هل فعلاً وسوس إبليس لأدم؟


نتعرض في هذه المقالة إلى السؤال التالي: هل فعلاً وسوس إبليس لآدم؟
ونزعم الظن أن إبليس لم يوسوس لآدم إطلاقاً، وأن الذي فعلا وسوس لآدم وزوجه هو الشيطان، ليكون السؤال الجديد هو: 

ما الفرق بين إبليس والشيطان؟


أما بعد،



لعل من المناسب الحديث في هذا السياق أولاً عن الهبوط الذي حصل لآدم وزوجه.

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ البقرة 36
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 37
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ البقرة 38

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
الأعراف 13-24

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)


لعل الآيات السابقة جميعها تؤكد على أنّ الله أمر الجميع بالانتقال بعد المعصية، ويظهر الانتقال في صورتين وهما الهبوط والخروج، فقد أمر الله إبليس بالهبوط والخروج:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف 13

وقد أمر الله أدم وزوجه بالهبوط فقط:
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الأعراف 24

ثم جاء الأمر الإلهي للجميع بالهبوط:
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ البقرة 38

ولعل المثير للانتباه أنّ الأمر الإلهي لإبليس بالهبوط والخروج جاء مباشرة عقاباً له على رفضه السجود لآدم بطلب من ربه ورب آدم:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)الأعراف 11-13

ثم يأتي بعد ذلك الأمر الإلهي لآدم وزوجه السكن في الجنة:
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ الأعراف 19
 
وما دام الحالة كذلك، فكيف إذاً بإبليس يستطيع الوصول لآدم؟
 فآدم وزوجه يسكنون الآن الجنة وإبليس خارج مطرود منها، فهل يا ترى يستطيع إبليس دخول مكان طرده الله منه؟
 وهل يستطيع حتى أنْ يتسلل إلى مكان حرّمه الله عليه (كما ترد القصة في كثير من أمهات كتب التفاسير)؟
 فكيف حصلت إذاً الوسوسة؟
 فهل يمكن أنْ تكون الوسوسة قد حصلت عن بعد؟ 
وإذا كان كذلك فهل يعني ذلك أنّ إبليس قد طرد فقط جسدياً من الجنة بينما لا زال يستطيع النفاذ إليها بطريقة غير جسديه؟

للإجابة على هذا التساؤل لابد من الإشارة أولاً إلى
 أنّ الطرد الإلهي لإبليس جاء لشخص إبليس بمفرده، والدليل على ذلك واضح في الآية نفسها، فقد جاء الخطاب موجهاً لإبليس وحده:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف 13

ويعود إذاً السؤال الحتمي للبروز:
 كيف يمكن للوسوسة أنْ تتم وإبليس مطرود شر طرده من المكان الذي يتواجد به آدم وزوجه؟ 
ولا أخال القارىء يفترض استطاعة إبليس التسلل إلى المكان الذي طرد منه.
 ونستميح القارئ مرة أخرى العذر أنْ نقدم له تصورنا للموقف حتى وإن كان مخالفاً لما ألفه واعتاد عليه. 
إنّنا ندعي أنّ إبليس لم يوسوس لآدم قط! 
فلا يستطيع إبليس دخول الجنة (وهو المطرود منها) حتى يوسوس لآدم. 
وحتى لا ينعت القارئ الكريم هذه القراءة بالتخريف وحب الخروج عن المألوف فقط، نقدم له تصورنا للموضوع بالدليل الذي نظن أنه دامغ من القرآن الكريم.

أما بعد،
هناك ثلاث إشارات قرآنية يجب إثارتها والتنبيه لها حول هذه القضية وهي:
أولاً، 
يورد القرآن الكريم الأدلة الكثيرة في أنّ الذي رفض السجود لآدم هو إبليس،
 فلنستعرض أولاً جميع السياقات القرآنية التي تصور تلك الحادثة:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَالبقرة 34
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ الأعراف 11
فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)الحجر 30-33
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًاالإسراء 61
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًاالكهف 50
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىطه 116
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) ص 73-76

ثانياً، 
تبين السياقات القرآنية أنّ أول من طُرد وأُخرج من المكان هو إبليس نفسه:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)الأعراف 13-18
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)الحجر 34-40
قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) الإسراء 63-64
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) ص 77-78

ثالثاً، 
لا يورد القرآن الكريم في أي سياق قرآني حصول أي تلاق بين إبليس وآدم بعد الأمر الإلهي لإبليس بالسجود.
وهذه الحقائق القرآنية تثير حفيظة القارئ لطرح السؤال الرئيس الذي نجهد في محاولتنا الإجابة عليه وهو:
 كيف إذاً حصلت الوسوسة؟
رأينا: نرد بالقول أنّ ذلك واضح بشكل لا لبس فيه بنص القرآن الكريم، فالقراءة المتأنية للموقف كما تصوره صورة الأعراف ربما تثبت صحة ما نذهب إليه وهو الظن باستحالة أن يكون إبليس هو من وسوس لآدم، فلقد ذكرنا آنفاً أنّ الله سبحانه قد أمر إبليس بالهبوط والخروج عقاباً له على رفضه الأمر الإلهي بالسجود لآدم، وبعدها مباشرة أمر آدم بالسكن وزوجه الجنة، ومن ثم تحصل الوسوسة وعصيان آدم ربه، فيأتي الأمر الإلهي للجميع بالهبوط، وهذا يعني بالمنظور السابق أنّ آدم وزجه قد أمرا بالهبوط مرة واحدة بينما أمر إبليس بالهبوط مرتين: مرة بعد رفضه السجود لآدم ومرة بعد وسوسته لآدم، ولنقرأ المشهد كله كما تصوره صورة الأعراف:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الأعراف 12-24
 
فالسؤال يكون إذاً على النحو التالي: أين تلاقى إبليس مع آدم وزوجه حتى يوسوس لهما؟
افتراء من عند أنفسنا: إنّنا نزعم الظن أنّ إبليس لم يتلاقى مع آدم وزوجه بعد الأمر الإلهي الأول لإبليس بالطرد والخروج (أي بعد رفض إبليس السجود لآدم)، ولهذا فإن الظن يميل عندنا إلى الاعتقاد اليقيني بأن إبليس لم يوسوس لآدم قط. وهذا بالضرورة يقودنا إلى السؤال الأكثر إثارة وهو: كيف إذاً حصلت الوسوسة؟
رأينا: إنّ القراءة المتأنية للمشهد تظهر أنّ القرآن الكريم جاء في غاية الدقة والروعة ليجيب على هذا التساؤل، فلنقرأ معاً الآية التي تحدثت عن الوسوسة كما وردت في سورة الأعراف التي تصور الموقف أجمل وأدق تصوير:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
لعل القارئ الكريم قد أدرك ما نجهد أنفسنا الوصول إليه وهو الافتراء التالي:
 إنّ الذي وسوس لآدم هو الشيطان (وليس إبليس).
 وقد يرد البعض على الفور بالقول وهل هناك فرق؟
 نقول نعم بكل تأكيد، هناك فرق كبير بين إبليس والشيطان، وأول سؤال نوجهه للقارىء الكريم هو: 
إذا لم يكن هناك فرق فلماذا تحدث الله في بداية المشهد عن إبليس (في حالة السجود) ثم تغير اللفظ للشيطان (في حالة الوسوسة)؟ وبكلمات أخرى إذا لم يكن هناك فرق:
 لماذا لَمْ يقل الله سبحانه "فوسوس لهما إبليس" مثلاً بدلاً من "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ"؟
أما الدليل الذي نظن أنه دامغ في هذه الجزئية يأتي من تدبر جميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن السجود وتلك التي تتحدث عن الوسوسة، ولكن كيف؟
جواب: إن تدبر جميع الآيات التي ورد فيها الطلب الإلهي للملائكة السجود لآدم تبين بشكل لا لبس فيه أنّ الذي رفض السجود هو إبليس وليس الشيطان، فلا يرد ذكر الشيطان عند الحديث عن السجود الأول إطلاقاً، ونحن نجزم الاعتقاد أنّ ذلك لم يكن من قبيل المصادفة، فلقد صُوّر ذلك المشهد سبع مرات في القرآن الكريم، ولنورد هذه الآيات مرة أخرى ونترك للقارئ الكريم مهمة تدبر اللفظ الوارد فيها:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ البقرة 34

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ الأعراف 11

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)الحجر 31-33

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًاالإسراء 61

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًاالكهف 50

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىطه 116

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) ص 71-75

وبالمقابل لا يأتي ذكر إبليس في محض الحديث عن الوسوسة للإنسان (سواء لآدم أو لذريته) إطلاقاً، وإنما يأتي على الدوام ذكر الشيطان، ولأنّ الوسوسة وردت عشرات المرات في كتاب الله وقد جاءت جميعها لتصور أن الذي يقوم بفعل الوسوسة هو الشيطان (وليس إبليس) فلا يمكننا اعتبار ذلك مصادفة، فلنقرأ جميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن الوسوسة كما ترد في كتاب الله:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ البقرة 36

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20

فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌالأعراف 22

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىطه 120
 
سؤال: هل هناك فرق بين إبليس والشيطان؟
جواب: نعم
الدليل
ورد ذكر الشيطان في كتاب الله على صيغة المفرد "شيطان" والجمع "شياطين"، بينما لم ترد صيغة الجمع لكلمة إبليس على الإطلاق:
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ البقرة 102

قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الأنعام 71

وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ الأنعام 121

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ الأعراف 30

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا الإسراء 27

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا مريم 68

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا مريم 83

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ الأنبياء 82

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ المؤمنون 97

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ الشعراء 210

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ الشعراء 221

طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ الصافات 65

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ ص 37

نتيجة مفتراة: هناك إبليس واحد ولكن هناك شياطين كثير
وهذا يعنى أنّه مادام هناك كم كبير من الشياطين بينما هناك إبليس واحد، فأنّ النتيجة الحتمية تكون على النحو التالي: 
إبليس هو أحد الشياطين بينما لا يمكن أن يكون كل شيطان هو إبليس (خصوصاً إذا ما علمنا أن القرآن الكريم يتحدث عن شياطين الجن والإنس).
 لذا نحن نعتقد جازمين أن إبليس قد يكون هو نفسه زعيم الشياطين أجمعين، ومصداق ذلك قوله تعالى:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا الإسراء 64

وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ الشعراء 95

سؤال: فمن هم إذاً جنود إبليس؟
جواب: أنهم شياطين الإنس والجن

رابعاً، 
إنّ هذا الاستنتاج تدعمه آية كريمة في سورة الكهف تبين لنا نسب إبليس:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف 50

نتيجة: نخلص إذاً إلى القول أنّ إبليس هو من جنس الجن الذي كان موجودا في المكان قبل وجود آدم أصلاً، قال تعالى:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ الحجر 27

ولكن لم يأتي الأمر الإلهي الأول بالهبوط والخروج إلا لشخص واحد وهو إبليس كونه اعترض علانيةً على حكمة الله في تعليم آدم وطلبه من الملائكة السجود للمخلوق الجديد:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف 13

فالدقة تستدعي الانتباه إلى أنه في الوقت الذي طرد الله فيه إبليس من المكان بقي في الجنة من الجن الكثير كونهم أصلاً موجودون هناك، ولعلنا نجزم أنّ مثل هذا الفهم ربما يحل تناقضاً ظاهريا في فهم قصة آدم، وملخص ذلك التناقض هو كيفية حصول التلاقي بين آدم الذي يقطن الجنة الآن وإبليس المطرود منها. 
فهل يستطيع إبليس أنْ ينفذ إلى المكان الذي حرمه الله عليه؟!
 لقد خرج إبليس من الجنة وهو قطعاً لا يستطيع دخولها (حتى خلسة أو في فم أفعى!!!)، فكيف إذاً استطاع النفاذ إلى آدم ليوسوس له؟

رأينا: إنّ الجواب الذي نقدمه هو أنّ إبليس بشخصه لم يوسوس لآدم فهو لا يمكن أنْ ينفذ إليه وهو في مكان محرّم عليه دخوله بأمر إلهي، والذي وسوس لآدم هو الشيطان كما تنص الآيات الكريمة جميعها بصريح اللفظ، والشيطان الذي وسوس لآدم هو بلا شك أحد جنود إبليس الذين لم يكن الأمر الإلهي قد صدر لهم بعد بالهبوط، ولعل اللفظ القرآني يسعفنا لنفهم كيف هبط إبليس أولا، ثم جاء بعد ذلك الامر الإلهي لآدم وزوجه بالهبوط وكذلك لجنس الشياطين جميعاً (أي الجن):
(1)قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأعراف 13

(2)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة 36-38

قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الأعراف 24

(3)قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى طه 123

فالقارئ (حتى العادي من مثلي) يلحظ ورود لفظ الهبوط على صيغة المفرد (فَاهْبِطْ) والمثنى (اهْبِطَا) والجمع (اهْبِطُواْ)، ولعلنا جميعاً لا نختلف أنّ لفظ الهبوط المفرد قد جاء موجهاً لشخص إبليس، ولكن الصعوبة تكمن في فهم اللفظ على صيغتي الجمع والمثنى، فكثيراً ما فهم أنّ الهبوط بصيغة الجمع جاء موجها لآدم وزوجه، والعداوة المقصودة هي لذريتهم من بعدهم،
 ولكن الصعوبة الأكبر تكمن في سورة طه حيث جاء اللفظ على صيغة المثنى، وقد يرد البعض على الفور أنّ ذلك سهل، فالخطاب موجهاً لآدم وزوجه وهما إثنان، فنقول أنّ الأمر ليس بتلك البساطه فهذا الطرح تنقضه مفردات الآية نفسها، ولكن كيف؟

أولا،
 إنْ كان الأمر كذلك فلِمَ ترد لفظة "جميعا" (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا)؟ فهل عندما تخاطب شخصين اثنين تحتاج أنْ تقول لهما "أنتما جميعاً"؟ إنّ هذا استخدام نظن أنه غير مستساغ في العربية.

ثانياً، 
والأهم من ذلك أنّ الآية تتحدث عن العداوة بين الهابطين (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، فهل هناك – نحن نسأل- عداوة ناشئة أو ستنشأ بين آدم حواء (إن كان الخطاب بصيغة المثنى قد قصد به آدم وزوجه)؟
 إنّ هذا أغرب ما يذهب إليه التفكير، فليس هناك إطلاقاً عداوة بين آدم وحواء حتى يمكننا أن نزعم بأن صيغة المثنى قد جاءت لتدل على آدم وزوجه، لذا ربما نستطيع أن نخلص إلى القول أنّ الله قد قضى بالعداوة بين الهابطين ولا يمكن أنْ تٌحْمَل تلك العداوة على أنها بين آدم وحواء، والخطاب ليس موجهاً لآدم من جهه وإبليس من جهة أخرى وذلك لأن الأمر بالخروج والهبوط قد صدر لإبليس من ذي قبل:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الاعراف 13

ولكن إذا أقررنا أنّ الذي أوقع آدم في المعصية هو الشيطان (وليس إبليس)، ربما يسهل عندئذ فهم الخطاب الموجه في سورة طه بصيغة المثنى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، ولعل من الضروري أيضاً قراءة آية أخرى ورد فيها ذكر العداوة لتبين ماهية العداوة التي تذكر في معرض الحيث عن الهبوط:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة 36-38

وبناءً على ذلك، ربما يمكننا أن نزعم القول أنّ الأمر بالهبوط قد جاء أولا موجهاً لشخص إبليس، ثم جاء بعد ذلك الأمر بالهبوط ليس فقط لآدم وزوجه وإنما لمن كان في تلك الجنة معهم وهم جنس الجن (ومنهم الشياطين)، لذا لم يكن الخطاب – نحن نفتري الظن- بالمثنى في سورة طه (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لم يكن موجها لشخصين (كآدم وحواء أو أدم وإبليس أو حتى أدم وحواء من جهة وإبليس من جهة أخرى) وإنما لجنسين وهما الجن من جهه (ممثلاً بالشياطين) والإنس من جهة أخرى (ممثلاً بآدم وحواء)، وبهذا الفهم ربما يمكننا تبرير وجود لفظة "جَمِيعًا" وكذلك عبارة "بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" في السياق القرآني نفسه. فنحن نظن أن مفردة "جميعاً" تعني كل من كان يقطن الجنة التي كان يسكنها آدم وزوجه آنذاك، ونحن نظن أيضاً أن عبارة "بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" تعني العداوة ليس فقط بين أبناء الجنس الواحد وإنما بين أفراد الجنسين.

 وسنستفيد من مثل هذا الفهم – في مقالات لاحقة بحول الله وتوفيقه- لإثبات زعم من عند أنفسنا بأنّ تلك الجنة التي كان يسكنها آدم ليست هي جنة الخلد. 
ولعل هذا الطرح يفيد في جانب آخر وهو: 
كيف حصل وجود الجن (وجنس الشياطين) على الأرض ما دام أنّ المقصود بالخطاب هو آدم وزوجه؟ 
فلم هناك جن على الأرض مادام أن الأرض قد كانت لخلافة الإنسان؟
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (29)

سؤال: كيف حصل أن تواجد الجن (بما فيهم الشياطين) على الأرض؟ 
من أين جاءوا؟
لعل الفكر السائد يظن أنَ الجن (بما فيهم الشياطين) الموجودون على الأرض هم من ذرية إبليس، ولكننا نحتج على ذلك الفهم للأسباب التالية:

أولاً، 
إنّ ذلك غير ممكن لأن إبلس كان يملك جنود له حتى قبل هبوطه إلى الأرض، قال تعالى:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِوَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا الإسراء 64

وربما يفسر هذا الزعم سبب رفض إبليس السجود لآدم عندما أمره الله بذلك، فابليس يحتج على أنْ يكون هذا المخلوق الجديد (وذريته بالطبع) خليفة الله بينما يُحْرَم إبليس (وجنس الجن) هذا الشرف وهم المخلوقين حتى قبل آدم:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)الحجر 26-27

ثانياً، نحن نؤمن باستحالة أنْ يلد إبليس نفسه إلا العصاة، فمن المستحيل أنْ يخرج من ذلك الشر خير، فكيف إذاً يمكن أن نفهم أنّ هناك من الجن من هو مؤمن، فليس جميع الجن – بنص القرآن نفسه- من الكافرين، فلندقق بما جاء في سورة الجن نفسها وكيف قسم الجن أنفسهم:
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًاالجن (14)

فالسؤال الذي ربما غفل عنه الكثيرون هو، من أين جاءت الذرية المؤمنة من الجن؟
قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌالنمل 39
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالذاريات 56

إنّنا نظن أنّ طرحنا هذا ربما يقدم تفسيراً لهذا التساؤل وهو أنّ الأمر بالهبوط جاء من الله للجنسين للإنس (ممثلاً بآدم وزوجه) وللجن (ممثلاً بالعصاة منهم والمؤمنين)، وهذا قد يفسر وجود الجن المؤمن الذين ليسوا من ذرية إبليس نفسه:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)الجن 1-2
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضوَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)الجن 11-15

لأنّ ذرية آبليس هم –بنص القرآن- أعداء لآدم وذريته:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف 50

وهذا الطرح قد يفسر المقصود بالآية القرانية التالية:
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا الجن 4

فمن هو إذاً سفيه الجن؟
 إنّه - بلا شك عندنا- إبليس نفسه، فهو القائد الذي أضلهم عن جادة الصواب.

وربما يفسر مثل هذا الطرح أين كان الجن يسكن قبل هبوط آدم إلى الأرض، فنحن نعلم بنص القرآن أنّ الجن قد خلق قبل آدم، وقد أوردنا سابقاً قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27) الحجر 26-27

وعندما أمر الله سبحانه آدم بالسكن في الجنة حذره من فتنة الشيطان (وليس إبليس):
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ

والسؤال الذي لابد من طرحه هنا هو: لماذا حذر الله آدم من فتنة الشيطان إذا كان آدم يسكن الجنة وحده وإبليس (كما نعلم) مطرود شر طرده إلى غير ذلك المكان لحظة أنْ رفض السجود لآدم؟ قال تعالى:
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌالأعراف 22

نستنتج إذاً أنّ ذلك المكان الذي سكنه آدم وزوجه (الجنة) قبل هبوطهما كان مسكوناً من غيرهم وهم جنس الجن، وعندما جاء الأمر بالهبوط جاء على نحو:
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىطه 123

*********

أما الأمر الإلهي لآدم بالسكن في الجنة فلم يكن –نحن نفتري القول- على سبيل الدوام وإنما على سبيل التحضير له لخلافة الأرض، فالله سبحانه قد خلق آدم أصلا لخلافة الأرض، فلا يمكن أنْ يقضي الله الأمر بذلك ثم يطلب من آدم السكن في الجنة وللأبد، فمسألة الانتقال إلى الأرض كان أمراً محتوما، فسواءً وقع أدم في المعصية أو لم يقع كان لابد من صدور الأمر الإلهي بالإنتقال إلى الأرض، ومصداق ذلك ما كان الله سبحانه قد أخبر به الملائكة حتى قبل تعليم آدم:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) البقرة 30-31

فمن يظن أنَ آدم قد تقرر نزوله إلى الأرض بسبب المعصية يقع في الخطأ لأنّ ذلك قد تقرر قبل حدوث الأمر برمته، والجديد فيما نقول هو الافتراض أنّه حتى لو لم يقع آدم وزوجه في المعصية لجاء الامر الإلهي لآدم وزوجه بالإنتقال إلى الأرض، فطلب الله من آدم السكن في الجنة لم يكن خدعة أو اختباراً لآدم، بل كان أمراً بالسكن لفترة تمهيداً لانتقاله إلى الأرض التي أعدها الله مسبقاً للحياة البشرية:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة 29

فهل لو لم يرتكب آدم المعصية، كان سيبقى ساكناً الجنة وللأبد؟
جواب: كلا وألف كلا، فالآية القرآنية التي تبين الأمر الإلهي لآدم بالسكن وزوجه لا تشير على الإطلاق إلى السكن الأبدي في الجنة:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35

والتناقض الأول الذي قد يمر في أذهاننا هو إذاً كيفية التوافق بين الآيات الكريمات التالية:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ البقرة 30

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35

أي، كيف يمكن أنْ نفهم أنّ الله سبحانه قد قضى بخلافة آدم للارض وفي الوقت نفسه نقتنع أنّ الله قد أسكن آدم الجنة وللأبد؟
أما التناقض الظاهر الآخر فهو ما يمكن أن يفهم خطأ من منطوق الآيات الكريمة التالية:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ البقرة 36

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27

أي، كيف يمكن أنْ نفهم أنّ الله قد قضى بخلافة آدم للارض ومن ثم أسكنه الجنة وللأبد وفي الوقت ذاته نؤمن أنّ الذي أخرج آدم من الجنة هو الشيطان الذي أوقعه في المعصية؟
لعل القارىء الكريم يدرك أنّ هذه أمور فلتت من شبكة خيوط العلماء الذي سعوا عبر قرون من الزمن تقديم تفسيرات لا تناقض بعضها بعضا. 
ولعلى أجزم أنّ الحاجة ملحة لإلقاء ظلال الشك على مسلمات قديمة، والنظر إلى الامور من زاوية أخرى حتى نستطيع إزالة ما يبدو للوهلة الأولى أنّه تناقض. وسأحاول أن أقدم فهمنا لتلك الحادثة في السطور التالية:
أما بعد،

أولاً،
 لا بد من الإشارة مرة أخرى إلى الاعتقاد الذي مفاده أنّ الأمر الإلهي لآدم بالسكن في الجنة لا يحمل على أنّه أمر بالسكن الأبدي وذلك لأنّ الله سبحانه قد قضى بخلافة آدم الأرض قبل سكنه الجنة. 
فخروج آدم من الجنة لم يكن بسبب المعصية على الإطلاق، والقارىء المتدبر للقرآن يدرك ذلك بكل يسر وسهولة، فالله سبحانه عندما أسكن آدم وزوجه الجنة لم يمنعهم عن الشجرة إلاّ لسبب واحد وهو حتى لا يكونا من الظالمين، قال تعالى:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَامِنَ الْظَّالِمِينَ البقرة 35

ومراد القول أنّ الأكل من الشجرة لم تكن محصلته إلاّ الظلم وليس الخروج أو الهبوط، وإلاّ لجاء الخطاب الرباني على نحو:
"فتكونا من المطرودين" ، "فتكونا من المخرجين" ، "فتكونا من الهابطين"، ونحوه.
فالأكل من الشجرة لا يترتب عليه –حسب نص الآية الكريمة- إلا الظلم (فَتَكُونَامِنَ الْظَّالِمِينَ).
تساؤلات: هل يمكن أنْ يفسر الظلم على أنّه الخروج من الجنة؟
 فهل إنْ ظلم الإنسان أو وقع في الظلم يترتب عليه الخروج من الجنة؟
إنّ الجواب بكل تأكيد لا، خصوصاً إذا كان من وقع في الظلم قد تاب إلى ربه وأقرَّ بخطاءه، فآدم قد أقر بخطاءه وعاد إلى ربه وقبلت توبته:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 37

فكيف يمكن إذاً تفسير حقيقة أنّ الله قد تاب على آدم ولكنه أخرجه من الجنة؟
 فهل هي إذاً توبة مشروطة؟
 فهل ذلك يفهم على أنّ الله قبل توبة آدم شريطة خروجه من الجنة؟ 
معاذا الله، فتوبة الله على العبد الصادق لا تكون مشروطة، فها هو موسى عليه السلام يقع في الظلم ولكن الله يقبل توبته ويغفر له:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ القصص (16)

وذاك ذو النون يظلم نفسه ويعود إلى ربه:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَإِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) الأنبياء 87-88

فلِمَ يتقبل الفكر الإسلامي أنْ تكون توبة الله على موسى ومن قبله ذي النون غير مشروطة، بينما تكون على غير تلك الشاكلة في حالة آدم وزوجه.




د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن