📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok

رد على " والله من ورائهم محيط"


ثالثاً: "وراء" بمعنى أمام (من وراء حاجز)

وقد يحتج البعض بالقول أنّ هذا معنى "وراء" الزمانية، فماذا عن وراء المكانية؟ فهل تعني كذلك أمام؟ نقول نعم بكل تأكيد، ولنقرأ الآية الكريمة التالية لنتعرف على هذا المعنى الذي تحمله كلمة "وراء" المكانية:

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿٥١﴾
الشورى

والسؤال هو: كيف يحدث الخطاب بين المخِاطب والمخَاطب؟ ألا يكون المخِاطب وجهاً لوجه مع المخَاطب؟ والفرق الوحيد هنا هو وجود الحاجز بين الله (المخِاطب) والبشر (المخَاطب). وإذا ما صح هذا الافتراض، فإننا نستطيع القول إذاً أنّ كلمة وراء تحمل معنى "قدام"، "أمام". وقد يقول قائل ولكن الله يمكن أنْ يخاطب من يريد من أي اتجاه، فيمكن أن يتم الخطاب هنا حتى من الأعلى إلى الأسفل، فقد لا تحمل كلمة وراء إذاً هذا المعنى، فنرد على ذلك بالقول أنّ هناك آيات أخرى يمكن الاستشهاد بها لإثبات أنّ كلمة وراء تعني "قدّام"، قال تعالى:

"... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا
الأحزاب (53)

ألا يعني ذلك أنّ الخطاب يتم مواجهة بالرغم من وجود الحاجز؟ وهذا بالضبط ما نحاول أن نبيّنه: إنّ كلمة وراء هنا لا تعني بأي حال من الأحوال "خلف".

فالأمر الذي نسعى لإثباته (وهو عكس ما درج عليه الفهم العام للكلمة) هو أنّ كلمة وراء لا تحمل دلالات سلبية وذلك لانّ لها استخدامات متعددة، جميعها تفضي إلى الغرض المقصود من الآية الكريمة، واليك توضيح معنى الآية الكريمة كما أفهمها بحول الله.

تفسير "والله من ورائهم محيط" في ضوء المعاني المتعددة

الدلالة الزمنية على الاستقبال

أولاً، لقد جاءت كلمة وراء هنا لتدل على الاستقبال الزمني، فهي تتحدث عن شأن الكافرين في الآخرة، ولنقرأ الآية الكريمة في سياقها القرآني:

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿١٩﴾ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿٢٠﴾
البروج

دلالة المباغتة وشدة العقاب

ثانياً، لقد جاءت كلمة "وراء" هنا في سياق الحديث عن عقاب الله، ونحن جميعاً نعلم شدّته:

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴿١٠٢﴾
هود

فالضربة إذا جاءت من الخلف كانت أوجع وأبلغ، كأنْ نقول "أن الجيش أخذ العدو من ورائهم" أي من الخلف"، فهذا يعطي عنصر المفاجئة والسرعة والقوة، وأكثر من ذلك بالطبع هو عذاب الله، ولننظر إلى الروعة والدقة القرآنية في تصوير هذا المعني بقراءة السياق الأوسع الذي وردت به كلمة "وراء":

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿١٢﴾ ... بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿١٩﴾ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿٢٠﴾
البروج

دلالة الإخفاء وعدم رؤية المصدر

ثالثاً: لقد استخدمت كلمة "وراء" في سياق العقاب هنا لتدل (كما أظن) على معنى آخر غاية في الدقة والروعة، وهو عدم القدرة على رؤية المعاقِب، فالله سيأخذ الكافرين مفاجأة من الخلف ودون أنْ يستطيع الكافرون رؤية الله وهو الفاعل أو حتى رؤية مصدر العقاب، وقد يقول قائل وكيف ذلك؟ فنقول دعنا نقرأ الآية الكريمة التالية:

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ﴿١٤﴾
الحشر

فالآية تشير أنّ الكافرين لا يقاتلون إلاّ من وراء جدر، والسؤال الذي نود إثارته هو: ما معنى "وراء" بالنسبة للجدار؟ وبكلمات أدق، أي جانب من الجدار يكون "وراء"؟ أليس هو الجانب الذي لا تكون أنت من قبله؟ أي إذا كنت أنت في هذا الجانب، كان "الوراء" بالنسبة لك الجانب الآخر، وإذا كنت في الجانب الآخر كان الوراء بالنسبة لك هو الجانب الذي لا تراه مباشرة بأم عينك، وهكذا. وقد يقول قائل وما علاقة ذلك بالآية الكريمة " وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ"؟ فنقول إنّ العلاقة مباشرة، فلقد ذكرنا سابقاً أنّ الآية الكريمة تتحدث عن شدة عقاب الله للكافرين، فهو سيأخذهم مباغتة من الخلف لتكون الضربة أسرع وأقوى وحاسمة، ويزيد من روعة التصوير القرآني المعنى الجديد الذي نستطيع أنْ نستقصيه من عبارة "من وراء جدر" وهو عدم قدرة المعاقَب رؤية المعاقِب، فإذا نظر المعاقَب إلى هذه الجهة كان عقاب الله من الجهة الأخرى، وإذا ما التفت إلى الجهة الأخرى تحول العقاب ليكون مصدره من الجهة الثانية، فبقى من وقع عليه العقاب (أجارنا الله وإياكم منه) يلتفت ليعرف مصدر العقاب، فلا يعطيه الله هذه الفرصة وذلك لأنّ العقاب يأتي دائماً من "الوراء".

وما أجمل التصوير القرآني الذي يثبت بما لا يدع مجالاً للريبة أنّ كلمة وراء تعني أي جهة يكون المصدر فيه مخفياً، ولنقرأ معاً الآية القرآنية التالية التي تحمل (في ظننا) هذا المعنى:

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿٤﴾
الحجرات

والسؤال البسيط هنا هو: كيف يكون النداء من وراء الحجرات؟ أي هل هناك مكان ثابت يمكن أنْ يقف به الشخص لينادي على من هو داخل حجرة ما؟ أنني لا أعتقد ذلك، فصحيح قد يقف الشخص أمام البيت وينادي على ساكنيه، ولكنه قد ينادي أيضاً وهو يقف خلف الدار أو حتى بجانبها حسب صفة الدار وجغرافيتها، فقد يتم النداء إذاً من أي نقطة حول الحجرة ما دام الصوت قد يصل إلى من هو داخل الحجرة. ولكن أظن أنّ المناداة على ساكن الدار تكون من أمام المنزل خصوصاً وأنَ من أخلاقيات هؤلاء القوم أنْ يمتثلوا لقول الله سبحانه وتعالى:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٨٩﴾
البقرة

خاتمة: عجز الترجمة أمام ثراء الكلمة القرآنية

إنّ المراد من القول إذاً أنّ كلمة وراء لا تعني بأي حال من الأحوال فقط "خلف" بدلالاتها وإيحاءاتها السلبية، بل هي كلمة "وراء" ذاتها بمعانيها الوفيرة التي ما ذكرنا منها في هذه العجالة إلاّ النزر اليسير، والسؤال الذي ربما بحاجة لإجابة شافية هو: ما هي الكلمة التي يمكن أنْ تحل محل هذه الكلمة في هذا السياق القرآني؟! أخال أني لا أعرفها لا باللسان العربي ولا باللسان الأعجمي.


بقلم د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن


أحدث أقدم