معنى حرف الجر "على" في العربية (2)


لقد تطرّقنا في مقالتنا السابقة (معنى حرف الجر على 1) إلى الجزئية الأولى في هذه القضية،
وقد كان جلّ النقاش منصباً على محاولتنا فهم معنى مفردة الاستواء في قوله تعالى " الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ"، وكانت الغاية المرجوّة في فهم كيفية استواء الرحمن على العرش هي محاولة الخروج  من الإشكالات التي خلّفتها الأفهام السائدة السابقة خصوصاً تلك التي تعلقت بمعنى "العلو" (أو الفوقية في نظرهم) الذي يتضمنه حرف الجر على في جميع آيات الاستواء على العرش التي وردت في كتاب الله، وستكون المساهمة الأكبر التي نقدمها تتمثل في الخروج باستنباطات حول معنى حرف الجر على في النصوص القرآنية تنفي معنى الفوقية الذي تحدث عنه الأقدمون، وحتى يتم لنا الوصول إلى ذاك الهدف نجد لزاماً التعرض إلى مفردة العرش التي وردت في السياقات نفسها (بعد أن كنا قد تعرضنا لمفردة استوى في المقالة السابقة) ، لنفهم ماهية ذلك العرش الذي حصل استواء الرحمن عليه. وقبل الخوض في خضم هذا الحديث نجد لزاماً التأكيد على موقفنا العقائدي أولاً والفكري ثانياً الذي يتمثل في إنكار المجاز في القرآن الكريم، فمادام أن القرآن هو كلام الله على الحقيقة فهو يخلو من المجازات، لذا فنحن نبحث عن المعاني الحقيقية وليست التصورات المجازية ( للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم).


                                                                            
العرش
بعد أن تحدثنا عن الاستواء ننتقل الآن لنخوض في معنى مفردة العرش التي وردت في الآية الكريمة التي نحن بصدد تبيان بعض جوانبها:
الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ                                                     طه (5)
لنسأل عن ما يمكن أن يسهم به فهمنا في تجلية مشهد استواء الرحمن على العرش كما تصورها آيات الكتاب الكريم. ولنبدأ بالتساؤل التالي: ما هو العرش؟
لقد وردت هذه المفردة ومشتقاتها في أكثر من موطن من كتاب الله، فقد وردت عند الحديث عن بلقيس:
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ               النمل (38)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ          النمل (41)
          فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ                                                                                                       النمل(42)
ووردت كذلك عند الحديث عن يوسف:
          وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي
حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ
إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

وهنا نجد لزاماً إثارة التساؤل التالي: لم ورد الحديث عن العرش في خضم الحديث عن يوسف وبلقيس على وجه التحديد؟ ولم لم يرد الحديث عن العرش في خضم الحديث عن فرعون مثلاً؟ ألم يكن فرعون ملك مصر؟ ألم تتكرر قصة فرعون عشرات المرات في القرآن؟ لِم َلَمْ يتحدث الله عن "عرش فرعون"؟!
الجواب: لأننا نزعم أن فرعون لم يكن له عرش
- ولكن كيف ذلك؟ ألم يكن هو حاكم مصر وسيدها والرب المطاع فيها؟ فلم لا يكون له عرش؟
- الجواب: ذلك يتطلب منا فهم معنى مفردة العرش كما تجليها السياقات القرآنية.

سمات العرش
أولاً، إننا نعتقد أن العرش هو صفة ملازمة للملوك، فمن كان ملكاً، ربما يكون له عرش بينما من لم يكن ملكاً فليس له عرش، لذا فإن الله قد ذكر في كتابه الكريم أنه هو رب العرش:
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ       التوبة (129)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ                الأنبياء (22)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ                                         المؤمنون (86)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ                     المؤمنون (116)
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩                                                   النمل (26)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ                                  الزخرف (82)

فالله له عرش لأنه - ببساطة- هو الملك:
          أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ                                                                                                                 البقرة (107)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                            آل عمران (189)
فبالرغم أنها سبع سموات إلا أن لله عرش واحد:
     قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ                                    المؤمنون (86)
فلله عرش واحد وذلك بسبب عدم وجود الشريك له في الملك:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
                                                                                      الفرقان (2)
فمتى أصبح هناك شريك في الملك، لن يكون هناك عرش:
          لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ الأنبياء (22)
والسبب كما تصوره الآية الكريمة نفسها هو الفساد، فمتى أصبح هناك أكثر من عرش ظهر الفساد:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
وهذا يعيدنا بالضبط إلى النقطة التي انطلقنا منها وهي سبب ورود العرش في خضم الحديث عن قصة يوسف عندما رفع أبويه على العرش، وكذلك عند الحديث عن ملكة سبأ على وجه التحديد، فنحن نظن أن السبب هو عدم وجود الفساد في حالة ملك مصر وملكة سبأ، لأن من أساسيات وجود العرش هو العدل، فمتى عمّ العدل أصبح هناك حاكم واحد وانتفت الدعوة إلى الانقسام.
فلو تدبّرنا قصة ملكة سبأ لوجدنا أنها كانت ملكة عادلة وكان شعبها شعباً موحداً، فشاورتهم بالأمر:
          قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32)
فردوا عليها بالمشورة والنصح، ولكنهم لم يعدموا في الوقت ذاته القول أن الأمر منوط بها كصاحبة للعرش، فأمرها مطاع:
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
فاتخذت هي القرار الذي ظنته مناسباً، فما ثاروا ولا انتفضوا ضد قرارها:
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

والمتتبع لأمر ملك مصر في زمن يوسف النبي يجد أن الملك كان ملكاً عادلاً، وليس أدل على عدله مما فعل يوم انتهى إليه خبر ما فعلت النسوة بيوسف، وكيف عامل يوسف بعد ذلك بكل ما يتطلبه العدل الحقيقي بالرغم أن يوسف كان غريبا عن أرض مصر، والأهم من ذلك فإن سيرة الرجل تبين أن مملكته كانت موحدة غير منقسمة، فهو الحاكم المطاع، وقد كان ذلك بسبب عدل الرجل، فمشورته للملأ كانت جلية حتى في أقل الأمور أهمية، فها هو يشاركهم حتى أحلامه:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
فطلب الفتوى من الملأ (وهم حاشية) كان من أهم ميزات ملك مصر صاحب العرش هذا (كما كان سمة بارزة في حكم ملكة سبأ)، لذا لا نستغرب كثيراً عندما نجد أن الله نفسه يتحدث عن ملئه:
          وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)   الصافات
          مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ                                     ص (69)
ولكن يجب التنبيه إلى أن من ميزات العرش كذلك أن يكون الملأ (حاشية السلطان) ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فصحيح أن فرعون كان له ملأ، إلا أنهم كانوا سبباً رئيسياً في هلاكه، فبدل أن ينصحوه، كانوا سيوّلون له الأمور حتى أهلكوه وهلكوا معه، فهم من حث فرعون على التصدي لموسى:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ                               الأعراف (127)
وهم أصلاً من تآمروا على موسى حتى دون علم فرعون نفسه:
          وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ                                                                  القصص (20)
فالمدقق في هذه الآية الكريمة يجد أن الملأ هم من كانوا يأتمرون بموسى ليتخلصوا منه، فحتى لو كان فرعون على استعداد لقبول موسى (ودعوته) ما كان ملأ فرعون سيتركونه وشأنه، فالرجل الذي جاء محذراً موسى بيّن لموسى أن كل ذلك يحصل بسبب الملأ (وليس بسبب فرعون نفسه):
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ                                                                  القصص (20)
وهذا يدلنا على أن فرعون لم يكن بدراية بكل ما كان يحصل في قصره، فكيف به سيكون صاحب عرش ما دام أنه على غير دراية كافية بكل ما يحصل في بلاطه؟ فالملك صاحب العرش لا بد أن يكون مسيطراً تماماً على عرشه، وإلاّ لأصبح العرش في مهب الريح، يتلاعب به الملأ حتى يكونوا سبباً رئيسياً في زواله (وهذه لا شك دعوة لكل ملوك الأرض ليفهموا أن عرشهم لن يدوم إلا أن يكونوا هم من يملكوه وأن لا تكون حاشيتهم من أمثال ملأ فرعون).

ولكن يبقى السؤال قائماً، ما هو العرش؟
تسلط الآية الكريمة التالية الضوء على ما يمكن أن نتخيله فيما يخص كينونة العرش:
          وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ                                                                                                                          النحل (68)
فالعرش هو بناء لا يكون جزءاً من الطبيعة، وإنما بناء مستحدث يمكن أن يتغير ويتشكل بطرق مختلفة، فيمكن للناس أن يعرشوا أبنيتهم بالطريقة التي يريدونها، ويمكن كذلك أن يبلى وينتهي كما تصوره الآيات الكريمة التالية: 
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ
مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ
إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                                                                                                                           البقرة (259)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ                                                                                                               الحج (45)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ                                                                                                       الأعراف (137)

ويمكن كذلك أن ترفع العروش من مواد مختلفة في الأساس، فليس بالضرورة أن تكون العروش مصنوعة من نفس المادة الخام التي يمكن أن تبنى منها البيوت، فالجنات (المزارع) يمكن أن تكون معروشة وغير معروشة كما تصورها الآيات الكريمة التالية:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ                                                                             الأنعام (141)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا                                                                      الكهف (42)
ولو دققنا النظر في الآية الكريمة لوجدنا أن الجنات المعروشات وغير المعروشات هي جنات من أعناب على وجه الخصوص، ولنعيد الآية مرة أخرى ونتأملها من هذا الجانب:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ

فالآية تبين أن هناك جنات معروشات وغير معروشات من جهة وهناك النخل والزرع والزيتون والرمان، فالله لم يقل انه أنشأ لنا جنات معروشات وغير معروشات من النخل والزرع والزيتون والرمان، ولكنه فصل بين الجنات المعروشات وغير المعروشات (من جهة) والنخل والزرع بشتى أنواعه (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ) والزيتون والرمان (من جهة أخرى)، فتلك لا تعرش (أي لا ترفع على قواعد كما ترفع الأبنية)، ولو تدبرنا قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين لوجدنا أن الحديث عن الأعناب جاء منفصلاً عن الحديث عن النخل مثلاً:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
                                                                                      الكهف (32)
ولكن ما الذي حصل عندما أعرض ذلك الرجل ولم ينسب ذلك الفضل إلى الله، جاء العقاب الرباني على الجنتين على النحو التالي:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
ولو تدبرنا معظم السياقات القرآنية لوجدنا الحديث عن الجنات تخص شجر الأعناب والنخيل، ولكن عندما نتحدث عن المعروش منها نجد الحديث قد انحصر على الأعناب فقط، وهنا نطلب من القارئ تخيل كيف يمكن أن يكون شجر الأعناب معروشاً.
إن الجواب بسيط جداً يتمثل في تخيل شجرة العنب محمولة على قواعد ثابتة بالأرض ليتدلى الثمر، فتكون قطوفها دانية:
          فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
وربما يفسر مثل هذا الفهم كيفية نزول العرش يوم الحساب، والملائكة تحمله:
           وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ (17)                                                      
فالعرش هو بناء رباني مرفوع على ثمانية قواعد تشبه صورته صورة جنات الأعناب المعروشة (أي المرفوعة على القواعد)، وهنا يتبادر للذهن سؤال مفاده: لم ثمانية؟
الجواب: تتكرر صورة الملائكة وهي تحمل شيئاً ما في واحدة من قصص بني إسرائيل، ولنتفقد القصة من الجوانب التي ذكرناها سابقاً جميعاً:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(246)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ
هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
          فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا
لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

ولو تفقدنا القصة جيداً، لوجدنا أن القوم يطلبون ملكاً، فيبعث الله لهم طالوت ملكا، ويكون هناك دليل (آية) على ملكه، وكان ذلك الدليل عبارة عن التابوت الذي تحمله الملائكة، فكيف يمكن أن نتصور ذلك التابوت الذي تحمله الملائكة؟
إن صورة حمل الملائكة شيئا ما قد وردت في هاتين الحالتين في كتاب الله:
1. صورة الملائكة تحمل عرش الملك يوم القيامة ليتم الفصل والقضاء بين الناس بالعدل
2. صورة الملائكة تحمل التابوت لطالوت ملكاً ليقيم العدل بعد ما أصاب القوم من ظلم
ربما تبين لنا هذه الصور كيفية حمل الملائكة لعرش ربنا يوم الحساب، فلو دققنا في مجمل الآيات لوجدنا أن رب العرش الكريم سيكون خارج نطاق العرش، فهو سيكون على أرجائها:
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ                                                                                 الحاقة (17)
فالملك إذن قائم على أرجائها، وهو غير محمول على العرش، لأنه سيأتي بنفسه تصحبه الملائكة:
          هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ                                                                                البقرة (210)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ
رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ                                                                   الأنعام (158)
          كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)             الفجر

إذن، لنتصور المشهد على النحو التالي:
ينفخ في الصور النفخة الأولى فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ
ينفخ فيه أخرى فيقوم الجميع إلى ربهم:
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)                                         الزمر
تنشق السماء، فإذا بالملك على أرجائها، ويحمل ثمانية من الملائكة تحمل عرش الرحمن ليقضى بين الناس بالحق
          وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ                                                                                 (17)
فيأتي ربك والملائكة تكون حاضرة صفاً صفاً
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
تشرق الأرض بنور ربها، فيوضع الكتاب ويتم حضور النبيين والشهداء:
          وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (69)
فتكون الأرض قبضته والسموات مطويات بيمينه:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
لتبين حقيقة الفصل بين الذات الإلهية من جهة والسموات والأرض من جهة أخرى، وهو ما يدعم موقفنا الذي ذكرناه سابقاً وهو الفصل بين الوجود الفيزيائي للذات الإلهية من جهة وجميع خلقه من جهة أخرى.
وهذا ينقلنا إلى الحديث عن كيفية الاستواء على العرش لنثير التساؤل التالي: كيف يستوي الإله على العرش مادام أنه منفصل عنه؟
الجواب: لابد من تدبر معنى حرف الجر "على" في النص القرآني

وللحديث بقية

22 تشرين ثاني 2011