نبذة عن المقالة:
فهرس المقالة
مقدمة: الرؤيا وتصحيح الموروث
(سورة آل عمران)
وهو في الحقيقة ليس إلا جزءًا من الأسماء التي سماها هو آباؤه الأولون ما أنزل الله بها من سلطان:
(سورة الأعراف)
فنحن نبرأ إلى الله من كل ما كتبناه بأيدينا إن كان يقع في باب افتراء الكذب على الله عن علم.
وقد أشعلت فتيل حديثنا هذا في الجزء السابق تلك الفكرة البسيطة التي افتريناها من عند أنفسنا والتي مفادها أن الذي لا يستطيع أن يفسّر للناس كيف يمكن للخمر أن يعصر (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) كما جاء في سورة يوسف على لسان أحد صاحبيه السجن:
(سورة يوسف)
فإنه ليس (في ظننا) جديرًا بأن يؤول للناس أحاديث الرؤيا والتي (لا شك عندنا) تحتاج إلى مجهود خارق يقوم به الشخص متى ما أذن الله له بشيء من ذلك العلم. فالله وحده أدعوه أن ينفذ مشيئته لي الإحاطة بشيء من علم الرؤيا الحق الذي هو من عنده، وأن لا نكون ممن يجادلون في أسماء سميناها نحن وآباؤنا ما أنزل الله بها من سلطان، إنه هو السميع البصير – آمين.
وقد حاولنا في الجزء السابق أن نبيّن لأنفسنا ولغيرنا بأن فهم هذه المواضيع العظيمة ربما يستحيل الوصول إليه مادامت أحداث القصة نفسها غير مفهومة يكسوها طابع شعبي قد لوّث بخرافاته ما هو أصلاً ملوّث من تخاريف الأمم التي سبقتنا. فأحداث القصة كما صوّرها لنا أهل الدراية ونقلها لنا أهل الرواية لا تعدو (في ظننا) أن تكون أكثر من تشويه آخر أضيف على التشوهات التي أسقطها بنو إسرائيل على تلك القصة العظيمة منذ قرون كثيرة خلت، فضاعت تفاصيل القصة الحقيقية كما ضاعت شخصيتها في سجلات التاريخ التي زورتها الأيدي البشرية عن غير قصد في بعض الأحيان وعن قصد وسبق ترصد في أحيان كثيرة. والغرض هو:
(سورة الصف)
ولكن هيهات هيهات أن يتحقق لهم ما أرادوا ما دامت سنن الله الكونية نافذة، فالله الذي لا محالة متم نوره قد أنزل هذا القرآن العظيم ليكون الوسيلة التي من خلاله يتم نوره ولو كره الكافرون، وجاء في سطوره بأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه مختلفون:
(سورة النمل)
فـ لله وحده الفضل والمنّة:
(سورة النمل)
لأنه لم يتركنا ألعوبة في أيدي الذين اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، فهؤلاء هم أنفسهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة:
(سورة التوبة)
(دعاء: اللهم أسألك أن تتقبّل الشكر منى كما تقبلته من نوح وأن ترشدني أن أعمل شكرا كما كان يعمل آل داوود شكرا، وأعوذ بك أن نكون ممن يشترون بآياتك ثمنا قليلا – آمين)
ولعلي أكاد أجزم القول بأن تفاصيل قصة يوسف (في أرض مصر) ورحلة بني إسرائيل في تلك البلاد قرونًا من الزمن حتى انتهت بخروجهم منها على يد موسى كانت ولازالت من أعظم القصص المختلف فيها. ونحن نحمل العقيدة التي مفادها أن الفهم الحقيقي لكتاب الله هو الوسيلة الوحيدة الآمنة لتصحيح تلك الأخطاء المتراكبة من حقبات التاريخ المظلم. فالله وحده أسأله أن يعلّمني (وأخي عصام درويش من أرض مصر الخالدة) أن نعيد نسج خيوط تلك القصة العظيمة، وتصحيح الموروثات التاريخية التي شوّهتها أيدي الناس وأطفأت نورَها أفواهُهم بإرادة مسبقة منهم. وأسأله وحده أن يعلّمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب. وأن يأذن لنا بعلم لم تنفذ مشيئته لغيرنا به، إنه هو السميع العليم – آمين.
أما بعد،
طرح الإشكالية: من هما صاحبا السجن؟
شخصية صاحبي يوسف السجن
بدأنا النبش في الجزء السابق في أحداث قصة يوسف من جديد للتعرف على شخصية أحد صاحبي يوسف في السجن وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا، فظننا مفترين القول من عند أنفسنا أن ذلك الرجل كان من فتيان القصر الملكي، وقد كان متواجدًا مع سيد المرأة عندما ألفياه (يوسف والمرأة) لدى الباب. كما افترينا الظن بأنه كان يتواجد في المكان ذاته في تلك اللحظة فتى آخر هو صاحب يوسف الآخر في السجن الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا. وافترينا القول من عند أنفسنا بأن الزج بهما في السجن مع يوسف كان بسبب القضية نفسها ولكن لدواعي أمنية بحتة.
وقد تخيلنا القصة وقد حصلت على نحو أن سيد المرأة قد طلب من يوسف أن يعرض عن هذا فلا يحدّث به الناس (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا). ولكنه لم يطلب ذلك من الفتيان اللذين تواجدا في المكان نفسه في تلك اللحظة وذلك لأنهم من فتيانه الذين من المفترض أنهم مؤتمنين على أسرار القصر الملكي. فلم يقع في خاطر سيد المرأة (نحن نتخيل) أن يقوم أحد منهما بنشر مثل هذه المعلومة الخطيرة التي كانت تمس هيبة العائلة المالكة، فلا يمكن أن يصدر فعل كهذا (نحن نتخيل سيد المرأة يقول في نفسه) إلا من قبل المتآمرين على القصر وعلى العائلة المالكة، ولم يكن يظن أن من بين فتيانه من هو متآمر على الملك وعلى العائلة المالكة. ولكن لما لم يكن يوسف فتاه وكان فتى المرأة التي راودته عن نفسه، لم يكن سيدها هذا يخبر يوسف جيدًا كما كان يخبر فتيانه (صاحبي يوسف السجن)، فطلب من يوسف أن لا يتحدث بالأمر إطلاقًا، وطلب من أخته أن تستغفر لذنبها (انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة).
ولكن عندما تأكد للقصر الملكي (خاصة لسيد المرأة هذا) بأن الخبر قد انتشر فعلاً بين نسوة في المدينة، أصبح لزامًا على أهل القصر الملكي أن يأخذوا حذرهم مادام أن معلومات سرية كهذه قد أخذت تتسرب من داخل البلاط الملكي. عندها – نحن نفترض- تم فتح ملف القضية للتحقيق فيها من هذه الزاوية. وما أن بدأ التحقيق يأخذ مجراه حتى تم الزج على الفور بكل من كان حاضرًا حينئذ بمن فيهم يوسف وصاحبيه السجن كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية كما نفهمهما بالطبع:
(سورة يوسف)
فدخول هذان الفتيان مع يوسف السجن (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ) لم يكن – نحن نفتري القول- محض مصادفة عجيبة، وصحبتهما له في السجن (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) لم يكن من باب الاختيار. ولكن هذا كله حصل على تلك الشاكلة لأنهم كانوا – في ظننا- مشتركين جميعًا في الجريمة نفسها.
كما افترينا القول بأن هذان الفتيان كانا يعملان مع سيد المرأة (ولي عهد الملك) في القصر. ليكون السؤال الذي سنطرحه على الفور هنا هو: من هما هذان الفتيان؟
الفرضية الأولية: وزيرا الزراعة والخزانة
افتراء خطير جدًا جدًا من عند أنفسنا: دعنا نبدأ شطحاتنا في هذا الجزء الجديد من المقالة بالخبر المفترى من عند أنفسنا التالي الذي نطلب من القارئ الكريم أن لا يثق به بداية ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يدعمه، والخبر هو أن الفتيان كانا وزيرا بلاط الملك، وهما على وجه التحديد وزيرا الزراعة (أو جباية الضرائب) و الخزانة (أو المالية) بمفرداتنا الدارجة التي أعرفها من كثرة تشكيل الوزارات في المملكة الأردنية الهاشمية العظيمة حيث باتت تتشكل الوزارات عندنا في السنة الواحدة أكثر من مرة حتى غدا ربع سكان عمّان – وأقصد عمّان الغربية- من هذه الفئة من الناس أو ممن ينتظرون دورهم ليكونوا من هذه الفئة قريبًا – الله يوفقهم كانت أمي تقول لكل من أراد شيئًا ولم يحصل عليه بعد).
المهم بالنسبة للقارئ (سواء كان أردنيًا أو غير أردني) هنا هو ما نفتريه من القول بأن الفتيان اللذان دخلا السجن مع يوسف كانا وزيرين في بلاط الملك حينئذ: الزراعة والخزانة.
ولمّا كانا متواجدين في القصر الملكي عندما حصلت حادثة همّ امرأة العزيز بيوسف كانا من المشتبه بهم في تسريب المعلومات من داخل القصر الملكي، فتم الزج بهما على الفور مع يوسف في السجن. كما افترينا القول بأن سيد المرأة (ولي العهد) قد انتهز الفرصة للتخلص من المتآمرين به مادام أنه (كما سنرى لاحقًا بحول الله توفيقه) سيعتلي عرش مصر وهو لازال شابًا صغيرًا. فثبّت بذلك هيبته وأركان دولته بعد موت والده الملك العجوز (ألا تذكرون – يا سادة- كيف ثبت بشار الأسد عرشه بعد موت والده حافظ عندما ذبح محمود الزعبي رئيس وزراء والده لعقود طويلة من الزمن بتهمة الخيانة).
أما ما يهم القارئ (سواء كان سوريًا أو غير سوري) هو ما نفتريه هنا من ظن بأن العلاقة بين هذين الفتيان (اللذان دخلا السجن مع يوسف) لم تكن علاقة طيبة إطلاقًا (كما يمكن أن يتصورها الفكر الشعبي)، فنحن نتخيل أن العلاقة بينهما لم تكن تخل من عنصر التناحر والتنافس كحال وزرائنا الأكارم الذين يظهروا على شاشات التلفاز وكأنهم أصدقاء تزاملوا في بلاد الغربة على مقاعد الدراسة، وهم في الحقيقة يكيدون ببعضهم كيد أمي بضرائرها (لتخطب ود أبي بالتأكيد). ونحن نجد الدليل على هذه العلاقة التنافسية بينهما في اللفظ القرآني (كما نفهمه) من الآية نفسها عندما جاء ذكر الأول بلفظ أَحَدُهُمَآ والثاني بلفظ الآخَرُ:
(سورة يوسف)
دلالة "أحدهما" و "الآخر"
فالشحناء بين أحدهما والآخر واضحة في قصة ابني آدم:
(سورة المائدة)
تحليل شخصية السجين الأول (أَحَدُهُمَا)
قصة صاحبي يوسف السجن 1 (أَحَدِهِمَا): تصور جديد مفترى من عند أنفسنا
تم نقل قضية تسريب خبر مراودة امرأة العزيز لفتاها للمحكمة للبت فيها لدواعي أمنية تخص تسريب معلومات سرية (وربما كاذبة) من داخل قصر الملك، وما أن بدأ المحققون في القضية يبحثون عن الآيات (الأدلة) التي ترشدهم إلى الحقيقة حتى بدا لهم من بعد رؤيتهم لتلك الآيات أن الذي سرب المعلومات من داخل القصر الملكي هو وزير الخزانة (الذي رأى أنه يحمل الخبز فوق رأسه). فصدر عليه حكم الإعدام بالخيانة العظمى للملك. وتم تبرئة الآخر من التهمة والعودة إلى سابق عهده. انتهت القصة.
الدليل
لو دققنا في النص القرآني لوجدنا أن "مهنة" هذا الفتى الذي تمت تبرئته وخروجه من السجن هي أنه كان من اللذين يعصرون خمرًا:
(سورة يوسف)
ولو بحثنا في قصة يوسف نفسها، لوجدنا على الفور أن هذه المهنة لم تكن حكرًا على هذا الرجل وحده ولكنها ربما كانت حرفة الناس في أرض مصر حينئذ، فلنقرأ الآية الكريمة التالية:
(سورة يوسف)
ألا ترى - عزيزي القارئ- أن هذه الآية الكريمة تصوّر لنا ما كان سيفعله الناس بعد سنين القحط التي حلّت بمصر في زمن يوسف، فلنقرأ الآية الكريمة نفسها في سياقها القرآني الأوسع:
(سورة يوسف)
ألا تجد – عزيزي القارئ- أن الناس في ذلك العام سيكونون جميعًا مشتغلين بعملية العصر (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)؟2 فما الذي سيعصره الناس؟ هل سيكون الناس منشغلين بعصر الخمر الذي يسكر؟ هل سيكون شغل الناس بعد كل سنين الجدب والقحط أن يسكروا؟ وإذا كان هذا ديدن الناس، فكيف سيفعل يوسف؟ ألم يكن هو عزيز مصر في ذلك العام الذي سيعصر فيه الناس؟ فهل كان يوسف سيعصر معهم؟ أم هل كان سيقدم له الخمر جاهزًا؟ وإن كنت تظن أن هذا مستحيل في حالة يوسف الصديق، فكيف بيوسف نفسه سيطلب من الملك لاحقًا أن يجعله على خزائن الأرض لهؤلاء الناس السكارى؟ من يدري!!!
أما أنا فأقول: كلا وألف كلا، إننا نظن أن الناس سيكونون منشغلين بعملية العصر (أي جمع الثمار وتخزينها فقط) بعدما حل بهم القحط سنين طوال. وهذه – برأينا- هي مهنة من يشتغل الزراعة.
خروج عن النص في استراحة قصيرة
لقد كانت مصر حضارة الدنيا في زمن يوسف الصديق هي الأرض التي تزرع فتطعم العالم بأسره. وها هي مصر اليوم (مصر السيد الرئيس) تستجدي العالم لقمة العيش. ألا تجد - عزيزي القارئ – (سواء كنت مصريًا أو غير مصري) أنّ الفارق واضح ولو قليلاً بين مصر الأمس ومصر اليوم؟
رأينا: والله لا أعدم الأمل أن تعود مصر اليوم كما كانت مصر الأمس، بلاد الزراعة والعلم، حاضرة العلم والعطاء، يتعلم الناس فيها، وتتصدق هي على الآخرين فلا تستجدي اللقمة من الغير، فحتى أبناء الأنبياء دخلوا مصر طالبين المعونة:
(سورة يوسف)
فمتى - يا ترى- ستأتي السيارة من كل بقاع الأرض إلى أرض مصر ومتى ستقبل العير من كل اتجاه على عزيزها ليطلبوا منه الصدقات؟
رأينا الذي لم يطلبه أحد: أظن أن هذا ممكنًا متى ما استطاعت أرض الكنانة والتاريخ أن تحرر نفسها من سيطرة اثنين من الناس الفاسدين والمفسدين وهما:
- الفاسدين المفسدين من أهل السياسة
- الفاسدين المفسدين من أهل الدين
وهم بشقيهم من نظن أنهم سرقوا البلاد والعباد، فلقد أفسد أهل السياسة دنيا الناس كما أفسد أهل الدين آخرتهم، فهؤلاء يقدمون الوعود للناس بالفردوس على الأرض وهؤلاء يقنعونهم بأن فردوسهم في الآخرة. ويقع العامة (من مثلي) في صراع نفسي يؤدي به إلى انفصام شخصيته، فيعيش يومه مطاردًا لقمة عيشه مصدقًا وعد أهل السياسة، وما أن يفشل بالحصول على شيء حتى يعود في ليلته ليراجع نفسه فينام يحلم بالفردوس الذي وعده إياه أهل الدين. ويبقى يتقلب بين يومه وليلته على تلك الشاكلة حتى يدرك في نهاية المطاف (وأرجو أن أكون مخطئًا) أنه قد خسر الاثنتين، فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى (ولو إني مش فاهم شو معناها بس أعتقد أنه كلام كبير).
ولعلي أظن أن عقاب الفئتين (أهل السياسة وأهل الدين الذين أفسدوا دنيا الناس كما أفسدوا آخرتهم) يجب أن يكون على نحو ما كان عقاب صاحب يوسف السجن الذي كان يحمل فوق رأسه الخبز (أن يصلبوا فتأكل الطير من رؤوسهم جميعًا):
(سورة يوسف)
فالصراع في مصر اليوم سيبقى مشتعلاً بين هاتين الفئتين الفاسدتين المفسدتين. ولو سألت قياداتهم الحكيمة (بلا شك) عن السبب في تطاحنهم في فريقين يكيدون العداء لبعضهم البعض لربما ما حصلت من أحد منهم على جملة مفيدة واحدة، ولو سألتهم عن المخرج من هذه الأزمة الطاحنة فيهم لما وجدت عند أحد منهم شيئًا يقوله لك. فهم يتقاتلون ولا يعلمون لم يتقاتلون، وهم يتقاتلون ولا يعلمون إلى أين هم ذاهبون بمصر التاريخ والحضارة.
ولعلي أجزم أن الخروج من هذه الأزمة هو أن يدرك العامة من الناس أن المتناحرين منهم في صفين كلاهما فاسدون مفسدون، وأن خروج مصر من أزمتها يجب أن يكون بالتخلي عن الطرفين (السيسي ومن التف حوله بفريقه السياسي الفاسد) و(مرسي ومن التف حوله بفريقه الديني المفسد).
(ملاحظة مهمة جدًا: أرجو أن تصل للقارئ الكريم الفكرة البسيطة التي مفادها أننا لا نتحدث هنا عن هؤلاء كأشخاص بعينهم وإنما نتحدث عن فكر هؤلاء الأشخاص، فأنا على العقيدة التي مفادها أن مثل هؤلاء الناس هم أكثر إيمانًا وأحسن خلق وأكرم أصلاً مني شخصيًا، لكن على الرغم كل ما يتمتعون به من ميزات شخصية يتفوقون بها عليّ، إلا إنني أعتقد أنهم أصحاب فكر منحرف، وهذا هو محط انتقادنا لهم. فأنا وأخي (ابن أمي) على طرفي نقيض في الفكر وإن كنا نحب بعضنا البعض حبًا جما. فالاختلاف في الرأي – وهو ما نختلف فيه- لا يجب أن يفسد الود بين الناس – وهو الذي لا يجب أن نختلف فيه).
عودة على بدء
دعنا نعود إلى افتراءاتنا عن هذين الفتيان بما حاولنا أن نستنبطه من الآيات السابقة التي نعيدها مرة أخرى بعد هذا الاستطراد (ربما غير المرغوب فيه):
(سورة يوسف)
فنحن نزعم أن هذا الفتى (صاحب يوسف الأول في السجن) كان يقوم على العصر خمرًا، الأمر الذي يحفزنا لافتراء القول بأنه كان من المشتغلين بالزراعة. ولكنه لم يكن – نحن نظن- يشتغل لحسابه الخاص وإنما كان يشتغل لحساب ربه، لذا جاء في تأويل يوسف لرؤيا هذا الرجل أنه سيسقي ربه خمرًا:
(سورة يوسف)
الأمر الذي يجعل لزامًا علينا أن نطرح التساؤل التالي على الفور: كيف سيسقي هذا الرجل ربه خمرًا؟ فهل كان يقوم هذا الرجل بفعل إعداد الخمر ومن ثم مناولته لسيّده ليشربه؟!
جواب: كلا، وذلك لأننا نعتقد أن الفعل "سقى" لا يتم على تلك الشاكلة، ولكن لماذا؟
رأينا: لأن الله هو الذي أنزل من السماء ماء طهورًا:
(سورة الفرقان)
وهو الذي أسقانا ذلك الماء:
(سورة الحجر)
(سورة الجن)
(سورة المرسلات)
جواب: كلا، لأن ذلك مستحيل بنص الآية الكريمة التالية كما نفهمها:
(سورة الرعد)
فهل نستطيع أن نبسط كفنا إلى الماء النازل من السماء ليبلغ أفواهنا فنشربه؟
جواب: كلا.
جواب: بطريقة السقاية؟
رأينا: تجميع (أو توفير) الماء في وعاء ومن ثم تناوله من ذلك الوعاء (ربما باستخدام أداة).
الدليل
لو تدبّرنا الآيتين الكريمتين التاليتين لوجدنا أن الله قد أسقانا مما في بطون الأنعام:
(سورة النحل)
(سورة المؤمنون)
فكيف يسقينا الله ذلك؟
جواب: نحن لا نقوم بتناول ذلك اللبن مباشرة من ضرع الأنعام، لأن ذلك ربما يقع في باب الرضاعة (وليس السقاية) كما في حالة الطفل الذي يرضع من ثدي مرضعته:
(سورة البقرة)
ولكن الفعل يتم باستخراج ذلك اللبن من بطون الأنعام أولا، فيتم تجميعه (أو توفيره) في وعاء بعد ذلك، ثم نقوم نحن بتناوله بمحض إرادتنا، وهذه العملية بجميع مراحلها هي ما نظن أنه يقع في باب الفعل "سقى".
(سورة الفرقان)
ويحصل كذلك في حالة الزروع، فالماء الذي ينزله الله من السماء يسقي به الزرع فينبت به:
(سورة الرعد)
(سورة النحل)
ولو تدبرنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن هناك الساقي وهناك المسقي وهناك الفعل "سقى" كما في حالة موسى الذي سقى للمرأتين على ماء مدين:
(سورة القصص)
فيقوم الساقي بتوفير المادة للمسقي ليقوم هو بتناولها بنفسه.
ولا يتم الفعل "سقى" قصرًا (أي عنوة) إلا إذا كان هناك من يجبرك عليه رغمًا عنك:
(سورة محمد)
وأخيرًا نحن نظن أن فعل السقاية "سقى" يقابله فعل الإطعام "طعم":
(سورة الشعراء)
(سورة البقرة)
(سورة البقرة)
(سورة الأعراف)
طعم - يُطْعِمُنِي - سقى - وَيَسْقِينِ
أكل - وكُلُواْ - شرب - وَاشْرَبُواْ
(سورة يوسف)
رأينا المفترى: هو الذي كان مسئولاً عن توفير السقاية لربه. فهو الذي كان مسئولاً عن تجميع المحاصيل ليسقي ربه، فتعود ملكيتها كلها في نهاية المطاف إلى ربه. فكل ما كان يعصره هذا الفتى من خمر لم يكن ملكًا له ولم يكن يستطيع التصرف فيه لأن ذلك يعود إلى ربه الذي يستطيع هو أن يتصرف به.
(سورة يوسف)
فكان هذا الفتى – كما نسميه نحن- هو صاحب السقاية، وسنرى بحول الله وتوفيق منه تبعات ذلك في قصة يوسف (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) عندما وضع يوسف السقاية في رحل أخيه:
(سورة يوسف)
وكيف استخرجها من وعاء أخيه:
(سورة يوسف)
عندها سنرى كيف تعاون صاحب يوسف السجن هذا مع يوسف نفسه بعد أن أصبح عزيز مصر في تدبير الكيد بإخوة يوسف لكي يتمكن من أخذ أخيه في دين الملك بمشيئة الله. فالله وحده أسأل أن يأذن بمشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم.
تحليل شخصية السجين الثاني (الآخَر)
قصة صاحبي يوسف السجن 2 (الآخَرِ): تصور جديد مفترى من عند أنفسنا
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه وزير المخزانة (أو المالية) في بلاط الملك.
الدليل
نحن نقرأ الدليل على افتراءنا هذا من تفسير يوسف لرؤيا هذا الرجل والتي جاءت على النحو التالي:
(سورة يوسف)
رأينا: لو تدبرنا ما قاله يوسف لهذا الفتى لوجدنا أن عقوبته ستكون على مرحلتين وهما:
- الصلب: وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ
- أكل الطير من رأسه: فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ
ولو راقبنا النص أكثر لما وجدنا أن يوسف يبدي اعتراضه على تلك العقوبة، ولا توجد إشارة أن هذا الحكم الذي صدر بحق الرجل قد كان حكمًا جائرًا أو غير عادل، فالرجل قد أخذ العقوبة التي يستحق، لذا لابد أن نبحث من خلال تلك العقوبة عن الذنب الذي اقترفه حتى استحق مثل هذه العقوبة. لذا سيكون السؤال على الفور هو: ما الذي فعله الرجل لكي يصلب ولكي تأكل الطير من رأسه؟
جواب: لو حاولنا أن نبحث عن عقوبة الصلب في كتاب اله لوجدناها في السياقات القرآنية التالية:
(سورة النساء)
(سورة المائدة)
(سورة الأعراف)
(سورة طه)
(سورة الشعراء)
لنخلص من خلال هذه السياقات القرآنية بالافتراء الأول الذي هو لا شك من عند أنفسنا والذي مفاده أن الصلب يقع على من يفسد في الأرض. ولكن كيف ذلك؟
بداية، لابد من الإشارة إلى عيسى بن مريم الذي ظنّ القوم أنهم قد صلبوه، فجاء التكذيب الإلهي لهم صريحًا بنص القرآن:
ولكن هذا الموقف يثير التساؤل التالي على الفور: لماذا اختار الذين تآمروا على المسيح عيسى بن مريم مثل هذه العقوبة؟ لِم لَم يكتفوا بقتله؟ لم لم يختاروا عقوبة أخرى كالرجم مثلاً؟ فلم الصلب على وجه التحديد؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن القوم قد اختاروا مثل هذه العقوبة بحق المسيح عيسى بن مريم وظنوا أنهم قادرون على تنفيذها لأنهم كانوا يعتقدوا أن ما فعله المسيح بهم يقع في باب الفساد في الأرض. فهم كانوا – برأينا- يظنون أن المسيح إنما كان يفسد في الأرض من خلال تلك التعاليم الجديدة التي يبثها بين الناس.
وأظن أن علينا أن نقرأ مثل هذا الكلام في ضوء الحقيقة التي لا يمكن المجادلة فيها وهي أن الذين أقدموا على محاولة إيقاع هذه العقوبة (الصلب) بحق المسيح عيسى بن مريم هم من بني إسرائيل الذين كانت شريعتهم على الدوام هو ما تصوره الآية الكريمة التالية أحسن تصوير:
(سورة المائدة)
فلقد ظن المتآمرون بالمسيح عيسى بن مريم أن في تعاليم المسيح الجديدة محاربة لله كما كانوا يعتقدون جازمين – نحن نظن غير جازمين- بأن في نشر تلك التعاليم في الأرض سعي للفساد في الأرض، فكانت العقوبة الملائمة في نظرهم لمن يقوم بمثل تلك الأفعال (كما تخيلوها) هي:
وأظن أن القوم قد أقدموا على محاولة قتل المسيح وصلبه لكي يدافعوا عن ربهم الذي يعرفونه ولكي يحموا مجتمعهم الذي يعيشون به من الخطر الداهم عليهم على يد هذا الشخص (المسيح عيسى بن مريم).
ولا أظن أنهم يختلفون في عقليتهم هذه عن عقلية صاحبهم القديم فرعون نفسه الذي ظن أن موسى والسحرة قد فعلوا بالناس مثل ذلك، فكان قراره الذي لم يستطع أن ينفذه هو على النحو التالي:
(سورة الشعراء)
جواب: نحن نظن أن استنباط ذلك ممكنًا من الآية الكريمة التي تتحدث عن الرؤيا التي رءاها:
(سورة يوسف)
لنطرح على القارئ الكريم التساؤلات التالية:
- كيف رأى ذلك الفتى نفسه؟ فما هي الهيئة التي رأى فيها نفسه؟
- لماذا رأى أنه يحمل الخبز؟ لم لم ير أنه يحمل موزًا أو تفاحًا أو كمكوا (بالرغم إني ما بعرفوش)؟
- لماذا كان يحمل ذلك فوق رأسه؟ لم لم يكن يحمله على رأسه مباشرة؟ ولماذا لم يكن يحمله على كتفه؟ أو بين يديه؟ ولم لم يكن يحمله على دابة كالحمير أو البغال أو الخيل؟
- كيف كان الطير يأكل؟ وهل كان يأكل الطير من الخبز أم من رأسه مباشرة؟ ولم لم يأكل الطير من بقية جسده؟ فهل كان طيرًا مدربًا على الأكل فقط من الرأس؟ وما الذي كان يمكن للطير أن يأكله من الرأس؟ فهل كان سيأكل شعره أو عظام رأسه مثلاً؟
- وما هي الطير التي كانت تأكل منه أصلاً؟
- الخ.
أظن أن هذه تساؤلات تتطلب إجابات ممكنة ومنطقية لكي نتمكن من العودة إلى التساؤل الرئيس الخاص بالذنب الذي اقترفه هذا الفتى ليستحق مثل هذه العقوبة. فنحن على العقيدة التي مفادها أن هذا الفتى كان يعيش في بلاد يسودها القانون الذي يطبق بعدالة على الجميع، وليس أدل على ذلك مما حل بيوسف قبل أن يزج به في السجن وبعد خروجه من هناك ليصبح عزيز مصر كلها (وسنتحدث عن هذه الجزئية في الأجزاء القادمة إن أذن الله لنا بعلم من لدنه).
جواب: أنه يحمل فوق رأسه خبزًا: إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا
جواب: غالبًا ما صوّر الفكر المسيحي مشهد صلب السيد المسيح (أو crucifixion بالمفردات الأعجمية) بمثل هذه الصورة الافتراضية:
فترسخت فكرة الصلب في أذهان العامة (المسيحيون وغير المسيحيين) بأن الصلب يحدث على تلك الشاكلة. وهنا نستميح أعزائنا أصحاب هذه العقيدة العذر لنخالفهم الرأي مفترين القول من عند أنفسنا أن عملية الصلب لا تتم بهذه الطريقة، وإنما تتم بطريقة هي أقرب إلى الصورة الافتراضية التالية:
والفرق الرئيس بين الصورتين يكمن في وضعية الأيدي، حيث تكون الأيدي في حالة الصلب (برأينا) مرفوعة عن مستوى الرأس، ويكأن الشخص المصلوب قد رفع يديه حاملاً شيئًا فوق رأسه (انظر الصورتين السابقتين).
فها هو فرعون يتوعد السحرة بأن يصلبهم وقد قطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف:
(سورة الشعراء)
فكيف سيتم صلب شخص في جذوع النخل وقد قطعت يده ورجله من خلال؟
جواب: سيكون في هيئة تدلي حيث ترتفع أحد يديه (أو كلاهما) فوق مستوى رأسه كما في الأشكال التوضيحية التالية:
رأينا المفترى: نحن نظن أن الخبز (كما نفهمه) لا يصبح خبزًا إلا بعد معالجة المادة الأولية (وهي الحبوب) بطرق تقليدية محددة ليتم بعد ذلك تحويلها إلى المادة التي تصبح جاهزة للأكل. فالقمح (أو الحنطة) لا تصبح خبزًا إلا بعد طحنها ومعالجتها بالماء والنار. فتطحن الحنطة ويضاف إليها الماء، وما أن تصبح مادة جديدة (لنقل "عجينًا" بلغتنا الدارجة) حتى يتم خبزها في الفرن (النار) فتتحول إلى مادة قابلة للأكل مباشرة.
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن هذا الفتى لم يكن يستطيع الوصول إلى الحنطة ولكنه كان يستطيع الوصول إلى الخبز؟
افتراءات وتخيلات وتخاريف من عند أنفسنا: لأنه لم يكن مسئولاً عن الحنطة ولكنه كان مسئولاً عن الخبز.
سؤال: وكيف ذلك؟
جواب مفترى: لأنه لم يكن وزير الزراعة ولكنه كان وزير الخزانة (المالية).
افتراءات وتخيلات وتخاريف من عند أنفسنا عن شخصية الفتيان صاحبي يوسف السجن: تصور جديد
نحن نفتري الظن بأن صاحب يوسف الأول الذي رأى أنه يعصر خمرًا كان مسئولاً عن جمع المحاصيل وتخزينها في بيت مال ربه كالحبوب والثمار ونحوها، فهو الذي كان يجمع (يعصر) خمرًا، فيقوم بجمع ضرائب الدولة من المقتدرين على دفعها وهم من فاض المحصول عن حاجتهم (اي الأغنياء). فكان بذلك هو المسؤول عن جباية ضرائب الدولة.
وما أن يتم جمع المواد وتخزينها حتى تأتي مسألة إنفاقها وتوزيعها على عهدة الفتى الآخر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا. فبعد أن تعب الأول وجدّ في جمعها، يتولاها الآخر جاهزة (خبزًا) لأن مهمة توزيعها على الناس بالعدالة المفترضة تقع على عاتقه. فكان أحدهما (أَمَّا أَحَدُكُمَا) ممسكًا بحسابات الوارد (بلغة الملفات في أيامنا هذه) وكان الآخر (وَأَمَّا الآخَرُ) ممسكًا بحسابات الصادر (بلغة الملفات في أيامنا هذه).
وقد كان الأول (عاصر خمر) أمينًا في تجميع تلك الثروة، ولكن الآخر لم يكن أمينًا في توزيعها، فكان يسرق من تلك الأموال، ولا يتوقف عند مسألة السرقة الشخصية ولكنه كان يسعى في الأرض فسادًا، فلا يوزع أموال الدولة بعدالة على من يستحقها، وكان يستخدمها – نحن نتخيل- في دفع الرشى (الرشوة) ربما ليكسب ود علية القوم على حساب أموال الدولة التي من المفترض أنها توزع بعدالة. وربما يمكننا تشبيه هذه الموظف غير النزيه ببعض أهل السياسة، أصحاب النفوذ في زمننا الذين يخونون الأمانة، فيتكسبوا من مناصبهم بالسرقة الشخصية وبتقديم الرشوة للأحباب والأقارب من أموال البلد، فيشيدون القصور الفخمة، ويشترون المزارع (بلغة أهل الأردن) أو العزب (بلغة المصريين) أو الضيعات (بلغة أهل الشام)، وما أن تكتمل قصورهم في البناء حتى تشيد على أحدث الطرازات المعمارية والهندسية، وتؤثث بأحدث الماركات المسجلة العالمية، ويكتمل ذلك كله عندما يذهبون بأنفسهم إلى أهل العمارة ورسامي الحجارة الثمينة ليشتروا الحجر الأخير الذي يضعونه على واجهة القصر ليكون أول ما يجلب انتباه الزائر العبارة التالية مكتوبة على ذلك الحجر:
جواب: نعم إذا كان ربه الذي يقصده هو مثل رب صاحب يوسف الذي طلب يوسف منه أن يذكره عنده:
(سورة يوسف)
الدليل
نكاد نقتنع بما نفتري من قول بسبب ملاحظتين ظننا أن لهما علاقة مباشرة بالموضوع وهما:
- تأكل الطير منه: خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
- طلب يوسف من الملك لاحقًا أن يكون على خزائن الأرض: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
الملاحظة الأولى: موقع الجار والمجرور (مِنْهُ) في رؤيا الفتى
لقد قص هذا الفتى على يوسف رؤياه على النحو التالي:
لماذا قال الرجل بأنه كان يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه؟ ولم لم يقل بأنه كان يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل منه الطير؟ لماذا جاء الجار والمجرور مِنْهُ بعد الفاعل؟
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
ولم لم تأتي بعد الفعل، كأن تكون الآية على النحو التالي:
أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل منه الطير
جواب مفترى: لأن الحديث لم يكن يخص الطير كل الطير وأن الخبز لم يكن مقصود به الخبز كل الخبز، ولكن الرجل قد رأى خبزًا معينًا تأكل منه طير محددة.
الدليل
قارن عزيزي القارئ الكريم ما جاء في هذه الآية التي تتحدث عن رؤيا الرجل:
مع ما جاء في موطن آخر من كتاب الله:
(سورة السجدة)
فحاول أن تتدبر الفرق بين الحالتين فيما يخص موقع الجار والمجرور مِنْهُ. فهل توافقنا الرأي بأن الحديث في الآية الثانية يخص الأنعام كل الأنعام والزرع يعود على كل الزرع، لتكون هذه حقيقة عامة تنطبق على كل الأنعام وكل الزرع بغض النظر عن الزمان والمكان؟
ألا يعني ذلك أن الزرع لا يخص زرع بلاد بذاتها وأن الأنعام لا تعود على أنعام قوم بعينهم، وأن هذا ينطبق كل الزرع والأنعام في كل حين (زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ)؟ فماذا يمكن أن يكون المعنى لو أن الآية الكريمة جاءت على هذا النحو مثلاً:
زرعًا تأكل أنعامهم وأنفسهم منه
رأينا المفترى: لو جاءت الآية على هذا النحو لربما حق لنا أن نستنبط أن ذلك يقصد به زرعًا محددًا وأنعامًا معينه وقومًا بأنفسهم لا يخص غيرهم. وهذا بالضبط ما نفهمه من موقع مِنْهُ في رؤيا الفتى صاحب يوسف السجن:
الملاحظة الثانية: يوسف يطلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض
لو دققنا في الآية الكريمة التالية لوجدنا أن يوسف يطلب من الملك شخصيًا أن يجعله على خزائن الأرض:
التساؤلات
- لماذا طلب يوسف من الملك تلك الوظيفة على وجه التحديد (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ)؟
- لماذا علّل يوسف طلبه ذلك على نحو أنه حفيظ عليم (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؟
- ألم يقتنع الملك أن يوسف فعلاً حفيظ عليم؟ فما الداعي أن يقول يوسف ذلك بنفسه؟
- الخ.
افتراءات من عند أنفسنا: نحن نحسن الظن بني الله ورسوله يوسف عليه السلام، لذا فإن عقيدتنا الراسخة هي على نحو أن يوسف ما كان ليأخذ ما كان لغيره، فمن المستحيل عندنا أن يقدم يوسف على طلب تلك الوظيفة من الملك شخصيًا لو أن أحدًا آخر كان يشغلها، وما طلبها يوسف من الملك إلا لأنها كانت لازالت شاغرة (أي لا يوجد من يتولها). وبكلمات أكثر بساطة نقول: لو كان في بلاط الملك حينئذ شخص يشغل ذلك المنصب لما أقدم يوسف على إزاحته من منصبه ليتولاه بنفسه. فهذه ليست من أخلاق الناس العاديين اللذين ربما تبقى عندهم شيء من المبادئ الإنسانية ناهيك أن تكون من أخلاق النبوة. فيوسف أجل وأرفع مكانة أن ينافس الآخرين على منصب دنيوي كان من نصيب غيره.
جواب مفترى: لأن هذا المنصب بقي شاغرًا بعد أن نال صاحب يوسف السجن الآخر عقابه بالصلب لأنه كان هو من يشغله سابقًا.
قصة صاحبي يوسف السجن: تصور جديد
نحن نتخيل أن صاحبي يوسف السجن كانا وزيرا البلاط حينئذ، فكان أحدهما يقوم على العصر (تجميع المحاصيل كضرائب) ليوردها في خزائن ربه. وكان هذا شخصًا أمينًا لا يعيث في الأرض فسادًا. وما أن يتم إيراد تلك المحاصيل (الغلة من الضرائب) في خزائن الأرض حتى يتولى الآخر مهمة توزيعها على الناس. ولكن هذا الشخص الآخر قد خان الأمانة وعاث في الأرض فسادًا، ولم ينكشف أمره إلا بعد أن يقوم بتسريب المعلومات السرية عن مراودة امرأة العزيز لفتاها بين نسوة في المدينة. لذا لم يكن هذا الشخص ممن يحفظون الأمانة، فانكشف أمره، واتخذت المحكمة بحقه الحكم العادل بالصلب. وما أن خرج يوسف من السجن وقربه الملك إليه حتى طلب يوسف بنفسه من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لأن أحد أهم السمات لمن سيتولى تلك المسؤولية أن يتصف بالحفظ. فجاء تأكيد يوسف للملك بأنه حفيظ:
ولم تكن سجلات صاحبنا القديم مبنية على علم، لأنه كان من المفسدين في الأرض، فلم يكن (نحن نتخيل) يقوم بتوثيق ما ينفق من خزائن الأرض لأنه كان يستخدم ما فيها ليعيث فيها فسادًا، فكانت سجلاته مزورة وتالفة (كما يعمل بعض .... في أيامنا عندما تأتي دائرة الرقابة والتفتيش)، فما كان من يوسف إلا أن يؤكد للملك بأنه يتمتع بالعلم الذي يمكنه من تسجيل المعلومات بكل دقة، فجاء في تبرير يوسف لاستلامه ذلك المنصب على نحو أنه حفيظ عليم:
فأصبح يوسف على خزائن الأرض، وكان صاحبه السجن الأول الذي كان يعصر خمرًا لازال يستلم منصبه في تجميع وتوفير الغلة (العصير)، أي جمع الضرائب وإيرادها إلى خزينة الدولة، وأصبح يوسف يتولى مسؤولية تصريفها بالطريقة الصحيحة التي لا تضيع على الناس أموالهم. وسنرى تبعات هذا الظن على مجريات بقية أحداث القصة، سألين الله وحده أن يؤتينا رشدنا وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون – آمين.
والله أعلم
دعاء: رب أسألك أن تأذن لي الإحاطة بما لم تأذن لغيري الإحاطة به، وأسألك أن تعلمني ما لم أكن أعلم، وأعوذ بك أن أفتري عليك الكذب عن علم، إنك أنت السميع المجيب – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
31 كانون أول 2013
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الهوامش
- لاحظ عزيزي القارئ أن القرآن الكريم لم يعبّر عن الوالدين بلفظ أحدهما أو الآخر ولكنه عبّر عن ذلك بلفظ أحدهما أو كلاهما في الآية الكريمة التالية:وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴿٢٣﴾(عودة إلى النص)
(سورة الإسراء) - للتفصيل حول هذه الجزئية انظر مقالتنا تحت عنوان: كم لبث نوح في قومه؟ (عودة إلى النص)