معنى حرف الجر على في العربية 3


هذه هي المقالة الثالثة في سلسلة المقالات التي تتعرض في مجملها لمعنى حرف الجر "على" في العربية،
تعرضنا في المقالة الأولى لمعنى مفردة استوى، وفي المقالة الثانية لمفردة العرش، وسنحاول التعرض هنا لمعنى حرف الجر على، لتشكل بمجموعها مفردات الآية الكريمة التي كان جلّ النقاش السابق منصباً حولها:
          الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ                                                          طه (5)
إن محرك البحث هنا سؤال واحد مفاده: ما هو المعنى الحقيقي لحرف الجر على في العربية؟

والنظرية التي نقدمها هنا تتمثل في الافتراض أن حرف الجر على (كما كل كلمات اللغة الجامدة) هي مفردات اختزلت فيها معاني عبارات (وربما جمل) كاملة، كان داع الاقتصاد في استخدام اللغة يقضي بضرورة اختزال تلك المعاني في كلمات جامدة، أصبح من التعذر مع مرور الزمن التفكير بكل تلك المعاني لحظة استخدام المفردة الجامدة التي اختزلتها، ونحن نعتقد أن هذه ظاهرة لغوية شائعة في كل لغات الأرض، ولنضرب المثال التالي لتوضيح الصورة:
لقد أصبحت مفردة مثل كلمة NATO الإنجليزية مستخدمة في كثير من لغات العالم، وأصبح المتحدثون بتلك اللغات يستخدمون تلك الكلمة بمعناها الدارج، ولكننا نطرح هنا السؤال التالي: مَنْ مِنْ هؤلاء يعرف المعنى الحقيقي لتلك الكلمة؟  فكم الذين يعرفون أن هذه الكلمة قد اختزلت عبارة بأكملها وهي North Atlantic Treaty Organization؟ وحتى الذين يعرفونها منهم، ربما لا يعرفون على وجه الدقة الدول التي تشكل بمجموعها هذا الحلف السياسي العسكري. والمهم في الأمر أنه غالباً ما أخذت مثل هذه المفردات الجامدة (مع مرور الزمن) منحنى في الاستخدام أفقدها كثيراً من المعاني التي كانت تختزلها العبارة الأصلية التي اشتقت منها، فتغلب جانب من معانيها على بقية الجوانب الأخرى، :أن يتغلب الجانب السياسي على الجانب العسكري أو العكس، والمثال الطريف الذي نقدمه هنا هو الكلمة الإنجليزية الشائعة جداً وهي مفردة WC، فقلّ من لازال يذكر من أهل اللسان الإنجليزي أنفسهم (وربما من متعلمي اللغة الإنجليزية) أن WC هي في الأساس Water Closet، فالمعنى الدّارج للكلمة أفقدها المعنى الذي اختزلته تلك الكلمة من العبارة الأم، لذا ربما يصعب على الكثيرين ربط معنى WC مع المعاني التي  كانت تحملها Water Closet في طياتها واختزلتها في الكلمة الجامدة الشائعة WC.


ما معنى حرف الجر على في العربية؟
إن سبب الخلاف الذي نشب بين بعض الفرق الإسلامية قديماً في قضية الاستواء على العرش كان مبنياً في الأساس على افتراض – في نظرنا- خاطئ. فلقد ظن المتخاصمون فكرياً أن مفردة "على" تفيد الفوقية، وقد جاء ظنهم هذا من المعنى السائد لديهم عن معنى "على"، مدفوعين في الأساس بمبدأ التغليب، فكثرة استخدام على من هذا القبيل أفقد الناس القدرة على التركيز في الاستخدامات الأخرى (وهذا ما سنناقشه بعد قليل)، أما نحن فنظن أن هذا الفهم الخاطئ هو جوهر الصراع الذي ضلّ طريقه لقرون، وما ننوي أن نقحم أنفسنا فيه هنا هو تبيان غلطهم في فهم معنى حرف الجر على في النص القرآني. لذا نجد لزاماً تقديم رأينا على مرحلتين، حيث نقوم بتفنيد الفهم السابق الذي أخطأ المعنى الحقيقي لحرف الجر على في المرحلة الأولى، ونقدم رأينا الذي نظن أنه الأكثر دقة وتميزا كبديل لفهمهم في المرحلة الثانية

المرحلة الأولى: تفنيد الرأي السابق
عندما جاء الحديث عن معاني حروف الجر في العربية، روّج أهل اللغة (وتبعهم في ذلك أهل العقيدة) لمعنى سائد شائع لكل حرف من هذه الحروف، فظنوا أن "في" تفيد الدخول في الشيء، بينما تفيد على الفوقية، وهكذا، والغريب في الأمر أنهم عزوا ما يشذ عن هذه المعاني من استخدامات إلى تفسيرات وتأويلات مجازية، ففي حين أن حرف الجر في يفيد – في نظر معظم المروجين لهذه البضاعة- الدخول في الشيء، إلا أنهم عجزوا عن تفسير قوله تعالى على لسان فرعون:
          قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ           طه (71)
فكيف بفرعون إذاً سيصلبن من عارضه من السحرة "في داخل جذوع النخل"؟ فهل تستقيم فكرة الصلب في داخل جذوع النخل "إن كانت في تفيد الدخول في الشيء"؟
لا بل كانت الطامة الكبرى في مثل ذاك الفهم التقليدي "الساذج" بادية للداني والقاصي يوم أن نقرأ في كتاب الله الآية الكريمة التالية:
          هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ                                                                                البقرة (210)
فنحن نتساءل :كيف سيأتي الله "في ظلل من الغمام (إن كانت "في" تفيد الدخول في الشيء)؟
ولما وجد المفسرون للنص الديني مثل هذه الآيات الكريمة التي يعجز طرحهم السابق لمعاني حروف الجر التعامل معها بشكل مرض، لجاءوا إلى تجويز ما لا يجوز (أي المجاز)، والتحليق في سماء المجازات والاستعارات، فظن معظمهم أن هذه استخدامات مجازية يصعب حملها على الحقيقة، وروجوا لمثل هذا القول بأدلة ظنوا أنها تدعم موقفهم. والغريب في موقفهم هذا أنهم لا يترددون لحظة واحدة في التخلي عن تلك المجازات (التي استخدموها وأقنعتهم ردحاً من الزمن) إن استطاع أحدهم كشف المعنى الحقيقي الذي غفلوا عنه لقرون من الزمن.
موقفنا: إننا نعتقد جازمين أنه ما دام أن القرآن الكريم هو كلام الله على الحقيقة فلا وجود للمجاز فيه، فكل لفظ يجب أن يفهم على حقيقته، ولكن المشكلة تكمن في فهمنا لحقيقة هذه المعاني، فنحن نرى أن المجاز لا يستخدمه المفسرون للنص القرآني إلا بسبب عجزهم عن فهم (أو التوصل إلى) المعنى الحقيقي، فلو كان أهل اللغة وأهل العقيدة على دراية كافية بالمعاني للحقيقية لما لجاءوا إلى التفسيرات المجازية (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم وكذلك مصادر التشريع في الإسلام).
إن مراد القول هو أن اكتشاف المعنى الحقيقي يغني عن اللجوء إلى التفسيرات المجازية، ونحن ننوي أن نقدم هنا المعنى الحقيقي لحرف الجر "على" – كما نفهمه، وسنحاول تبيان كيف يمكن أن يسعفنا مثل هذا الفهم (على علاّته) عن التحليق في سماء المجازات.
         
نفي الفوقية المكانية عن استخدامات حرف الجر على
أولا، نود أن نتساءل كيف يمكن أن يستقيم معنى الفوقية (الذي تحدث به الأقدمون وكثير من المحدثين) في حرف الجر "على" مع السياقات القرآنية التالية:
          وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ                                                        البقرة (80)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ                      البقرة (169)
          إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ        آل عمران (122)
          فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ                                                                                                             آل عمران (159)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا                                                               النساء (17)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا        النساء (30)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُبِينًا                            النساء (50)
۞ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا                                                                                                             النساء (100)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا                                                                                                  النساء (165)
          إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا                       النساء (169)
          وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ                          (18)
          وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ                                                              إبراهيم (20)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ                                                                                                 إبراهيم (38)
فورود حرف الجر "على" سابقاً للفظ الجلالة (عَلَى اللَّهِ) في سياقات كثيرة في كتاب الله يدلنا – بما لا يدع مجالاً للشك - أن الفوقية هي آخر ما يمكن أن نفكر فيه (هذا إن كان هناك أصلا مجال للتفكير كهذا) عند الحديث عن معنى حرف الجر "على" في السياقات القرآنية، فمن بديهيات التفكير أن لا يكون هناك شيء يرتفع فوق الذات الإلهية، ففكرة العلو على الله مرفوضة جملة وتفصيلا، لذا جاء في قوله تعالى:
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ                                    الدخان (19)
والسبب في ذلك بسيط للغاية وهو ما ورد في قوله تعالى:
            سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى                                                              الأعلى (1)
فالله هو الأعلى ويستحيل أن يكون هناك شيء يعلو على الله حتى ولو وردت صيغة "على الله" في عشرات السياقات القرآنية.

وقفة قصيرة: الله الأعلى : الله أكبر
وهنا نجد لزاماً التوقف للحظة والتعرض لجزئية مهمة جداً في الخطاب الديني تخص هذه المفردة، فالله يقول عن نفسه أنه هو الأعلى، أليس كذلك؟
إن المفارقة الجديرة في الانتباه –في رأينا- هو أن الله لم يقل عن نفسه في أي سياق قرآني أنه الأكبر، ولكننا نعلم أنه يمكن أن نقول عن الله بأنه "أكبر"، وليس أدل على ذلك من خطاب المناداة إلى الصلاة (الله أكبر  الله أكبر)، فالسؤال هو: لم قال الله عن نفسه أنه هو الأعلى بينما لم يقل عن نفسه أنه هو الأكبر؟

إننا نعلم أن مفردة "الأكبر قد وردت عند الحديث عن الحج مثلاً:
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِنْ
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ      
                                                                                      التوبة (3)
وكذلك عند الحديث عن ذاك الفزع الموعود:
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ             الأنبياء (103)
ووردت عند الحديث عن العذاب:
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ           السجدة (21)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ                                                            الغاشية (24)
إننا نظن أننا نستطيع من خلال مثل هذه السياقات القرآنية أن نخلص إلى الفهم بأن استخدام مفردة الأكبر تعني وجود حد، فالحج الأكبر ليس هناك حج أكبر منه، ولا يوجد فزع أكبر من الفزع الأكبر، وكذلك هو العذاب الأكبر. لماذا إذاً لا نستطيع أن نقول أن الله هو الأكبر؟
الجواب: إنّ القول أن الله هو الأكبر يعطي مؤشراً أن هناك حد "لكبر" الله، ولكن عندما نقول أن الله هو أكبر (وليس الأكبر) فذاك يعطي مؤشراً أن ليس هناك حد "لكبر" الله، فالله ليس محدودا في "كبره" (وسنتعرض لاحقاً لمعنى أكبر، فهي ليست كما ظن الكثيرون كلمة خاصة بالحجم، بل هي كلمة خاصة بالزمن)، ولنتخيل ذلك مع شكل توضيحي، فلو تفكرنا بخط الأعداد المستخدم في علم الرياضيات:
  --------------------------صفر-------------------------------
فإلى اليسار من الصفر هناك الأعداد في السالب، وإلى اليمين من الصفر هناك الأعداد بالموجب، وسؤالنا هنا هو: ما الفرق بين أن نقول أن هذا الرقم هو الأكبر وأن نقول هذا الرقم هو أكبر؟ فلو تخيلنا رقماً ما، وقلنا أن هذا الرقم هو الأكبر، لربما فهمنا أن ليس هناك عدد أكبر منه، ولكن بالمقابل عندما نقول أن هذا الرقم هو أكبر، لفهمنا أنه مهما تفكرنا برقم كبير فإن هناك رقم يمكن أن يكون أكبر منه، وكذا الحال بالنسبة للإله (ولله المثل الأعلى)، فمهما تفكرنا بشيء كبير فإن الله يبقى أكبر منه، لذا فالله هو أكبر (وليس الأكبر فقط)

إذن، ما قصة الأعلى؟
إننا نفهم من قوله تعالى "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" أن هناك حد لعلو الذات الإلهية، فلو قال الله عن نفسه أنه أعلى (وليس الأعلى) لربما فهمنا أن ليس هناك حد لعلو الإله، ولكن لمّا قال الله عن نفسه أنه الأعلى فإن الله يخبرنا أن هناك حد لعلوه. والسياقات القرآنية التالية تدعم مثل هذا الفهم:
          فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ (68)  طه
          لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ                                الصافات (8)    
          وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ                                                                   النجم (7)
وها هو الله يقول عن نفسه أنه هو الأعلى:
            سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى                                                              الأعلى (1)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20)              الليل
النتيجة: إذا ما تصورنا الذات الإلهية في العلو والكبر فإننا نقول أن الإله غير محدود في "كبره" لأنه أكبر (وليس الأكبر)، ولكنه محدود بعلوّه لأنه (الأعلى). ويمكن تطبيق ذلك على الصفات الإلهية الأخرى كالكرم وغيرة (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)، وهكذا.

فهذا الطرح ربما يحل – برأينا- مشكلة فرعون التي جاءت من دعواه بأنه هو ربهم الأعلى، قال تعالى:
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)
فلو قال فرعون لقومه "أنا ربكم" وكفى لما كان في ذلك مشكلة إطلاقا، فيوسف عليه السلام يقول لصاحبه السجن يوم أن عاد إليه ليأخذه معه إلى بلاط الملك:
          وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ                                                      يوسف (50)
فالملك هو رب صاحب يوسف، وفرعون هو رب مصر وأهلها في ذلك الزمن، لذا فإن المشكلة لم تكمن في ظنّه بأنه ربهم، ولكنها تكمن – بكل تأكيد- في ظنّه أنه هو "ربهم الأعلى". ولهذا الاعتقاد تبعاته العظيمة التي سنناقشها في مقالة مستقلة بحول الله وتوفيقه.
وربما يحل مثل هذا الطرح إشكالية أخرى غالباً ما سألني عنها صديقي وأحد "المعجبين" بتخاريفي السيد علي محمود سالم الشرمان خاصة بعد قراءته لسلسلة مقالاتي تحت عنوان هل لعلم الله حدود عن الاستفسار الرباني من إبليس عن سبب عدم سجوده لآدم حيث جاء قول الحق:
            قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ     ص (75) 
فقد كانت حيرة صاحبنا عن معنى مفردة " الْعَالِينَ" في هذا السياق القرآني تتمثل في التساؤل التالي: كيف تختلف عن مفردة " أَسْتَكْبَرْتَ"؟ أي ما الفرق بين أن يكون إبليس قد استكبر أو أنه كان من العالين؟

الجواب حسب فهمنا: يقدم الله سببين لا ثالث لهما عن سبب عدم سجود إبليس لآدم وهما:
1. إما أن يكون إبليس قد استكبر، أو
2. أن يكون من العالين
ويطلب منه أن يختار أحد هذين السببين ليكون هو الدافع الحقيقي لعدم السجود لآدم، أليس كذلك؟
إنّ المتفحص للسياقات القرآنية عن معنى الاستكبار يجد أنه يتمثل في أن يميز طرف نفسه على طرف آخر دون وجه حق، فيظن أنه أعلى مرتبة أو منزلة وأرفع شأنا منه:
          قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ
رَبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ                                                 الأعراف (75)
فالملأ قد رأوا في أنفسهم أنهم أعظم شأناً وأعلى مرتبة من الذين استضعفوا، فكانوا إذاً من المستكبرين، ولا شك أن تلك سمة مذمومة لا يحبها الله:
          لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ               النحل (23)

ولكن من هم العالين؟ وكيف يختلف العالون عن المستكبرين؟[1]
لا شك أن فرعون قد استكبر هو وجنوده:
          وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ             القصص (39)
ولكنهم لم يتوقفوا عند ذلك الحد كما كان الأمر بالنسبة لقوم نوح مثلاً:
          وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ         هود (27)
فهم بذلك قد استكبروا، فكان ذلك استكبار من يظن في نفسه العزة على الضعفاء، لذا جاء قول الحق عن قوم نوح في سياق قرآني آخر على النحو التالي:
          وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا
                                                                                      نوح (7)
فلقد فعل قوم فرعون أكثر مما فعل قوم نوح، فما الذي فعله قوم فرعون على وجه التحديد؟
الجواب: لقد كانوا من العالين:
          إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ                                       المؤمنون (46)
فبالإضافة إلى الاستكبار فقد كانوا قوماً عالين بصريح اللفظ في الآية الكريمة السابقة.
وعند عقد مقارنة بين ما فعل قوم فرعون على وجه التحديد مقابل ما سأل الله إبليس عنه عن سبب عدم سجوده لآدم نجد التطابق العجيب، وهو الاستكبار و العَالِينَ:
          قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ     ص (75) 
فكيف إذاً نفهم مفردة "العالين" في ضوء عقد هذه المقارنة بين السلوك المفترض لإبليس والسلوك الفعلي لقوم فرعون؟
إن أبسط ما يميّز قوم فرعون هو قول ربهم فرعون:
          فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي
الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ                                        يونس (83)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ                                                   القصص (4)
مِنْ فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ                                  الدخان (31)
فكانت النتيجة أن ذهب فرعون إلى الحد الأقصى من الكفر ليقول:
                   فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ                                              النازعات (24)
وكان طلبه من قومه غاية في الصراحة والوضوح:
          وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي
صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ                القصص (38)
وهدد من يعبد غيره بالعقاب الشديد (حتى وإن كان موسى نفسه):
          قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ                       الشعراء (29)
وهذا يدل على أن قوم فرعون كانوا إذاً يعبدون ربهم فرعون، فأصبحوا بالإضافة على تكبرهم على بني إسرائيل من العالين الذين لا يعبدون الله ولكنهم يعبدون إلهاً من بينهم يظنون أنه خير من الله:
          وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)              الزخرف
ولكن قوم نوح – مثلاً- لم يتخذوا من بينهم إلهاً بالرغم من كفرهم بإله نوح، فلم ينبري من بينهم ليقول لهم أنا الإله الذي يجب أن تعبدوه، ولم نجد أنهم قد أطاعوا إلهاً من بينهم، لذا لم نجد من بينهم من يستخف بهم كما فعل فرعون:
          فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
لهذا كان قوم نوح من المستكبرين ولكنهم لم يكونوا من العالين، ولكن قوم فرعون كانوا من المستكبرين وكانوا أيضاً من العالين.
والآن لنعود إلى فهم الآية التي تتحدث عن إبليس وسبب رفضه السجود لآدم في ضوء هذا الطرح، ونعيد الآية هنا لنتفقدها من هذا المنظور:
          قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ       ص (75)
لنقول بأن الله يطلب من إبليس الإفصاح عن سبب عدم سجوده لآدم وذلك باختيار أحد أمرين: إما أن يكون قد استكبر أو أن يكون من العالين، أليس كذلك؟
إما أن يكون السبب هو التكبر: أي استكبار إبليس على آدم، فقد كان يظن إبليس أنه خير من آدم، أو
أن يكون من العالين: أي أنه يعبد إلهاً آخر غير الله رب العالمين
وبذلك يكون الاستفسار الإلهي من إبليس – كما نفهمه- على نحو: هل مشكلتك – يا إبليس- التي دفعتك لرفض السجود لآدم تتمثل في علاقتك بآدم (أي الاستكبار)، أم هي مشكلة متعلقة بالله نفسه (من العالين): وهنا يأتي الجواب الفوري الذي لا لبس فيه من إبليس على النحو التالي:
          قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
ليؤكد إبليس بما لا يدع مجالاً للشك بأن مشكلته لا تكمن في علاقته مع الذات الإلهية وإنما هي مشكلة تتمحور حول علاقته مع آدم، وبكلمات بسيطة نقول: لقد استكبر إبليس ولكنه لم يكن من العالين، وتأكد هذا الفهم في مواقع أخرى من كتاب الله عند الحديث عن رفض سجود إبليس لآدم:
          وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ   البقرة (34)
          إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ                                                 ص (74)
فإبليس لم يترك أبداً الإيمان بأن الله هو ربه، والدليل على ذلك هو أنه حتى بعد رفضه السجود لآدم وطرده من المكان الذي كان يتواجد به آدم، جاء طلبه من الله على النحو التالي:
          قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (35)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)                                              الحجر

النتيجة: لم يترك إبليس أبداَ الإيمان بأن الله هو ربه، لذا لم يكن من العالين لأن مشكلته لم تكن تنبع من علاقته بربه، ولكنه - دون أدنى شك- كان من المتكبرين لأن مشكلته كانت تكمن في علاقته بآدم

الخلاصة: أكبر والأعلى
إن ما يهمّنا هنا هو القول أن مفردة "أكبر" هي مفردة خاصة بالزمن، فالإله غير محدد بالزمن، لا بداية له ولا نهاية له (ويمكن التمثيل على ذلك بتصور خط الأعداد، فأنا أظن أننا نستطيع أن نحدد بداية وجود الذات الإلهية زمنيناً يوم أن نستطيع تحديد آخر رقم على خط الأعداد من الجهة السالبة، فقل لي ما هو آخر رقم على خط الأعداد من الجهة السالبة أقل لك متى كانت بداية الله، وبالمثل فإننا نستطيع أن نحدد متى ينتهي الوجود الإلهي زمنياً إن استطعنا تحديد آخر رقم على خط الأعداد من الجهة الموجبة)، لذا فهو أكبر (وليس الأكبر)، أما العلو فهي مفردة خاصة بالمكان، لذا فإن هناك حد لعلو الإله، فهو الأعلى (وليس أعلى)، وإلا لأصبح الإله كينونة متماهية غير محددة (وسنحاول أن نقدم التطبيقات العملية كالكرم والرحمة والشدة، الخ، لمثل هذا الإدعاء في مقالة لاحقة بحول الله)

عودة على بدء
إنّ الخطأ في التصور المبني على افتراض أن "على" تفيد الفوقية ربما جاء – في رأينا- من الفهم الخاطئ لمثل السياقات القرآنية التالية:
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ
وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                                            هود (44)
أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا
خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا                                                                                                            الكهف (31)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ                                      الحج (65)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ                                                          المؤمنون (22)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                                                                                                  المؤمنون (28)
وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا                                                                                                           الفرقان (63)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ                                        يس (56)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ                                                                                                                         غافر(80)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا                                نوح (26)
فقد ظن الكثيرون أن في مثل هذه الحالات فإن حرف الجر على يقيد الارتفاع (أو الفوقية)، فالسفينة قد استوت على الجودي، والمؤمنون متكئون على الأرائك، وعباد الرحمن يمشون على الأرض، وهكذا. ولكننا سنثير تساؤلاً بسيطاً هنا وهو: هل فعلاً يكون هؤلاء فوق تلك الأشياء التي ذكرت؟ وإن كان كذلك فكيف يمكن أن نتصور أن الناس جالسين (أو متكئين) فوق الأريكة مثلاً؟
إن مما لا شك فيه أن هناك ملامسة بين الجالس والشيء "المجلوس عليه"، فسفينة نوح تلامس الجودي، والركاب على ظهر السفينة يلامسون سطح المركب بأقدامهم وأجسادهم، والجالسون على الأرائك يلامسون تلك الأرائك بأجسادهم، وهكذا؟ ولكن يبقى التساؤل قائماً: هل هذه الملامسة تعني الفوقية؟ فهل السفينة التي تجرى على الجودي هي فوق الجودي فعلاً؟
وإن كان كذلك فكيف يمكن أن نتصور تلك الفوقية في قوله تعالى:
          خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ                                                                                                  البقرة (7)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ
وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ                                       الأنفال (11)
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ
أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا                                                                الإسراء (46)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا                                   محمد (24)
فكيف يمكن أن نتصور الربط أو الختم على كينونة كالقلب؟ وفي أي جهة يمكن أن يتواجد ذلك القفل الذي يمكن أن يتواجد على بعض تلك القلوب؟      
ولكي نجيب على مثل هذا التساؤل لا بد من إثارة تساؤلاً أكثر خطورة وهو: هل العلو (على) يفيد الفوقية بالملامسة السطحية فقط؟
إننا نستطيع تقديم عشرات الأمثلة من كتاب الله لتدل على أن العلو (في على) قد لا يقتضي الملامسة الفيزيائية السطحية، وإلاّ لتعذر فهم السياقات القرآنية التالية:
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ                                                                                                                     البقرة (143)
          يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ                                                                                                           البقرة (183)
          أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
                                                                                      البقرة (184)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ
لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ                                                                                                             البقرة (286)               وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ                                                                               آل عمران (75)
          فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ                                       آل عمران (97)
          فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا                                            النساء (103)
          يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا
اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ                                                 المائدة (2)
          مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ                       المائدة (99)
          يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ                       الأنفال (65)
          وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ                               التوبة (101)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً
طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ                                     النور (61)

إن السياقات القرآنية الكثيرة السابقة تشير جميعها إلى التصور التالي: ليس شرطاً أن يكون العلو(على) بالملامسة السطحية. فنحن شهداء على الناس (ليس بالملامسة الفيزيائية السطحية)، وكذلك الرسول شهيد علينا، والرسول كان على قبلة (بيت المقدس) ثم تحول عنها، والصيام مكتوب علينا، وربما نكون على سفر،  وهكذا.

فما معنى الحقيقي لحرف الجر "على"؟
لنقارن السياقات القرآنية التالية لنخرج من بعدها ببعض الاستنباطات حول معنى حرف الجر على:
1. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ                                                  المؤمنون (2)

2. ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ  الأنعام (92)
    الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ                                                   المعارج (23)
   وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ                                                المعارج (34)
إن التأمل بمثل هذه السياقات القرآنية يساعدنا على الخروج ببعض الاستنباطات نذكر منها على سبيل المثال:
1. إذا كان الإنسان داخلاً في الصلاة فعلياً فهو يخشع فيها، ولكنه حتى لو لم يكن في تلك اللحظة قائماً يصلي إلا أنه يبقى محافظاً على الصلاة، وهذا يعني أن المؤمن يكون محافظاً على الصلاة متى ما كان مراقباً لها، فهو يراقب أوقات الصلاة حتى يؤديها على وقتها،
2. ومن المعاني التي يمكن استنباطها أيضاً هو أن حرف الجر على يفيد ليس فقط المراقبة وإنما المراقبة الدائمة، فلا يمكن أن يعتبر المؤمن محافظا على الصلاة (أو دائم عليها) إن كان يؤديها على انقطاع، فالانتظام شرط لكي يكون الشخص محافظا على الصلاة، فالمؤمن يكون دائم المراقبة للصلاة حتى لا يفوته شيء منها.
3. ومن المعاني التي يمكن استنباطها هنا هو أن حرف الجر على يفيد الدقة، فالمؤمن المحافظ على الصلاة غالباً ما يودي الصلاة على وقتها وليس في وقتها، فوقت صلاة الظهر مثلاً يبدأ من رفع أذان الظهر حتى يرفع أذان العصر، ولكن ما يهمنا هنا هو أن المؤمن المحافظ على الصلاة لا ينتظر طويلاً حتى يقوم بتأدية صلاة الظهر مثلاً لأنه يحافظ على الصلاة فيؤديها على وقتها (وليس فقط في وقتها).

لذا فإن المراقبة (فلا غفلة) والديمومة (فلا تضييع) والدقة (فلا تأجيل) هي جميعا ما يشكل جزءاً رئيسياً من المعنى الحقيقي لحرف الجر على. وهذه المعاني جلية في جميع السياقات القرآنية التي ورد فيها استخدام حرف الجر على، ولنقدم بعض الأمثلة لتوضيح الصورة:

فربما يستحب بعض أهل الإسلام شيئاً من الكفر على شيء من الإيمان، فهل هذا يدعو إلى عدم ولايتهم؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
إن المدقق في النص القرآني يجد أن استحباب الكفر على كل الإيمان هو الشرط اللازم لعدم ولاية أقارب الدم، فحتى لا تتولى أباك أو أخاك فيجب أن يكون ممن يستحب الكفر على كل الأيمان، ولكن هل لو كان أبوك أو أخوك يستحب شيئاً من الكفر على شيء من الإيمان (كأن يكون ممن لا يستحبون تعدد الزوجات مثلاً) هل يدعوك ذلك إلى عدم ولايته؟
وهذا ينطبق على الكافرين الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
فهم قد استحقوا لقب الكفر عن جدارة لأنهم فضلوا الحياة الدنيا على كل الآخرة، فنحن نعلم أن بعض المؤمنين ربما يكون في أنفسهم شيئاً من تفضيل الحياة الدنيا على الآخرة، ولكن هل هذا يجعلهم ضمن فئة الكافرين؟ كلا، فالكافر لا يكون كافراً إلا أن يقع في الكفر كله.
لذا فإن الله عندما يقول أنه قد تاب عليهم في الآيات التالية، فذاك يشملهم جميعاً: 
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ                     التوبة (117)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ       التوبة (118)
ونحن لا يمكن أن نتصور أن يحدث ذلك دون أن يكون الله مطلعاً إطلاعاً كاملاً ودقيقاً على حالهم.
وعندما جاء التحريم على بني إسرائيل جاء ليشملهم جميعاً:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                                                                                                       النحل (118)
وكذلك بالنسبة لتحريم الزنا، فقد حرم الله ذلك على كل المؤمنين:
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ                                                                                                    النور (3)
وهذا ما حصل مع ثمود عندما استحبوا العمى على الهدى (كله).
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ                                                                                                     فصلت (17)
وعندما جاء فضل الله على الناس، جاء ليشملهم جميعاً، فلا يوجد إنسان على وجه الله ليس لله فضل عليه:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ                            النمل (73)

وكما الشمولية، فإن الالتزام (الديمومة) صفة لا تنفك عن استخدامات حرف الجر على، والأمثلة عديدة من كتاب الله:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ                                                                                                          هود (6)
فالله قد ألزم نفسه برزق كل دابة، فهو إذا لا يغفل عن ذلك، فرزقها لا يأتي يوما وينقطع أيام أخر، فإلزام الله نفسه برزقها باستخدام حرف الجر على لا يعني الفوقية إطلاقاً، وإنما عدم الغفلة ممن عليه الرزق. ولا زال مثل هذا الاستخدام جار على السنة الناس، فعدما تقول لشخص ما أنت عليك تجهيز المكان، فإنك بعدها تحاسبه إن لم يكن عمله كاملاً، فإن هو قصر ولو بأقل للقليل لكانت حجتك أن نقول له (أنا قلت لك منذ البداية أن ذلك عليك)
والمراقبة الحثيثة لا تفارق معنى حرف الجر على، والسياقات القرآنية التالية التي تفيد هذا المعنى كثيرة:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ                        البقرة (45)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ                          البقرة (238)

لهذا فإن موسى كان – بلا شك - مراقباً للمدينة حتى تمكن من دخولها خفية:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ                                                     القصص (15)
فلو علم أهل المدينة وقت دخوله لانتهى خبره إلى فرعون وملئه ولكانوا له بالمرصاد لحظة دخوله فيها.
وها هم قوم نوح يمرون عليه:
          وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ                                                                              هود (38)
فلا شك أن مرورهم ذاك كان مقصوداً، ليراقبوا ما يفعل الرجل، وإلاّ لجاء النص القرآني على نحو مروا به وليس مروا عليه كما في الآية التالية:
          إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
فما الفرق بين أن يمر عليك نفر من الناس وأن يمر بك نفر من الناس؟
لا شك أن المرور على الشخص يكون عملاً مقصوداً ينتج عنه رؤية طرف للطرف الآخر ومراقبته، ولا يمكن أن يكون عنصر المصادفة (أو الغفلة) جزء منه، ولكن المرور بــ الشخص –  في المقابل- ربما يحدث صدفة ودونما رؤية طرف للطرف الآخر، لذلك لا يستطيع المار أن يغمز لو كان الطرف الآخر واع متيقظ لحركات وفعلات الطرف الآخر:
          وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ
فنوح لا شك كان يعلم أن الناس الذين يمرون عليه كانوا يسخرون منه، ولكن قد لا يكون الذين آمنوا متيقظين لفعل الذين أجرموا، والمراقب للنص يجد أن فعل الطرف الذي كان يمر على نوح جاء على شكل سخرية، بينما كان فعل الطرف الذي كان يمر بــ الذين أمنوا على شكل غمز (يتغامزون).
وتتجلى هذه المعاني جميعها في مثل قوله تعالى:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ       البقرة (47)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ       البقرة (122)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ                    آل عمران (33)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ                       الأنعام (86)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ                                 الأعراف (140)
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ                                                                                                الأعراف (144)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ                                               الدخان (32)
لذا فإن الله عندما اختار، وفضل واصطفى، فقد كان مطلعاً على الدوام مراقباً مراقبة شاملة و دقيقة (لم يفته فيها شيء)، فكان ذاك هو الحق بعينه، وليس أدل على ذلك من قول الحق بخصوص موسى:
          أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)
فما معنى أن يصنع موسى "على عين ربه"؟

رؤية جديدة
وبهذا الفهم يمكن أن نفسر بعض السياقات القرآنية من زاوية جديدة، فالله يقول مثلاً
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ                                                                      آل عمران (179)
فالله ينفي أن يطلعنا (الناس) على الغيب، أليس كذلك؟ ولكن ألم يكن هناك من عباد الله من اطلع على الغيب؟ فماذا نقول في قصة صاحب موسى؟ وماذا نقول في قصة عيسى؟ ألم يكن ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون؟      
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ
وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ           آل عمران (49)
وماذا عن نبوءات يوسف لمن حوله، وخصوصاً في تفسيره لرؤيا الملك وما سيحل بأرض مصر على مدار أربعة عشرة سنة وعام زيادة؟
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ
يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)                                                    يوسف
وكيف بصاحب موسى يخرق السفينة، ويقتل الغلام، ويبني الجدار لو لم يكن له نصيب من ذاك العلم؟
فكيف يمكن إذاً التوفيق بين قول الحق "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" والأحداث العديدة في كتاب الله التي تدل على صحة نبؤات بعض الأنبياء والصالحين؟
الجواب: لنمعن التفكير في معنى الإحاطة (الشمولية) الذي يلازم حرف الجر على، فالمدقق في النص جيداً يجد أن الله قد قال "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ"، وهذا يعني – ضمن إطار تحليلنا الحالي لحرف الجر على- الغيب (كل الغيب) وذلك بدلالة وجود حرف الجر على. وهذا ينسجم بشكل مطلق مع قوله تعالى:
          اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ                                                                                                              البقرة (255)
فالله قد قضى أن يحيط بعض الناس بشيء من علمه، ولكن يستحيل أن يحيط الناس بكل علم الله، فالله لن يطلعنا على الغيب، ولكنه يطلعنا على شيء منه (من علمه وليس من غيبه – وسنحاول التفصيل في هذا الموضوع لاحقاً)، وهو ما ينسجم بلا تأويل مع قوله تعالى:
          وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ                   الأنعام (59)

واستنباطاتنا السابقة حول معنى حرف الجر على تفيدنا كذلك في فهم السياق القرآني التالي:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا         النساء (34)
فالرجال قوامون على النساء (كل النساء)، فحتى لو بلغت المرأة من العلم والمنصب ما بلغت تبقى القوامة بيد زوجها (حتى وإن لم يبلغ ما بلغت هي من العلم والمنصب).

عنصر المكان في معنى حرف الجر على
إن معظم الغلط الذي حصل حول تأويلات حرف الجر على جاءت من الفهم الخاطئ لعنصر المكان في حرف الجر على، فقد ظن الكثيرون - كما أسلفنا سابقاً - أن عنصر المكان الموجود في معنى حرف الجر "على" يفيد الفوقية، ونحن نظن أن الكارثة كل الكارثة كانت في مثل هذا التصور، ولنبدأ بالسياق القرآني التالي لتفنيد مثل ذاك الفهم المغلوط:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ                                                                                  المائدة (3)
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى                                                                                                 طه (10)
وهنا نبادر القارىء الكريم بمجموعة من الأسئلة بعد تدبر مثل هذه السياقات القرآنية جيداً:
- هل كان من يذبح على النصب يصعد فوقها لينحر قربانه؟
- هل وقف موسى فوق النار عندما ذهب آملاً أن يجد عليها هدى؟
إن هذا أبعد ما يمكن أن يكون عن الخيال، فالناس كانوا ينحروا (ذبحاً) القرابين للنصب دون أن يصعدوا فوقها، فهي آلهتهم، ولا أخال أنهم كانوا يفعلون ذلك، ولو فعلوا ذلك (ولو مرة واحدة) لأدركوا سخافة معتقدهم على الفور، فأي إله هو الذي يمكن أن تصعد لتقف على رأسه؟!
إن جل ما كانوا يفعلوه هو أن ينحروا قرابينهم بالقرب من الإلهة وربما عند أطرافها السفلية.
وأظن أن موسى لم يقف فوق النار مباشرة، ولم يجد الهدى ملامساً لسطح النار، فهو قد وقف في مقربة من النار وجاءه الهدى عند تلك النار.
لذا فعند استعراض العنصر المكاني في معنى حرف الجر "على" نجد أنها تفيد المجاورة كما في حالة موسى والنار، وتفيد الدونيّة كما في حالة ذبح القرابين على النصب.
واستخدامات حرف الجر على تفيد الارتفاع في مواطن كما تفيد الانخفاض في مواطن أخرى، وليس أدل على ذلك من مشهد العرض الذي يتكرر بشكل كبير في كتاب الله، فقد حدث العرض الأول يوم أن خلق الله آدم وطلب من الملائكة السجود لآدم:
          وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ                                                                                                         البقرة (31)
فكيف يمكن أن نتصور عملية العرض تلك؟ فهل كان مشهد الفوقية متوافر فيها؟ لا شك أن هناك طرفان في كل عملية عرض: المعروض والمعروض عليه (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية عذاب القبر)، ولكننا هنا نلتزم بسؤال واحد وهو: كيف يكون المعروض والمعروض عليه مكانياً بالنسبة لبعضهم البعض؟ فما هو مكان المعروض بالنسبة للمعروض عليه؟
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
فكيف يتم عرض الذين كفروا على النار؟ وكيف سيكون وجود الذين كفروا (المعروض) مكانياً بالنسبة للنار (المعروض عليها)؟
لا شك أنه حتى تتم عملية العرض يجب أن يكون هناك مسافة بين المعروض والمعروض عليه بغض النظر عن مكان كل منهم بالنسبة للآخر، فيستحيل أن يتم العرض إذا كان هناك تلاصق بين المعروض والمعروض عليه، فأنت عندما تقوم بعرض فيلم تلفزيوني أو مسرحي على المشاهدين تكون هناك مسافة بين المعروض (الفلم) والمعروض عليهم (الجمهور)، وهكذا. وبهذا الفهم نستطيع أن نفهم السياقات القرآنية التالي:
          إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ                                            ص (31)
          وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ الأحقاف (20)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ                                                                          الأحقاف (34)
وهذا الفصل بين المعروض والمعروض عليه ضرورة لابد منها خاصة إذا ما تصورنا المشهد التالي:
          وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا                                                                                                 الكهف (48)
فمن غير المنطقي أن يكون هناك تلاصق بين المعروض (الناس) والمعروض عليه (رب الناس) في يوم العرض الأكبر. والاستحالة تكمن في وجود المعروض (الناس) فوق المعروض عليه (رب الناس).

إنّ أهم ما نصبوا إليه من قراءتنا لمثل هذه السياقات التالية هو ما يخص الجانب المكاني في حرف الجر على، فهذه السياقات القرآنية تدل بما لا يدع مجال للشك أن حرف الجر على لا يفيد الفوقية المكانية إطلاقاً، وإلاّ لتعذر علينا فهم كيف سيتم عرض الناس على ربهم، هل سيكون الناس إذاً "فوق" ربهم (وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ) ؟ إنّ هذا أبعد ما يكون عن الحقيقية، ولكن لمّا كان الله بكل شيء محيط، فإننا نفهم أن العرض على ربنا سيكون على نحو أن الله محيط بالناس من كل اتجاه، فعلى هنا تفيد الإحاطة المكانية، ونستطيع أن نتصور مثل هذا المشهد بالتمثيل الذي تقدمه الآية الكريمة التالي:
           ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۖ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ ۖ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ                                 الأنعام (143)
فنحن نظن (ولله المثل الأعلى) أنّ الرحم يشتمل على ما فيه (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ)، لذا فهو يحيط بكل ما فيه من كل اتجاه.
فالله سيكون مطلعاً على الناس من كل اتجاه (لا يخفى عليه شيء)، لذا فإن المشاهدة والمراقبة الكلية التي تبين السيطرة الإلهية على الموقف من كل اتجاه متوافرة في حرف الجر على.
ولتبسيط الفكرة أكثر، فنحن لا زلنا نقول - مثلاً - أن القاهرة تقع على النيل، فهل يعني أن المدينة متواجدة فوق النيل تواجداً فيزيائياً؟ كلا وألف كلا، إنها فقط الإطلالة (الرؤيا) المسيطرة، فالمدينة تطل بطريقة مسيطرة على النهر، ولكن بالمقابل لا نستطيع أن نقول أن المدينة المنورة - مثلاً - تقع على البحر الأحمر بالرغم أن المسافة الفاصلة بينهما لا تتجاوز عشرات الكيلو مترات، ولكننا نستطيع بلا تردد أن نقول أن جدة تقع على البحر الأحمر، وذلك ليس للملاصقة المكانية، وإنما للإطلالة التي تتمتع بها المدينة على البحر. فالأردن - مثلا - لا يقع على البحر الأحمر بالرغم من أن خليجه (العقبة) جزء من البحر الأحمر، وذلك لسبب بسيط وهو –في رأينا- أن إطلالة الأردن على البحر الأحمر تأتي من زاوية لا تمكنها من الرؤيا المسيطرة على البحر، ولكننا نقول أن مصر تقع على البحر الأحمر أو البحر المتوسط، وذلك لأن حرف الجر "على" يفيد الرؤيا المسيطرة وليس الرؤيا الجزئية أو الجانبية.
لذا فعندما نقول أن المتحاورين جالسون على الطاولة فإننا نستطيع أن نستنتج عدة أمور:
1. ذلك لا يعني الفوقية، فهم بكل تأكيد ليسوا فوق الطاولة وإنما حولها
2. وذلك لا يعني الملامسة المباشرة، فقد يكون هناك مسافة بين الطاولة والمتحاورين الجالسين حولها
3. وذاك يعني الإحاطة، فهم ملتفون حول الطاولة
4. وذلك يعني الرؤيا الكاملة، فالمتفرجون في الصف الثاني أو الثالث حول المتحاورين لا يكونون من الجالسين على الطاولة، لأن من يجلس على الطاولة يجب أن يكون في موضع يمكّنه من الرؤيا المباشرة لكل ما على الطاولة، لذا فإن حجبت الرؤيا بعض الشيء (كمن يجلس في الصف الثاني أو الثالث من المتفرجين لا يعتبرون جالسين على الطاولة).
والآن لنعود بهذا الفهم إلى قضية استواء الرحمن على العرش كما تصورها الآية الكريمة التالية:
          الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)
لنقول:
1. العرش مفصول عن الذات الإلهية، فلا يوجد ملاصقة بين العرش ورب العرش (القرب)، فالعرش موجود ضمن نطاق السموات والأرض، والرحمن موجود خارج نطاق السموات والأرض
2. الرحمن ليس فوق العرش من اتجاه واحد بل هو محيط إحاطة كاملة بالعرش من كل اتجاه، فالسموات مطويات بيمينه والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة.
3. الرحمن يسيطر على العرش بالرؤيا المباشرة الشاملة والدقيقة، فلا يفوته شيء.

فالمراقبة المسيطرة الدقيقة الشاملة الدائمة والمقصودة هي ما يحكم استخدام حرف الجر على، فالله قد حرم الأرض على القوم الفاسقين من بني إسرائيل (الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة) أربعين سنة:
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ                                                                                                          المائدة (26)
وهو قد جعل الرجس على الذين لا يؤمنون:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ                 الأنعام  (125)
فهم قد وجدوا أبائهم على الفواحش، وذلك لديمومة فعلهم وفعلهم ذلك عن قصد:
          وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ                                                               الأعراف (28)
وكثير من الناس من يكذب، ولكن الذي يفتري على الله الكذب، فهو يفعل ذلك عن علم وعن قصد:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ                                                                     الأعراف (37)
         
وللحديث بقية

24 تشرين ثاني 2011




[1] يجب أن لا نخلط بين العالين (أو العالون) من جهة والأعلون من جهة أخرى، فالعالين سمة مذمومة بينما الأعلون سمة محمودة (وسنتعرض لذلك لاحقاً)