📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok اسأل الدكتور

هل فعلاً كذب الشيطان على آدم؟ (1)

 


يستكمل هذا المقال الطرح الجدلي حول حدود علم الله، مؤكدًا أن علم الله يحيط بـ"الأشياء" الموجودة، لكنه ليس مسبقًا بأفعال الإنسان التي لم تقع بعد. يجادل الكاتب بأن القلب هو مركز اتخاذ القرار، وليس الدماغ، وأن الله يستخدم الابتلاء والفتنة "ليعلم" ما في القلوب، أي ليُخرِج النوايا المكنونة إلى حيز الوجود الفعلي. ويحلل المقال مصطلحات قرآنية مثل الكتمان والإخفاء والسر، ليخلص إلى أن علم الله المطلق يتعلق بما هو كائن، بينما تظل اختيارات القلب خاضعة للاختبار الإلهي.

ملاحظة: نشير للقارئ الكريم أنّنا لا نكتم ما نظن أنه علماً علمنا الله إياه مهما بلغ درجة غرابته في نطر الآخرين، لذا ما يهمنا هو انتشار العلم بين الناس ليكون سببا في تحريك الجمود الفكري الذي أصاب الأمة منذ قرونا من الزمن، سائلين الله أن يكون من باب العلم الذي ينتفع به، وتسأله تعالى أن يكون ذلك خالصاً لوجهه فلا نريد منكم جزاء ولا شكورا. فمن أحب أنْ يشارك الكاتب بأفكار تساعد في تطوير مقالتنا هذه (التي نطن أن فيها من الافتراءات غير المسبوقة) فله من الله الأجر ومنا الشكر والثناء، ومن أراد أنْ ينسب هذه الأفكار له، فهو لن ينال إلا عقوبة السارق (فنحن نؤمن أنّ الله يعلم من دفع ثمن الأضحية)، أما نحن فلا نلاحقه قضائياً ولا أكاديمياً، وأما من ظن أنّ كلامنا لا يعدو أكثر من هراء فهو بلا شك لم يجاوز الحقيقة وليرسل هذا الملف بأكمله إلى recycle bin على جهازه. وأما من أراد أن لا يتزعزع إيمانه بعقائد آباءه وأجداده فإننا ننصحه أن لا يتابع القراءة بعد هذا السطر.

فهرس المقال

بقلم د. رشيد الجراح-مركز اللغات- جامعة اليرموك

مقدمة

زعمنا في مقالة سابقة لنا تحت عنوان "هل فعلاً وسوس إبليس لآدم؟" القول بأن الذي وسوس لآدم هو الشيطان وليس إبليس، وحاولنا التمييز بين إبليس (كزعيم للجن بما فيهم الشياطين) والشيطان الذي وسوس لآدم على أنه واحد من جنود إبليس الذي كان يستفزز من يستطيع منهم على آدم وذريته:

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿٦٤﴾
سورة الإسراء

وكان ذلك بهدف تبرير عدم التلاق بين آدم وزوجه وهم يقطنون الجنة وإبليس الذي كان قد طرد من المكان قبل أن يصدر الأمر الإلهي لآدم وزوجه بالسكن في الجنة:

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿١٨﴾ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٩﴾
سورة الأعراف

فتدبر هذه الآيات الكريمة يوصلنا إلى الاعتقاد اليقيني أن إبليس لم يكن ليستطيع الوصول لآدم وزوجه في الجنة مادام أنه قد طرد من المكان شر طردة. وزعمنا الظن في تلك المقالة أن إبليس قد استخدم جنده للإيقاع بآدم، فكان الشيطان الذي وسوس لآدم هو أحد جنود إبليس الذين استخدمهم للإيقاع بآدم وزوجه، فإبليس – كما نعلم من النص القرآني- كان قد أخذ على نفسه عهداً بالإيقاع بآدم وذريته في شراكه حيث قال:

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٤﴾ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿١٥﴾ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿١٦﴾
سورة الأعراف

ولم يتوقف عند هذا الحد بل أقسم في سياق قرآني آخر بعزة الله نفسه ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين:

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٨٣﴾
سورة ص

وهنا نتوقف في هذه المقالة عند إشكالية مهمة جداً في خطاب إبليس مع ربه بخصوص الإيقاع بآدم وذريته وهو قول إبليس كما جاء في الآية الكريمة التالي:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
سورة الأعراف

والإشكالية هي – في نظرنا- من شقين وهما:

  1. أن ينسب إبليس فعل الغواية الذي وقع فيه إلى ربه (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)
  2. قول إبليس "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"

لنطرح عندها التساؤلين التاليين:

  • لماذا نسب إبليس فعل الغواية إلى ربه؟
  • كيف يمكن أن يقعد إبليس لآدم وذريته صراط الله المستقيم؟

لنبدأ النقاش بمحاولتنا الإجابة على التساؤل الثاني ظانين أن الإجابة على هذا التساؤل ربما تفضي بنا إلى الحديث عن التساؤل الأول الذي يخص فعل الغواية.

أما بعد،

كيف يقعد لنا إبليس صراط الله المستقيم؟

ألا نقرأ في فاتحة الكتاب قول الحق (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)؟ فكيف إذن نطلب من الله أن يهدينا الصراط المستقيم لنجد عنده إبليس هو من يقعد لنا هناك (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)؟ ثم ألم نقرأ قول الحق في الآية الكريمة التالية؟

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ۗ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٣٩﴾
سورة الأنعام

ألا يكون إذن من هو موجود على الصراط المستقيم من أهل الهداية؟ فهل إبليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"؟

رأينا: كلا، وألف كلا. إبليس ليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" ولكنه قاعد للناس صراط الله المستقيم "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"؟

وهنا يبرز سؤال كبير ينبغي على أهل العلم والدراية أن يتصدوا للإجابة عليه وهو: ما الفرق بين أن يكون إبليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" أو أن يقعد للناس صراط الله المستقيم (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)؟

رأينا: نحن نظن أن هذا سؤال كبير جداً ستكون له تبعات جمة في الفكر الديني الذي سنحاول التعرض له في الصفحات التالية.

أما بعد،

هل فعلاً كذب الشيطان على آدم وزوجه؟

سندخل النقاش في هذا الموضوع طارحين السؤال الغريب التالي: هل فعلاً كذب الشيطان على آدم وزوجه عندما قاسمهما أنه لهما من الناصحين؟

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿٢٠﴾ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴿٢١﴾
سورة الأعراف

غالباً ما فهم العامة (من مثلي) أن الشيطان عندما وسوس لآدم وزوجه كان قد كذب عليهما، فالناس عامة مدفوعين بالاعتقاد أن الشيطان يكذب على الإنسان، وأنه يمكن أن يعمل أي شيء من أجل الإيقاع بآدم وذريته، فهم بذلك يصورون الشيطان ويكأنه "شخص" (أو لنقل كينونة) لا مبدأ له، ونحن إذ لا ندري من أين جاء مثل هذا الاعتقاد لنستميح السادة القراء العذر أن نخالفهم مثل هذا المعتقد، ظانين في الوقت ذاته أن الشيطان صاحب مبدأ يدافع عنه، ومن أبسط المبادئ التي يتمسك بها الشيطان هو –في رأينا- عدم الكذب، فنحن لم نجد دليلاً واحداً في كتاب الله يبين أن الشيطان يمكن أن يكذب على الناس، فالشيطان – في نظرنا- لا يقول إلا الصدق، وهذا الاعتقاد هو ما نظن أنه يمكننا من فهم قول إبليس (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

افتراء شيطاني من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الشيطان لا يكذب.

ولكن أين الدليل؟

أولاً، لابد من التنبيه أن الشيطان عندما وسوس لآدم وزوجه ذكّرهما بالنهي الرباني الذي صدر لهما من ربهما:

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ

لذا لا يمكن القول بأن آدم قد أكل من الشجرة وهو ناسياً الأمر الإلهي له بعدم الاقتراب منها. فإن كان هو قد نسي الأمر بعدم الأكل من الشجرة، فها هو الشيطان يذكره وزوجه بذلك.

ثانياً: قدّم الشيطان لآدم وزوجه السبب وراء ذلك النهي الرباني:

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ

ثالثاً، أقسم الشيطان لآدم وزوجه بذلك:

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ

السؤال: فـ بمن أقسم الشيطان لآدم وزوجه؟

رأينا: لقد أقسم الشيطان لآدم وزوجه بالله، فلا يمكن أن ننسى كيف جرى الخطاب بين الله من جهة وإبليس من جهة أخرى:

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾
سورة ص

نتيجة مفتراة: نحن نظن باستحالة أن يقسم الشيطان بغير ربه (الله)، فإبليس لم ينكر ربوبية الله له حتى بعد أن طرده الله من الجنة:

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٨٣﴾
سورة ص

افتراء من عند أنفسنا: عندما يقسم الشيطان -لا شك عندنا- فإنه يقسم بربه (الله)، لذا يستحيل أن يتحدث إبليس (وبالتالي الشيطان) وأن يقسم بربه كاذبا. فإبليس الذي يعلم من هو ربه يستحيل – نحن نفتري القول- أن يقسم به كاذباً.

رابعاً، أما الدليل الأكبر الذي نظن أنه يدعم زعمنا هذا فيأتي من الحقيقة القرآنية التالية: عندما وسوس الشيطان لآدم وزوجه في الجنة وقدّم لهم السبب الذي من أجله نهاهم الله عن الأكل من الشجرة لم يأتي خبر من الله أن الشيطان قد كذبهم القول. ولكن جل الذي حصل أن الله أكد عداوة الشيطان المستحكمة تجاه آدم وزوجه:

... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٢٢﴾
سورة الأعراف

فالله يذكر آدم وزوجه بعداوة الشيطان لهما ولكنه لا يخبرنا بأن الشيطان كان قد كذبهما القول.

سؤال: مادام أن الشيطان –كما نزعم- لم يكذب عليهما، فما الذي فعله إذن؟

جواب: لقد أغواهم

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
سورة ص

نعم، ذلك هو ما فعله الشيطان إنه الغواية وليس الكذب.

سؤال: ولكن ما الفرق؟

جواب: هناك فرق كبير جداً بين أن تقوم بفعل الغواية أو أن تقوم بفعل الكذب

افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن الذي يقوم بفعل الغواية لا يحتاج أن يكذب، فهو يقول الصدق ولكن فقط من أجل الإيقاع في الشرك، ولتكون العاقبة وخيمة. أما من يقوم بالكذب فهو يحرفّ الحقيقة لأنه ببساطة يقول غيرها.

مثال: يمكن أن أنقل إليك خبراً ما كأن أقول لك إنْ ذهبت إلى المكان الفلاني ستجد فيه مبلغاً من المال وأكون صادقاً فيما أقول لك، ولكن لا أخبرك في الوقت ذاته أن في ذهابك إلى ذلك المكان وحصولك على المال الموجود هناك فيه مهلكة لك، كأن ينتهي بك المقام في السجن بسبب ذلك، لأن المال الموجود هناك –على سبيل المثال- هو مال مسروق تبحث الشرطة عنه. فأنا عندما أقوم بذلك يكون ذلك من باب الغواية، فأنا أخبرك صادقاً بوجود المال، ولكن هدفي هو الإيقاع بك، فهنا أكون أنا من يقوم بفعل الغواية.

ولكن – بالمقابل- لو أنا نقلت لك خبراً أن في ذلك المكان ستجد المال إنْ أنت ذهبت إليه، وقمت أنت فعلاً بالذهاب إلى المكان ولم تجد فيه المال الذي أخبرتك عنه، فأكون أنا بذلك قد كذبت عليك.

فما الذي فعله الشيطان مع آدم؟ هل أغواه أم كذب عليه؟

رأينا: نحن نعتقد أن الشيطان قد أغوى آدم ولكنه لم يكذب عليه:

... وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ﴿١٢١﴾
سورة طه

ولهذا الفهم تبعات جمة نتحدث عنها فيما يتعلق بقصة الشيطان مع آدم وزوجه. ويؤكد هذا الظن ما جاء في كتاب الله عن فعل الشيطان الذي يقوم به للإيقاع ببني آدم في شركه:

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿٦٤﴾
سورة الإسراء

فالشيطان – في رأينا- لا يكذب على الناس ولكنه يغرر بهم (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).

تبعات هذا الظن: نحن نفتري القول أن ما قام به الشيطان لم يكن أكثر من أنه زيّن لآدم وزوجه الحقيقة وكان ذلك من أجل الإيقاع بهما في شركه، ولكن كيف؟

رأينا: إننا نزعم الظن أن الشيطان قد قدّم الحقيقة التالية لآدم وزوجه:

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
سورة الأعراف

ولكن الهدف الذي كان يرمي إليه الشيطان هو أن تبد لهما سوآتهما:

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ﴿١٢١﴾
سورة طه

فكانت تلك فتنة الشيطان لكي ينزع عنهما لباسهما لتبدو لهما سوآتهما ويكون الهدف النهائي هو أن يخرجهما من الجنة التي كانا يسكنان فيها:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٢٧﴾
سورة الأعراف

إن المتدبر لهذه السياقات القرآنية يجد أن ما قام به الشيطان هو عبارة عن فعل الغواية نتج عن فتنة أظهرت ما كان يحمل آدم في قلبه.

نتيجة وافتراء من عند أنفسنا: لو تدبرنا هذه السياقات القرآنية لوجدنا فيها فعل الغواية وفعل الفتنة، ونحن نفتري الظن أن الذي يغوي الآخرين لا يحتاج أن يكذب عليهم وأن الذي يقوم بفعل الفتنة لا يمكن أن يكذب، ولكن أين الدليل على ذلك؟

الغواية والفتنة

الغواية

لو تدبرنا قول إبليس لربه بعد أن طرده الله من المكان لوجدنا أن إبليس ينسب فعل الغواية إلى ربه:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
سورة الأعراف
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٣٩﴾
سورة الحجر

دقق – عزيزي القارئ- جيداً بما قاله إبليس، فهو ينسب فعل الغواية إلى رب العالمين (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)، ولا نجد في الوقت ذاته أن الله ينكر على إبليس قوله هذا. ولمّا كان الله قد أقر بأن ينسب إبليس فعل الغواية إلى ربه فيستحيل إذن أن يكون في فعل الغواية جانب الكذب، فنحن نحمل في صدورنا العقيدة التي مفادها أن الحق لا يصدر عنه إلا قول الحق. وقد يظن البعض أن هذا المنطق قد لا ينسحب على الشيطان، وأننا ربما لا نكون ملزمين "بتصديق" القول مادام أنه قد صدر من إبليس نفسه، فنرد على من يظن مثل ذلك بأن نسبة فعل الغواية لله قد جاءت على لسان نبي الله نوح نفسه:

وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٣٤﴾
سورة هود

لذا نحن نعتقد أن إبليس قد وقع في فعل الغواية بالرغم أن الله قد قدّم له الصدق، ولما كان إبليس يعلم تمام العلم أن الله قد قدّم له الصدق، وقع في فعل الغواية عندما اختار بنفسه أن يحيد عن طريق الحق، فالغواية – في نظرنا- تطلق على من يقع بالمعصية بعد أن يكون قد جاءه العلم بها، وليس أدل على ذلك مما فعل آدم نفسه:

وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
سورة طه

رأينا: نحن نظن أن الغواية هي نتيجة المعصية بعد العلم، فالله قدّم لآدم العلم "بأن لا يأكل من الشجرة" ولكن آدم يقرر أن يقع في المعصية، فيكون إذن قد غوى.

الفتنة

أما الفتنة فهي – في نظرنا- ما يسبق المعصية التي تتبعها الغواية، فتكون الصورة على النحو التالي:

فتنة ← معصية ← غواية

فالفتنة تسبق المعصية، بينما الغواية تتبع المعصية، وبكلمات أكثر دقة يمكن أن نفتري القول أن الفتنة دافع المعصية أما الغواية فهي نتيجة المعصية.

ولو تدبرنا قول الحق بخصوص تلك الحادثة لوجدنا أن الله نفسه يعتبرها فتنة الشيطان:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٢٧﴾
سورة الأعراف

ولو تدبرنا فعل الفتنة في جميع السياقات القرآنية لوجدنا أن فعل الفتنة يمكن أن يصدر عن الله نفسه:

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾
سورة العنكبوت

نتيجة مفتراة: مادام أن فعل الفتنة يمكن أن يصدر من الله نفسه فيستحيل أن يكون فيه الكذب

نتيجة كبيرة جداً: مادام أن الشيطان قد قام بفعل الغواية وفعل الفتنة، فهو إذن لم يكن يكذب عندما قاسم آدم وزوجه بأنه لهما من الناصحين، وبالتالي فإننا نعتقد جازمين أن إبليس قد صدق آدم وزوجه القول عندما قدّم لهما السبب الذي من أجله نهاهما ربهما عن الأكل من الشجرة:

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
سورة الأعراف

نعم، هذا ما نظن أنه السبب الذي من أجله منع الله آدم وزوجه من الأكل من الشجرة: حتى لا يكونا ملكين أو حتى لا يكونا من الخالدين

ما الذي تقول يا رجل؟ اتق الله! ألا ترى أنك تردد قول إبليس؟ فهل فعلاً تختلف في ذلك عن إبليس نفسه؟

جواب: ربما ليس كثيراً، ولكن جل ما نطلب هو أن نعطي أنفسنا فرصة التدبر بمثل هذا الظن لنرى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في نهاية المطاف.

أما بعد،

سؤال: لماذا نهى الله آدم وزوجه عن الأكل من الشجرة؟

رأينا: لكي لا يكونا ملكين أو لكي لا يكونا من الخالدين

ولكن كيف؟

رأينا: نحن نظن أن مهمة الشيطان لا تكمن في أن يكذب على الناس ولكن مهمته تكمن في تزيين الأمور لهم أو التغرير بهم:

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٣٩﴾
سورة الحجر
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
سورة الإسراء

فإبليس يقدم للناس الصدق ولكن من أجل أن يوقع بهم في الغواية، فالغواية التي يقع فيها الناس تأتي لحظة أن يتقبلوا ما زين لهم الشيطان من الأمور، وبمثل هذا المنطق - على ركاكته- يمكننا الآن أن ننطلق لنفهم قصة آدم مع الشيطان بطريقة مختلفة بعض الشيء.

قصة الشيطان مع آدم وزوجه: رؤية مختلفة

أما بعد،

أولاً، الشيطان يقدم لآدم القول الصادق الذي من أجله منعهما ربهما من الأكل من الشجرة (أو حتى الاقتراب منها):

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
سورة الأعراف

ثانياً، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يقوم بتزيّن الأمر لآدم وزوجه بما ستؤول إليه الأمور، فتكون تلك الحادثة فتنة لآدم وزوجه، تستوجب من آدم وزوجه أن يحسما أمرهما: إما بالانصياع للأمر الرباني بعدم الاقتراب من الشجرة، أو بتقبل فتنة الشيطان والوقوع في المعصية، فيختار آدم وزوجه ما زين لهما الشيطان من الأمر فيقع آدم في المعصية وبالتالي في الغواية:

وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ[1]
سورة طه

عودة على بدء

نحن نفتري الظن أنه بمثل هذا الزعم يمكننا أن نفهم كيف يقعد الشيطان لنا صراط الله المستقيم بطريقة جديدة:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
سورة الأعراف

فالشيطان يقدم لك الحقيقة ولكنه لا يتوقف عند ذلك بل يقوم بتزينها لك ليحقق غايته بأن تكون النتيجة أن تقع في المعصية.

سؤال: ما فائدة مثل هذا الفهم؟

جواب: نحن نفتري الظن بأن المعصية التي تقع بسبب القول الصادق الذي تم تزينه من أجل عاقبة وخيمة تكون من فعل الشيطان (شياطين الإنس والجن) ومصداق ظننا هذا قوله تعالى:

شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
سورة الأنعام

كما في الأفعال التالية التي يزينها الشيطان للناس:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾
سورة المائدة
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴿١٥﴾
سورة القصص

فالرجل الذي استغاث موسى لم يكذب عليه، فهو رجل من شيعته يستنصره على رجل من عدوه، فيقوم موسى بوكز الرجل الذي من عدوه فيقضي عليه، ويكون ذلك من عمل الشيطان " قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ". لذا نحن نظن أنه لو كذب الرجل على موسى لما وقع ذلك في باب عمل الشيطان.

أما المعصية التي تقع بسبب الكذب فهو من فعل أنفسنا. ونحن ندعو إلى مراجعة السياقات القرآنية التي تتحدث عن الكذب لنجد أنها تصور الأمر على أنه من عمل الإنسان نفسه:

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿٢٨﴾
سورة الأنعام

... والعديد من الآيات الأخرى ...

(وسنتعرض لمثل هذا الزعم بالتفصيل لاحقاً)

أما ما يهمنا الآن فهو الظن بأن الشيطان قد قدّم لآدم وزوجه القول الصادق الذي تم تزينه على النحو التالي:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ ﴿١٢٠﴾
سورة طه
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
سورة الأعراف

ويجب التنبيه إلى الاعتقاد اليقيني بأن إبليس قد قدّم لهما القول الصادق ليس حباً بآدم وزوجه (فالعداوة بينهما مستحكمة) وليس من أجل خيرهما (فهو يعمل من أجل الإيقاع بهما) بل ليغرر بهما "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ".

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٢٢﴾
سورة الأعراف

نتيجة مفتراة: لا يحتاج عدوك أن يكذب عليك حتى يوقعك في مكيدته، فقوله الصدق ربما يكون أكثر دهاء وحيلة من قوله الكذب.

حجة الشيطان: أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

لقد وعد الشيطان آدم وزوجه ممنياً لهم بأن الأكل من الشجرة ستكون نتيجته واحدة من اثنتين: إما أن يصبحا ملكين أو أن يكونا من الخالدين، أليس كذلك؟

سنحاول في الصفحات التالية الخوض في هذين الخيارين اللذين بهما زين الشيطان لآدم فعل الوقوع في المعصية

إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ

سؤال غريب: كيف يقول الشيطان لآدم وزوجه أن الله منعهما من الأكل من الشجرة لكي لا يكونا ملكين؟ ألم يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فكيف يمكن أن يتقبل آدم وزوجه فكرة أن يكونا "ملكين" وقد أمر الله الملائكة أجمعين بالسجود لآدم؟ فكيف تم تسويق فكرة "أن يكونا ملكين" على آدم وزوجه والله قد أسجد لهما الملائكة أجمعين؟

رأينا: نعم ذلك ممكن بشرط أن نميز بين لفظة "ملكين" (التي استخدمها الشيطان للإيقاع بآدم وزوجه في شراكه) ولفظة "الملائكة" (الذين طلب الله منهم السجود لآدم)، فلقد خلط العامة (مدفوعين بتأويلات أهل العلم) بين هذه الألفاظ المتقاربة، فظن الغالبية العظمى منهم أن لفظة "ملكين" التي ذكرها الشيطان لآدم ربما تكون مشتقة من لفظة الملائكة، وهذا – في رأينا- أبعد ما يكون عن الحقيقة، وذلك لسبب بسيط وهو أن الذين طُلب منهم السجود لآدم هم الملائكة، لذا يستحيل – نحن نفتري الظن- أن يتقبل آدم فكرة أن يصبح من الملائكة وهم قد أمر للتو بالسجود له. فما الحل؟

رأينا: لو التزمنا بمفردات النص كما هي لوجدنا أن الخروج من هذا المأزق ربما يكون سهلا ميسرا، بحول الله وتوفيقه.

أما بعد،

لقد سوق إبليس لآدم وزوجه فكرة أن يكونا ملكين، وكفى. لذا نحن ندعو إلى التميز بين الملائكة وبين صنف آخر كان آدم وزوجه يطمعان أن يكونا منهما وهم في نظرنا "المَلَك"

نتيجة مفتراة: نحن ندعو إلى التميز بين الملائكة (ومفردها ملك) والمَلَك (ومفردها مَلَك أيضاً)

ما معنى أن تكونا مَلَكين؟ ومن هو المَلَك؟

رأينا: الملك (مفرد ملائكة) هو الذي يفعل ما يؤمر ويمكن أن يحمل الرسالة:

قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴿٩٥﴾
سورة الإسراء

ولكن هناك أيضاً المَلَك (جمع) ومفرده "مَلَك" أيضاً هو الذي يملك:

الدليل: هناك فرق بين الملائكة (جمع) والمَلَك (جمع)

الملائكة المَلَك
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ... ﴿٢١٠﴾ (البقرة) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴿٢٢﴾ (الفجر)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ... ﴿٧٥﴾ (الزمر) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ... ﴿١٧﴾ (الحاقة)
...فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ... ﴿٣٩﴾ (آل عمران) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا... ﴿٢٦﴾ (النجم)

وهم جميعاً من أهل السماء:

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴿٨﴾ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴿٩﴾
سورة الأنعام

... والعديد من الآيات الأخرى ...

وقد جاء الفصل واضحاً بين الملائكة والروح:

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿٤﴾
سورة المعارج

... والعديد من الآيات الأخرى ...

تبعات الفصل بين الملك والملائكة

افتراء من عند أنفسنا (1): نحن نعتقد أن الذي سجد لآدم هم الملائكة ولكن الله لم يطلب من "المَلَك" السجود لآدم، فلو تدبرنا جميع آيات السجود الأول لآدم لوجدنا أن الله قد وجه الأمر بذلك إلى الملائكة فقط:

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٣٠﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴿٣١﴾
سورة الحجر
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٧٣﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٧٤﴾
سورة ص

الفرق بين المَلَك (بفتح اللام) والمَلِك (بكسر اللام)

افتراء من عند أنفسنا (2): الملائكة والملك (بفتح اللام) هم جميعاً من أهل السماء أما الملك (بكسر اللام) فهو من أهل الأرض (مَلِك: بكسر اللام): فهناك في السماء مَلَك (الجمع مَلَك) وهناك في الأرض.مَلِك (الجمع ملوك)

الدليل: ملك داوود وولده سليمان

لقد طلب الملأ من بني إسرائيل من نبي لهم[2] أن يبعث لهم مَلِكا (بكسر اللام)، فكان ذلك من نصيب طالوت:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ ... ﴿٢٤٦﴾
سورة البقرة

... والعديد من الآيات الأخرى ...

المفرد الآية الجمع الآية
مَلَك وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ملائكة قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا
مَلَك وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ... وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ... مَلَك وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
مَلِك ... وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ملوك قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا...

تساؤلات: من الذي سجد لآدم؟ هل سجد جبريل مثلاً لآدم؟ هل سجد ميكال لآدم؟ هل أمر الله هؤلاء "الملكين" مثلاً بالسجود لآدم؟

هذا ما سنناقشه في مقالة خاصة بالملائكة، لكن يكفينا أن نذكّر القارئ الكريم بضرورة التمييز بين المجموعات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة التالية:

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴿٩٨﴾
سورة البقرة
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ﴿٤﴾
سورة التحريم

افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم القول أن هناك فرق بين مجموع الملائكة الذين أُمروا بالسجود لآدم والمَلَك الذين كان آدم وزوجه يطمعان أن يكونا مثلهما، وقد جاءت مكيدة الشيطان من هذا الباب، فقد كان الشيطان يحاول إقناع آدم وزوجه بأن الأكل من تلك الشجرة يمكن أن ينتهي بهما إلى أن يكونا ملكين، ولكن من هم؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الملكين الذين كان يتمنى آدم وزوجه أن يصبحا مثلهما لحظة الأكل من الشجرة هما "كجبريل وميكال"، ولكن لماذا؟[3]

الهوامش

  1. وهنا نتوقف عند ملاحظة غاية في الأهمية وهي أن فعل المعصية (وبالتالي الغواية الناتجة عنه) هي من فعل آدم فقط (وليس لحواء دخل بهما، بدليل أن الذي عصى وأن الذي غوى هو آدم:
    وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
    سورة طه
    ولم تكن حواء أكثر من تابع لآدم، لم تتخذ القرار بل فعلت ما فعل زوجها، فهي قامت بفعل الذوق من الشجرة والأكل من الشجرة ولكنها لم تكن صاحبة المعصية والغواية. ولندقق بصيغة المثنى الذي يعود على آدم وزوجه معاً في السياقات التالية:
    فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٢٢﴾
    سورة الأعراف
    مقابل ضمير المفرد الذي يعود على آدم نفسه في السياقات التالية:
    وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
    سورة طه
    ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ﴿١٢٢﴾
    سورة طه
  2. سنتعرض لاحقاً بحول الله وتوفيقه إلى هذا النبي لنحاول التعرف على اسمه سائلين الله أن يعلمنا ما لم تعلموا
  3. ولكن هذا لا يستثني أن يكونا الملكين هما هاروت وماروت:
    وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ ... ﴿١٠٢﴾
    سورة البقرة
    وسنحاول التعرض لهذا الخيار في مقالة منفصلة عند الحديث عن داوود وولده سليمان بحول الله وتوفيقه، ونسال الله أن يعلمنا من لدنه علماً لا ينبغي لأحد من بعدنا إنه هو العليم الحكيم.
  4. ومثل هذا المنطق – على ركاكته- لا يمنعنا من الافتراء بأن إبليس وإن كان من جمع الملائكة الذين أمروا بالسجود إلا أنه بكل تأكيد لم يكن من جمع المَلَك الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم.
أحدث أقدم