، ولكن بالرغم من ذلك فقد وجه الخطاب مباشرة إلى واحد منهما وهو يعقوب (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ).
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن هذا هو علّم يوسف الذي تعلّمه في بيت أبيه الثاني الذي اشتراه من مصر. فذاك الرجل كان صاحب علم بعرش يوسف فلا يحتاج أن ينظر فيه، ولكن يعقوب هو الذي يحتاج أن يرى ما تحصل لولده يوسف من إتمام نعمة ربه عليه كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق، وكما سيكون في ذلك تمام النعمة الإلهية على آل يعقوب من بعده:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ذلك هو علم تأويل الأحاديث الذي تعلمه يوسف بعيدا عن والده يعقوب في بيت ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر :
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فذلك هو علم يوسف الجديد، فذلك هو علم يوسف الجديد – إنه علم تأويل الأحاديث.
السؤال: ما هو علم تأويل الأحاديث إذن؟
جواب: هو العلم بالأمور بمجرد حصولها وإن كانت غائبة عن الناظرين
السؤال: ومن يستطيع القيام بذلك؟
جواب: من كان له عرش
السؤال: وكيف يقوم بذلك؟
جواب: أن ينظر في العرش فيرى ما يحصل وإن كان بعيدا جدا عن مجال رؤيته البصرية.
السؤال: إذا كان هذا هو العلم الذي تلقاه يوسف في بيت الذي اشتراه من مصر، فما العلم الذي ورثه من والده يعقوب؟
جواب: إنه علم الفتوى بالرؤيا:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن أول ما تعلمه يوسف من والده يعقوب هو كيفية الفتوى (أو لنقل تجاوزا تفسير) الرؤيا. فيوسف هو أول من رأى شيئا، فقصصه مباشرة على والده يعقوب:
          إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
ولا أظن بأن يعقوب لم يكن على دراية بالفتوى في الرؤيا، وذلك على أقدر تقدير لسببين اثنين:
1.     أن يوسف لم يتردد أن يقصص رؤياه على والده، فلو لم يكن يعقوب على دراية بذلك لما لجأ إليه يوسف من باب من يريد معرفة الفتوى بها
2.     والأهم من ذلك بأن رد يعقوب يشير بما لا يدع مجالا للشك بمعرفته بالفتوى فيها، فهو من حذّر ولده بأن يقصص رؤياه هذه على إخوته لأن العاقبة ستكون وخيمة:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
السؤال: لماذا نهى يعقوب ولده يوسف أن يقصص رؤياه على إخوته؟
جواب: لأن إخوته كانوا يستطيعون الفتوى في الرؤيا، فهم يستطيعون الفتوى بها ومعرفة خبرها. ولو أن يوسف قصص رؤياه على إخوته لاستطاع إخوته أن يئولوا تلك الرؤيا.
سؤال: لماذا؟
جواب: لأن ذلك العلم كان متوافرا في بيت يعقوب. فهو علم قد ورثه من أبويه إبراهيم وإسحق وعلمه لأبنائه ليستمر في بيت النبوة.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: لو تفقدنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن أول خبر بالرؤيا قد جاء ذكره في كتاب الله على لسان إبراهيم:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فهذا علم قد ابتداءه إبراهيم نفسه. ولو تفقدنا القرآن كله لما وجدنا خبر ذلك سابقا لإبراهيم في حادثة ذبحه ولده هذه. ولكن لماذا؟

جواب: هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم من هذه المقالة سائلين الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
         
والله أعلم

دعاء: رب أسألك أن تأذن لي الإحاطة بما لم تأذن لغيري الإحاطة به، وأسألك أن تعلّمني ما لم أكن أعلم، وأعوذ بك أن أفتري عليك الكذب عن علم، إنك أنت السميع المجيب – آمين.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح

31 كانون أول 2013





[1] لاحظ الربط في الآية الكريمة بين حياة السجن (حياة يوسف) والبداوة (حياة أهله). وأظن أن الربط يكمن في الانقطاع عن العالم الخارجي، وسنتحدث عن ذلك عندما نحاول أن نحدد المنطقة الجغرافية التي جاء منها إخوة يوسف بأهليهم أجمعين. فنسأل الله أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع العليم.
[2] لاحظ الربط في الآية الكريمة بين حياة السجن (حياة يوسف) والبداوة (حياة أهله). وأظن أن الربط يكمن في الانقطاع عن العالم الخارجي، وسنتحدث عن ذلك عندما نحاول أن نحدد المنطقة الجغرافية التي جاء منها إخوة يوسف بأهليهم أجمعين. فنسأل الله أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع العليم.