فهرس المقالة
- مقدمة وافتراضات سابقة
- شخصيات محورية في القصة
- افتراضات جديدة حول شخصيات القصة
- انتشار الخبر ودخول يوسف السجن
- باب الرؤيا في قصة يوسف
- تحليل لغوي لمفهوم "الخمر" و"العصر"
- الهوامش
قصة يوسف 12 إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا
مقدمة وافتراضات سابقة
لقد افترينا الظن في الجزء السابق من هذه المقالة أن امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه هي واحدة من بنات الملك نفسه، وكانت تسكن في قصر الملك مع بقية إخوانها وأخواتها، المتزوجات منهن وغير المتزوجات، فكان لكل واحدة (كما كان لكل واحد) بيتا في ذلك القصر الكبير، فكان البيت بيتها، ولم يكن بيت زوجها أو بعلها (العزيز).
كما افترينا الظن أيضا بأن الشخص الذي ألفياه (يوسف والمرأة) لدى الباب لم يكن زوجها العزيز (كما زعم سادتنا العلماء أهل الدراية من قبل)، ولكننا نؤمن يقينا بأنه سيدها بصريح اللفظ القرآني. وقد افترينا بناء على ذلك القول من عند أنفسنا بأن سيدها ذاك هو أخوها وولي عهد الملك نفسه، فلقد كان بصريح اللفظ القرآني من أهلها بدليل ما قالته المرأة نفسها:
(سورة يوسف)
وظننا أن سيدها ذاك قد حاول أن يتكتم على الخبر حتى لا ينتشر في المدينة فيصبح كارثة على العائلة بأكملها. فلم يتم الفصل بين المرأة ويوسف خوفا من إثارة الشبهات حول الموضوع. فتصرف سيدها كالحكم (الذي هو من أهلها) في النزاع الذي حصل بين المرأة ويوسف، ففي حين أن المرأة حاولت أن تلقي بالتهمة على يوسف:
(سورة يوسف)
حاول يوسف أن يدافع عن نفسه، فما كان من سيدها إلا أن يستمع إلى شهادة الطرفين، فكما استمع إلى شهادة أخته السابقة، أنصت إلى شهادة يوسف:
(سورة يوسف)
ومن ثم ذهب يبحث عن الدليل الذي وجده عند شخص آخر من أهل المرأة نفسها. انظر الآية الكريمة:
(سورة يوسف)
ليصبح المشتركين في هذه القضية من أهل المرأة نفسها شخصان وهما:
- الذي ألفياه لدى الباب واشتكت له المرأة: قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا
- الذي شهد بخصوص قدّ القميص: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ
وسنحاول في مطلع هذه المقالة (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) التعرف على شخصية هذين الشخصين من أهلها.
وقد أنهينا الجزء السابق من المقالة بتقديم إجابات مفتراة من عند أنفسنا للتساؤلات التي أثرناها حينئذ وهي:
الجواب المفترى: أنها ابنت الملك وامرأة العزيز
الجواب المفترى: في قصر والدها حيث كان لها بيتا فيه
الجواب المفترى: العزيز (الذي لم يكن من العائلة المالكة ولكنه اكتسب ذلك الشرف اكتسابا بالمصاهرة)
الجواب المفترى: أخوها ولي عهد الملك
وقد قطعنا الوعد للقارئ الكريم أن نتابع محاولاتنا النبش في تفاصيل تلك القصة العظيمة لنتعرف أكثر على أحداثها وشخصياتها كما نفهمها. فنحن نظن أن معرفة الشخصيات لا شك تسعف في توضيح تفاصيل القصة بالدقة التي نرجوها بحول الله وتوفيقه.
أما بعد.
شخصيات محورية في القصة
الشخصيات المثيرة للتدبر
- الملك:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ...
(سورة يوسف) - السيد:
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ...
(سورة يوسف) - العزيز:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ...
(سورة يوسف)
لكن يبقى هناك شخصية أخرى مثيرة للاهتمام وهي شخصية الشاهد الذي شهد من أهلها والذي فضّ الخلاف معتمدا على كيفية قدِّ القميص، فكان قراره الثاقب الحكيم على النحو الذي تصوره الآيات الكريمة أحسن تصوير:
(سورة يوسف)
من هو الشاهد؟
نقد التفاسير التقليدية
ألا تجد - عزيزي القارئ- أن سادتنا أهل الدراية قد وضعوا كل احتمالات خطرت في بالهم (وربما بلا دليل) حتى وصلوا أخيرا إلى القول بأن الشاهد لم يكن إنسيا (انظر ما وضعنا نحن تحته خط في نهاية الكلام المقتبس من ابن كثير)؟ ألم يأتي بصريح اللفظ القرآني أن الشاهد كان من أهلها (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا)؟ فكيف ببعضهم يجرؤ على افتراء القول كذبا بأنه لم يكن إنسيا؟ أم أن أهلها كانوا أيضا من الجن أو من الشياطين؟ وهل كانت المرأة نفسها من الجن مادام أن الشاهد على رأي الليث بن سليم الذي نقل عن مجاهد (كما في ابن كثير – انظر السطر الأخير الذي وضعنا تحته خطا) لم يكن إنسيا؟ هل يعقل - يا سادة- أن يصدر مثل هذا الكلام عمّن يمكن أن يُنعتوا بأنهم أهل علم يستحق أن يُكتب ما قالوا (إن صح أصلا) في بطون أمهات كتب المسلمين؟ من يدري!!!
افتراضات جديدة حول شخصيات القصة
افتراءات من عند أنفسنا نظن أنها غير مسبوقة حول شخصية الشخص الذي ألفياه لدى الباب وشخصية الشاهد الذي شهد من أهلها
افتراء رقم (1): نحن نظن أن الشخص الذي ألفياه (يوسف والمرأة) لدى الباب كان سيدها وهو أخوها وولي عهد الملك حينئذ
افتراء رقم (2): نحن نظن أن الشاهد الذي فض الخلاف بالقضية حينئذ من خلال فكرة قدّ القميص كان الملك نفسه
الدليل والسيناريو المفترى
لقد افترينا القول في الأجزاء السابقة من هذه المقالة أن النظام الإداري في مصر في زمن يوسف حينئذ كان على النحو التالي:
- الملك (رأس الدولة)
- السيد (ابن الملك وولي عهده)
- العزيز (صهر الملك: زوج ابنته)
قصة يوسف: تخيلات من عند أنفسنا
بداية نحن نؤمن يقينا أن الذي ألفياه لدى الباب كان من أهل المرأة (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا) كما نؤمن يقينا بأن الشاهد الذي شهد كان أيضا من أهلها (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا).
افتراء من عند أنفسنا: نعم لقد ذهب ذلك الشاب (أخ المرأة وسيدها) إلى والده الملك ليخبره بما جرى في بلاطه، ولكن ذاك الشاب (السيد) كان من الذكاء الشديد الذي جعله يلملم القضية بكل حنكة واقتدار (فهو لا شك ولي عهد الملك الذي سيصبح الملك بعد والده). فما الذي فعله في بلاط والده؟
رأينا المفترى: لمّا كان هذا الشاب من أهل السياسة العارف بتدبير الأمور بكل حنكة واقتدار (دون تهور ولا تفلّت) ذهب إلى والده ليطرح عليه الأمر، ولكنه طرح القضية بطريقة ذكية على نحو أنها قضية (من قضايا الشعب) لا تخص بيت الملك، ومطلوب منه في الوقت ذاته البتّ فيها. فجرى الحديث بينه وبين والده (كما نتخيله) على النحو التالي:
- جلالة الملك المعظم ووالدي العزيز – قال الشاب ولي عهد الملك- لقد أشغلتني قضية لم استطع البت فيها.
- هات ما عندك يا ولدي وولي عهدي الأمين، رد الملك.
- هناك امرأة تزعم أن فتاها أراد بها سوءا، ولكن الفتى ينكر هذه التهمة ويصر على أنها هي من كانت تراوده عن نفسه، ولم استطع أن أحسم القضية بخصوص المذنب منهم والبريء.
- وأين حصلت الجريمة؟ سأل الملك
- في بيت المرأة؟ رد الابن
- وأين تم ضبطهما؟ سأل الملك؟
- لدى الباب؟ قال الابن
- ومن الذي خرج من الباب أولا؟ سأل الملك
- الفتى. أجاب الابن
- وماذا طلبت المرأة؟
- سجن الفتى أو تعذيبه؟ أجاب الابن
- وماذا طلب الفتى؟ سأل الملك
- لا شيء. فقط براءته
- وهل هناك أدلة مادية على الجريمة؟ سأل الملك.
- لا أظن. رد الابن
جواب الملك: سكت الملك قليلا، ثم قال بعد أن نفث شيئا من الغيض الذي يخفي وراءه علما بشيء لا يجب النطق به في هذه الساعة: مادام أنها قضية اغتصاب، فلا بد أنه قد حصل بينهما (المرأة والفتى) عراك، فاذهب يا بني وانظر في قميص الفتى من أين قُدَّ، قائلا لولده في تلك اللحظة:
(سورة يوسف)
يخرج الابن (ولي عهد الملك) على الفور من مجلس والده الملك ليدقق في الدليل، وهو على يقين (نحن نفتري القول) بأن القميص لم يقدّ من قُبُل لأنه كان قد رأى يوسف في مكان الحادثة، فلو كان القميص قد قُدَّ من قبل لما احتاج هذا السيد أن يعود إلى مكان الجريمة مرة أخرى. ولكنه عادا ليتأكد من أن القميص قد قُدَّ فعلا من الدبر، فيعود إلى مكان الحدث على الفور، حيث لازالت المرأة متواجدة مع فتاها هناك، وينظر مباشرة في قميص يوسف من الدبر ليجد أنه قد قُدَّ على النحو التالي:
(سورة يوسف)
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف يصوّر القرآن الكريم أحسن تصوير أنه في هذه اللحظة فقط رأى سيد المرأة قميص يوسف وقد قُدَّ من دبر، لربما ليرشدنا بأن هذا السيد قد قابل يوسف عندما ألفياه لدى الباب وهو مقبل عليه (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ).
وفي هذه اللحظة، استقر في ضمير ذلك الشاب (السيد) القناعة بأنها هي من كانت تراوده عن نفسه وأنه هو من كان هاربا منها عندما ألفياه لدى الباب، فما يكون منه إلا أن يتخذ قراره الحكيم والنهائي:
(سورة يوسف)
حكمة ولي العهد
ويكون سيدها (أي أخوها وولي عهد الملك) قد أصاب بحكمته وحنكته تلك أكثر من هدف في آن واحد، نذكر منها:
- إخبار والده الملك بما جرى وإن لم يكن قد قالها صراحة بأن تلك المرأة كانت واحدة من بناته وهي امرأة العزيز على وجه التحديد
- اتخاذ القرار الذي لن يغضب والده الملك (لو أنه علم به لاحقا)، لأن الملك نفسه هو من فصل في القضية
- إحقاق الحق, بإنصاف المظلوم حتى لو كان من الفتيان على حساب الظالم ولو كان من أهل بيته
- التستر على الفضيحة وحفظ كرامة العائلة
- عدم إشغال والده الملك بالمشاكل الشخصية للعائلة (فوالده الملك كان كبير السن ضعيف الجسم لا يقوى على سماع أخبار كهذه عن عائلته، فلربما ضربته جلطة قلبية أو دماغية في الساعة لو وصله خبر ما تفعل بعض بناته مع فتيانه – وإن كنت أظن أن الملك العجوز كان يعلم ما يدور حوله وإن لم يكن يستطع السيطرة على مجريات الأمور بكل حزم ربما لكبر سنه – الأمر الذي سنتحدث عنه لاحقا إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه).
- الخ.
إن هذا الظن سيقودنا لاحقا إلى تقديم الافتراء الخطير التالي (الذي سنتابعه لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه) وهو أن هذا السيد (ولي عهد الملك) هو الذي سيصل إلى الملك في سنين سجن يوسف وهو الذي نظن أنه صاحب الرؤيا العظيمة بعد أن يعتلى عرش مصر، والتي ستكون حبكة عظيمة في قصة يوسف نفسها:
(سورة يوسف)
فالله وحده أسأله أن يعلمني (وصاحبي في الادكار علي) ما لم نكن نعلم، فيأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، ونسأله وحده أن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمه ولو كره الكافرين، ونعوذ به أن نفتري عليه الكذب ونحن نعلم، إنه هو الواسع العليم – آمين.
قصة يوسف تصور جديد
أما بعد
يحاول هذا الشاب (السيد) أن يتكتم على الخبر بعد أن يقضي فيه بالحكم العادل، فيأتي خطابه في الآية (29) على النحو التالي:
(سورة يوسف)
وفي الآية التي تليها مباشرة (الآية 30) يأتي حديث النسوة في المدينة عن امرأة العزيز:
(سورة يوسف)
انتشار الخبر ودخول يوسف السجن
لغز تسريب الخبر
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الخبر قد خرج من القصر من خلال بعض حاشية هذا السيد، وهم الذين كانوا برفقته (أو على الأقل هم الذين كانوا متواجدين في ذلك المكان) عندما ألفياه لدى الباب. لذا نحن نتخيل الأمر وقد حصل على الأرض على النحو التالي:
عندما خرج يوسف من مكان المراودة مرتديا ملابسه ولحقت به المرأة إلى خارج بيتها خالعة ملابسها إلا ما استطاعت أن تستر بها عورتها على عجل لتلحق بيوسف قبل أن يخرج من المكان، ألفيا سيدها في هذه اللحظة والهيئة لدى الباب، وكان سيدها هذا هو ولي عهد الملك الذي كان يرافقه بعضا من حاشيته في ذلك الوقت، فالسيد كان مشغولا (نحن نتخيل) بأمور الحكم حينما ألفياه لدى الباب، لذا لم يكن (نحن نتصور) متواجدا هناك لوحده.
جواب مفترى: نحن نظن أننا نستطيع أن نقرأ الدليل على ذلك من الآية الكريمة التالية:
(سورة يوسف)
صاحبا السجن: الشهود والمتهمون
جواب: دعنا نستعرض أولا ما جاء عند ابن كثير حول هذه الجزئية:
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب نبوا والآخر مجلث قال السدي : كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة وصدق الحديث وحسن السمت وكثرة العبادة صلوات الله عليه وسلامه ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم والقيام بحقوقهم ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تألفا به وأحباه حبا شديدا وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا قال بارك الله فيكما إنه ما أحبني أحد إلا دخل علي من محبته ضرر أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها وأحبني أبي فأوذيت بسببه وأحبتني امرأة العزيز فكذلك فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك ثم إنهما رأيا مناما فرأى الساقي أنه يعصر خمرا يعني عنبا وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود اني أراني أعصر عنبا ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون عن شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود أنه قرأها أعصر عنبا وقال الضحاك في قوله " انى أراني أعصر خمرا " يعني عنبا قال وأهل عمان يسمون العنب خمرا وقال عكرمة : قال له إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت فخرج فيها عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمرا وقال الآخر وهو الخباز : " إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله " الآية والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره وقال ابن جرير : حدثنا وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما كانا تحالما ليجربا عليه
انتهى الاقتباس
رأينا: نحن نظن أن السؤال الحتمي الذي ربما (عن غير قصد) غفل عنه سادتنا العلماء أهل الدراية هو: لم أصلا ذكر النص القرآني أن هذان الفتيان قد دخلا السجن مع يوسف؟
(سورة يوسف)
ولم أصبحا (هما الاثنان على وجه التحديد) صاحبيه السجن؟
(سورة يوسف)
ولم كان يؤول يوسف لهما ما يأتيهما من طعام يرزقانه فقط؟
(سورة يوسف)
لم لم يؤول لغيرهم إذا كان الأمر مجرد تأويل رؤيا وكفى؟ ألم يكن يأتيهما شيء آخر غير الطعام الذي يرزقانه؟ وهل كانا يريان كل ذلك الطعام في المنام في كل مرة؟ ولِم دعاهما إلى التوحيد من بين نزلاء السجن جميعا؟ فأخبرهما بأنه قد ترك ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله:
(سورة يوسف)
وأنه اتبع ملة آباءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب:
(سورة يوسف)
ولِم طلب منهما أن يتركا عبادة ما سموه من عند أنفسهم؟
(سورة يوسف)
وما يهمنا هنا على وجه التحديد هو: لِم طلب من الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه؟
(سورة يوسف)
السؤال: من هو ربه الذي طلب منه يوسف أن يذكره عنده؟ الخ.
أما بعد
نحن نظن أن هذه تساؤلات لابد من البحث عن إجابات مقنعة لها، وأن لا نكتفي بأحاديث آخر الليل، وكأن القصة قد حصلت مع إعرابي في وسط الصحراء، فتسامر الناس في حكايته لقضاء ليل الشتاء الطويل، فرددوا الحكاية على نحو ما يجلب لهم التسلية وتضييع الوقت في برد الشتاء القارص أو في حر الصيف الملتهب. فتطرقوا لما أرادوا أن يتطرقوا إليه من تلك الحكاية وتركوا ما لا يريدون الخوض فيه، فأخذوا من قصة ذاك الفتى – مثلا- مجدهم في تأويل الخمر الذي يعصر:
(سورة يوسف)
فجعلوا الخمر عنبا، وقرأه بعضهم على ذاك النحو (انظر التفسير السابق المقتبس من ابن كثير) ليكون السؤال الحتمي الذي سننهي هذه المقالة به بحول الله وتوفيقه لاحقا هو: هل يعصر الخمر؟ أليس الخمر سائلا؟ فكيف سيتم عصر ما هو أصلا معصورا؟
رأينا: نعم أنا أظن أن أهل الدين يستحقون ما صرفناه لهم من ألقاب على مجهودهم ذاك للرقي بفكر الأمة بنفس الدرجة التي يستحق بها حكامهم (أهل السياسة) الألقاب التي صرفناها لهم على مجهودهم في الرقي بشعوبهم. من يدري؟!!! وأنا مالي!!!
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنهما متورطان في القضية نفسها. لقد كانا طرفاً في قضية مراودة المرأة ليوسف عن نفسه.
رأينا المفترى: نحن نظن أن سيد المرأة (أخوها وولي عهد الملك) حاول التستر على القضية، فطلب من يوسف أن يعرض عن هذا:
(سورة يوسف)
وطلب من أخته أن تستغفر لذنبها:
(سورة يوسف)
فتموت القصة في مهداها فلا يعلم بذلك أحد.
ولمّا كان هذا السيد من الذين يحقون الحق حتى لو كان لصالح غلام من غلمان القصر على حساب أسياد القصر أنفسهم، لم يزج بيوسف في السجن مادام أنه قد ثبت لديه بالدليل القاطع أنه برئ من التهمة التي نسبتها أخته إليه. فاستمر يوسف في عمله في القصر حتى لا يحدث إبعاده بلبلة وتساؤلا عند الآخرين من فتيان القصر، واستمرت المرأة في ملاحقة يوسف لتنفيذ مرادها فيه. وليس أدل على ذلك من وجود يوسف في المكان نفسه الذي جمعت فيه النسوة:
(سورة يوسف)
فبقي يوسف يلازم القصر، وبقيت المرأة على صلة بيوسف لا تنفك عن متابعة مرادها فيه، فقطعت على نفسها العهد بذلك أمام النسوة:
(سورة يوسف)
ولكن الملفت للانتباه هو أن غالبية الناس يتصورون أن الذين حضروا تلك الحادثة الشهيرة كانوا هم: يوسف والمرأة وسيدها فقط؟
أولا، نحن نستبعد أن يكون يوسف هو من أوصل الخبر لأن يوسف على خلق لا يسمح له أن يشهّر بأعراض الناس أصلا.
ثانيا، نحن نستبعد أن تكون المرأة هي التي نشرت الخبر لأنه من المستحيل أن تفضح نفسها بلسانها مادامت أنها هي من راودته، ومادام أنها جمعت النسوة مباشرة عندما سمعت بمكرهن بها:
(سورة يوسف)
وردت لهن الصاع صاعين، فأوقعتهن في الفخ نفسه عندما قطعن أيديهن (انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة).
ثالثا، نحن نستبعد أن يكون سيدها هو الذي نشر الخبر بدليل أنه هو نفسه من طلب من يوسف أن يعرض عن الأمر:
(سورة يوسف)
رأينا: للإجابة على هذا التساؤل لابد من طرح التساؤل التالي مباشرة: لم أصلا دخل يوسف السجن؟ ألم تثبت براءته؟ ألم يقتنع سيدها بأنها هي من راودته عن نفسه؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن يوسف لم يدخل السجن بسبب حادثة المراودة نفسها على الرغم من أن المرأة نفسها قد طلبت ذلك قبل أن تنكشف الحقيقة:
(سورة يوسف)
إلا أن سيد المرأة قد نطق بالحكم الذي لم يكن يتضمن سجن يوسف:
(سورة يوسف)
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب الذي من أجله تم الزج بيوسف في السجن هو انتشار الخبر في المدينة.
الدليل
لو راقبنا الآيتين التاليتين لوجدنا فارقا زمنيا واضحا بين حادثة المراودة ودخول يوسف السجن:
(سورة يوسف)
(سورة يوسف)
ألا تجد - عزيزي القارئ- أن تحقيقا في القضية قد حصل لاحقا ليس فقط لحادثة المراودة وإنما لحادثة اجتماع النسوة:
(سورة يوسف)
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن الذي حصل حينئذ كان على النحو التالي:
تحصل حادثة المراودة، يفصل سيد المرأة في القضية، يستمر وجود يوسف في القصر فتستمر المرأة في ملاحقته، ينتشر الخبر بين نسوة في المدينة، تقوم امرأة العزيز على الفور بجمع النسوة في مجلسها، تعرض يوسف على النسوة، ترى النسوة بأم أعينهن يوسف في لباس ملك كريم (بفضل ذلك القميص – انظر الأجزاء السابقة)، تكسب امرأة العزيز الرهان، تقطّع النسوة أيديهن لمراودة يوسف. تقيم امرأة العزيز الحجة على النسوة اللاتي مكرن بها فلم تعد وحدها الآن في دائرة الاتهام، بل على العكس فهي الوحيدة التي لم تقطع يدها. يتم فتح ملف القضية من جديد لدواعي أمنية بحته، فما هي؟
دوافع إعادة فتح القضية
رأينا: نحن نظن أن أهل القصر قد أعادوا فتح القضية ليس من أجل إثبات التهمة على يوسف ليتم إلقاءه بعد ذلك في السجن، وذلك لأن براءة يوسف قد تأكدت لسيدها بدليل أن قميص يوسف قد قُدَّ من دبر، ولكن الذي شغل تفكير القصر في تلك اللحظة (نحن نتخيل) هو تسريب معلومات سرية (classified material باللسان الأعجمي) من داخل قصر الملك نفسه. فقصر الملك أصبح دون أدنى شك مخترق من داخله، وأصبح جليا لأهل القصر (أهل المرأة) أن القائمين على خدمة القصر غير مؤتمنين على أسراره بعد هذه الحادثة. فمنطقهم (كما نفتريه من عند أنفسنا) كان على النحو التالي: مادام أن خبرا كهذا قد تسرب، فلابد أن الذي نقل الخبر هو شخص من داخل بلاط الملك نفسه. فمن هو؟ هذا هو السؤال الذي ربما كان (نحن نتخيل) يلحّ على أهل القصر حينها. وهذا في ظننا هو أحد الأسباب التي ربما جعلت أهل القصر يفتحون ملف القضية من جديد. فما الذي حصل عندما تم فتح ملف قضية يوسف من جديد؟
رأينا المفترى: ما أن فُتح ملف القضية حتى بدأ المحققون يجمعون الأدلة (الآيات) لكشف هوية من سرّب خبرا كهذا من داخل بلاط قصر الملك نفسه، فهذه – بنظر أهل البلاط- خيانة عظمى.
جواب: تأكد لدى المحققون في القضية أن الذي سرّب الخبر من داخل بلاط قصر الملك لا يمكن أن يتجاوز واحد من بين ثلاث اختيارات، والاحتمالات الثالثة هي:
- يوسف نفسه
- صاحبه (الذي يعصر الخمر)
- صاحبه الذي يحمل الخبز فوق رأسه
فتم إيداع يوسف في السجن على ذمة التحقيق (بمفردات التلفزيون المصري في المسلسلات البوليسية) في هذه القضية:
(سورة يوسف)
ولو راقبنا مفردات هذه الآية العظيمة لوجدنا أن سجن يوسف لم يكن قطعيا وإنما إلى حين يتم الفصل في القضية فصلا نهائيا. وفي القضية نفسها دخل معه السجن فتيان:
(سورة يوسف)
الدليل
نحن نجد أن مفردة "مَعَهُ" في النص القرآني تعني المصاحبة المكانية والفعلية، فهناك عشرات الآيات القرآنية التي تدل على أن من يكون مع الشخص يتواجد معه في المكان وفي الفعل:
(سورة الفرقان)
(سورة آل عمران)
(سورة النساء)
(سورة النساء)
إن أكثر ما يهمنا قوله هنا هو أن دخول الفتيان مع يوسف السجن كان على ذمة القضية نفسها، وإلا فإن التساؤلات كثيرة:
- ألم يكن السجن مليء بغيرهم من السجناء؟
- هل يعقل أن يكون في ذاك السجن يوسف وهذان الفتيان فقط؟
- وهل يعقل أن لا يكون في السجن نزلاء سابقين؟
- وهل يعقل أن لا يكون قد نزل في ذلك السجن غيرهم من بعد ذلك؟
- فلم تحدث القرآن الكريم عن هذين الفتيان فقط؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: لأنهم كانوا مشتركين مع يوسف في القضية قيد التحقيق: وهي تسريب المعلومات من داخل قصر الملك. وهذا بحد ذاته يشكل خيانة عظمى للملك نفسه.
تبدأ جلسات التحقيق في القضية تتوالى واحدة تلو الأخرى، ينظر المحققون في الآيات، فيتوصلون إلى قرار في ذلك بعد ما بدا لهم من الآيات:
(سورة يوسف)
وما هو إلا وقت قصير حتى كان قرارهم قطعي على نحو أن صاحب يوسف في السجن الذي سيرى أنه يحمل فوق رأسه خبزا هو الذي سرب المعلومة من داخل القصر. فالآية التي تلي ذلك مباشرة (وهي رقم 36) تصور لنا رؤيا الرجلين:
(سورة يوسف)
فيتم تبرئة صاحب يوسف الذي سيرى أنه يعصر خمرا (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) من التهمة نهائيا، ويصدر حكم الإعدام بالخيانة العظمى للملك على ذلك الرجل الذي رأى (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ)، فيأتي تأويل يوسف سابقا لوصول الخبر إلى صاحبيه السجن:
(سورة يوسف)
جواب مفترى من عند أنفسنا نرجو أن لا تصدقوه ما لم تجدوا أن الدليل من كتاب الله يدعمه: لأنه كان من المتآمرين للإطاحة بالملك نفسه. ولكن لماذا؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الملك حينئذ كان رجلا قد بلغ من الكبر عتيا، وكان ولي عهده (سيد المرأة الذي ألفياه لدى الباب) لازال شابا يافعا لم يكن في نظر من حوله (من أهل السياسة) ربما يقوى على إدارة شؤون الدولة من بعد والده، وقد أصاب الدولة شيئا من الضعف بسبب ضعف قبضة الملك نفسه، ولم يكن العزيز (زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه) متواجدا في البلاد عندما حصلت القصة كلها، فقد كان خارج البلاد يدافع عن الدولة (انتظر عزيزي القارئ الجزء القادم للتعليق على هذه الجزئية)، فكان الطامعون في الحكم يحاولون زعزعة الأمور لربما ليصل بعضهم إلى كرسي الحكم. فحاول بعض المتربصين بالملك انتهاز كل فرصة ممكنة لزعزعة هيبة الملك والعائلة الحاكمة. فانتهز بعضهم هذه الفرصة (مراودة امرأة العزيز لفتاها عن نفسه) للنيل من أسرة الملك نفسها. فكان هذا الفتى الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه من المتآمرين على نظام حكم الملك حينئذ.
وقد كان لتصرف ابنت الملك (امرأت العزيز عندما جمعت النسوة وأوقعت بهن) كما كان لتصرف سيدها (أخوها وولي عهدها) في التكتم على الخبر – في رأينا- الأثر الأكبر في تثبيت هيبة العائلة المالكة حينئذ.
ونحن نفتري الظن بأن تلك الفرصة قد سنحت لهذا الشاب (السيد) أن يتخلص بكل ذكاء ودهاء سياسي من خصومه المنافسين له على الحكم على الفور. ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: ما أن سمع بأن خبرا كهذا قد انتشر بين نسوة في المدينة، وما أن استطاعت أخته أن توقع بتلك النسوة في الشرك نفسه حتى أثار على الفور قضية تسريب معلومات كاذبة عن بيت الملك، فطلب من المحكمة الانعقاد للنظر في القضية في الحال، وتم الزج بكل المشتبه بهم في السجن بمن فيهم يوسف نفسه بالرغم أن يوسف لا علاقة له بقضية التآمر على الملك. وليس أدل على ذلك من أن قرار الحكم قد صدر بحق الفتيان اللذين دخلا مع يوسف السجن، ولم يصدر حكما بحق يوسف نفسه، فلبث في السجن كشخص منسي فيه لأن أوراق يوسف لم تكن منظورة أمام تلك المحكمة التي انعقدت بدواعي أمنية. فنحن نقدم بداية الافتراءات التالية من عند أنفسنا عن السبب والكيفية التي تم بها الزج بيوسف في السجن:
- افتراء رقم 1: تم النظر في قضية الفتيان اللذان دخلا السجن بأمر من سيد المرأة (ولي العهد) لدواعي أمنية تخص الحكم
- افتراء رقم 2: تم الزج بيوسف بمعية هذين الفتيان بأمر من المرأة نفسها ودون علم سيدها. وليس أدل على ذلك في ظننا من طلب يوسف نفسه من صاحبه السجن الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴿٤٢﴾
(سورة يوسف)
ونعود الآن إلى صلب النقاش السابق بالحديث عن رؤيا الفتيان اللذين دخلا السجن مع يوسف.
باب الرؤيا في قصة يوسف
تنقلنا رؤيا صاحبي يوسف السجن للحديث عن الموضوع الأكثر خطورة في قصة يوسف كلها وهو موضوع الرؤيا. ولكن لماذا؟
رأينا: لقد بدأت قصة يوسف برؤيا يوسف نفسه:
(سورة يوسف)
ووصلت القصة ذروتها (أو climax بالمفردات الأعجمية) برؤيا صاحبيه السجن:
(سورة يوسف)
وتحلحلت أو تفككت برؤيا الملك:
(سورة يوسف)
فعقدة يوسف (إن صح القول بالمفردات الأدبية) قد بدأت حبكتها الأولى برؤيته الشهيرة التي رءا فيها أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رءاهم له ساجدين، فقصّها على والده الذي طلب منه أن لا يحدّث بها إخوته. ووصلت قمة الذروة (التعقيد) برؤيا صاحبيه السجن حيث كان يقبع فيه وحيدا غريبا لا حول له ولا قوة، وانتهت برؤيا الملك تلك البقرات السمان التي يأكلهن البقرات العجاف والسنبلات الخضر والأخر اليابسات. وكان تأويل تلك الرؤيا جميعها هو ما يحيّر الألباب على الدوام كلما وضعت قصة يوسف على الطاولة وأصبحت مثار بحث ونقاش. فكيف يمكن أن نفهم حديث الرؤيا في قصة يوسف؟
رأينا: نحن نظن أن أول خطوة في فهم حديث الرؤيا هي فهم تفاصيل القصة نفسها كما حصلت على أرض الواقع. فالخلط الذي صاحب قصة يوسف بسبب الاتكال (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) على موروثات الأمم السابقة هو ما أدخل الفوضى في الفهم. لذا لابد بداية من إعادة نسج خيوط القصة من جديد علّنا نخرج للعامة (وربما لثلة من أهل الدراية) بأفهام ربما تسمن أو تغني من جوع. فالله وحده هو ولي التوفيق وهو وحده من يأذن متى يقضي مشيئته بأن يتم نوره، فنسأله تعالى أن يستخدمنا فيعلمنا ما لم نكن نعلم وأن يهدينا رشدنا فلا نفتري عليه الكذب – آمين.
أما بعد:
انطلقت رحلة يوسف مبكرا بحثا عن ذلك العلم الذي يستطيع من خلاله تأويل الأحاديث كما جاء على لسان والده يعقوب:
(سورة يوسف)
وكانت محطة تعليمه الأولى قد بدأت في بيت ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر وطلب من امرأته إكرام مثواه راجيا أن ينفعهما يوسف أو أن يتخذاه ولدا لهما:
(سورة يوسف)
وقد افترينا في الأجزاء السابقة القول بأن هذا الرجل قد اشترى يوسف لأنه رأى فيه ما كان يبحث عنه، فبالرغم أن الجميع كانوا زاهدين في يوسف:
(سورة يوسف)
إلا أنه هو الوحيد الذي كان راغبا فيه بدليل أنه اشتراه، فطلب من امرأته أن تكرم مثواه لسببين:
- عَسَى أَن يَنفَعَنَا
- أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
وما وجدنا أن هذه الحجة نفسها قد استخدمت في كتاب الله مرة أخرى إلا عندما طلبت امرأة فرعون بأن لا يقتلوا موسى:
(سورة القصص)
فنحن مطالبون أن نبحث في كيفية حصول يوسف على ذلك العلم الرباني من خلال البحث عن إجابات للتساؤلات التالية:
- ما هو علم تأويل الأحاديث؟
- متى تعلم يوسف ذلك العلم؟
- من الذي أشرف على تعليم يوسف ذاك؟
- كيف استخدم يوسف ذلك العلم؟
- هل قصة يوسف بأكملها هي حديث الرؤيا؟
- لماذا جاء تأويل يوسف لتلك الرؤيا (جمع رؤيا) على تلك الشاكلة في كل مرة؟
- هل يمكن فهم آلية الرؤيا من أحداث وتفاصيل قصة يوسف؟
- هل سيسعفنا العلم بالرؤيا المختلفة في قصة يوسف في حياتنا اليومية؟
- أم هل هذه قصص للتسلية والإثارة وإضاعة الوقت في ليل الشتاء القارص وحر الصيف اللاهب؟
- وهل نحن بحاجة مثلا إلى عشرات الفضائيات التي يموّلها ويتغذى منها أصحاب اللحى الطويلة والدشاديش القصيرة؟
- وهل نحن بحاجة إلى تلك الفضائيات الدينية (ومن بينها تلك التي تتصدى لتأويل الأحاديث كما يزعمون) التي يملكها أصحاب فضائيات الرقص والخلاعة أنفسهم؟
- هل ما يعرضونه على زبونهم (وغالبيتهم من النساء المطلق أو على وشك التطليق والشباب الطائش) صحيح يستحق ثمن المكالمات والرسائل القصيرة التي يتلقونها؟
- وهل ثمن الرسالة الباهظ المكتوب بخط صغير في أسفل الشاشة الواسعة (حيث تبث على جوانب كثير منها دعايات تكبير القضيب وشد الصدر) يستحق ما يتلقاه مرسلها من رد من "سيدنا الشيخ"؟
- الخ.
إن أخشى ما أخشاه أن يقع كل ذلك في باب ما فعل من سبقونا من أهل الكتاب كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
(سورة آل عمران)
لقد حاولت جهدي أن أحسن الظن بالآخرين أولا، ولكن الواجب يحتم عليّ أن أطرح التساؤل التالي: هل يستحق من لم يستطع أن يفسر للناس كيف بالخمر أن يعصر (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، هل يستحق أن يكون عالما يتم الوثوق بعلمه والأخذ بقوله؟
فلنبدأ النقاش (متوكلين على الله وحده أن يهدينا رشدنا، فنسأله وحده أن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، وأن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع العليم) بالآية الكريمة التي جاءت في رؤيا أحد صاحبي يوسف السجن التالية:
(سورة يوسف)
لنطرح من خلالها على العامة وعلى (أهل الاختصاص إن أرادوا) التساؤل التالي: كيف رأى الرجل أنه يعصر خمرا؟ وهل يمكن للخمر – يا سادة- أن يعصر؟ وإذا كان الخمر يعصر، فما هي آلية تنفيذ ذلك؟ وما هي الأدوات التي يمكن استخدامها في عصر الخمر؟
جواب: لمّا كنا قد اقتبسنا سابقا ما جاء عند ابن كثير في ذلك، رجعنا للنظر في آراء سادتنا العلماء في مصادر أخرى، فوجدنا اختلافا قليلا عند الطبري كما في الاقتباس التالي:
القول في تأويل قوله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } . يقول تعالى ذكره : ودخل مع يوسف السجن فتيان , فدل بذلك على متروك قد ترك من الكلام وهو : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } فسجنوه وأدخلوه السجن ودخل معه فتيان , فاستغنى بدليل قوله : { ودخل معه السجن فتيان } على إدخالهم يوسف السجن من ذكره . وكان الفتيان فيما ذكر : غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر : أحدهما صاحب شرابه , والآخر صاحب طعامه . كما : 14741 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : فطرح في السجن , يعني يوسف , ودخل معه السجن فتيان , غلامان كانا للملك الأكبر : الريان بن الوليد , كان أحدهما على شرابه , والآخر على بعض أمره , في سخطة سخطها عليهما , اسم أحدهما مجلث والآخر نبو , ونبو الذي كان على الشراب 14742 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { ودخل معه السجن فتيان } قال : كان أحدهما خبازا للملك على طعامه , وكان الآخر ساقيه على شرابه وكان سبب حبس الملك الفتيين فيما ذكر , ما : 14743 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال : إن الملك غضب على خبازه , بلغه أنه يريد أن يسمه , فحبسه وحبس صاحب شرابه , ظن أنه مالأه على ذلك فحبسهما جميعا ; فذلك قول الله تعالى ودخل معه السجن فتيان وقوله : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } ذكر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما أدخل السجن , قال لمن فيه من المحبسين , وسألوه عن عمله : إني أعبر الرؤيا , فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه : تعال فلنجربه . كما : 14744 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي , قال : لما دخل يوسف السجن قال : أنا أعبر الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم نجرب هذا العبد العبراني نتراءى له ! فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا . فقال الخباز : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه , وقال الآخر : إني أراني أعصر خمرا 14745 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد , قالا : ثنا جرير , عن عمارة بن القعقاع , عن إبراهيم , عن عبد الله , قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا , وإنما كانا تحالما ليجربا علمه وقال قوم : إنما سأله الفتيان عن رؤيا كانا رأياها على صحة وحقيقة , وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها . ذكر من قال ذلك : 14746 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : لما رأى الفتيان يوسف , قالا : والله يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك 14747 - قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن عبد الله , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك : أنشدكما الله أن لا تحباني ! فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء , لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء , ثم لقد أحبني أبي فدخل علي بحبه بلاء , ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء , فلا تحباني بارك الله فيكما ! قال : فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان , وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله , وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا , فرأى " مجلث " أنه يحمل فوق رأسه , خبزا تأكل الطير منه , ورأى " نبو " أنه يعصر خمرا , فاستفتياه فيها وقالا له : { نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } إن فعلت وعنى بقوله : { أعصر خمرا } أي إني أرى في نومي أني أعصر عنبا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه . 14748 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن أبي سلمة الصائغ , عن إبراهيم بن بشير الأنصاري , عن محمد بن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا " وذكر أن ذلك من لغة أهل عمان , وأنهم يسمون العنب خمرا . ذكر من قال ذلك : 14749 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ , يقول : ثنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إني أراني أعصر خمرا } يقول : أعصر عنبا , وهو بلغة أهل عمان , يسمون العنب خمرا - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع ; وثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك : { إني أراني أعصر خمرا } قال : عنبا , أرض كذا وكذا يدعون العنب خمرا 14750 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : { إني أراني أعصر خمرا } قال : عنبا 14751 - حدثت عن المسيب بن شريك , عن أبي حمزة , عن عكرمة , قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب , فنبتت , فخرج فيه عناقيد فعصرتهن , ثم سقيتهن الملك , فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام , ثم تخرج فتسقيه خمرا وقوله : { وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله } يقول تعالى ذكره : وقال الآخر من الفتيين : إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا ; يقول : أحمل على رأسي , فوضعت " فوق " مكان " على " { تأكل الطير منه } يعني من الخبز . وقوله : { نبئنا بتأويله } يقول : أخبرنا بما يئول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ويرجع إليه . كما : 14752 - حدثني الحارث , قال : ثنا القاسم , قال : ثنا يزيد , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { نبئنا بتأويله } قال : به . قال الحارث , قال أبو عبيد : يعني مجاهد أن تأويل الشيء : هو الشيء . قال : ومنه تأويل الرؤيا , إنما هو الشيء الذي تئول إليه وقوله : { إنا نراك من المحسنين } اختلف أهل التأويل في معنى الإحسان الذي وصف به الفتيان يوسف , فقال بعضهم : هو أنه كان يعود مريضهم , ويعزي حزينهم , وإذا احتاج منهم إنسان جمع له . ذكر من قال ذلك : 14753 - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا سعيد بن منصور , قال : ثنا خلف بن خليفة , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك بن مزاحم , قال : كنت جالسا معه ببلخ , فسئل عن قوله : { نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } قال : قيل له : ما كان إحسان يوسف ؟ قال : كان إذا مرض إنسان قام عليه , وإذا احتاج جمع له , وإذا ضاق أوسع له - حدثنا إسحاق , عن أبي إسرائيل , قال : ثنا خلف بن خليفة , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك , قال : سأل رجل الضحاك عن قوله : { إنا نراك من المحسنين } ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه , وإذا احتاج جمع له , وإذا ضاق عليه المكان أوسع له 14754 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسن , قال : ثني حجاج , عن أبي بكر بن عبد الله , عن قتادة , قوله : { إنا نراك من المحسنين } قال : بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم , ويعزي حزينهم , ويجتهد لربه . وقال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم , فطال حزنهم , فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا , إن لهذا أجرا , إن لهذا ثوابا ! فقالوا : يا فتى بارك الله فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك , لقد بورك لنا في جوارك , ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة , فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله , وكانت عليه محبة , وقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك , ولكن سأحسن جوارك وأحسن إسارك , فكن في أي بيوت السجن شئت - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع , عن خلف الأشجعي , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك في : { إنا نراك من المحسنين } قال : كان يوسع للرجل في مجلسه , ويتعاهد المرضى وقال آخرون : معناه : { إنا نراك من المحسنين } إذ نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه . ذكر من قال ذلك : 14755 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : استفتياه في رؤياهما , وقالا له : { نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } إن فعلت وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة . فإن قال قائل : وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت , وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء , وإنما يقال للرجل : نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم , وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم لا بغيره ؟ قيل : إن وجه ذلك أنهما قالا له : نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك , كما نراك تحسن في سائر أفعالك , إنا نراك من المحسنين
انتهى الاقتباس
لو تدبرت – عزيزي القارئ- ما جاء في هذا "التفسير العظيم" من أقوال أهل العلم أصحاب الدراية لوجدت العجب العجاب: انظر ما تحته خط، لنطرح التساؤلات التالية:
- كيف عرف أهل العلم أسماء هذين السجينين (اسم أحدهما مجلث والآخر نبو)؟
- كيف عرف أهل العم أن اسم الملك هو (الريان بن الوليد)؟ فهل يستقيم هذا الاسم الذي لا يخلو من الصبغة العربية بأسماء غلمانه التي لا تخلو من العجمة؟ وش جاب الشامي على المغربي (يقول مثلنا الأردني الشهير)؟
- كيف تجرأ بعضهم على القول بأن صاحبي يوسف لم يريا شيئا ولكنهما حاولا اختبار يوسف فقط والله هو من أثبت الرؤيا بصريح اللفظ؟
- من أوصل الخبر لسادتنا العلماء أهل الدراية بأن أهل عمان (وأنا قريب من تلك المنطقة) يسمون الخمر عنبا؟ على الأقل أنا لم أسمع ذلك في حياتي وما وجدته في أي مؤلف من مؤلفات أهل العلم غير سادتنا أصحاب الدراية.
- وهل فعلا عرّف يوسف بنفسه لصاحبيه السجن على نحو (أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله)؟ فهل فعلا إسحاق هو الذبيح؟ فما بالهم يعودون في مواطن أخرى من كتاب الله ليردوا دعوى أهل الكتاب هذه بقولهم أن إسماعيل (وليس إسحق) هو الذبيح؟ فلنقرأ ما جاء في الطبري نفسه حول الآية الكريمة التي تتحدث عن الذبيح:
(سورة الصافات)
وقوله : { فلما بلغ معه السعي } يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل , وهو السعي , وذلك حين أطاق معونته على عمله . وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك , فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك : 22603 - حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { فلما بلغ معه السعي } يقول : العمل . 22604 -حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قوله : { فلما بلغ معه السعي } قال : لما شب حتى أدرك سعيه سعي إبراهيم في العمل . * حدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله , إلا أنه قال : لما شب حين أدرك سعيه . * حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا ابن أبي عدي , عن شعبة , عن الحكم , عن مجاهد { فلما بلغ معه السعي } قال : سعي إبراهيم . * حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا سهل بن يوسف , عن شعبة , عن الحكم , عن مجاهد { فلما بلغ معه السعي } : سعي إبراهيم . 22605 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { فلما بلغ معه السعي } قال : السعي ها هنا العبادة . وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم. ذكر من قال ذلك : 22606 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { فلما بلغ معه السعي } : أي لما مشى مع أبيه .
قال يا بني إني أرى في المنام أني
وقوله : { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشرته الملائكة بإسحاق ولدا أن يجعله إذا ولدته سارة لله ذبيحا ; فلما بلغ إسحاق مع أبيه السعي أري إبراهيم في المنام , فقيل له : أوف لله بنذرك , ورؤيا الأنبياء يقين , فلذلك مضى لما رأى في المنام , وقال له ابنه إسحاق ما قال . ذكر من قال ذلك : 22607 - حدثنا موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : قال جبرائيل لسارة : أبشري بولد اسمه إسحاق , ومن وراء إسحاق يعقوب , فضربت جبهتها عجبا , فذلك قوله : { فصكت وجهها } 51 29 { وقالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب } 11 72 إلى قوله : { حميد مجيد } قالت سارة لجبريل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا , فلواه بين أصابعه , فاهتز أخضر , فقال إبراهيم : هو لله إذن ذبيح ; فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم , فقيل له : أوف بنذرك الذي نذرت , إن الله رزقك غلاما من سارة أن تذبحه , فقال لإسحاق : انطلق نقرب قربانا إلى الله , وأخذ سكينا وحبلا , ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } فقال له إسحاق : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب , واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء , فتراه سارة فتحزن , وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي , فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها مني السلام ; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي , حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق , ثم إنه جر السكين على حلقه , فلم تحك السكين , وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق ; فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه , وحز من قفاه , فذلك قوله : { فلما أسلما } يقول : سلما لله الأمر { وتله للجبين } فنودي يا إبراهيم { قد صدقت الرؤيا } بالحق فالتفت فإذا بكبش , فأخذه وخلى عن ابنه , فأكب على ابنه يقبله , وهو يقول : اليوم يا بني وهبت لي ; فلذلك يقول الله : { وفديناه بذبح عظيم } فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر , فجزعت سارة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني ! . 22608 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } قال : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه. 22609 - حدثنا مجاهد بن موسى , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن عبيد بن عمير , قال : رؤيا الأنبياء وحي , ثم تلا هذه الآية : { إني أرى في المنام أني أذبحك }
أذبحك فانظر ماذا
قوله : { فانظر ماذا ترى } : اختلفت القراء في قراءة قوله : { ماذا ترى } , فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة , وبعض قراء أهل الكوفة : { فانظر ماذا ترى ؟ } بفتح التاء , بمعنى : أي شيء تأمر , أو فانظر ما الذي تأمر , وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " ماذا ترى " بضم التاء , بمعنى : ماذا تشير , وماذا ترى من صبرك أو جزعك من الذبح ؟ . والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : { ماذا ترى } بفتح التاء , بمعنى : ماذا ترى من الرأي. فإن قال قائل : أوكان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله , والانتهاء إلى طاعته ؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله , ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العزم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه , فيسر بذلك أم لا , وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله .
ترى قال يا أبت افعل
وقوله : { قال يا أبت افعل ما تؤمر } يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله
{ ستجدني إن شاء الله من الصابرين } يقول : ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا , وقال : افعل ما تؤمر , ولم يقل : ما تؤمر به , لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره , وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " إني أرى في المنام : افعل ما أمرت به " .
ثم لنتبع هذا بقراءة ما جاء عند ابن كثير حول الآية الكريمة نفسها:
وقوله تعالى " فلما بلغ معه السعي " أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك والله أعلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم " فلما بلغ معه السعي " بمعنى شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رؤيا الأنبياء في المنام وحي " ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه " قال يا أبت افعل ما تؤمر " أي امض لما أمرك الله من ذبحي " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا.
رأينا: إذا كنا نستطيع أن نلتمس لأحبار اليهود المدفوعين بعنصريتهم وتحزبهم لعقيدتهم ولفكرهم بأن إسحق هو الذبيح، فكيف يمكن أن نلتمس عذرا لمن ادعى بأن الإسلام عقيدته وهو يقرأ ليل نهار ما جاء في كتاب الله في الآية الكريمة التالية:
(سورة هود)
لنطرح على كل من اتخذ من هذه الآية عقيدة التساؤل التالي: كيف بالله سيأمر إبراهيم أن يذبح إسحق بمجرد أنه قد بلغ معه السعي:
(سورة الصافات)
فإذا كان إسحق هو والد يعقوب، وإذا كان يعقوب هو ولد إسحق، فكيف سيأتي يعقوب من وراء إسحق مادام أن الله قد أمره بذبحه؟ ألم يستطع علماؤنا الأجلاء (الذين لا نشكك بعقيدتهم) أن يميّزوا بين الغلام الحليم والغلام العليم اللذين جاءت لإبراهيم البشرى بهما:
(سورة الصافات)
(سورة الحجر)
(سورة الذاريات)
للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟
إن الموضوع الذي جلب كل هذا الاستطراد هو شخصية صاحبي يوسف السجن، وخاصة ذلك الذي رأى أنه يعصر خمرا (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، والهدف هو محاولتنا تبيان أن من أخفق في فهم كيفية عصر الخمر ربما لا يستحق أن يفتي بأمر الرؤيا. فمن عجز عن البسيط ربما لن يتيسر له ما هو أكبر من ذلك بكثير. فالثقة بالعقول يجب (نحن نظن) أن تكون على قدر ما نتج عنها من معارف. فكيف السبيل إلى ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الوسيلة السليمة ستوصلنا بلا شك إلى الغاية السليمة، فوسيلتنا هي كتاب الله، وغايتنا هي فهم قصص الكتاب العظيم، ودعوتنا هي: اللهم يا من تعلم علمنا فإنا لا نعلم، ونعوذ بك أن نحاجج فيما ليس لنا به علم:
(سورة آل عمران)
باب عصر الخمر
أما بعد،
جواب مفترى: نحن نظن أن الفتى هو من فتيان القصر الذين كانوا يستطيعون القيام بعملية تخزين خمر.
الدليل
نحن نظن أننا نجد الدليل على افتراءنا هذا من عبارة (أَعْصِرُ خَمْرًا) التي جاءت في كتاب الله على لسان ذلك الفتى نفسه:
(سورة يوسف)
لنطرح من خلالها تساؤلنا المعهود التالي: ما معنى قول الفتى هذا (أَعْصِرُ خَمْرًا)؟
رأينا المفترى: نحن نستبعد بكل الوجوه الممكنة أن تكون عملية العصر تعني ما يدور في ذهن العامة عند الحديث عنها، فالناس في يومنا يعصرون التفاح والجزر والليمون والطماطم (أو البندورة بلغة أهل الشام)، وكل أنواع الثمار، أليس كذلك؟ فكيف إذن يمكن أن يعصر الخمر؟ أليس الخمر سائلا؟ فهل يحتاج ما هو معصور (بمفهومنا الدارج) أن يعصر؟
للخروج من هذا المطب دون اللجوء إلى الاستعارات (بتبديل مفردة الخمر إلى عنب كما جاء في أراء أهل العلم – انظر التفسيرات المقتبسة سابقا) التي ربما لا تسمن ولا تغني من جوع فلابد من الوقوف عند المعاني الحقيقية لمفردة العصر ومفردة الخمر، ولكن كيف ذلك؟
بداية، نحن نؤكد بأن الخمر يقينا ليس عنبا، لأن العنب محصول حقلي ليس محرما أكله، يسقى بما المطر، فيشق الأرض كبقية المحاصيل التي تصورها الآية الكريمة التالية:
(سورة عبس)
(سورة الأنعام)
(سورة النحل)
(سورة يس)
(سورة المؤمنون)
ويتواجد كذلك في الجنات التي يمكن أن تسقى بماء الأنهار:
(سورة الإسراء)
(سورة البقرة)
(سورة الكهف)
وهي لاشك من الطعام الذي لا حرج في أكله:
(سورة الرعد)
والأعناب لا شك من موجودات الجنّة بدليل صريح اللفظ القرآني:
(سورة النبأ)
ويمكن لنا أن نتخذ من ثمار تلك الجنات شيئين اثنين:
- سكرا
- رزقا حسنا
(سورة النحل)
وهذه أيضا من موجودات الجنة:
(سورة محمد)
وهنا تبدأ الحلقة الذهنية الأولى (ربما المربكة للجميع والخاصة بقصة الخمر في القرآن الكريم) بالتساؤل التالي: كيف يمكن أن يكون في الجنة ما كان محرما علينا في الدنيا كالخمر مثلا؟ ألم يثبت الله أن الخمر رجس من عمل الشيطان، فدعانا إلى اجتنابه:
(سورة المائدة)
ألم يرشدنا إلى أن الشيطان أراد أن يوقع بيننا العداوة والبغضاء في الخمر والميسر؟
(سورة المائدة)
فما بالنا (بعد هذا كله) نجد أن هناك في الجنة التي وُعِدنا بها أنهارا من خمر لذة للشاربين؟
(سورة محمد)
فهل خمر الدنيا يختلف عن خمر الجنة؟ فهل خمر الجنة ليس برجس من عمل الشيطان؟ وكيف بنا سنفرق بين الخمر الذي هو رجس من عمل الشيطان وما هو من خمر ليس من عمل الشيطان؟ هل علينا أن ننتظر حتى ندخل الجنة لنتعرف عليها هناك؟ فلم إذا يحدّثنا الله عنها في الدنيا؟ والأهم من هذا هو: كيف سنستطيع أن نوفّق بين ما جاء في الآيات السابقة عن ذم الخمر وما جاء عنه في الآية الكريمة التالية:
(سورة البقرة)
أليس في الخمر بعض المنافع؟ صحيح أن أثمهما أكبر من نفعهما، لكن يبقى السؤال قائما: ما هي بعض منافع الخمر مادام أن الله قد أثبتها في كتابه؟
افتراء من عند أنفسنا رقم 1: نحن نظن أن المفردات المشتقة من الجذر "خ م ر" ليست مادة واحدة، وإنما هي أصناف وأنواع، منها المحرم قطعا بدليل أن الله طلب منا أن نجتنبه وهو المصاحب على الدوام في النص القرآني للميسر:
(سورة البقرة)
(سورة المائدة)
وقد جاء كل ذلك في معرض الحديث عن المحرمات من الطعام:
(سورة المائدة)
افتراء رقم 2: وهناك من الخمر ما أثبت الله أن فيه بعض المنافع للناس وإن كان إثمه أكبر من نفعه وهو الخمر نفسه المصاحب للميسر:
(سورة البقرة)
افتراء رقم 3: هناك نوع غير محرّم وهو ما سنجده في الجنّة، وهو ما جاء في اللفظ القرآني غير معرف:
(سورة محمد)
افتراء رقم 4: هناك نوع غير محرم وهو الذي رءاه صاحب يوسف السجن، وقام يوسف بتأويل الرؤيا له، فاستخدم اللفظة نفسها خَمْرًا (غير معرفة):
(سورة يوسف)
(سورة يوسف)
ونتوقف هنا لنطرح على أنفسنا السؤال الذي من الممكن أن يطرحه أي قارئ لهذه السطور على الفور وهو: ما الدليل أن هذا النوع "خَمْرًا" الذي تحدث عنه يوسف كان غير محرما؟
رأينا المفترى: هل تعتقد عزيزي القارئ أن يوسف كان يمكن أن يتحدث عن هذا الخمر بكل هذه البساطة ودون أن يذكر لصاحبه أن هذا شيء محرما؟ ألم يبتدئ يوسف تأويل رؤياه تلك بخطبة عظيمة تدل على العقيدة التي يؤمن بها. انظر - عزيزي القارئ- إلى ما قاله يوسف قبل أن يؤول لصاحبيه السجن تلك الرؤيا:
(سورة يوسف)
لِم لم يذكر يوسف لصاحبه هذا (الذي ظن أنه ناج منهما) أن ما يقوم عليه من حرفة (عصر خمرا) هي حرفة محرمة شرعا؟ أم أن الخمر في زمن يوسف لم يكن رجسا من عمل الشيطان؟ من يدري؟!!!
والأهم من هذا كله، كيف بيوسف أن يطلب من صاحبه السجن هذا (وهو من كان سيسقي ربه خمرا) أن يذكره عند ربه ذاك (الذي لا شك سيشرب خمرا الذي سيقدمه له هذا الفتى)؟ فما بال يوسف يطلب العون من عند شارب خمر مدمن عليه؟
رأينا: كلا وألف كلا، نحن نظن أن يوسف ما كان سيفتح ملف الخمر (الذي يحرم) دون أن يذكّر صاحبه بحرمته، وما كان يوسف (نحن نفتري القول) سيطلب المعونة من عند سكير مدمن لخمر يحرم شربه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه خمرا (دون أداة تعريف).
جواب مفترى من عند أنفسنا نطلب من القارئ الكريم أن لا يصدقه لأن هذه ليست فتوى وهي ليست أكثر من قول مفترى موضوع للنقاش وقابل للرد متى ما ثبت الدليل على بطلانه، ألا وهو: أن الفرق بين الْخَمْرِ (المعرف بأداة تعريف) وذاك غير المعرف بأداة التعريف (ْخَمْر و خَمْرًا) هو الفرق بين التحريم والتحليل
جواب: نحن نفتري القول (ربما كذبا من عند أنفسنا) بأن هذه المفردة تحرم عندما تأتي في السياق القرآني معرفة بأداة التعريف (الْخَمْرِ) وهي المصاحبة على الدوام للميسر:
(سورة البقرة)
(سورة المائدة)
ولا تحرم (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) تلك التي جاءت في السياقات القرآنية غير معرفة كـ (خَمْرٍ و خَمْرًا):
(سورة محمد)
(سورة يوسف)
(سورة يوسف)
جواب مفترى: نحن نظن أن الدليل يمكن أن يثبت إذا ما نظرنا إلى تلك المادة بطريقة جديدة، والتي مفادها أساسا أن مفردة "خمر" تشمل كل أنواع العصائر (بمفردات لغتنا الدارجة)، فكل ما يمكن أن يعصر يسمى (نحن نفتري القولمن عند أنفسنا) خمرا. وهذا في ظننا غير محرم إطلاقا، ولا يصبح حراما إلا إذا مضى عليه العهد (الزمن) فأصبح عملا من عمل الشيطان.
افتراء خطير جدا جدا من عند أنفسنا: نحن نفتري القول أن العصير (خمرا) يصبح محرما (الخمر) إذا دخلته الشياطين (أو الجراثيم بلغة أهل العلم الغربي) فعاثت به فسادا (وهي جراثيم التخمير). انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا يدفن الناس موتاهم؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل الأول يأتي من اللغة نفسها، فالشيء لا يمكن أن يعرّف (أن يلتصق به أداة التعريف) إلا إذا مضى عليه عهدا (أي زمنا)، وهو ما يفضل أهل الاختصاص في اللغة أن يسمونها بألـ العهدية. فأنت عندما تقول اشتريت سيارة، فهذا يعني أن السامع لم يعهد تلك السيارة من قبل، ولكنك إن أخبرته أنك قد اشتريت السيارة فإنه لاشك على عهد بها من قبل. وهذا بالضبط يحصل لكل ما يمكن أن يعصر. فحتى العنب لا يمكن أن يكون محرما متى ما تم عصره، ولا يصبح محرما إلا إذا ما مضى على عصره مدة من الزمن. وهنا لا أعني بأي حالة من الأحوال انقضاء الزمن وكفى لأن ذلك يجعل العصائر كلها محرمة، ولكني أعني أنه قد أنقضى على عصرها زمنا وأصبح سكرا بفعل الشياطين:
(سورة النحل)
وهذا هو الذي يمكن أن يصدنا عن الصلاة:
(سورة المائدة)
لذا جاء الطلب الإلهي مباشرا بأن لا نقرب الصلاة ونحن على تلك الحالة:
(سورة النساء)
جواب: إن هذا ينقلنا على الفور إلى التطرق للموضوع قيد البحث وهو العصر كما جاء على لسان الفتى صاحب يوسف السجن:
(سورة يوسف)
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن العصر هو عبارة عن عملية تجميع المادة السائلة في وعاء
الدليل
أولا، نحن نجد بعض الدليل في قصة يوسف نفسها في قوله تعالى:
(سورة يوسف)
فإذا كان الناس سيغاثون في ذاك العام فينبت نتيجة ذلك الزرع (السنابل)، فما بال العصر إذن؟ فكيف يمكن أن يعصر الناس في ذلك العام؟
رأينا: نحن نظن أن في ذلك العام سيتم جمع المحاصيل الحقلية وسيتم تخزينها، وكذلك ستثمر المحاصيل الأخرى وسيتم تجميع السائل منها (كالعنب مثلا).
ثانيا، نحن نجد بعض الدليل في الآية الكريمة التالية:
(سورة النبأ)
فالمعصرات هي (في ظننا) تلك الغيوم التي تعمل كوعاء لحمل الماء ليتم إنزاله بأمر ربها. فالمعصرات لا تقوم بعملية (squeezing) وإنما هي حاملة لذاك السائل الذي سينزل بأمر ربه من تلك الأوعية الحاملة له.
ثالثا، نحن نجد بعض الدليل في سورة العصر نفسها:
(سورة العصر)
فالعصر هو - في ظننا - الوقت الذي يتم فيه تجميع الأعمال كلها ليتم بعد ذلك النظر فيها جميعا.
رابعا، نحن نظن أن بقايا هذه الاستخدامات لازالت دارجة على ألسنة العامة من مثلي في هذا الجزء من الوطن العربي الكبير، فمثلا عندما يتحدث الناس في الأردن عن عصّارة (أو معصرة أو juicer باللسان الأعجمي) الليمون فهم لا يتحدثون عن عملية (squeezing باللسان الأعجمي) وإنما يتحدثون عن الوعاء بأكمله كما في الشكل التوضيحي التالي حيث نعرض تلك الأداة ببعض أشكالها المتعددة:
https://www.bing.com/search?q=glass%2C+ceramic%2C+plastic+citrus+juicers
ولازلنا نستخدم حتى الساعة هذا المعنى للحديث عن معصرة الزيتون القديمة والحديثة مثلا، حيث لا تقوم المعدات الموجودة فيها بعملية إخراج المادة السائلة من حبات الزيتون ولكنها تقوم بتجميع ذلك السائل، وإلا لأصبح الفعل كله غير مفيد إطلاقا. فما فائدة أن نخرج الزيت من حبات الزيتون إذا لم نقم بتجميعه.
ولا زلت أذكر كذلك أننا كنا نجد بعد نزول المطر بعض الأماكن الصخرية ذات التجويف الطبيعي التي يتجمع فيها بعض ماء المطر لفترة من الزمن بعد فصل الشتاء الطويل، فكنا نشرب منها إذا ما أخذ منا العطش في البرية مأخذا، وكنا نسمي ذلك الوعاء الطبيعي الذي تجمّع فيه ماء الشتاء بالمعصرة. ولا أعرف إذا كان مثل هذا الاستخدام شائعا (أو معروفا) في أماكن أخرى من الوطن العربي الكبير بلسانه الفصيح العظيم!!!
وللحديث بقية
فالله وحده أسأله أن يأذن لي الإحاطة ما لم يأذن لغيري الإحاطة به، وأسأله أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأعوذ به أن أفتري عليه الكذب عن علم، إنه هو السميع المجيب – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
24 كانون أول 2013
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الهوامش
- لماذا لم يدقق الشاهد في لباس المرأة؟ ولماذا تحدث عن لباس الفتى؟
رأينا: لأن المرأة كما افترينا القول في الأجزاء السابقة كانت قد همت بيوسف (أي خلعت ملابسها جميعها)، أما يوسف فقد توقف عن الهم بها (خلع الملابس) بمجرد أنه رأى برهان ربه، لذا خرج يوسف من مكان المراودة مرتديا ملابسه بينما خرجت المرأة خالعة ملابسها تلف نفسها بغطاء الأريكة التي كانت قد هيئاتها للفراش. ↩