رد على " والله من ورائهم محيط"


لقد سألني أحد طلبة الدراسات العليا المهتمين بعلم الترجمة عن كيفية ترجمة كلمة وراء في قوله تعالى:
          ... بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)  
                                                                                                   البروج 19-20
فالمسألة بالنسبة له أنّ البديل الإنجليزي لكلمة وراء العربية وهي (behind) قد تضيّع المعنى الذي تقدمه الآية الكريمة، فكان القرار -حسب ظنه- أنه لا يحبذ استخدام كلمة behind في هذا السياق، فجاء ردي له على النحو التالي:

لعلي أظنك تريد القول أنّ كلمة "وراء" لا يمكن أنْ تترجم إلى كلمة "behind" في اللغة الإنجليزية لأنّ ذلك ينتفي بالمعنى الديني وبالتالي يجب أنْ نبحث عن كلمة أخرى لا تتعارض مع السياق العقائدي الذي ألفناه، أليس كذلك؟


ولكن السؤال البسيط الذي أود أنْ أطرحه هنا هو: ما المشكلة أنْ يكون الله من وراءنا؟ فهل لو جاء السياق القرآني على نحو "والله من أمامهم محيط" سيشكل ذلك عبئاً علينا لنبحث له عن مخرج؟! قد لا أظن ذلك، ربما لأنّنا درجنا على فهم أنّ كلمة "وراء" تحمل معاني وإيحاءات "connotations" سلبية، بينما لا تحمل كلمة "أمام" مثلاً إلاّ معاني وإيحاءات إيجابية، والسؤال الأبسط هو: هل هذه المعاني الإضافية (connotations) تنطبق علينا نحن البشر بنفس الطريقة التي تنطبق على الإله؟ أي بكلمات أدق هل معنى "وراء" بالنسبة للإله تحمل من السلبيات ما تعنيه لنا نحن البشر؟
والسؤال الأكثر إثارة هو ما معنى كلمة وراء أصلاً؟ هل فعلاً فهمنا معنى كلمة "وراء" كما أرادها الله حتى نبدأ البحث عن كلمات لتسعف المعنى الذي نريده؟ أي هل كلمة "وراء" سواء بالعربية أو الإنجليزية أو الفارسية أو العبرية لا تسد الغرض المقصود من معنى ألآية الكريمة؟ وهل عجز الإله أنْ يستخدم كلمةً أخرى وهو يعلم ما لــ "وراء" من دلالات؟! فهل عجز الإله أنّ يقول مثلاً "والله محيط بهم" دونما الحاجة إلى ذكر كلمة "وراء" أصلاً؟ فإذا كان المقصود كما تظن هو معنى "الإحاطة" (كما فعلت وانتصرت ليوسف علي الذي ترجمها على هذا المعنى) فلم يزج الله بهذه الكلمة مادام أنّ المعنى قد يتم بدونها؟! أي لِمَ لَمْ يقل الله سبحانه شيئاً مشابهاً لما يلي دونما الحاجة إلى زج كلمة وراء فيتم معنى الإحاطة الذي قصدت:
          بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللَّهُ بهم مُّحِيطٌ !!!
فنرد قائلين كلا. إنّ كلمة "وراء" هي "وراء"، ولا يمكن أنْ تكون غير ذلك، وأظن أنّ جوهر إجابتي لك يكمن بما يلي: فنحن بدل أنْ نبحث عن بديل للكلمة بحاجة أولاً وقبل كل شيء أنْ نفهم معنى الكلمة ذاتها، لنكتشف كالعادة أنّه لا توجد كلمة بأي لغة مهما كانت (حتى في العربية نفسها) يمكن أنْ تفي الغرض من استخدام هذه الكلمة، ولنكتشف أيضاً أنّه لا يمكن أنْ يتم المراد دونها، وإليك ما فتح الله به علينا لفهم هذه الكلمة:
أولاً: إنّ كلمة وراء تعنى أول ما تعني "خلف" وهذا مثبت بشكل لا لبس فيه بنص القران الكريم، قال تعالى:
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا            النساء (102)
والسؤال البسيط الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: ماذا تعني كلمة "ورائكم" في سياق الحديث عن الصلاة كما توضحه الآية الكريمة؟ أليست هنا بمعنى خلفكم؟ وهل يمكن أنْ تتم الصلاة مع رسول الله على غير ذلك؟
ثانيا: ولكن السؤال الذي يتبادر أيضاً إلى الذهن هو: وهل هذا فقط معنى "وراء"؟ أي هل تعني كلمة وراء "خلف" بما للكلمة من دلالات وإيحاءات؟ فنقول كلا، لقد وردت كلمة "وراء" بمعاني أخرى ودلالات أخرى، فهي تعني أيضاً فيما تعني "بعده زمنياًأي على اعتبار ما سيكون مستقبلاً، وهذا مشار إليه في أكثر من موطن في القران الكريم:
وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ               هود (71)
وإذا كان الزمان ينقسم إلى ما سبق وإلى ما سيلحق، فإنّ كلمة وراء هنا لا تشير بأي حال من الأحوال إلى ما كان خلفنا، بل هي تشير إلى ما سيكون بعدنا. أليس هذا ما تعنيه كلمة وراء في سياق هذه الآية الكريمة؟ فهل جاء إسحاق قبل أمه أم بعدها زمنياً؟ و أليس هذا بالضبط ما قصده زكريا في مناجاته ربه؟
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا        مريم (5)
و أليس هذا ما يفهم من سياق الحديث على من أشرف على الموت ولم يستعد له كما أمره الله؟
حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)            المؤمنون 99-100
فهل تتحدث هذه الآيات باستخدام كلمة "وراء" هنا عن ما كان أم عن ما سيكون؟

ثالثاً: وقد يحتج البعض بالقول أنّ هذا معنى "وراء" الزمانية، فماذا عن وراء المكانية؟ فهل تعني كذلك أمام؟ نقول نعم بكل تأكيد، ولنقرأ الآية الكريمة التالية لنتعرف على هذا المعنى الذي تحمله كلمة "وراء" المكانية:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ                                                  الشورى (51)  
والسؤال هو: كيف يحدث الخطاب بين المخِاطب والمخَاطب؟ ألا يكون المخِاطب وجهاً لوجه مع المخَاطب؟ والفرق الوحيد هنا هو وجود الحاجز بين الله (المخِاطب) والبشر (المخَاطب). وإذا ما صح هذا الافتراض، فإننا نستطيع القول إذاً أنّ كلمة وراء تحمل معنى "قدام"، "أمام". وقد يقول قائل ولكن الله يمكن أنْ يخاطب من يريد من أي اتجاه، فيمكن أن يتم الخطاب هنا حتى من الأعلى إلى الأسفل، فقد لا تحمل كلمة وراء إذاً هذا المعنى، فنرد على ذلك بالقول أنّ هناك آيات أخرى يمكن الاستشهاد بها لإثبات أنّ كلمة وراء تعني "قدّام"، قال تعالى:
"... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا            
الأحزاب (53)
ألا يعني ذلك أنّ الخطاب يتم مواجهة بالرغم من وجود الحاجز؟ وهذا بالضبط ما نحاول أن نبيّنه: إنّ كلمة وراء هنا لا تعني بأي حال من الأحوال "خلف".
فالأمر الذي نسعى لإثباته (وهو عكس ما درج عليه الفهم العام للكلمة) هو أنّ كلمة وراء لا تحمل دلالات سلبية وذلك لانّ لها استخدامات متعددة، جميعها تفضي إلى الغرض المقصود من الآية الكريمة، واليك توضيح معنى الآية الكريمة كما أفهمها بحول الله.

أولاً، لقد جاءت كلمة وراء هنا لتدل على الاستقبال الزمني، فهي تتحدث عن شأن الكافرين في الآخرة، ولنقرأ الآية الكريمة في سياقها القرآني:
          بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)                   البروج 19-20
ثانياً، لقد جاءت كلمة "وراء" هنا في سياق الحديث عن عقاب الله، ونحن جميعاً نعلم شدّته:
          وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ                   هود (102)
 فالضربة إذا جاءت من الخلف كانت أوجع وأبلغ، كأنْ نقول "أن الجيش أخذ العدو من ورائهم" أي من الخلف"، فهذا يعطي عنصر المفاجئة والسرعة والقوة، وأكثر من ذلك بالطبع هو عذاب الله، ولننظر إلى الروعة والدقة القرآنية في تصوير هذا المعني بقراءة السياق الأوسع الذي وردت به كلمة "وراء":
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ... بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)                                                                                    البروج
ثالثاً: لقد استخدمت كلمة "وراء" في سياق العقاب هنا لتدل (كما أظن) على معنى آخر غاية في الدقة والروعة، وهو عدم القدرة على رؤية المعاقِب، فالله سيأخذ الكافرين مفاجأة من الخلف ودون أنْ يستطيع الكافرون رؤية الله وهو الفاعل أو حتى رؤية مصدر العقاب، وقد يقول قائل وكيف ذلك؟ فنقول دعنا نقرأ الآية الكريمة التالية:
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ                                الحشر (14)
فالآية تشير أنّ الكافرين لا يقاتلون إلاّ من وراء جدر، والسؤال الذي نود إثارته هو: ما معنى "وراء" بالنسبة للجدار؟ وبكلمات أدق، أي جانب من الجدار يكون "وراء"؟ أليس هو الجانب الذي لا تكون أنت من قبله؟ أي إذا كنت أنت في هذا الجانب، كان "الوراء" بالنسبة لك الجانب الآخر، وإذا كنت في الجانب الآخر كان الوراء بالنسبة لك هو الجانب الذي لا تراه مباشرة بأم عينك، وهكذا. وقد يقول قائل وما علاقة ذلك بالآية الكريمة " وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ"؟ فنقول إنّ العلاقة مباشرة، فلقد ذكرنا سابقاً أنّ الآية الكريمة تتحدث عن شدة عقاب الله للكافرين، فهو سيأخذهم مباغتة من الخلف لتكون الضربة أسرع وأقوى وحاسمة، ويزيد من روعة التصوير القرآني المعنى الجديد الذي نستطيع أنْ نستقصيه من عبارة "من وراء جدر" وهو عدم قدرة المعاقَب رؤية المعاقِب، فإذا نظر المعاقَب إلى هذه الجهة كان عقاب الله من الجهة الأخرى، وإذا ما التفت إلى الجهة الأخرى تحول العقاب ليكون مصدره من الجهة الثانية، فبقى من وقع عليه العقاب (أجارنا الله وإياكم منه) يلتفت ليعرف مصدر العقاب، فلا يعطيه الله هذه الفرصة وذلك لأنّ العقاب يأتي دائماً من "الوراء".
وما أجمل التصوير القرآني الذي يثبت بما لا يدع مجالاً للريبة أنّ كلمة وراء تعني أي جهة يكون المصدر فيه مخفياً، ولنقرأ معاً الآية القرآنية التالية التي تحمل (في ظننا) هذا المعنى:
          إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ                          الحجرات (4)
والسؤال البسيط هنا هو: كيف يكون النداء من وراء الحجرات؟ أي هل هناك مكان ثابت يمكن أنْ يقف به الشخص لينادي على من هو داخل حجرة ما؟ أنني لا أعتقد ذلك، فصحيح قد يقف الشخص أمام البيت وينادي على ساكنيه، ولكنه قد ينادي أيضاً وهو يقف خلف الدار أو حتى بجانبها حسب صفة الدار وجغرافيتها، فقد يتم النداء إذاً من أي نقطة حول الحجرة ما دام الصوت قد يصل إلى من هو داخل الحجرة. ولكن أظن أنّ المناداة على ساكن الدار تكون من أمام المنزل خصوصاً وأنَ من أخلاقيات هؤلاء القوم أنْ يمتثلوا لقول الله سبحانه وتعالى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ                 البقرة (189)
إنّ المراد من القول إذاً أنّ كلمة وراء لا تعني بأي حال من الأحوال فقط "خلف" بدلالاتها وإيحاءاتها السلبية، بل هي كلمة "وراء" ذاتها بمعانيها الوفيرة التي ما ذكرنا منها في هذه العجالة إلاّ النزر اليسير، والسؤال الذي ربما بحاجة لإجابة شافية هو: ما هي الكلمة التي يمكن أنْ تحل محل هذه الكلمة في هذا السياق القرآني؟! أخال أني لا أعرفها لا باللسان العربي ولا باللسان الأعجمي.

بقلم د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن