📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok اسأل الدكتور

تعدد الزوجات 2


يقدم هذا المقال، وهو الجزء الثاني من سلسلة حول تعدد الزوجات، تحليلاً جذرياً ومثيراً للجدل للآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع. يطرح الكاتب، الذي يصف أفكاره بـ"الافتراءات الخطيرة"، نظريات غير تقليدية حول الحكمة من التعدد، ويربطه بكفالة الأيتام. كما يناقش آلية التعدد مقترحاً التمييز بين الزواج من بكر وثيب، ويحلل قصة زواج النبي محمد من زينب بنت جحش من منظور جديد، مؤكداً أن المقال موجه لطلاب العلم للنقاش الأكاديمي وليس للعامة.

تعدد الزوجات 2

هذا هو الجزء الثاني من مقالتنا تحت عنوان تعدد الزوجات التي نتعرض فيها لما جاء في كتاب الله في الآية الكريمة التالية:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ
النساء ﴿٣﴾

ونحن نستميح القارئ الكريم العذر أن ينزل عند رغبتنا هنا بأن لا يتقبل ما جاء في مقالتنا هذه من أفكار، وذلك لأنها افتراءات خطيرة جداً ربما قد تؤدي (إن صحت) إلى نتائج كارثية ليس فقط على الأفراد وإنما على المجتمعات. فنحن نظن أن افتراءاتنا في هذه المقالة ربما تكون قد تجاوزت كل الحدود وتخطت جميع الخطوط الحمراء. لذا فإننا نرى أن المكان الوحيد لتداول الأفكار المطروحة في هذه المقالة هو قاعة الدرس بين طلبة العلم فقط (إن هم أرادوا ذلك). فالمقالة متاحة لطلاب العلم فقط لنقاش الأمر من كل زواياه بغرض إثبات أو تكذيب كل افتراء نقدمه. ونحن ممتنون (بكل ما في الكلمة من معنى) لكل من يستطيع أن يقدم الدليل (سواء كان مؤكدا أو ناقضا) لكل جزئية أثرناها في هذه المقالة. فالمقالة متاحة فقط لمن أراد أن يناقش وليست موجهة لمن يأخذ الأمور على أنها مسلمات، أو لمن اعتاد أن يرفض الأفكار لمجرد أنها تثير الشكوك حول موروثاته العقائدية التي ألف عليها آباءه من قبله. فنحن نرى أن من أراد أن يبقي على موروثاته العقائدية كما هي فهو في غنى أن يكلّف نفسه عناء طلب المقالة أو قراءتها. أما من كان هدفه تمحيص الأمر من كل زواياه لغرض الوصول إلى الحقيقة بإتباع الدليل، فإننا نظن أن ما جاء في هذه المقالة ربما يثير شيئا مما يمكن أن يرضي شغف الباحث عن الحقيقة.


تعدد الزوجات:: الجزء الثاني

كان محور البحث في الجزء السابق من هذه المقالة يدور حول فقه تعدد الزوجات السائد بين عامة المسلمين، وافترينا القول من عند أنفسنا بأن الفكر السائد عند جميع المدارس الفكرية الإسلامية هو فكر – في ظننا- خاطئ لم يستطع أن يستنبط التشريع الرباني الصحيح في هذا الجانب، فحاولنا الترويج لافترائنا هذا بإعادة قراءة الدليل من مصادر التشريع الإسلامي الحقيقية للوصول إلى الفكر الذي نظن أنه سليما، وكان ذلك يتمثل بجلب الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه على كل سؤال يطرح وجواب يقدّم، فكانت الأسئلة التي أثرناها هناك هي:

  1. هل يحق للرجل أن يعدد الأزواج؟
  2. هل يجوز للمرأة أن تعدد الأزواج؟
  3. لم يتزوج المسلم أربع نساء فقط في الوقت الواحد؟
  4. لم تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نساء؟
  5. لم لم يعقد النبي على بعض نساءه كمارية القبطية مثلاً؟
  6. الخ.

وبعد قراءتنا الخاصة (ربما المغلوطة) للآيات الكريمة التالية:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
آل عمران ﴿١٤﴾
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾ وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ﴿٣﴾ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴿٤﴾ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿٥﴾ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴿٦﴾
النساء ١-٦

خرجنا بالاستنباط المفترى من عند أنفسنا بأن الحكمة من تعدد الزوجات تكمن في الافتراض بأن النساء لسن من الناس، وهنّ جزءا من متاع الحياة الدنيا كـ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (انظر الآية نفسها).

وبعد قراءتنا (ربما المغلوطة) للآية الكريمة التي تتحدث عن عدد الزوجات ومقارنتها بالآية الكريمة التي تتحدث عن أجنحة الملائكة:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا
النساء ﴿٣﴾
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
فاطر ﴿١﴾

خرجنا بالاستنباط المفترى من عند أنفسنا بأن الرجل يستطيع الزواج بما طاب له من النساء، فالتعدد لا يقتصر على أربعة نساء فقط كما هو معروف عند تقريباً جميع الفرق الإسلامية، وإنما يستطيع الرجل – في ظننا- أن يتزوج من النساء بعدد أجنحة الملائكة إن طاب له ذلك.

وبعد قرأتنا (ربما المغلوطة) للآية الكريمة التالية:

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا
الأحزاب ﴿٥٢﴾

خرجنا بالاستنباط المفترى من عند أنفسنا بأن النبي محمد هو وحده من جاء في حقه نص صريح يمنعه من الاستزادة من النساء، وكان ذلك – برأينا- "عقابا" له على ما بدر منه في حادثة زواج زينب بزيد. (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان: ثلاثية المرأة)

وسنتابع في هذا الجزء من المقالة الحديث في فقه تعدد الزوجات (المفترى من عند أنفسنا) طارحين تساؤلين اثنين وهما:

  1. ما الذي بدر من النبي محمد حتى جاء المنع الرباني له من الاستزادة من النساء؟
  2. كيف يجب أن يتم تعدد الزوجات لمن طاب له ذلك؟

ولكن قبل الخوض في هذين المبحثين نجد أن الضرورة القصوى تستدعي التأكيد على أن كل الأفكار التي سترد بعد قليل ليست أكثر من فلتات ذهنية للكاتب، وهي بلا شك ليست فتاوى للناس[1]، فالكاتب يبرأ إلى الله من كل من يتخذ من كلامه هذا دليلاً (إذا لم تثبت صحته)، فالباحث على يقين أن ما سيطرح بعد قليل هو كلام غاية في الخطورة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية، ليس على الأفراد فقط بل وعلى المجتمعات أيضاً، لذا على الجميع أن يتحمل مسؤوليته إن هو أراد أن يأخذ بمثل هذا الهراء الذي نقول، ولا يقبل الباحث بأي حال من الأحوال أن يكون كلامه حجة على كلام غيره، وإنما الحجة الوحيدة هي ما جاء في كتاب الله، وليس فهمنا (لما في كتاب الله) الذي لا نستبعد أن يكون مغلوطا، فهذه دعوة إلى نزهة فكرية مع الكاتب لا تتعدى حدودها أكثر من قاعة الدرس، فالموضوع مطروح للنقاش ضمن حدود الغرفة الصفية، وليست كلام للتسلية في أوقات الفراغ. اللهم فاشهد.

أما بعد

المبحث الأول: لماذا مُنِع النبي محمد من الاستزادة من النساء؟

السؤال: لماذا جاء نص صريح بحق محمد يمنعه من الاستزادة من النساء؟

لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا
الأحزاب ٥٢

ألا ترى – عزيزي القارئ- أن هذه الآية الكريمة الموجّهة للنبي محمد على وجه الخصوص تشير– بما لا يدع مجالاً للشك- أن الأمر الإلهي قد صدر بحق النبي بأن لا يتزوج النساء ولا أن يتبدل بهن ولو أعجبه حسنهن بعد هذا الوقت؟

السؤال: لِم صدر مثل هذا الأمر الرباني بحق محمد على وجه الخصوص؟

رأينا: أنا أعلم بأن للحديث عن النبي محمد (عليه أفضل وأتم الصلاة والسلام) طابعاً خاصاً، وقد لا يحتمل الكثيرون الكلام متى وصل إلى شخص النبي الكريم، وربما ستكون ردة فعلهم كبيرة، لذا سأحاول قدر المستطاع انتقاء الكلمات حتى لا نصيب أحدا بسبب كلامنا هذا بشيء من الحرج، والغاية المرجوة لا تعدو أكثر من مناقشة لغوية لمفردات الآية الكريمة السابقة، ربما نصيب في رأينا وربما نخطئ، والقارئ الكريم مدعو أولاً وقبل كل شيء أن يراجع ما قاله الأقدمون بخصوص هذه الآية الكريمة قبل أن يذهب بآرائنا بعيداً عن ما نحاول نحن أن نزعمه. والهدف الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا هو أن فهم النص القرآني جيداً ضرورة ملحة لكي نستطيع أن ندافع عن النبي محمداً بالحجة والبرهان، وليس بالعاطفة التي تضر أحياناً أكثر مما تنفع، فلقد خَبِرنا في بلاد الغرب أن أكبر هجوم على شخص النبي محمد يأتي على ألسنة الكارهين من هذا الجانب، والمطلع على ما كتبه أولئك عن النبي يجد أنهم قد نعتوه بألفاظ لا يمكن أن ينعت به شخص عادي ناهيك أن يكون رسول أمة يتعدى قوامها ربع سكان المعمورة، وما الأفلام المسيئة ولا الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لشخص النبي إلا صورة مرئية تعكس أفكارهم الدفينة عن حياة النبي الخاصة مع أزواجه. لذا فإننا نسأل الله وحده أن يهدينا إلى الحق الذي نقول فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.

أما بعد،

بعد قراءة الآية الكريمة السابقة خرجنا بالاستنباطات المفتراة التالية التي هي من عند أنفسنا:

  1. جاء النهي للنبي عن النساء (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ)
  2. جاء النهي للنبي عن النساء في وقت محدد من دعوته وحياته (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ)
  3. جاء النهي للنبي عن تبديل الزوجات بعد الآن، فلا يحق للنبي أن يبدل أزواجه بأخريات بعد الآن (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)
  4. جاء النهي للنبي عن النساء في وقت محدد بغض النظر عن رغبة النبي في النساء وإعجابه بـ بعضهن (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)
  5. جاء الاستثناء من ذلك خاصاً بما ملكت يمين النبي (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ)
  6. انتهت الآية الكريمة بتأكيد رقابة الله على كل شيء (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا)

السؤال: لم صدر هذا الحكم الإلهي على نبيه في ذلك الوقت بالذات؟ لِمَ لَم يصدر بحقه من ذي قبل؟ ولم جاء القرار الإلهي على هذه الشاكلة؟

افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الإجابة على مثل هذا التساؤل يمكن استنباطها من الآية الكريمة التالية:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
الأحزاب ٣٧

رأينا: نحن نزعم الظن أن هذه الآية الكريمة تشير إلى عدة قضايا، نذكر منها:

  1. أن النبي قال للذي أنعم الله عليه وأنعم النبي نفسه عليه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)
  2. أن النبي في فترة زمنية معينة قد أخفى شيئاً في نفسه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ)
  3. ما كان للنبي أن يخفي ذلك في نفسه لأن الله لا محالة مبديه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)
  4. كان سبب إخفاء النبي لذاك الشيء في نفسه هو خشيته للناس (وَتَخْشَى النَّاسَ)
  5. كان على النبي أن لا يخشى الناس في ذلك الأمر وأن يقدم خشية الله على خشية الناس لأن الله أحق بالخشية من الناس (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)

تسوقنا هذه القضايا مجتمعة إلى طرح السؤال الأول التالي: ما الذي أخفاه النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في نفسه حتى تدخّل الله بنفسه ليبديه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)؟

افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن النبي محمد قد أخفى في نفسه كلمة واحدة ما كان يجب عليه أن يخفيها، فأنزل الله قرآناً يتلى ليبدي تلك الكلمة التي أخفاها النبي في نفسه. فما هي تلك الكلمة؟

قبل أن نتابع الحديث حول هذا الموضوع، لابد من أن نبوح برأينا بأن هذه الآية الكريمة قد تكون من أعظم الأدلة على صدق رسالة محمد، لأنه لو كان محمد يأتي بالقرآن من تلقاء نفسه لما جاء بمثل هذه الآية الكريمة التي تنتقده أشد انتقاد، لا بل وتبدي ما كان يحاول أن يخفيه في نفسه، إن أبسط ما يمكن أن ترشدنا إليه هذه الآية الكريمة هو أن محمداً ما كان يستطيع أن يتقوّل على ربه بعض الأقاويل[2]، لأن الله لا محالة مبدياً ما يخفي محمد في صدره:

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ
الأنعام ﴿٥٠﴾
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
يونس ﴿١٥﴾
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
الأحقاف ﴿٩﴾
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦﴾ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿٤٧﴾
الحاقة ٤٤-٤٧

نتيجة: لا يستطيع محمد أن يأتي بقرآن من عند نفسه أو أن يبّدل ما ينزل عليه من ربه، ولكنه لا محالة متبع ما يوحى إليه من ربه.

السؤال: ما علاقة ذلك بقصة زيد مع زينب؟

جواب: نحن نظن (مفترين القول طبعاً) أن المتدبر للنص القرآني ربما يجد أن الحديث قد جرى بين محمد وزيد على انفراد، ولم يطّلع الناس عليه، وما كان محمد سيبوح به ليحدث الناس بما جرى بينه وبين زيد، وما كان زيد سيحدث الناس بما جرى بينه وبين محمد ليحدث الناس فيه، لذا كان من الممكن أن تبقى القصة برمتها طي الكتمان، ولكن لمّا كان الله هو الرقيب بنفسه على كل شيء (وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا)، ما كان سيسمح بأن لا ينكشف ما أخفى محمد في نفسه حتى لو لم يطلع الناس بأنفسهم عليه، لذا لابد من مراقبة الآية الكريمة نفسها ومحاولة تبيان كيف أنها تنهي الحديث بإثبات الرقابة لله على كل شيء:

لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا
الأحزاب ٥٢

افتراء من عند أنفسنا: لقد أخفى محمد في نفسه كلمة واحدة لم يكن الناس ليطلعوا عليها لولا أن الله هو من أبداها لهم.

السؤال: كيف أخفى محمد – كما تزعم- كلمة واحدة في نفسه؟ وما هي تلك الكلمة التي أخفاها محمد في نفسه؟ وهل يتطلب إخفاء كلمة واحدة مثل هذا الانتقاد الإلهي الشديد لنبيه الكريم؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الكلمة التي أخفاها محمد في نفسه هي كلمة "بمعروف"

الدليل

رأينا: نحن نظن أن القاعدة الإلهية الخاصة بإمساك النساء هي على النحو التالي:

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
البقرة ٢٢٩
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
البقرة ٢٣١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا
الطلاق ٢

ولو حاولنا أن نقارن ما جاء في هذه الآيات الكريمة عن إمساك الأزواج بما صدر عن محمد عندما طلب من زيد أن يمسك عليه زينب، لوجدنا أن قول محمد قد جاء - كما يصوره القرآن الكريم - على النحو التالي الذي يخلو من كلمة "بِمَعْرُوفٍ"، انظر الآية الكريمة جيداً

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ...

لذا نحن نتجرأ على أن نفتري القول بأنه كان الأولى بمحمد الذي لا شك يعرف أن السنة الإلهية تتمثل بأن الإمساك يجب أن يكون بالمعروف، كان الأولى به – نحن نزعم الظن- أن يقول لزيد:

أمسك عليك زوجك بالمعروف

أو – بالمقابل- كان الأولى بمحمد أن يقول لزيد (إن علم أن الحياة بين زيد وزينب قد أصبحت محالة بالمعروف) أن يفارقها بالمعروف:

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا
الطلاق ٢

النتيجة المفتراة: نحن نفتري الظن أن محمد قد وجد نفسه في موقف كان يجب أن يتصرف بواحدة من طريقتين وهما:

  1. أن يقول لزيد أن يمسك عليه زوجه بالمعروف
  2. أو أن يقول لزيد أن يفارق زوجه بالمعروف

ولكن الذي فعله النبي محمد كان قوله لزيد أن يمسك عليه زوجه وكفى:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ

فكانت المشكلة تكمن – في رأينا- بأن محمد لم يبد كلمة "المعروف" عندما طلب من زيد أن يمسك عليه زوجه.

السؤال: لكن لماذا؟ وما الفرق بين الإمساك من جهة والإمساك بالمعروف من جهة أخرى؟ وماذا يضير أن يقول محمد لزيد أن يمسك عليه زوجه وكفى؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الإمساك بالمعروف يتطلب حصول المعاشرة الزوجية بالجماع، أما الإمساك لوحده فلا يتطلب ذلك بالضرورة، ولننظر إلى الدقة المتناهية في النص القرآني في قوله تعالى:

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
النساء ١٥

فعندما يتم إمساك المرأة التي تأتي بالفاحشة في البيت فإن ذلك يحدث – على ما أظن- دون حصول المعاشرة الزوجية بالجماع، فلا أخال أن رجلاً يمسك زوجته في بيته بسبب فاحشة أحدثتها يقوم بعد ذلك بعملية الجماع معها. لذا جاء قول الحق في الآية الكريمة بأن يمسكوهن في البيوت "فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ": ولم يأتي على نحو:

فأمسكوهن بالمعروف في البيوت، أو

فأمسكوهن في البيوت بالمعروف

فالمرأة التي تمسك في البيت بسبب الفاحشة يتم تقديم المأكل والمشرب والمبيت لها (مقومات الحياة الضرورية)، ولكن لا يتم معاشرتها بالجماع، وقد نهى الله الرجال جميعاً عن إمساك النساء ضرارا:

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
البقرة ٢٣١

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن من أمسك المرأة بغير معروف، فقد أمسكها إذاَ ضراراَ، وقد اعتدى على بعض حقوقها (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا)، وهو بذلك يظلم نفسه (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)

افتراء من عند أنفسنا: إنْ صحّ استنباطنا هذا، فإننا نتصور ما قام به محمد وأخفاه في نفسه على النحو التالي: تحدث مشكلة بين زيد وزينب بسبب عدم رغبة زينب بالزواج من زيد ورغبتها بالزواج بمحمد، يقع في نفس النبي النبأ اليقين أن زينب لا محالة ستصبح زوجة له (فالله هو من سيزوجها إياه)[3]، وفي الوقت ذاته تقع الخشية في نفس محمد من كلام الناس (بأن محمد يتزوج من زوجة أدعياءه). والحالة هذه، يحاول محمد أن يتجنب مثل هذا الموقف "المحرج" فيقوم بمحاولته الأخيرة في الإصلاح بين زيد وزينب، فيأتي حديثه موجها لزيد على النحو التالي:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ

وإذ لم ننسى بعد أن زيدا قد لجأ إلى النبي محمد ليحدثه بأمر علاقته بزينب، وأن الحديث بينهما قد وصل إلى أدق الخصوصيات مادام أن محمد هو بمنزلة الوالد لزيد، فلا أظن أن زيداً يمكن أن يخفي شيئاً عن محمد، وقد جاء رد محمد على كلام زيد ويكأنه يقول له – حسب ظننا طبعاً- بأن يدع زينب في عصمته كزوجه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)، وليقدم لها أسباب الحياة بالمأكل والملبس والبيت ونحوها، ولكن باستثناء شيء واحد وهو أن لا يعاشرها معاشرة الزوج لزوجته بالفراش (أي بالمعروف). فنحن نفتري الظن بأن النبي محمد قد سكت عن تلك الكلمة التي يعرفها في نفسه، غير راغب في الوقت نفسه عن قبول زينب كزوجة له، فإرادة النبي بنكاح زينب لم ينفيها النص القرآني، ولو شئت فاقرأ قول الحق:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
الأحزاب ﴿٥٠﴾

فالرجل لا يمكن أن ينكح المرأة إذا لم تتوافر عنده الإرادة بذلك. ولكن النبي – في ظننا- لم يكن ليحدّث بشيء من ذلك حتى يحصل الطلاق الفعلي بين زيد وزينب، وحتى يحدث التزويج الإلهي له بزينب. فالنبي يعلم أن التزويج – كما أسلفنا- هو فعل يحدثه الله، انظر تتمة الآية الكريمة قيد البحث نفسها:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
الأحزاب ٣٧

فخلال تلك الفترة الزمنية التي وقعت فيها المشكلة بين زيد وزينب، وحتى حصول التزويج الإلهي لمحمد بزينب، "لم ينيب" النبي محمد – نحن نزعم- مما قال لزيد وأخفاه في نفسه[4] بأن النساء تٌمْسَك بالمعروف أو تُسرَّح بالمعروف:

فَإِمْسَكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ

عندها جاء رد من لا يستحي من الحق (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) مانعاً النبي من الزواج بالنساء بعد ذلك أو تبديلهم حتى وإن أعجبه حسنهن:

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴿٥٢﴾

الدروس المستفادة: نحن نستطيع أن نستقي من هذا الطرح بعض الدروس التي قد ترد الشبهة عن النبي محمد، نذكر منها:

  1. محمد لم يكن يقول قرآنا من عند نفسه، ولم يكن يستطيع أن يبدل ما يوحي إليه من ربه، وإلاّ لما اضطر أن ينتقد نفسه أشد انتقاد على سلوك لم يطّلع عليه إلا الله، فمن يستطيع أن يعلم ما كان يخفي محمد في نفسه لو لم يأتي ذلك قرآنا يتلى من رب محمد؟
  2. محمد ليس أكثر من رسول يتبع ما يوحى إليه من ربه، وليس شخص معصوم عن الوقوع في الخطأ، فقد وقع فيه كما وقع أخوه موسى من قبل، وكما وقع إبراهيم فيه، وهكذا.
  3. محمد ليس أبا أحد من رجالنا ولكنه رسول الله وخاتم النبيين:
    قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿٩﴾
    فكيف بعض المتطيرين من علماء هذه الأمة الذين يخطبون على رؤوس العباد بأن الكون كله قد خلق من أجل محمد، أو أن الله قد قرن اسم محمد باسمه يوم أن خلق السموات والأرض، أو أن محمدا أفضل خلق الله ولولاه لما خلق الكون بأكمله، أو أن محمدا سيشفع للناس ليخرجهم من النار وهو الذي صاح بابنته فاطمة وبعمه العباس – كما تقول رواياتهم- أنه لن يغني عنهم من الله شيئا. فأنا لا أفهم الفرق بين ما يحدّث به كثير من المسلمين أن محمداً سيخلصهم من العذاب وما يحدث به النصارى بأن عيسى سينقذ أتباعه من النار! ألم يقرأ هؤلاء في كتاب الله قوله تعالى؟
    وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿١٤٤﴾
    وألم يقارنوا ذلك بما جاء في حق المسيح عيسى بن مريم في كتاب الله نفسه؟
    مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿٧٥﴾
    وكيف بهم يحدثون عن شفاعة من جاء على لسانه في كتاب الله:
    قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿٩﴾
    فهل يمكن أن يحدث من لا يدري ما سيفعل به بمثل هذه الأحاديث؟ والأهم من هذا كله هو: أين ما أوحي إليه في هذا الموضوع؟ أليس هو متبع ما يوحى إليه من ربه (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)؟

    من يدري!!!

  4. محمد يميل إلى حب النساء لحسنهن كما كل الرجال، لكن هذا لا يجب أن يدفعه أن يُحْدِث ما يمكن أن ينقص من حق المرأة شيئاً مهما صغر، فكونه رسول الله وخاتم النبيين لم يشفع له أن يخفي في نفسه شيئاً ربما كان سيلحق ضرراً بامرأة
  5. الدين ينطبق على محمد الرسول كما ينطبق على كل مسلم، فمحمد هو أول من يجب أن يطبق الشريعة التي جاء بها على نفسه قبل أن يطلب تطبيقها على غيره، فلا أظن أن محمدا سيمتع نفسه بعدد كبير من النساء ويحدد ذلك على غيره[5]. فمحمد كان نفسه قرآنا يمشي على الأرض، لذا يستحيل أن يكون محمد الرسول النبي يناقض في تصرفاته ما جاء في كتاب الله.

المبحث الثاني

لماذا لم يعقد النبي عقد النكاح على مارية القبطية؟

سؤال: لماذا لم يعقد النبي عقد النكاح على مارية القبطية؟

جواب: لو راجعنا أمهات كتب الأحكام (والعقائد) في هذه الجزئية لما وجدنا أن مارية القبطية كانت واحدة من زوجات النبي أو واحدة من أمهات المؤمنين، ونحن نطلب من القارئ العادي – من هو من مثلي- أن ينظر إلى جدران أي مسجد يقيم فيه صلاته ليرى ما ألصق على جدرانه من اللافتات التي تبين بالعدد والاسم والكنية والقبيلة، الخ. زوجات النبي وأمهات المؤمنين، فهل سيجد مارية القبطية قد ورد أسمها بينهن؟ ألم تكن مارية أماً لبعض أبناء النبي من الذكور؟ كيف بها تكون أم إبراهيم (في أصح أقوال العلماء) ولا يعقد عليها النبي عقد النكاح؟ الخ.

أنا أعلم خطورة هذه التساؤلات، فمجرد طرحها على آذان الطلبة في قاعة الدرس في الجامعة العتيدة التي أدرس بها أدى بي أن أُجلب للتحقيق، وأن توجّه لي العقوبة المشددة بأن لا أعود إلى طرح مثل هذه الأفكار على مسامع الطلبة، لأني قد قلت – في ظنهم- ما لا يجب أن أقول، وأني قد طرحت على مسامع الناس ما لا يجب أن يطرح. لذا فإني أعيد التأكيد على أن طرح هذه الأمور يجب أن يكون للفهم وليس للمجادلة. فمن أراد أن يفهم – في عقيدتي- فعليه أن يثير التساؤل. ومن ظن أنه قد فهم فليضع رأسه في الرمال وليترك الآخرين يفعلون ما يشاءون في مؤخرته. فمادام أنه لا يسمع ولا يرى ما يفعلون بها، فهو – في عقيدتهم- إذن بخير.

وإلى من يظن أنه بحاجة أن يجد جواباً على هذه التساؤلات، فإننا سنضع بين يديه ما ظننا أنه الفعل الصحيح من منظور العقيدة التي حاولنا جاهدين فهمها (وإن كنا على يقين أن ذلك ليس أكثر من رأي بشري يمكن أن يدحضه الدليل بسهولة). ولكن حتى يأتي ذلك الدليل الذي ربما قد يدحض ما افترينا من قول، فإليك عزيزي القارئ رأينا الذي هو بلا شك يختلف عن رأي معظم من سبقنا من أهل الدراية كما تناقله عنهم أهل الرواية أربعة عشر قرناً من الزمان.

أما بعد،

السؤال: لماذا لم يعقد النبي عقد النكاح على مارية القبطية؟

جواب: لأنها كانت من أهل الكتاب ولم تؤمن مع محمد. كلام خطير خطير خطير، أليس كذلك؟

إذن لابد من الدليل الذي يسنده وإلا لأصبح كلام من يتبع هواه بلا هدى ولا كتاب منير.

الدليل

تعرضنا في أحد الأجزاء السابقة من مقالاتنا لمعنى مفردة النكاح كما فهمناها من النص القرآني، وافترينا الظن بأن النكاح ليس أكثر من إبرام عقد الزواج ولا يستوجب بالضرورة حدوث المباشرة الفعلية للنساء بالجماع، وقد حاولنا استنباط ذلك مما فهمناه من الآية الكريمة التالية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
الأحزاب ﴿٤٩﴾
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
البقرة ﴿٢٣٧﴾

فهذه الآيات الكريمة تدلنا بأن النكاح قد يقع دون حصول الجماع والمعاشرة الفعلية للنساء (أي المس). وعندها قدمنا افتراءنا الخطير التالي: أن عقد النكاح لا يعني الدخول بالمرأة بالمعاشرة الجنسية، لأن ذاك يعني باللفظ القرآني مس المرأة.[6]

وعندما دققنا في مفردة النكاح في الآيات الكريمة الأخرى التي ترد في كتاب الله، ظننا أن النكاح لا يقع إلا على مؤمنة:

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
البقرة ﴿٢٢١﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٠﴾

فخرجنا بالاستنباط الخطير التالي: لا يجوز إبرام عقد النكاح إلا على مؤمنة، فيجب أن تمتحن المرأة في إيمانها، فإن تبين أنها مؤمنة تصبح مؤهلة لأن تنكح. وإن لم تكن مؤمنة فلا تنكح مصداقاً لقوله تعالى (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ). وهذا ينطبق على المحصنات المؤمنات وعلى ما ملكت اليمين من المؤمنات:

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٢٥﴾

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن عقد النكاح لا يبرم إلا على مؤمنة، وهذا يشمل فئتين من النساء:

  1. المحصنات المؤمنات أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ،
  2. ما ملكت يمينك من المؤمنات مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [7]

إن مراد قولنا هو أنّ النهي الإلهي جاء عن "النكاح" وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ، فلا يحل للمسلم – برأينا- إيجاد الرابط القانوني في أن تكون المشركة زوجة للمؤمن بعقد يسمى النكاح، ولكن يحق للمسلم أن يستحل فروج غير المؤمنات برابط غير رابط النكاح. فما هو ذلك الرابط؟

السؤال: ماذا عن غير المؤمنة؟ وبكلمات أخرى طرحنا التساؤل التالي:

  • كيف ينهانا الله عن نكاح المشركات حتى يؤمن ونحن نعلم أن السبايا من المشركات في الحروب مثلاً هن من غنائم الحرب التي توزع على المحاربين؟

فكان علينا أن نخرج بفهم يوافق بين الأمرين: المسلمون يعاشرون ما غنموا من نساء الكفار وفي الوقت ذاته ينهاهم الله عن نكاح المشركات حتى يؤمن؟

رأينا المفترى: نحن نفتري القول بأن الله لم ينهانا عن معاشرة المشركات وإنما نهانا عن نكاح المشركات. ولكن كيف يكون ذلك؟

افتراء خطير جداً: لا يجوز إبرام عقد النكاح إلا على مؤمنة، فالمرأة تنكح فقط متى ثبت إيمانها، وبخلاف ذلك لا يجوز أن يبرم عليها عقد تحت مسمى عقد النكاح. فعلاقة الزواج بين المسلم والمرأة المؤمنة مبني على النكاح، ولكن الأمر يختلف بعض الشيء في حالة أن تكون المرأة غير مؤمنة مصداقاً لقوله تعالى:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٥﴾

الزواج ممن هي من أهل الكتاب

السؤال: كيف يتم إبرام عقد الزواج على من كانت من أهل الكتاب؟

جواب: نحن نظن أن الإجابة ربما تكون متوافرة في الآية الكريمة التالية:

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٣٣﴾

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن عقد الزواج يبرم على من كانت من أهل الكتاب بالمكاتبة فَكَاتِبُوهُمْ (وليس بالنكاح) شريطة أن يعلم أن فيهم خيرا (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا). فمن ظننت أن فيهم خيرا من أهل الكتاب، فلا ريب في أن تتزوجها، وتستحل فرجها، ولكن ذلك يكون ضمن عقد يسمى عقد المكاتبة وليس عقد النكاح.

إن هذا الطرح يعيدنا على الفور إلى السؤال الذي أثرناه عن مارية القبطية، لنطرحه مرة أخرى هنا وهو: لماذا لم يعقد النبي على مارية عقد النكاح؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا الذي نرجو أن لا يتقبله أي قارئ لأنه ليس أكثر من ظن من عند أنفسنا وهو: لأن ماريا القبطية (بقيت قبطية بالرغم من زواج النبي بها)[8] ولم تكن من المؤمنات، وبقيت على ديانتها من أهل الكتاب. فما عقد النبي عليها عقد النكاح وإنما كاتبها.

الدروس المستفادة

  1. إن أعظم درس يمكن – برأينا- أن نتعلمه من هذا الطرح (إن صح طبعاً) هو الشرعة التي يثبتها القرآن الكريم والتي مفادها الآية الكريمة التالية:
    لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٥٦﴾

    فأي شيء – يا سادة- أعظم من هذه السنة الإلهية وهذا التطبيق النبوي الفعلي لمنطوق هذه الآية الكريمة، فمحمد – نحن نظن- لم يجبر حتى المرأة التي مسّها أن تتخلى عن دينها وتعتنق دينه مادام أنها لا ترغب في ذلك. فنحن نعلم أن النبي محمد قد دخل بـ صفية بنت حيي بن أخطب (بعد خيبر) التي كان أبوها من أعظم أحبار اليهود، ولكن النبي عقد عليها عقد النكاح لأنها – بظننا- قد تخلت عن يهوديتها وقبلت أن تكون مؤمنة مع زوجها.

  2. نحن نظن أن النبي سكت عن ذلك، ولم يخرج للناس ليحدثهم بعدم تخلي مارية عن ديانتها، لأن في هذا حفظ لكرامة تلك المرأة، ولكننا نظن أن من كان حوله حينئذ قد فهم الرسالة دون الحاجة إلى التصريح بها، فمادام أن النبي لم يعقد عليها عقد النكاح، فلم تكن إذن من المؤمنات (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ)
  3. الخ.

افتراءات من عند أنفسنا: نحن نظن أن طرحنا السابق يوصلنا إلى تقديم الافتراءين الكبيرين والخطيرين التاليين:

  1. يدخل الرجل المسلم بالمرأة المؤمنة بعقد يسمى عقد نكاح
  2. يدخل الرجل المسلم بالمرأة من أهل الكتاب بعقد يسمى عقد مكاتبة

ولكن هذا يثير على الفور التساؤل التالي: وماذا عن المرأة غير المؤمنة والتي ليست أيضاً من أهل الكتاب؟ كيف يحق للمسلم أن يستحل فرجها؟

رأينا: لا يكون ذلك بعقد نكاح، ولا يكون ذلك بعقد مكاتبة.

السؤال: فماذا يكون إذاً؟

رأينا: نحن نظن أن الإجابة على ذلك يمكن أن تتوافر في الآية الكريمة التالي:

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٢٤﴾

نحن نفهم من هذه الآية الكريمة أن النساء من غير المؤمنات وأن النساء من غير من كانت من أهل الكتاب يستحل فرجها (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ) ولكن يكون ذلك فقط بطريقة الاستمتاع، أي بعقد زواج يسمى عقد استمتاع (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ). لنصل بذلك إلى أن نقدّم الآن افتراءات ثلاثة:

  1. يدخل الرجل المسلم بالمرأة المؤمنة بعقد زواج يسمى عقد نكاح
  2. يدخل الرجل المسلم بالمرأة من أهل الكتاب بعقد زواج يسمى عقد مكاتبة
  3. يدخل الرجل بالمرأة التي ما وراء ذلك (أي التي ليست بالمؤمنة وليست من أهل الكتاب) بعقد زواج يسمى عقد استمتاع

نتائج خطيرة جداً: نحن نظن أن العقد هو في نهاية الأمر عقد زواج ولكن تحت مسميات مختلفة، وهي:

  1. عقد نكاح (ويتم ذلك على من ثبت أنها مؤمنة)
  2. وعقد مكاتبة (على من كانت من أهل الكتاب)
  3. وعقد استمتاع (على من كانت ممن وراء ذلكم)

افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نرى أنه لابد من توافر ثلاث نسخ مختلفة لعقد الزواج في محاكمنا الشرعية تحت هذه المسميات الثلاث: عقد نكاح، وعقد مكاتبة وعقد استمتاع.

الحكمة من اختلاف التسمية

نحن نظن أن تلك التسميات هي ليست أكثر من درجات مرتبة تنازلياً في الزواج، وليس فقط مجرد اختلاف ألفاظ، وهذا مستنبط - في ظننا- من قول الحق:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

فالله يرفع الذين أمنوا (كما يرفع الذين أوتوا العلم) درجات، لذا لا نشك أن للمرة المؤمنة درجة على من كانت من أهل الكتاب، ولها درجتان على من كانت من غير أهل الكتاب.

كما نظن أن الدليل القرآني التالي ربما يدعم ظننا هذا:

وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
آل عمران ﴿١٣٩﴾

فالآية تؤكد وجود العلو (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) بشرط تحقق الإيمان (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، لذا لا نتردد في القول بأن من تحقق عندها شرط الأيمان هي الأعلى من بين النساء جميعا، وفي هذا – في ظننا- عزة وشعور بالهيبة للمرأة المسلمة على غيرها، فالله قد أحل للمسلم تعداد الأزواج، وأحل له فرج المؤمنة كما أحل له فرج المشركة (من أهل الكتاب ومن غير أهل الكتاب)، ولكن حتى تبقى المرأة المؤمنة تشعر بالعزة بإيمانها على منافستها غير المؤمنة، كان لزاماً أن تتمتع بالخصوصية التي لا يمكن أن تكون لغير المؤمنة، إنها عزة الإيمان الذي خص الله به المؤمنين على غير المؤمنين، فعندما تشعر المرأة المؤمنة أن الله قد ميّزها حتى في رابط الزواج تستطيع أن تستشعر عظمة هذا الدين، وتبقى المرأة غير المؤمنة تستشعر أنها أقل درجة من جنسها من النساء المؤمنات.

كما أن هذا التصور يعطي الصورة الحقيقية للآخرين عن هذا الدين، فالرجل المسلم الذي يريد أن يتزوج بغير المؤمنة عليه أن يبين لها أن ديننا الحنيف ينظر إليها على أساس أنها أقل درجة من النساء المؤمنات، وعندها تكون هي من تتحمل تبعات هذا الأمر إن هي قبلت أصلاً بالزواج من المسلم.

ولو نظرنا إلى حال الأمة في عصرنا هذا لوجدنا الصورة قد انقلبت رأساً على عقب، لقد أصبح من قبيل التفاخر والتباهي الزواج بالشقراوات من بني الأصفر (كما أصبح جواز السفر الأمريكي أو الأوروبي مفخرة على كل بلاد الإسلام)، حتى استعلت المرأة المشركة في ذلك على المرأة المؤمنة (كما استعلى من يحمل الجواز الغربي على من يحمل جواز بلاد الإسلام في كل شي كالراتب والمكانة وحتى في النظرة الاجتماعية)[9]، ففي بلاد الإسلام – بلاد الثراء والقصور والسيارات الجميلة ونهب الثروات وتكدسها في أيدي حفنة من اللصوص الذين لم يرعوا في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة- أصبحت المرأة الشقراء ضرورة مكملة لهذا الرفاه، فابتعد الرجال عن الزواج بالنساء المؤمنات من بنات جلدتهم، وانطلقوا في هجرتهم إلى الشمال ليعودوا بالجميلات الحسناوات، إننا نقول لهؤلاء وأمثالهم إننا لا نحرّم عليكم زواج الشقراوات ولا نمنعكم من ذلك، ولكن لتعلموا أن ذلك لا يجوز إلاّ من باب المكاتبة (إن كانت من أهل الكتاب) أو التمتع (إن كانت من غير أهل الكتاب)، ولا بد أن تعلم المرأة المشركة أن ارتباطك بها- حسب تعاليم دينك- هو من باب زواج خاص يسمى بالإسلام زواج المكاتبة أو زواج المتعة، فإن هي قبلت بذلك فعليها أن تتحمل تبعات الالتزام، وأهمها أن تفهم أنها بذلك ترضى أن تكون أقل درجة في زواجها من المرأة المؤمنة، فمهما رفع زوجها والمجتمع من مكانتها تبقى في تعاليم دين الله أقل درجة من أدنى النساء المؤمنات.

آلية تعداد الأزواج

لكن هذا الطرح يعيدنا على الفور إلى الجزء الأكثر خطورة في هذا الطرح كله لنثير التساؤل الأكبر التالي: وكيف تتم عملية إبرام العقد في تعداد الأزواج؟ هل هي عملية غير مضبوطة بقواعد وشروط كما هو حاصل في محاكمنا الشرعية؟ أم هل هناك آلية محددة يجب مراعاتها في تعداد الأزواج؟

افتراء خطير خطير خطير: نحن نفتري الظن بأن هناك ضوابط (وآلية محددة) لابد من مراعاتها في تعدد الأزواج، وأن تلك الآلية مضبوطة – برأينا- بالحالة العذرية للمرأة (إن كانت بكراً أم ثيبا) فقط، لذا نحن نتجرأ على تقديم افترائنا المكذوب والذي نظن أنه غير مسبوق والذي فحواه:

  1. في حالة النكاح لا يحق للرجل أن يبرم عقد النكاح إلا على امرأة بكر واحدة فقط،
  2. وإذا أراد الرجل أن يعدد الأزواج فلا يحق له ذلك إلا من نساء ثيبات.

وبكلمات بسيطة نقول أن الرجل لا يحق له أن يدخل بأكثر من امرأة بكر واحدة فقط في الوقت الواحد، لكن له الحق – في ظننا- أن يدخل بما طاب له من النساء الثيبات بغض النظر عن العدد.

الدليل

نحن نظن أن باستطاعتنا أن نبرهن افترائنا هذا بدليلين، أحدهما مستنبط من فهمنا لبعض آيات القرآن الكريم والآخر مستوحى من التطبيق النبوي (أي السنة) الفعلي لشرعة النكاح، ولنبدأ بدليل السنة أولاً حتى ننتهي بعد ذلك بدليل الكتاب الذي نظن أنه حاسم في هذا الجانب.

الدليل من السنة

بادئ ذي بدء، نحن نؤمن بالعقيدة التي مفادها أن محمدا لم يكن ينطق عن الهوى، وقد كان يتبع ما يوحى إليه من ربه، كما نؤمن بأن محمدا هو الأقدر على فهم الرسالة الإلهية وتطبيقها على أرض الواقع، وهو القدوة التي لا يجب الطعن بها. والحالة هذه، فإن منهجيتنا تتلخص بأن كل ما قام به محمد من أفعال لا يمكن أن تقع في باب المصادفة، وإنما هي أفعال مقصودة لذاتها، لأن فيها تشريعاً للأمة يجب أن تتخذه منهجا.

ولمن آمن بمثل هذه العقيدة نطرح عليه التساؤل التالي: كم امرأة تزوج النبي؟

جواب: نحن نلتزم بالمنهج الأكثر إجماعاً بين الفرق الإسلامية والتي ربما تتفق جميعها أن زوجات النبي (أمهات المسلمين) هن (في أغلب أقوال أهل العلم) أحد عشر زوجة[10]. وإليك عزيزي القارئ بعض الاقتباسات من عند الآخرين عن هذا الموضوع:

- انظر مثلاً ما جاء في مركز الفتوى على موقعهم الالكتروني التالي:

http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=24581

فأسماء زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هي كالتالي:

  1. خديجة بن خويلد رضي الله عنها.
  2. سودة بنت زمعه رضي الله عنها.
  3. عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها.
  4. حفصة بنت عمر رضي الله عنها.
  5. زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
  6. أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية رضي الله عنها.
  7. أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها.
  8. جويرية بنت الحارث وكان اسمها برة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
  9. ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها.
  10. صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها.
  11. زينب بنت جحش رضي الله عنها.

واختلف في ريحانة بنت زيد النضرية هل كانت من زوجاته أم من إمائه؟

فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن، أما من خطبها ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له، ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس، وقال بعضهم هن ثلاثون امرأة.

وأهل العلم بسيرته وأحواله لا يعرفون هذا، بل ينكرونه، والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها، فدخل عليها ليخطبها فاستعاذت منه فأعاذها ولم يتزوجها، وكذلك الكلبية، وكذلك التي رأى بكشحها بياضاً فلم يدخل بها، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور القرآن، وهذا هو المحفوظ[11]،

وانظر – عزيزي القارئ- ما يظهر على صفحة الويكيبيديا بهذا الخصوص، الصفحة التي يمكن أن يطّلع عليها المسلم وغير المسلم في بحثه عن المعلومة، حيث تفصل الصفحة بين من عقد عليها النبي ودخل بها كما في المجموعة الأولى ومن عقد عليها ولم يدخل بها كما في المجموعة الثانية:

  • 1 من عقد عليهن ودخل بهن
    • 1.1 خديجة بنت خويلد
    • 1.2 سودة بنت زمعة
    • 1.3 عائشة بنت أبي بكر
    • 1.4 حفصة بنت عمر بن الخطاب
    • 1.5 زينب بنت خزيمة
    • 1.6 أم سلمة
    • 1.7 زينب بنت جحش
    • 1.8 جويرية بنت الحارث
    • 1.9 مارية القبطية
    • 1.10 أم حبيبة
    • 1.11 صفية بنت حيي
    • 1.12 ميمونة بنت الحارث
  • 2 من عقد عليهن ولم يدخل بهن
    • 2.1 عمرة الكلابية
    • 2.2 قُتيلة الكندية
    • 2.3 سَنَا السُلمية
    • 2.4 شَرَاف الكلبية
    • 2.5 العالية الكلابية
    • 2.6 ليلى الأوسية
    • 2.7 أسماء بنت النُّعمان

ولشمولية النظرة، ندعوك - أخي القارئ- أن تنظر أيضاً في ما جاء عند من يسمون أنفسهم بعلماء أهل البيت منقولا من الموقع التالي:

http://www.islam4u.com/ar/almojib/ما-عدد-زوجات-النبي-محمد-صلّى-الله-عليه-و-آله-و-من-هُنَّ-؟

"رُوِيَ عن أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) أنَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلَّى الله عليه و آله ) تَزَوَّجَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَة 1 ، منها ما دَخَلَ ( صلَّى الله عليه و آله ) بهنَّ من نسائه و هُنَّ :

  1. خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ .
  2. سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الأسديَّة .
  3. أُمُّ سَلَمَةَ و اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ المخزومية .
  4. أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ التميميَّة .
  5. حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بن الخطَّاب .
  6. زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ بْنِ الْحَارِثِ أُمُّ الْمَسَاكِينِ .
  7. زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الأسديَّة .
  8. أُمُّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ .
  9. مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الهِلاليَّة .
  10. زَيْنَبُ بِنْتُ عُمَيْسٍ .
  11. جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بن ضرار المصطلقية .
  12. صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الإسرائيليَّة النضري .
  13. خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيِّ و هِيَ الَّتِي و هَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ( صلَّى الله عليه و آله ) .

و من نسائه ما لَمْ يَدْخُلْ ( صلَّى الله عليه و آله ) بها منهُنَّ و هما :

  1. عَمْرَة .
  2. الشَّنْبَاءُ .

وَ كَانَ لَهُ ( صلَّى الله عليه و آله ) سُرِّيَّتَانِ 2 يَقْسِمُ لَهُمَا مَعَ أَزْوَاجِهِ هما :

  1. مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ .
  2. رَيْحَانَةُ الْخِنْدِفِيَّةُ .

و قُبِضَ رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) عَنْ تِسْعٍ نساءٍ هُنَّ :

  1. سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الأسديَّة .
  2. أُمُّ سَلَمَةَ و اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ المخزومية .
  3. أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ التميميَّة .
  4. حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بن الخطَّاب .
  5. زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الأسديَّة .
  6. أُمُّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ .
  7. مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الهِلاليَّة .
  8. جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بن ضرار المصطلقية .
  9. صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ النضري الإسرائيليَّة .

انتهى الاقتباس

رأينا: بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف بين أهل العلم ومدارسهم الفكرية الدينية حول الموضوع خاصة عدد أزواج النبي، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، فإن أكثر ما يهمنا طرحه هنا هو التساؤلات التالية:

  • كم من هؤلاء النساء كانت بكرا عندما دخل بها النبي؟
  • وبالمقابل، كم من هذه النساء – نحن نسأل- قد دخل بها النبي وقد كانت ثيبا؟

رأينا: لم يدخل النبي بامرأة بكر إلا عائشة، وكل من تزوجها النبي من أزواج (سواء دخل بها أم لم يدخل) قبل عائشة أو بعدها كانت ثيبا.

إن هذا الظن يدع من آمن بأن فعل النبي يستحيل أن يأتي من باب المصادفة إلى طرح التساؤل المثير التالي: لماذا؟ لماذا لم يدخل النبي إلا بعائشة وهي لا زالت بكرا؟ ولماذا اختار النبي باقي نساءه (بغض النظر عن العدد) من الثيبات؟

جواب: نحن نظن أن هذا لم يكن محض صدفة، فالنبي يستطيع أن يتزوج بمن يريد، والرجال من المسلمين يتسابقون لنيل شرف النسب برسول الله، والنساء على استعداد أن يهبن أنفسهن للنبي. فلم – يا ترى- يرضى النبي بأن لا يكون في عصمته إلا امرأة واحدة بكرا؟ ولماذا يختار أن تكون كل امرأة يتزوجها (غير عائشة) ثيبا؟

افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا النهج النبوي قد جاء تطبيقاً فعلياً للآية الكريمة التالية التي ربما تقدم الدليل القرآني على ظننا المفترى بأن الرجل لا يحق له أن يعدد الزوجات إلا من الثيبات من النساء:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴿٣﴾

الدليل من القرآن

نحن نظن أن هذه الآية الكريمة هي دليلنا الذي نسوقه لإثبات زعمنا المفترى بأن التعدد في الأزواج لا يكون إلا من الثيبات من النساء، لذا لابد من النبش في مفردات هذه الآية الكريمة جيداً للخروج باستنباطات نظن أنها قد توضح قصة زواج النبي، وربما تدفع عنه الشبهات التي أثارها المتشككون حوله، فنحن نظن أن أحد الأسباب التي أدت إلى إثارة الشبهات حول نوايا النبي من زواجه بهذا العدد الكبير من النساء هو الفهم المغلوط الذي قدّمه أهل الدراية للناس على مر الزمان، لذا نحن نرى وجاهة أن نعيد طرح الملف بأكمله وإعادة فتحه من صفحته الأولى، وهذا يتطلب أن يمنحنا القارئ الكريم فسحة من الوقت لمناقشة الأفكار التي تدور في خلدنا، سائلين الله وحده أن يهدينا إلى الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، كما نرجو من القارئ الكريم أن لا يتردد بأن يسعفنا برأيه متى ما وجد الهفوات (وهي لا شك كثيرة) في هذا الطرح. فمن استطاع أن يثبت لنا خطأنا في الاستنباط والتدليل فقد ساعدنا على النظر من زاوية لم نكن مدركين لها (ونحن مدينون له بالشكر على ذلك)، ومن ساعدنا في إثبات وجهة نظرنا فقد ساعدنا على المضي قدماً فيها (وهو بلا شك مشكور على ذلك). أما ما يجب التأكيد عليه هو أن هذه الأفكار لا يجب أن يتم تدولها إلاّ في قاعة الدرس وبين طلبة العلم، حتى يصير إلى إثبات خطئها أو صحتها قبل نقلها لتصبح عقيدة يمكن أن يطلب من الناس الأخذ بها. فأنا أبرأ إلى الله من كل من يتخذ من كلامي حجة على كلام الله، فكلام الله وحده هو الحجة على كل ما سواه، وليس لكلام بشر مهما بلغ من العلم حجة على كلام الله، لأن الله نفسه هو من أثبت أن علمنا مهما بلغ يبقى قليلا مقارنة بعلم الله العظيم:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
الإسراء ﴿٨٥﴾

فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم فلا أفتري عليه الكذب. وأسأله وحده أن يكون فضله عليّ عظيما.

أما بعد

نحن نفهم أن هناك أسئلة عديدة أثارها العامة وأهل العلم على حد سواء حول هذه الآية الكريمة محور النقاش هنا:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴿٣﴾

وعلى الرغم من كثرة الخطاب حولها، إلا أننا لا زلنا نرى أن ما توافر من إجابات حتى الساعة حول الأسئلة التي أثيرت حولها لم ترق إلى درجة الإقناع بعد، وليس أدل على ذلك من تكرار السؤال نفسه مرات ومرات على لسان العامة (ناهيك عن أهل العلم) كلما سنحت الفرصة لذلك، وسنقدم بعض تلك التساؤلات أولاً، ثم نحاول بعد ذلك التعرض لها تباعاً، عسى الله أن يهدينا إلى علم لم يكن لأحد من قبلنا، إنه هو السميع المجيب.

التساؤلات:

  1. لم بدأ التعداد في الآية الكريمة بالتثنية (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)؟
  2. لم جاء لفظ الواحدة في نهاية الآية وليس في بدايتها (فَوَاحِدَةً)؟
  3. لم جاءت هذه الآية لتجمع بين اليتامى وتعداد الأزواج من النساء (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء)؟ فما العلاقة بين القسط في اليتامى ونكاح النساء (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)؟
  4. لم جاء اللفظ عند الحديث عن اليتامى بالقسط (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ) وتغير بعد ذلك إلى العدل (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ)؟
  5. لم جاءت الآية الكريمة بالصيغة الشرطية (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً)
  6. لم قسمت الآية الكريمة إلى شرطين (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) و (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً)
  7. وما هو فعل الشرط وجواب الشرط (كما يحب أهل اللغة أن يسمونه) في كل قسم منها؟
  8. الخ.

المبحث الأول: لم بدأ التعداد بالتثنية؟

للإجابة على هذا التساؤل وجدنا الضرورة تستدعي طرح السؤال الغريب التالي: أيهما الذي يجب أن يأخذ صفة التميّز من يأتي أولاً في العد أم من يأتي ثانياً؟ وأيهما يجب أن يأخذ صفة التميز من يأتي ثانياً في العدد أم من يأتي ثالثاً؟ وهكذا.

جواب: نحن نظن أن من يأتي آخرا هو الذي يكتسب صفة التميّز عن من سبقه. فالثاني يجب أن يميز على الأول، والثالث يميز على الثاني، والرابع يميز على كل من سبقه، وهكذا. انظر الآية الكريمة التالية جيدا:

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٤٠﴾

فالمتدبر للنص القرآني قد لا يجد صعوبة في الفهم أن النبي (الموجه له الخطاب) هو الثاني بينما كان صاحبه هو الأول. فالقارئ للآية الكريمة يجد أنها تتحدث عن شخصين في الغار (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) وهما النبي وصاحبه، أليس كذلك؟ ولكن الآية نفسها تبيّن – ربما بما لا يدع مجالاً للشك- أن النبي هو الثاني (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) بينما صاحبه هو الأول. فمن الأجدر بأن يميّز النبي وهو الذي كان ثانياً، أم صاحبه وهو من كان أولاً؟

وهذا المنطق لا ينطبق على صحبة البشر مع بعضهم البعض فقط، فقد أثبت الله لنفسه الصحبة مع غيره، لكن الذي يجلب الانتباه (وربما تحير به الألباب) هو أن الله كان على الدوام يضع نفسه الرقم الأخير:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٧﴾

فالله – بنص الآية الكريمة- هو رابع الثلاثة (ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، وهو سادس الخمسة (خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ).

وعندما أشرك الناس بربهم من خلقه جعلوا الإله نفسه ثالثاً:

لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٧٣﴾

فالآية الكريمة تبيّن بصريح اللفظ أنه في حين أن الله نفسه هو الثالث جاء من أشركه الناس معه في المرتبة الأولى والثانية، فبالمنطق المسيحي مثلاً هناك الروح وهناك الابن وهناك الأب (قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ)، وباللفظ القرآني يكون الأب (الله نفسه) بمنطقهم المفترى هو الثالث بينما يكون الروح والابن هما الأول والثاني في الترتيب.

إن هذا الطرح يدعونا إلى الخروج باستنباط واحد مفترى من عند أنفسنا وهو متى ما جاء ذكر للعد، فإن من ذكر آخرا يكون مميزا على كل من سبقه، وليس أدل على ذلك مما جاء في آية الكهف عن الفتية الذين آمنوا بربهم:

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ﴿٢٢﴾

ولكن يجب أن نلفت النظر إلى أننا نقصد بالتميز هنا "الاختلاف" وليس بالضرورة الأفضلية على الدوام. فكلب القوم يتميز عنهم لأنه يختلف عنهم وقد لا يكون أفضلهم.

عودة على بدء: لماذا مُنِع النبي عن الاستزادة من النساء؟ وما الذي أخفاه النبي في نفسه وأبداه الله؟

إن هذا الطرح يقودنا إلى الحالة التي توجب علينا فتح ملف زواج النبي بزينب من جديد لنطرحه من منظور جديد، ظانين أن في طرحنا هذا رد الشبهة عن النبي محمد وعلاقته بزينب و بزيد، ولكن كيف يكون ذلك؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا

  1. نحن نظن أن رغبة زينب بنكاح النبي كانت موجودة، فلا أظن أن أحداً من أهل العلم قد شكك في ذلك
  2. نحن نظن أن رغبة زينب في نكاح زيد لم تكن جارفة بدليل أن حياتهما معاً لم تستقم طويلاً
  3. اختلف أهل العلم في رغبة النبي في نكاح زينب، فغالبيتهم ظنوا أن النبي كان غير راغباً في ذلك، بينما القليل منهم من ظن أن العكس هو الصحيح
  4. نحن نظن أن لا شيء يمكن أن يجبر الرجل على نكاح امرأة ما لم يكن راغباً فيها، فالله هو نفسه من طلب من النبي أن ينكح المرأة التي وهبت نفسها للنبي ولكن ذلك مشروطاً بحصول الإرادة عند النبي في ذلك:
    يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٥٠﴾
  5. نزل تشريع رباني يرخص للنبي نكاح زينب، فالله هو نفسه من زوج زينب للنبي بعد أن قضى منها زيد وطرا:
    وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿٣٧﴾
  6. أخفى النبي شيئا في نفسه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)
  7. أبدى الله ما أخفى النبي في نفسه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)
  8. كان ذلك كله بسبب خشية محمد للناس (وَتَخْشَى النَّاسَ)
  9. لا شك أن خشية الله يجب أن تسبق خشية الناس (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)

والله أعلم

دعاء: أللهم هذا ما فهمته من آياتك، فأعوذ بك رب أن أكون قد افتريتُ عليك الكذب أو أني قد قلت عليك ما ليس لي بحق، وأسألك وحدك يا من أرسلت رسولك بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون أن تظهر الحق حيثما كان، فأنت من ألزمت نفسك بأن تتم نورك ولو كره الكافرون:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿٧﴾ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿٨﴾ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿٩﴾
الصف

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح

وللحديث بقية


الهوامش

^ [1] نحن من أشد المعارضين للفتاوى بمفهومها الدارج بين العلماء والعامة... وسنحاول أن نتعرض بالتفصيل لهذه الجزئية في مقالة مستقلة بحول الله وتوفيقه...

^ [2] سنحاول في مقالة قادمة بحول الله وتوفيقه التفريق بين أن يقول الإنسان شيئاً وأن يخفي ذلك الشيء وتبعات كل من هذين الموقفين على العقيدة.

^ [3] وهنا لابد من التفريق بين النكاح من جهة والزواج من جهة أخرى... للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان ثلاثية المرأة

^ [4] لمقارنة ذلك بما بدر من سليمان... نطلب من القارئ الكريم مراجعة ما جاء في مقالتنا تحت عنوان: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته 5: باب الإنابة)

^ [5] وقد جاء عند بعض أهل الدراية كما نقله عنهم بعض أهل الرواية أن النبي قد خطب 15 امرأة، وعقد على 13، ودخل بـ 11 امرأة، ومات عن 9 نساء.

^ [6] وانظر عزيزي القارئ إلى الفروق المترتبة على المسلم بين من نكحها فقط ومن مسها فيما فُرِض لها (من المهر)... وكذلك في العدة...

^ [7] ومادام أن النكاح يعني إبرام العقد دون الدخول، فقد تجرأنا على تقديم الافتراء الأكثر خطورة التالي: المس (أي الدخول والمعاشرة الجنسية ) ليس شرطاً حتى تعود المرأة إلى زوجها الأول بعد أن تنكح زوجاً غيره...

^ [8] نقل لنا أهل الرواية أن النبي كان يغير أسماء بعض نساءه بعد الزواج، لذا نحن نتجرأ على طرح التساؤل التالي: لم لم يغير النبي اسم ماريا القبطية (الذي لا يخلو من الصبغة المسيحية) إلى اسم يحمل الهوية الإسلامية؟

^ [9] انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "والعلماء هم الظالمون"

^ [10] وقد جاء عند بعض أهل الدراية كما نقله عنهم بعض أهل الرواية أن النبي قد خطب 15 امرأة، وعقد على 13، ودخل بـ 11 امرأة، ومات عن 9 نساء، وهذا أكثر أجماع علماء من يسمون أنفسهم بعلماء أهل البيت.

^ [11] بالإضافة إلي مارية القبطية التي أهداها له ملك مصر وهي أم ولده إبراهيم

^ [12] وهم هند وزينب وعبدالله وجارية

^ [13] ولكنه يكره القاسطون الذين هم بلا شك حطب جهنم... لذا فإننا نفتري القول بأن الذين لا يحكمون بين الناس بالقسط هم قاسطون وليس مقسطون...

^ [14] اختلف الناس في المرأة التي وهبت نفسها للنبي، فنحن نظن أنها هي زينب نفسها

أحدث أقدم