هل فعلاً كذب الشيطان على آدم؟ (1)


زعمنا في مقالة سابقة لنا تحت
عنوان "هل فعلاً وسوس إبليس لآدم؟" القول بأن الذي وسوس لآدم هو الشيطان وليس إبليس، وحاولنا التمييز بين إبليس (كزعيم للجن بما فيهم الشياطين) والشيطان الذي وسوس لآدم على أنه واحد من جنود إبليس الذي كان يستفزز من يستطيع منهم على آدم وذريته:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

وكان ذلك بهدف تبرير عدم التلاق بين آدم وزوجه وهم يقطنون الجنة وإبليس الذي كان قد طرد من المكان قبل أن يصدرالأمر الإلهي لآدم وزوجه بالسكن في الجنة:
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) الأعراف

فتدبر هذه الآيات الكريمة يوصلنا إلى الاعتقاد اليقيني أن إبليس لم يكن ليستطيع الوصول لآدم وزوجه في الجنة مادام أنه قد طرد من المكان شر طردة. 

وزعمنا الظن في تلك المقالة أن إبليس قد استخدم جنده للإيقاع بآدم، فكان الشيطان الذي وسوس لآدم هو أحد جنود إبليس الذين استخدمهم للإيقاع بآدم وزوجه، فإبليس – كما نعلم من النص القرآني- كان قد أخذ على نفسه عهداً بالإيقاع بآدم وذريته في شراكه حيث قال:
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

ولم يتوقف عند هذا الحد بل أقسم في سياق قرآني آخر بعزة الله نفسه ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ص

وهنا نتوقف في هذه المقالة عند إشكالية مهمة جداً في خطاب إبليس مع ربه بخصوص الإيقاع بآدم وذريته وهو قول إبليس كما جاء في الآية الكريمة التالي:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
والإشكالية هي – في نظرنا- من شقين وهما:
  1. أن ينسب إبليس فعل الغواية الذي وقع فيه إلى ربه (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)
  2. قول إبليس "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"
لنطرح عندها التساؤلين التاليين:
- لماذا نسب إبليس فعل الغواية إلى ربه؟
- كيف يمكن أن يقعد إبليس لآدم وذريته صراط الله المستقيم؟
لنبدأ النقاش بمحاولتنا الإجابة على التساؤل الثاني ظانين أن الإجابة على هذا التساؤل ربما تفضي بنا إلى الحديث عن التساؤل الأول الذي يخص فعل الغواية.
أما بعد،
كيف يقعد لنا إبليس صراط الله المستقيم؟
 ألا نقرأ في فاتحة الكتاب قول الحق (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
    فكيف إذن نطلب من الله أن يهدينا الصراط المستقيم لنجد عنده إبليس هو من يقعد لنا هناك (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
 ثم ألم نقرأ قول الحق في الآية الكريمة التالية؟
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ۗ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

ألا يكون إذن من هو موجود على الصراط المستقيم من أهل الهداية؟ 
فهل إبليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

رأينا: كلا، وألف كلا. إبليس ليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" ولكنه قاعد للناس صراط الله المستقيم "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"؟
وهنا يبرز سؤال كبير ينبغي على أهل العلم والدراية أن يتصدوا للإجابة عليه وهو:
 ما الفرق بين أن يكون إبليس "عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" أو أن يقعد للناس صراط الله المستقيم (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ

رأينا: نحن نظن أن هذا سؤال كبير جداً ستكون له تبعات جمة في الفكر الديني الذي سنحاول التعرض له في الصفحات التالية.
أما بعد،

سندخل النقاش في هذا الموضوع طارحين السؤال الغريب التالي: هل فعلاً كذب الشيطان على آدم وزوجه عندما قاسمهما أنه لهما من الناصحين؟
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

غالباً ما فهم العامة (من مثلي) أن الشيطان عندما وسوس لآدم وزوجه كان قد كذب عليهما، فالناس عامة مدفوعين بالاعتقاد أن الشيطان يكذب على الإنسان، وأنه يمكن أن يعمل أي شيء من أجل الإيقاع بآدم وذريته، فهم بذلك يصورون الشيطان ويكأنه "شخص" (أو لنقل كينونة) لا مبدأ له، ونحن إذ لا ندري من أين جاء مثل هذا الاعتقاد لنستميح السادة القراء العذر أن نخالفهم مثل هذا المعتقد، ظانين في الوقت ذاته أن الشيطان صاحب مبدأ يدافع عنه، ومن أبسط المبادئ التي يتمسك بها الشيطان هو –في رأينا- عدم الكذب، فنحن لم نجد دليلاً واحداً في كتاب الله يبين أن الشيطان يمكن أن يكذب على الناس، فالشيطان – في نظرنا- لا يقول إلا الصدق، وهذا الاعتقاد هو ما نظن أنه يمكننا من فهم قول إبليس (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

افتراء شيطاني من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الشيطان لا يكذب.

ولكن أين الدليل؟

أولاً: لابد من التنبيه أن الشيطان عندما وسوس لآدم وزوجه ذكّرهما بالنهي الرباني الذي صدر لهما من ربهما:
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ
لذا لا يمكن القول بأن آدم قد أكل من الشجرة وهو ناسياً الأمر الإلهي له بعدم الاقتراب منها. 
فإن كان هو قد نسي الأمر بعدم الأكل من الشجرة، فها هو الشيطان يذكره وزوجه بذلك.

ثانياً: قدّم الشيطان لآدم وزوجه السبب وراء ذلك النهي الرباني:
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ

ثالثاً، أقسم الشيطان لآدم وزوجه بذلك:
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ

السؤال: فـ بمن أقسم الشيطان لآدم وزوجه؟
رأينا: لقد أقسم الشيطان لآدم وزوجه بالله، فلا يمكن أن ننسى كيف جرى الخطاب بين الله من جهة وإبليس من جهة أخرى:
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)

نتيجة مفتراة: نحن نظن باستحالة أن يقسم الشيطان بغير ربه (الله)، فإبليس لم ينكر ربوبية الله له حتى بعد أن طرده الله من الجنة:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ص

افتراء من عند أنفسنا: عندما يقسم الشيطان -لا شك عندنا- فإنه يقسم بربه (الله)، لذا يستحيل أن يتحدث إبليس (وبالتالي الشيطان) وأن يقسم بربه كاذبا. 
فإبليس الذي يعلم من هو ربه يستحيل – نحن نفتري القول- أن يقسم به كاذباً.

رابعاً، أما الدليل الأكبر الذي نظن أنه يدعم زعمنا هذا فيأتي من الحقيقة القرآنية التالية: 
عندما وسوس الشيطان لآدم وزوجه في الجنة وقدّم لهم السبب الذي من أجله نهاهم الله عن الأكل من الشجرة لم يأتي خبر من الله أن الشيطان قد كذبهم القول. 
ولكن جل الذي حصل أن الله أكد عداوة الشيطان المستحكمة تجاه آدم وزوجه:
... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
فالله يذكر آدم وزوجه بعداوة الشيطان لهما ولكنه لا يخبرنا بأن الشيطان كان قد كذبهما القول.

سؤال: مادام أن الشيطان –كما نزعم- لم يكذب عليهما، فما الذي فعله إذن؟
جواب: لقد أغواهم
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
نعم، ذلك هو ما فعله الشيطان إنه الغواية وليس الكذب.

سؤال: ولكن ما الفرق؟
جواب: هناك فرق كبير جداً بين أن تقوم بفعل الغواية أو أن تقوم بفعل الكذب
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن الذي يقوم بفعل الغواية لا يحتاج أن يكذب، فهو يقول الصدق ولكن فقط من أجل الإيقاع في الشرك، ولتكون العاقبة وخيمة. أما من يقوم بالكذب فهو يحرفّ الحقيقة لأنه ببساطة يقول غيرها.
مثال: يمكن أن أنقل إليك خبراً ما كأن أقول لك إنْ ذهبت إلى المكان الفلاني ستجد فيه مبلغاً من المال وأكون صادقاً فيما أقول لك، ولكن لا أخبرك في الوقت ذاته أن في ذهابك إلى ذلك المكان وحصولك على المال الموجود هناك فيه مهلكة لك، كأن ينتهي بك المقام في السجن بسبب ذلك، لأن المال الموجود هناك –على سبيل المثال- هو مال مسروق تبحث الشرطة عنه. فأنا عندما أقوم بذلك يكون ذلك من باب الغواية، فأنا أخبرك صادقاً بوجود المال، ولكن هدفي هو الإيقاع بك، فهنا أكون أنا من يقوم بفعل الغواية.
ولكن – بالمقابل- لو أنا نقلت لك خبراً أن في ذلك المكان ستجد المال إنْ أنت ذهبت إليه، وقمت أنت فعلاً بالذهاب إلى المكان ولم تجد فيه المال الذي أخبرتك عنه، فأكون أنا بذلك قد كذبت عليك.
فما الذي فعله الشيطان مع آدم؟ هل أغواه أم كذب عليه؟
رأينا: نحن نعتقد أن الشيطان قد أغوى آدم ولكنه لم يكذب عليه:
... وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ طه (121)
ولهذا الفهم تبعات جمة نتحدث عنها فيما يتعلق بقصة الشيطان مع آدم وزوجه. ويؤكد هذا الظن ما جاء في كتاب الله عن فعل الشيطان الذي يقوم به للإيقاع ببني آدم في شركه:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
فالشيطان – في رأينا- لا يكذب على الناس ولكنه يغرر بهم (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
تبعات هذا الظن: نحن نفتري القول أن ما قام به الشيطان لم يكن أكثر من أنه زيّن لآدم وزوجه الحقيقة وكان ذلك من أجل الإيقاع بهما في شركه، ولكن كيف؟
رأينا: إننا نزعم الظن أن الشيطان قدّم الحقيقة التالية لآدم وزوجه:
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
ولكن الهدف الذي كان يرمي إليه الشيطان هو أن تبد لهما سوآتهما:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121)
فكانت تلك فتنة الشيطان لكي ينزع عنهما لباسهما لتبدو لهما سوآتهما ويكون الهدف النهائي هو أن يخرجهما من الجنة التي كانا يسكنان فيها:
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
إن المتدبر لهذه السياقات القرآنية يجد أن ما قام به الشيطان هو عبارة عن فعل الغواية نتج عن فتنة أظهرت ما كان يحمل آدم في قلبه.
نتيجة وافتراء من عند أنفسنا: لو تدبرنا هذه السياقات القرآنية لوجدنا فيها فعل الغواية وفعل الفتنة، ونحن نفتري الظن أن الذي يغوي الآخرين لا يحتاج أن يكذب عليهم وأن الذي يقوم بفعل الفتنة لا يمكن أن يكذب، ولكن أين الدليل على ذلك؟


الغواية
لو تدبرنا قول إبليس لربه بعد أن طرده الله من المكان لوجدنا أن إبليس ينسب فعل الغواية إلى ربه:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
دقق – عزيزي القارئ- جيداً بما قاله إبليس، فهو ينسب فعل الغواية إلى رب العالمين (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)، ولا نجد في الوقت ذاته أن الله ينكر على إبليس قوله هذا. ولمّا كان الله قد أقر بأن ينسب إبليس فعل الغواية إلى ربه فيستحيل إذن أن يكون في فعل الغواية جانب الكذب، فنحن نحمل في صدورنا العقيدة التي مفادها أن الحق لا يصدر عنه إلا قول الحق. وقد يظن البعض أن هذا المنطق قد لا ينسحب على الشيطان، وأننا ربما لا نكون ملزمين "بتصديق" القول مادام أنه قد صدر من إبليس نفسه، فنرد على من يظن مثل ذلك بأن نسبة فعل الغواية لله قد جاءت على لسان نبي الله نوح نفسه:
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
لذا نحن نعتقد أن إبليس قد وقع في فعل الغواية بالرغم أن الله قد قدّم له الصدق، ولما كان إبليس يعلم تمام العلم أن الله قد قدّم له الصدق، وقع في فعل الغواية عندما اختار بنفسه أن يحيد عن طريق الحق، فالغواية – في نظرنا- تطلق على من يقع بالمعصية بعد أن يكون قد جاءه العلم بها، وليس أدل على ذلك مما فعل آدم نفسه:
وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
رأينا: نحن نظن أن الغواية هي نتيجة المعصية بعد العلم، فالله قدّم لآدم العلم "بأن لا يأكل من الشجرة" ولكن آدم يقرر أن يقع في المعصية، فيكون إذن قد غوى.

الفتنة
أما الفتنة فهي – في نظرنا- ما يسبق المعصية التي تتبعها الغواية، فتكون الصورة على النحو التالي:
فتنة ← معصية ← غواية
فالفتنة تسبق المعصية، بينما الغواية تتبع المعصية، وبكلمات أكثر دقة يمكن أن نفتري القول أن الفتنة دافع المعصية أما الغواية فهي نتيجة المعصية.
ولو تدبرنا قول الحق بخصوص تلك الحادثة لوجدنا أن الله نفسه يعتبرها فتنة الشيطان:
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
ولو تدبرنا فعل الفتنة في جميع السياقات القرآنية لوجدنا أن فعل الفتنة يمكن أن يصدر عن الله نفسه:
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
نتيجة مفتراة: مادام أن فعل الفتنة يمكن أن يصدر من الله نفسه فيستحيل أن يكون فيه الكذب
نتيجة كبيرة جداً: مادام أن الشيطان قد قام بفعل الغواية وفعل الفتنة، فهو إذن لم يكن يكذب عندما قاسم آدم وزوجه بأنه لهما من الناصحين، وبالتالي فإننا نعتقد جازمين أن إبليس قد صدق آدم وزوجه القول عندما قدّم لهما السبب الذي من أجله نهاهما ربهما عن الأكل من الشجرة:
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
نعم، هذا ما نظن أنه السبب الذي من أجله منع الله آدم وزوجه من الأكل من الشجرة: حتى لا يكونا ملكين أو حتى لا يكونا من الخالدين
ما الذي تقول يا رجل؟ اتق الله! ألا ترى أنك تردد قول إبليس؟ فهل فعلاً تختلف في ذلك عن إبليس نفسه؟
جواب: ربما ليس كثيراً، ولكن جل ما نطلب هو أن نعطي أنفسنا فرصة التدبر بمثل هذا الظن لنرى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في نهاية المطاف.

أما بعد،
سؤال: لماذا نهى الله آدم وزوجه عن الأكل من الشجرة؟
رأينا: لكي لا يكونا ملكين أو لكي لا يكونا من الخالدين
ولكن كيف؟
رأينا: نحن نظن أن مهمة الشيطان لا تكمن في أن يكذب على الناس ولكن مهمته تكمن في تزيين الأمور لهم أو التغرير بهم:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
فإبليس يقدم للناس الصدق ولكن من أجل أن يوقع بهم في الغواية، فالغواية التي يقع فيها الناس تأتي لحظة أن يتقبلوا ما زين لهم الشيطان من الأمور، وبمثل هذا المنطق - على ركاكته- يمكننا الآن أن ننطلق لنفهم قصة آدم مع الشيطان بطريقة مختلفة بعض الشيء.

قصة الشيطان مع آدم وزوجه: رؤية مختلفة
أما بعد،
أولاً، الشيطان يقدم لآدم القول الصادق الذي من أجله منعهما ربهما من الأكل من الشجرة (أو حتى الاقتراب منها):
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
ثانياً، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يقوم بتزيّن الأمر لآدم وزوجه بما ستؤول إليه الأمور، فتكون تلك الحادثة فتنة لآدم وزوجه، تستوجب من آدم وزوجه أن يحسما أمرهما: إما بالانصياع للأمر الرباني بعدم الاقتراب من الشجرة، أو بتقبل فتنة الشيطان والوقوع في المعصية،  فيختار آدم وزوجه ما زين لهما الشيطان من الأمر فيقع آدم في المعصية وبالتالي في الغواية:
وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
عودة على بدء
نحن نفتري الظن أنه بمثل هذا الزعم يمكننا أن نفهم كيف يقعد الشيطان لنا صراط الله المستقيم بطريقة جديدة:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
فالشيطان يقدم لك الحقيقة ولكنه لا يتوقف عند ذلك بل يقوم بتزينها لك ليحقق غايته بأن تكون النتيجة أن تقع في المعصية.
سؤال: ما فائدة مثل هذا الفهم؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن المعصية التي تقع بسبب القول الصادق الذي تم تزينه من أجل عاقبة وخيمة تكون من فعل الشيطان (شياطين الإنس والجن) ومصداق ظننا هذا قوله تعالى:
شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
كما في الأفعال التالية التي يزينها الشيطان للناس:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
فالرجل الذي استغاث موسى لم يكذب عليه، فهو رجل من شيعته يستنصره على رجل من عدوه، فيقوم موسى بوكز الرجل الذي من عدوه فيقضي عليه، ويكون ذلك من عمل الشيطان " قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ". لذا نحن نظن أنه لو كذب الرجل على موسى لما وقع ذلك في باب عمل الشيطان.
أما المعصية التي تقع بسبب الكذب فهو من فعل أنفسنا. ونحن ندعو إلى مراجعة السياقات القرآنية التي تتحدث عن الكذب لنجد أنها تصور الأمر على أنه من عمل الإنسان نفسه:
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
(وسنتعرض لمثل هذا الزعم بالتفصيل لاحقاً)
أما ما يهمنا الآن فهو الظن بأن الشيطان قد قدّم لآدم وزوجه القول الصادق الذي تم تزينه على النحو التالي:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (120)
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
ويجب التنبيه إلى الاعتقاد اليقيني بأن إبليس قد قدّم لهما القول الصادق ليس حباً بآدم وزوجه (فالعداوة بينهما مستحكمة) وليس من أجل خيرهما (فهو يعمل من أجل الإيقاع بهما) بل ليغرر بهما "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ".
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
نتيجة مفتراة: لا يحتاج عدوك أن يكذب عليك حتى يوقعك في مكيدته، فقوله الصدق ربما يكون أكثر دهاء وحيلة من قوله الكذب.

السؤال: مادام أن الله قد حذر آدم وزوجه من عداوة الشيطان لهما ونبّههما من خطر الوقوع في مكيدة الشيطان، فكيف استطاع الشيطان إيقاع آدم في شراكه بهذه الطريقة؟
جواب: لأن إبليس قد زين لهما الأمر
سؤال: كيف تم تزين الأمر لآدم وزوجه؟
جواب: لو تدبرنا النص القرآني جيداً لوجدنا أن الشيطان يقدم لآدم وزوجه سببين اثنين من أجلهما نهاهما ربهما عن الأكل من الشجرة، والسببان هما:
  1. أن تكونا ملكين
  2. أو تكونا من الخالدين
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
ويأتي في سياق آخر خطاب الشيطان موجهاً لآدم وحده دون زوجه على نحو:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (120)
فالوسوسة هنا كانت خاصة بآدم والأسباب كانت موجه لآدم نفسه:
قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ
فالشيطان يخاطب آدم بطريقة ويخاطب آدم وزوجه معاً بطريقة أخرى، ولا شك عندنا أن الشيطان يعرف كيف ينفذ إلى آدم، ويعرف كذلك كيف ينفذ إلى زوج آدم ليزيّن لهما الأمر، فلا شك أن الشيطان لا يريد أن يكذب عليهما بل يريد أن يزيّن لهما الأمر فقط، لذا فهو يخاطب كل منهم بما تستهويه نفسه وبما يمكن أن يكون محبباً عنده، فلا شك أن فكرة الخلود والملك الذي لا يبلى هو ما يمكن أن يستهوي آدم، ولكن فكرة أن يكونا ملكين هو ما يمكن أن يستهوي الاثنين معاً، فنحن لا نعتقد أن فكرة الخلد ربما كانت مسيطرة على فكر زوج آدم بقدر ما كانت فكرة أن تكون من الملك
وهنا لا بد من لفت الانتباه مرة أخرى إلى ملاحظة غاية في الأهمية أثرناها سابقاَ وهي أن فعل المعصية (وبالتالي الغواية الناتجة عنه) هي من فعل آدم فقط (وليس لحواء دخل بهما، بدليل أن الذي عصى وأن الذي غوى هو آدم نفسه:
وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
ولم تكن حواء أكثر من تابع لآدم، لم تتخذ القرار بل فعلت ما فعل زوجها، فهي قامت بفعل الذوق من الشجرة والأكل من الشجرة ولكنها لم تكن صاحبة المعصية والغواية. ولندقق بصيغة المثنى الذي يعود على آدم وزوجه معاً في السياقات التالية:
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121)
مقابل ضمير المفرد الذي يعود على آدم نفسه في السياقات التالية:
وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ (122)

حجة الشيطان: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
لقد وعد الشيطان آدم وزوجه ممنياً لهم بأن الأكل من الشجرة ستكون نتيجته واحدة من اثنتين: إما أن يصبحا ملكين أو أن يكونا من الخالدين، أليس كذلك؟
سنحاول في الصفحات التالية الخوض في هذين الخيارين اللذين بهما زين الشيطان لآدم فعل الوقوع في المعصية
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
سؤال غريب: كيف يقول الشيطان لآدم وزوجه أن الله منعهما من الأكل من الشجرة لكي لا يكونا ملكين؟ ألم يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فكيف يمكن أن يتقبل آدم وزوجه فكرة أن يكونا "ملكين" وقد أمر الله الملائكة أجمعين بالسجود لآدم؟ فكيف تم تسويق فكرة "أن يكونا ملكين" على آدم وزوجه والله قد أسجد لهما الملائكة أجمعين؟
رأينا: نعم ذلك ممكن بشرط أن نميز بين لفظة "ملكين" (التي استخدمها الشيطان للإيقاع بآدم وزوجه في شراكه) ولفظة "الملائكة" (الذين طلب الله منهم السجود لآدم)، فلقد خلط العامة (مدفوعين بتأويلات أهل العلم) بين هذه الألفاظ المتقاربة، فظن الغالبية العظمى منهم أن لفظة "ملكين" التي ذكرها الشيطان لآدم ربما تكون مشتقة من لفظة الملائكة، وهذا – في رأينا- أبعد ما يكون عن الحقيقة، وذلك لسبب بسيط وهو أن الذين طُلب منهم السجود لآدم هم الملائكة، لذا يستحيل – نحن نفتري الظن- أن يتقبل آدم فكرة أن يصبح من الملائكة وهم قد أمر للتو بالسجود له. فما الحل؟
رأينا:  لو التزمنا بمفردات النص كما هي لوجدنا أن الخروج من هذا المأزق ربما يكون سهلا ميسرا، بحول الله وتوفيقه.
أما بعد،
لقد سوق إبليس لآدم وزوجه فكرة أن يكونا ملكين، وكفى. لذا نحن ندعو إلى التميز بين الملائكة وبين صنف آخر كان آدم وزوجه يطمعان أن يكونا منهما وهم في نظرنا "المَلَك"
نتيجة مفتراة: نحن ندعو إلى التميز بين الملائكة (ومفردها ملك) والمَلَك (ومفردها مَلَك أيضاً)
ما معنى أن تكونا مَلَكين؟ ومن هو المَلَك؟
رأينا: الملك (مفرد ملائكة) هو الذي يفعل ما يؤمر ويمكن أن يحمل الرسالة:
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
ولكن هناك أيضاً المَلَك (جمع) ومفرده "مَلَك" أيضاً هو الذي يملك:
الدليل: هناك فرق بين الملائكة (جمع) والمَلَك (جمع)
                         الملائكة
                     المَلَك
  • هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
  • وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
  • فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
  • إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
  • جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
  • فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
  • اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
  • وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)


  • وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)


  • وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ (26)

  • وهم جميعاً من أهل السماء:
    وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
    فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
    وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
    قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
    وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ (26)

    وقد جاء الفصل واضحاً بين الملائكة والروح:
    تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
    يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
    تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
    وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
    رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)

    تبعات الفصل بين الملك والملائكة
    افتراء من عند أنفسنا (1): نحن نعتقد أن الذي سجد لآدم هم الملائكة ولكن الله لم يطلب من "المَلَك" السجود لآدم، فلو تدبرنا جميع آيات السجود الأول لآدم لوجدنا أن الله قد وجه الأمر بذلك إلى الملائكة فقط:
    فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) الحجر
    فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) ص

    الفرق بين المَلَك (بفتح اللام) والمَلِك (بكسر اللام)
    افتراء من عند أنفسنا (2): الملائكة والملك (بفتح اللام) هم جميعاً من أهل السماء أما الملك (بكسر اللام) فهو من أهل الأرض (مَلِك: بكسر اللام): فهناك في السماء مَلَك (الجمع مَلَك) وهناك في الأرض.مَلِك (الجمع ملوك)
    الدليل: ملك داوود وولده سليمان
    لقد طلب الملأ من بني إسرائيل من نبي لهم أن يبعث لهم مَلِكا (بكسر اللام)، فكان ذلك من نصيب طالوت:
    أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
    وما هي إلا فترة زمنية بسيطة حتى انتقل الملك إلى داوود
    فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
    اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
    وقد ورث سليمان ملك والده:
    وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
    ولم يتوقف عند ذلك بل طلب من ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فكانت الاستجابة الربانية مباشرة:
    وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
    وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
    وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

    فالمَلِك هو من البشر كحالة ملك مصر في زمن يوسف:
    وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا
    أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
    وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
    وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
    قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
    فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
    أو كحالة طالوت:
    وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
    أو كذلك الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا:
    أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)

    وأما المَلَك (بفتح اللام) فهو من أهل السماء:
    وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
    لذا فقد نفى محمد عن نفسه أن يكون مَلَكاً
    قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
    وقد نفى نوح عن نفسه تلك الصفة:
    وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
    لكن نساء مصر رأين في يوسف تلك الصفة:
    فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
    ولو دققنا جيداً في قول نساء مصر لوجدنا أن الملك (بفتح اللام) لا يكون من البشر:
    وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
    وقد حصل ليوسف شيء من الملك الأرضي:
    رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
    والملك الذي يحكم قد يكون عادلاً في حكمه كما كان ملك مصر زمن يوسف، وكما كانت المرأة التي حكمت قومها زمن سليمان:
    إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
    نتيجة سنحتاج إليها لاحقاً: الملك هو صاحب العرش
    وقد يكون مستبداً ظالماً يأخذ السلطة بالقوة:
    أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
    وليس أدلّ على ذلك من ملك فرعون:
    وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
    أو ذلك الملك الظالم الذي حاج إبراهيم في ربه:
    أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ َأْتِب ِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
    والمَلِك (بكسر اللام) تجمع على نحو " ملوك" كما في قصة من يسميها أهل العم "بلقيس":
    قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
    ولكن المَلَك (بفتح اللام) تجمع على مَلَك وعلى ملائكة:
    قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
    وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
    وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
    أما الله فهو الملك الحق
    فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
    فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

    المفرد

    الجمع

    مَلَك
    وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
    ملائكة
    قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا
    مَلَك
    وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
    مَلَك
    وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
    مَلِك
    أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
    ملوك
    قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ





    تساؤلات: من الذي سجد لآدم؟ هل سجد جبريل مثلاً لآدم؟ هل سجد ميكال لآدم؟ هل أمر الله هؤلاء "الملكين" مثلاً بالسجود لآدم؟
    هذا ما سنناقشه في مقالة خاصة بالملائكة، لكن يكفينا أن نذكّر القارئ الكريم بضرورة التمييز بين المجموعات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة التالية:
    مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
    إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ (4)
    افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم القول أن هناك فرق بين مجموع الملائكة الذين أُمروا بالسجود لآدم والمَلَك الذين كان آدم وزوجه يطمعان أن يكونا مثلهما، وقد جاءت مكيدة الشيطان من هذا الباب، فقد كان الشيطان يحاول إقناع آدم وزوجه بأن الأكل من تلك الشجرة يمكن أن ينتهي بهما إلى أن يكونا ملكين، ولكن من هم؟
    افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الملكين الذين كان يتمنى آدم وزوجه أن يصبحا مثلهما لحظة الأكل من الشجرة هما "كجبريل وميكال"، ولكن لماذا؟

    الدليل
    جاء في النص القرآني فصلاً واضحاً بين مجموع الملائكة من جهة و جبريل وميكال من جهة أخرى في قوله تعالى:
    مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
    فلو أمعنا التفكير في هذه الآية الكريمة لوجدنا الفصل واضحاً بين الملائكة من جهة وجبريل وميكال من جهة أخرى، فلو كان جبريل وميكال جزء من الملائكة لما كان هناك ضرورة لذكرهما، ولو كان الهدف – كما يظن البعض- هو للتخصيص لربما ورد ذكرهما مباشرة بعد ذكر الملائكة، ولكن لو دققنا جيداً في الترتيب كما يرد في الآية الكريمة نفسها لوجدنا أن الملائكة مفصولين عن جبريل وميكال بمفردة "وَرُسُلِهِ"، فتصبح الآية الكريمة تتحدث عن ثلاثة مجموعات على الترتيب التالي:
    • الملائكة " وَمَلَائِكَتِهِ"
    • الرسل " وَرُسُلِهِ"
    • "وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ" (وهم من نظن أنهم من المَلَك الذين سيكونون صفاً صفاً وليس الملائكة الذي سيكونون حافين من حول العرش)
    سؤال: لماذا ذكر الشيطان لآدم وزوجه بأن الأكل من الشجرة سيجعلهما "مَلَكَيْنِ"؟
    إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
    سؤال: لماذا لم يطلب آدم وزوجه توضيحاً من الشيطان عن طبيعة وشكل وهيئة وتركيبة هذين الملكين؟ أيعقل أن يتقبل آدم وزوجه أن يصبحا ملكين وهم لا يعلمون كيف هم؟
    رأينا: كلا وألف كلا، لم يكن آدم وزوجه ليتقبلوا فكرة أن يكونا ملكين لو لم يكونا على علم كيف هم الملكين فعلاً؟
    لذا، نحن نزعم الظن بأن عدم نقاش آدم الفكرة مع الشيطان وعدم طلب توضيحات أضافية يجعلنا نميل إلى الاعتقاد اليقيني بأن آدم وزوجه يعلمان ماهية هذين المَلَكين اللذين يتمنيان أن يكونا مثلهما، فمن هم هذان الملكان؟
    رأينا: يميل الظن عندنا إلى الاعتقاد بأن هذين الملكين هما "جبريل وميكال"
    افتراء خطير جداً من عند أنفسنا نرجو أن لا تصدقوه: نحن نزعم الظن بأن علاقة جبريل بميكال تشبه تماما علاقة آدم بزوجه قبل الخروج من الجنة (وهنا يجب أن لا يطير ذهن الناس إلى العلاقة الجنسية فقط) ولكن ما نقصد فهي علاقة الأزواج ببعضها، لذا نحن نفتري الظن بأن "جبريل وميكال" هما زوجان تماماً كحالة آدم وزوجه قبل الخروج والهبوط من الجنة (أي قبل أن يتمكن الشيطان من أن ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما)، ولكن أين الدليل على ذلك؟
    جواب: نحن نزعم أن الدليل موجود في قوله تعالى:
    وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الذاريات (49)
    فمادام أن جبريل هو شيء (بغض النظر عن ماهيته) فلا بد أن يكون له زوج، ونحن نفتري القول بأن ميكال زوج جبريل. وأن جبريل هو زوج ميكال.
    سؤال: ماذا عن الله؟ إن صح قولك – يقول صاحبنا- أليس الله شيء، فأين زوجه؟
    رأينا: لنقرأ كيف يرد الله في كتابه الذي لم يفرّط فيه من شيء على سؤال كهذا:
    فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الشورى (11)
    انظر – عزيزي السائل- كيف تتحدث الآية الكريمة عن الأزواج (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا)، وكيف تتحدث عن كيفية العلاقة بين الأزواج (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) وكيف تردّ الآية الكريمة نفسها في الوقت ذاته عن الله (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تهمة التزاوج  (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

    أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
    ولكن هناك سيناريو آخر قدمه الشيطان لآدم وزوجه وهو أن يكونا من الخالدين:
    وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
    فبعد أن تحدثنا عن الخيار الأول (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) ننطلق الآن للخوض والتخريص في الخيار الثاني (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)
    أما بعد،
    أكد الشيطان فكرة الخلود هذه (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) في سياق قرآني آخر، حيث جاء في كتاب الله:
    فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (120)
    وقبل المضي قدماً في هذا النقاش لابد من إثارة تساؤل آخر وهو: لماذا قدّم الشيطان الأمر إلى آدم بصيغة "إلا أن... أو..."؟ لماذا قدم لهما خيارين وليس خياراً واحداً؟
    وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
    رأينا: يمكننا أن نفهم مثل هذا النوع من الخطاب عندما نضعه في سياقه الأوسع ونستذكر كيفية مخاطبة الله لإبليس لحظة أن رفض السجود لآدم:
    قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
    وعندما جاء رد إبليس على سؤال ربه أكد واحدة من هذين الخيارين، وليس الخيارين معاً:
    قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
    (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان هل لعلم الله حدود؟)

    لذا عندما نعود إلى خطاب الشيطان مع آدم وزوجه نجد أن الشيطان يظن (غير كاذب) أن الأكل من الشجرة يمكن أن تكون نتيجته واحدة من اثنتين: إما أن يصبح آدم وزوجه مَلَكين (على حالة جبريل وميكال) أو أن يكونا من الخالدين. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود سياق قرآني آخر ربما يفهم منه أن الشيطان كان يرجح فكرة الخلود:
    فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (120)
    وهنا يقدم آدم على التجربة ليرى ما ستؤول إليه الأمور، فهل سيصبح آدم وزوجه ملَكين أم سيكونا من الخالدين؟
    رأينا: لقد أصبح آدم وزوجه من الخالدين عندما أكلا من الشجرة.
    سؤال: وكيف ذلك؟ ألم ينتهي الأمر بآدم وزوجه بالموت؟ فهل أصبحا فعلاً من الخالدين كما تزعم؟
    رأينا: نعم، لقد أصبح آدم وزوجه من الخالدين بالرغم من وقوع الموت عليهما. ولكن كيف؟
    لنستذكر القصة مرة أخرى
    أما بعد،
    اختار آدم وزوجه أن يأكلا من شجرة الخلد التي دلّهما الشيطان عليها:
    فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
    فالشيطان كان قد دلّ آدم على شجرة الخلد:
    قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ
    فكانت النتيجة أنه دلّاهما بغرور:
    فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ
    فأنت عندما تدلّ شخصا ما على شي، ما أو مكان ما، فإن جلّ ما يمكن أن تفعله هو أن تأخذ بيده إليه:
    فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
    إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)
    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
    فالشيطان أخذ بيد آدم وزوجه ودلّاهما على شجرة الخلد، فكان النتيجة أن غرر بهم، فأوقعهم في شراكه:
    يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
    وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
    قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِنْهُ ۚ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
    يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
    فالشيطان كان قد وعد آدم وزوجه ومنّاهم، فلم يكن وعد الشيطان وأمانيه أكثر من الغرور (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
    الفرق بين وعد الله ووعد الشيطان:
    ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
    وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
    فالله يعدكم وعد الحق (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) ولكن وعد الشيطان ليس أكثر من الغرور (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، ويكون هدف الشيطان هو أن يخلفهم (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)

    قصة آدم الأولى: صراع بين وعد الله ووعد الشيطان
    سؤال: ماذا وعد الله آدم؟
    جواب: لقد وعد الله آدم بالخلافة على الأرض:
    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ البقرة (30))
    سؤال: وماذا وعد الشيطان آدم؟
    جواب: لقد وعد الشيطان آدم بالخلد على الأرض
    وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
    سؤال: ماذا اختار آدم؟
    جواب: لقد اختار آدم الخلد إلى الأرض بدلاً من خلافة الأرض.

    ما الفرق بين الخلافة والخلد؟
    هذا هو الهدف الذي جهدنا للوصول إليه: إنه التمييز بين خلافة الأرض والخلد على الأرض، لذا نحن نقدم الافتراء التالي:
    افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن هناك فرق كبير بين أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض وأن يكون الإنسان مخلداً على الأرض، ولنرجع إلى قصة الخلق الأولى لنتدبرها مرة أخرى من هذا المنظور
    أما بعد،
    يتخذ الله قراره بأن يجعل على الأرض خليفة ويخبر الملائكة بذلك:
    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
    فيعلّم الله آدم الأسماء كلها ويعرضهم على الملائكة لينبئهم بأسمائهم، فيقر الملائكة أجمعون بعلم الله الذي لا يعلمونه هم:
    وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
    فيأمر الملائكة (وليس المَلَك) بالسجود لآدم، فيذعنون للأمر الإلهي ويتخلف إبليس عن قبول الأمر الإلهي لاستكباره:
    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
    فيصدر الأمر الإلهي لآدم وزوجه بالسكن في الجنة على أساس مبدأ الخلافة:
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
    ولما كانت الحياة في الجنة خلافة، كانت على النحو التالي:
    إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119)
    ويأتي التحذير الإلهي لآدم وزوجة بعاقبة مخالفتهم الأمر والانصياع لأمر عدوهما الشيطان:
    فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117)
    فالخروج من الجنة تعني الشقاء ممثلاً بالجوع والعري والظمأ والضحى:
    ما معنى الضحى
    ربما لا يختلف الكثيرون في معنى الجوع والظمأ والعري ولكن غالباً ما أشكل على الناس معنى الضحى الذي يرد في هذا السياق القرآني، لذا نحن ندعو إلى الوصول إلى مثل هذه المعاني بطريقة التقابل، ولكن كيف؟
    إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118)
    وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ
    فالجوع (من قلة الطعام) يقابله الظمأ (من قلة الماء):
    وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
    والعري (الذي يؤدي إلى التأثر بالبرودة) يقابله الضحى (الذي يؤدي إلى التأثر بالحرارة)
    لذا فإن حياة آدم وزوجه في الجنة (على أساس الخلافة) لم يكن فيها شقاء لأنهما لم يكونا يتأثران بعوامل الطقس المحيطة من البرد والحرارة والجوع والظمأ، ولكن بعد الخروج من الجنة أصبحت حياتهم تتأثر بعوامل المناخ، فأصبحت حياة ملئها الضحى (الحر) والعري (البرد) والجوع (قلة الطعام) والظمأ (ندرة الشراب)، ولكن لماذا؟
    رأينا: لأن الشيطان كانت تلك هي غايته، فنيته كان مبيتة في أن ينزع عنهما لباسهما لتبين لهما سوآتهما:
    يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
    وتأتي المفاجأة بانصياع آدم وراء وعد الشيطان، مخالفا في الوقت ذاته الأمر الإلهي له ولزوجه بعدم الاقتراب من الشجرة:
    فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)
    نتيجة مفتراة: تدلنا السياقات القرآنية السابقة – كما نفهمها نحن- أن آدم قد اختار الخلد مع الشقاء بدلاً من الخلافة مع عدم الشقاء
    الفرق بين الخلافة والخلد
    سنحاول التعرض لهذه الجزئية بطرح سؤال غريب جداً قلّما تناوله أهل العلم والدراية وهو: لم لم تتحصل لآدم وزوجه الذرية وهما في الجنة (قبل الهبوط)؟ ألم يسكنا الجنة قسطاً من الزمن؟ لم خرج آدم من الجنة مع زوجته دون ذرية؟ ألم يحصل التلاق الجنسي (المودّة) بين آدم وزوجه قبل الأكل من الشجرة؟ وإن حصل تلاق جنسي بينهما فكيف كانت طريقته وهما لا يزالان يلبسان ما يواري سوآتهما؟ ولم تحصّلت لآدم وزوجه الذرية بعد أن أخرجهما الشيطان من الجنة وهبطا منها بأمر رباني؟
    جواب ظنّي: لأن آدم وزوجه قبل الوقوع في المعصية كان عليهما لباس (ولا أعرف كيف يمكن أن يتم التواصل الجنسي بين آدم وزوجه وهما يلبسان)، ولكن ما أن أكلا من الشجرة حتى تمكن الشيطان من أن ينزع عنهما لباسهما، فتبين لهما سوآتهما:
    يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
    وهنا تبدأ قصة العلاقة الجنسية التقليدية التي أصبح البشر يمارسونها منذ تلك اللحظة. وهو ما كان – في رأينا- سبب الخلد. ولكن كيف؟
    أما بعد،
    رأينا: ذلك هو الخلد (إنه الذرية بطريقة التلاق الجنسي الذي نعرفه نحن البشر)، فنحن نفتري القول أنه لو بقي آدم وزوجه يسكنان الجنة على مبدأ الخلافة لما تحصلت لهم الذرية بالطريقة التي نعرفها وهي التلاق الجنسي (ما دام أنّ لباسهما لم ينزع عنهما بعد)، لأنّ الحياة في الجنة (على مبدأ الخلافة) حياة لا شقاء فيها، ولكن كيف؟
    للإجابة على هذا السؤال لابد من طرح سؤال آخر وهو: ما سبب شقاء الإنسان على الأرض؟ لماذا نشقى نحن البشر على الأرض؟ أليست الذرية هي سبب الشقاء؟ لم يتعب الأب (وربما ينسى نفسه) في تحصيل قوت أولاده؟ ولم تسهر الأم (وتترك النوم حتى وإن كانت في أمس الحاجة له) للسهر على راحة أطفالها؟ ولم نكدّ ونجتهد على الأرض؟ وماذا لو انشغل كل منا بنفسه؟ ولنعقد مقارنة بين حياة البشر وحياة الشجر مثلاً؟ فهل يتعب الشجر (مثلاً) ليقوم على خدمة بعضه البعض؟ هل تترك الشجرة الأم عذاءها للشجيرات التي تنمو بجانبها؟ هل يأبه الشجر ببعضه البعض؟ ولكن لماذا؟
    رأينا: لأن الشجر لا يتكاثر بطريقة الخلد. إن ما يهم الشجرة هو الحصول على ما تريد دون الانتباه إلى حاجة الآخرين، فلا أظن أن شجرة كبيرة تحزن على فقدان شجيرة صغيرة تنمو بجنبها أو تعيش بالقرب منها (من يدري؟!). فلِمَ يحزن الإنسان (وربما يشقى) لموت عزيز أو قريب أو جار أو حتى أي إنسان آخر؟ ثم إذا كان الأمر كذلك، لم لا تستمر هذه الحالة إلى يوم القيامة؟ فما الذي سيحصل يوم القيامة؟
    يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
    فما بال الأم التي كانت لا تتردد بأن تلقي بنفسها في النار في الحياة الدنيا لتنقذ طفلها تهرب اليوم بنفسها غير آبهة بما سيحل بأولادها؟ وما بال الأب الذي كان يتمنى الموت قبل أن يموت ولده لا يفعل ذلك في يوم القيامة؟
    لقد درج الفكر السائد إلى إفهامنا بأن ذلك ناجم عن هول المشهد. ولكننا لا نتردد أن نتبع السؤال بالسؤال: كيف ستتلذذ الأم التي ستدخل الجنة وهي تعلم أن أبناءها يصطرخون في النار؟ كيف ستتنعم أنت عزيزي القارئ  بخيرات الجنة وأنت تعلم أن طعام والديك من غسلين؟ وكيف ستتمتع بنعيم الجنة وأنت على علم بأن إخوانا لك يأكلون من شجر الزقوم؟ وكيف سيجد نبي الله إبراهيم الحياة في الجنة ممتعة ووالده لا محالة هالك في النار؟ وهكذا.
    رأينا: لأن الحياة في الجنة مبنية على الخلافة وليست على أساس الخلد. ولكن كيف؟
    افتراء من عند أنفسنا: إن الحياة المبنية على الخلافة لا يكون التكاثر فيها بطريقة الأنساب، فليس هناك أب وليس هناك أم ولا أخ ولا أخت ولا عم ولا قريب ولا بعيد. وذلك لأن التكاثر يكون بطريقة غير طريقة الأنساب، فحن سنخرج من الأرض للقاء ربنا في يوم الفزع الأكبر كما تخرج النباتات من الأرض:
    يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
    (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا يدفن الناس موتاهم؟)
    لذا تنتفي علاقة النسب بين البشر، وهذا واضح بنص القرآن الكريم:
    فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
    والحالة كذلك، تعود الحياة مرة أخرى لتكون مبنية على مبدأ الخلافة التي لا شقاء فيها من جديد، ولكن كيف؟
    مثال. لو أنت أخذت غصناً من شجرة وقمت بزراعته،ـ ونبت ذاك الغصن شجرة جديدة فما العلاقة بين الشجرة الأم والشجرة الجديدة؟
    جواب: لا تكون العلاقة بين الشجرة القديمة والشجرة الجديدة علاقة أم بابنتها، فهذه شجرة وتلك شجرة، ولو أنت قطعت الشجرة القديمة فلن يكون ذلك سبباً في شقاء الشجرة الجديدة (بل على العكس فذلك يجلب الفائدة للشجرة الجديدة) ولن تحزن الشجرة القديمة لو لم يحالف الشجرة الجديدة الحظ في الحياة.
    رأينا: لو بقي آدم يعيش في الجنة على مبدأ الخلافة لكان مبدأ التكاثر في الجنة لا يختلف كثيراً عن مثال تكاثر الشجر في الحياة الدنيا، ولنمعن التفكر في الآية الكريمة التالية التي ستشكل مفصلاً مهماً في بحثنا هذا لما سيترتب عليها من عقائد بعد قليل بحول الله وتوفيقه، مركزين على التسلسل في الأحداث:
    وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الأعراف (11)
    ولكن لمّا اختار آدم أن يأكل من الشجرة كانت الحياة على الأرض حياة خلد (أنساب) وليس حياة خلافة (بلا أنساب).
    ولا يظنن أحد بأن هذا هو اختار آدم وحده، فلقد اختار كثير من أنبياء الله الذرية، فلقد اختار إبراهيم الذرية واختار زكريا الذرية بالرغم من يقينه بأن الله هو خير الوارثين:
    وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ الأنبياء (89)
    وها نحن (البشر جميعاً) ننفق الأموال الكثيرة في الذهاب إلى الطبيب لو كان الإنسان عقيماً لا ينجب، وما أن ينجب حتى تبدأ حياته لتكون مليئة بالشقاء والتعب. نعم يختار الإنسان الشقاء مع الخلد على الخلافة مع عدم الشقاء، حباً في الخلد (الأنساب). ولكن ما الدليل على مثل هذا التخريص؟
    أما بعد،
    نحن نظن أننا بحاجة أن نقدم بعض الآيات الكريمة معاً لنرى كيف يمكن أن نحل الإشكال في التضارب الظاهر بين ما تقدمه كل آية لوحدها، والآيات الكريمة هي:
    1. وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الأعراف (11)
    2. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)
    3. أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
    4. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
    تساؤلات حول ما جاء في هذه الآيات الكريمة
    دقق – عزيزي القارئ- جيداً في ما تقدمه هذا الآيات الكريمة عندما توضع جنباً إلى جنب لنتدبرها معاً، ألا تثير تساؤلات لديك كالتساؤلات التالية:
    • كيف أن الله قد خلقنا ثم صورنا ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم؟ هل فعلاً تم خلقنا وتصويرنا قبل أن يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟
    • وكيف بالله يأخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ويشهدهم على أنفسهم بأنه هو ربنا؟ وكيف لنا أن نقرّ بتلك الربوبية لتكون حجة لله علينا في يوم القيامة؟ هل يذكر أحد منا ذلك الموقف؟
    • وكيف بالله يطلب منّا أن نتذكر أنه قد خلقنا من قبل؟ ومتى كان ذلك الخلق؟
    • وكيف بعد كل ذلك كله يقر الله في كتابه العزيز أنه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً؟

    للإجابة على هذه التساؤلات فإننا نقدم الافتراءات التالية محاولين الخروج من التناقضات الظاهرة التي يمكن أن تدخل في الأذهان متى جلبت الآيات الكريمة معاً:
    أولاً، لقد تم خلقنا وتصويرنا جميعاً قبل أن يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم ومصداق ذلك التسلسل الزمني الذي تصوره الآية الكريمة التالية:
    وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الأعراف (11)
    ثانياً: تم إيداعنا كذرية في ظهر آدم مرة واحدة وللأبد:
    وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)
    ثالثاً: أصبحت تلك الذرية تتناقل في ظهور بني آدم:
    وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)
    رابعاً: كانت تلك الذرية خلقاً كاملاً يحمل كل الصفات الوراثة لآدم، لذا لو بقيت الحياة تقوم على مبدأ الخلافة لكنا جميعاً خليفة لآدم وما كنّا لنصبح ذرية لآدم (فهناك فرق كبير بين أن تكون خليفة أو أن تكون ذرية وهو ما سنتعرض له بعد قليل):
    أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)
    خامساً: عندما تحولت الحياة لتبنى على مبدأ الخلد انتقل الخلق جميعاً من ظهور آباءهم (آدم) إلى بطون أمهاتهم (حواء).
    سادساً: كان نتيجة تلك المرحلة (المكوث تسعة أشهر في بطون أمهاتنا) أن نسي الإنسان خلقه الأول، فخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً:
    وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
    افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأن دخول الإنسان إلى بطن أمه بعد أن كان متواجداً كخلق كامل في ظهر أبيه هو سبب نسيانه خلقه الأول، ففترة التسعة أشهر الذي يقضيها المخلوق في بطن أمه تكون كافية لأن تمسح من ذاكرته كل العلم الذي تلقاه في بداية الخلق يوم أن خلقهم الله جميعاً وصوّرهم وأودعهم في ظهر آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم. وأشهدهم على أنفسهم، وهو ما جعل ذلك المخلوق يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً:
    وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا
    فالنص القرآني يتحدث عن مرحلة خروج الإنسان من بطن أمه ليكون في حالة "انعدام العلم" (لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، ولكن هذا التصور يثير لدينا التساؤل التالي: كيف كانت "حالة العلم" لديه قبل أن يدخل في بطن أمه؟
    رأينا: نحن نفتري الظن أنه عندما يكون الإنسان متواجداً في ظهر أبيه يكون على علم بقصة خلقه الأول وشهادته على نفسه، ويكون متذكراً تماماً لما حصل له في قصة خلقه الأولى:
    وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الأعراف (11)
    وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)
    أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
    ولكن عندما ينتقل ذلك المخلوق من ظهر أبيه إلى بطن أمه تبدأ قصة "التجهيل" (لنقل تجاوزاً)، وما أن يخرج من بطن أمه حتى تكون تلك الذاكرة قد مسحت تماماً، فيخرج في حالة "انعدام العلم":
    وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
    ويكون سبب ذلك هو ما يمر ذلك المخلوق فيه وهو في بطن أمه:
    خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (6)

    خروج الإنسان إلى الحياة: صراع بين الخلافة والوراثة
    الوراثة هي أن يرث الابن والده:
    وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
    وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
    أما الخلافة: فهي أن يرث الإنسان إنسان آخر (غير وراثة الابن لوالده):
    وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
    يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
    فبالرغم أن سليمان قد تحصل له الملك وراثة من والده (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) انتقل الأمر إلى داوود في البداية من طالوت، فكان ذلك خلافة (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً). فأبو بكر هو خليفة للنبي محمد وعمر خليفة لأبي بكر وهكذا.
    نتيجة مفتراة: نحن نفتري القول بأنه في يحين أن الله قد اختار للإنسان حياته على الأرض لتكون خلافةً، فضل الإنسان (آدم) بنفسه خيار الخلد (الوراثة) فاختلفت الآلية التي سيخرج بها الخلق جميعاً إلى الحياة، ولكن كيف؟

    تخيلات من عند أنفسنا عن حياة الخلافة
    لو بقيت الحياة تسير على مبدأ الخلافة كما اختارها الله للإنسان، لربما لم يكن هناك علاقة الأنساب التي نعرفها اليوم، ولربما كنّا نتصور خروج الإنسان إلى الحياة على النحو التالي:
    • الله يخلق الخلق جميعاً من تراب مرة واحة، فيصورهم، ويستودعهم في ظهر آدم، ويأمر الملائكة بالسجود لآدم.
    • لا يلتفت آدم إلى نصيحة الشيطان ويبقى على عهد ربه،
    • لا يتم نزع اللباس عن آدم وزوجه،
    • لا تبدى لهما سوآتهما،
    • لا يحصل التلاق الجنسي بين آدم وحواء (ما دام أنهما لا يزالان يلبسان عليهما)،
    • لا ينتقل الخلق من ظهر آدم إلى بطن حواء،
    • يخرج الإنسان إلى الحياة مباشرة من ظهر آدم،
    • لا يحصل النسيان للخلق الأول،
    • ما أن يخرج ذلك المخلوق حتى يكون نسخة طبق الأصل لآدم، لدية العلم التام الذي كان آدم قد حصل عليه من ربه،
    • لا يحتاج ذلك المخلوق إلى رعاية من غيره مادام أن لدية العلم بذلك،
    • لا يحتاج آدم وزوجه أن يقوما على رعاية ذلك المخلوق الجديد مادام أنه يستطيع الاعتناء بنفسه بما لديه من علم،
    • سيبقى ذلك المخلوق متذكراً لقصة خلقه الأولى وسيبقى على عهده الأول مع ربه. وسيكون منقاداً إلى ربه دون الحاجة إلى من يرشده.
    الشاهد على هذا الظن
    لو راقبنا سلوكيات بعض الكائنات الحية الأخرى لوجدنا في بعضها العجب، فها هي السلاحف البحرية – مثلاً- تخرج من البحر في وقت معين من العام لتضع بيضها على الشاطئ وتعود على الفور إلى المياه، وما هي إلا فترة قصيرة حتى يبدأ ذلك البيض بالتفقيس، وما أن تخرج تلك المخلوقات الجديدة من بيضها حتى تبدأ رحلتها في الحياة على خطى والدتها، فتنطلق إلى البحر لتعود بدورة الحياة من جديد. إن ما يهمنا في مثل هذا التصرف من قبل بعض الكائنات الحية هو القول بأن السلاحف الجديدة لم تتلقى تدريباً على الحياة من قبل والدتها الأم، ولم ترعى الأم صغارها ولم تقم على خدمتها، ولكن بالرغم من ذلك، فالمخلوقات الجديدة تتصرف بالضبط كما فعلت والدتها، فمن الذي علمها يا ترى؟ وكيف اكتسبت تلك المعرفة؟
    رأينا: تلك هي حياة الخلافة.
    لذا نحن نظن أنه لو بقيت الحياة على الأرض تسير على مبدأ الخلافة لكانت حياة البشر على الأرض أشبه بحياة تلك السلاحف، تخرج "ما يسميه أهل العلم المحدثين بـ "الحيوانات المنوية" من ظهر آدم مباشرة، تتكاثر لوحدها، لا تحتاج إلى تدريب، ولا تحتاج إلى رعاية من غيرها، لأنها تكون حينئذ على علم بما هي مخلوقة من أجله وهو أن تشهد لخالقها بالربوبية:
    وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)
    فما أن يخرج ذلك المخلوق من ظهر والده ويكبر إلا ويكون لا زال على عهده الأول بأن الله هو خالقه وهو ربه، ولا يمكن أن يحيد عن تلك الشاكلة، فتكون الحياة على الأرض حياة أشبه بحياة الجنة.

    حقائق عن حياة الوراثة
    لكن – بالمقابل- عندما آثر آدم أن يتبع نصيحة الشيطان وأقدم مع زوجه على الأكل من الشجرة، تمكن الشيطان من أن ينزع عنهما لباسهما
    • ما أن نزع عن آدم وزوجه لباسهما حتى بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة،
    • صدر الأمر الإلهي لآدم وزوجه بالهبوط من الجنة،
    • هبط آدم وزوجه من الجنة منزوع عنهما لباسهما،
    • حصل التلاق الجنسي بين آدم وزوجه،
    • انتقل ما كان يحمل آدم في ظهره من الذرية إلى بطن حواء،
    • مكث ذلك المخلوق تسعة أشهر في بطن أمه،
    • كان خلال تلك الفترة في ظلمات ثلاث،
    • أدى ذلك به أن ينسى خلقه الأول،
    • خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً،
    • كان نتيجة لذلك بحاجة إلى من يأخذ بيده ليدلّه كيف يعيش على هذه الأرض،
    • أصبحت العلاقة بين ذلك المخلوق ووالده ووالدته علاقة نسب،
    • تكفل الأم والأب برعاية ولدهما حتى يكبر،
    • نشأت علاقة وراثة بين الوالدين والمولود،
    • نسي ذلك المخلوق عهده الأول الذي قطعه على نفسه مع ربه،
    • كان نتيجة لذلك بحاجة إلى من يرشده إلى ربه،
    • لما كانت المعلومة تتحصل له من قبل البشر لم يأخذها بجدية تامة،
    • اختلف الخلق في طريقة تقبلهم لرسالة أنبياءهم.

    تساؤلات وقحة
    مادام أن الإنسان يخلق من حيوان منوي واحد من السائل الذي يودعه الرجل في رحم المرأة، فلم هناك مليارات "الحيوانات المنوية" في ذلك السائل؟ لم لا تتاح لجميعهم فرصة الحياة مرة واحدة؟ وهنا قد ينبري الجميع بالرد: وكيف يستطيع بطن المرأة تحمل ذلك؟
    نقول هذا صحيح لا يستطيع بطن المرأة تحمل ذلك، لكن للنظر إلى الأمر بطريقة ثانية: ألا يكفي أن يكون هناك حيوان منوي واحد فقط في سائل الرجل؟ لم كل ذلك الزحام؟ فما الحاجة إلى مليارات الحيوانات المنوية في سائل الرجل الواحد مادام أن الحياة تنشأ من حيوان منوي واحد فقط؟
    رأينا: أولئك هم الذرية الذين أودعهم الله في ظهور آبائهم وأشهدهم على أنفسهم. إنهم يحملون جميع المعلومات البشرية التي اختطها الله عليهم كبشر، وهم جميعاً يتنافسون في الخروج إلى الحياة، لكن لما حصل أن مكث من استطاع أن يأخذ فرصته في القدوم إلى الحياة  تسعة أشهر في بطون أمهاتهم ولم يخرجوا إلى الحياة من ظهور آبائهم مباشرة، كان ذلك سبباً كافياً للنسيان وضياع العلم، وتلك – في رأينا- هي الإشكالية التي وضعنا بها آدم يوم أن تقبل نصيحة الشيطان وأكل من الشجرة.
    فلو خرجنا من ظهر آدم مباشرة دون الحاجة إلى الانتقال والمكوث في بطن حواء، لخرجنا نشهد لله بربوبيته لنا، ولما كنّا قد اختلفنا في ذلك في الحياة على الأرض، ولبقيت الأرض جنة كما أرادها الله لنا. ولكن لمّا أكل آدم من الشجرة وبدت له ولزوجه سوآتهما وحصل التلاق الجنسي الذي نعرف بينهما، كان لزاماً أن يودع آدم تلك الذرية التي يحملها في ظهره في بطن حواء مرة واحدة، وبقيت تلك الذرية تنتقل في ظهور بني آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
    افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن المخلوق الذي مر بتلك التجربة وهي الانتقال من ظهر والده إلى بطن أمه هو من حصل له فعل النسيان، ولكن المخلوق الذي لم يمر بتلك التجربة فقد بقي على عهده الأول فلم ينسي ما عاهد ربه عليه، وليس أدل على ذلك من خلق عيسى بن مريم. فهو لم يمر بتجربة الانتقال تلكـ لذا كان قد تكلم منذ يومه الأول وكان أول ما لفظ هو:
    قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
    وسنتعرض بالتفصيل لتبعات هذا الظن عند الحديث عن عيسى بن مريم في مقالات مستقلة بحول الله وتوفيقه.

    اسأل الله أن نعلم منه ما لا تعلمون، ونسأله تعالى أن يؤتينا علماً من لدنه لا ينبغي لأحد من بعدنا إنه هو العليم الحكيم

    المدكرون: رشيد سليم الجراح
    علي محمود سالم الشرمان

    بقلم: د. رشيد الجراح
    مركز اللغات
    جامعة اليرموك
    الأردن