ماذا كتب في الزبور3؟


هذه هي مقالتنا الثالثة في سلسة مقالاتنا تحت عنوان "ماذا كُتِبَ في الزبور؟
ننتقل فيها للحديث عن مفردة أخرى في آية وراثة الأرض التي نحاول – بحول الله وتوفيقه- تجلية بعض معانيها، والمفردة التي جاء الدور ليقف عندها هي مفردة الزبور:
          وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ          الأنبياء (105)
لنتعرض لسؤال واحد فقط ألا وهو: ما هو الزَّبُورِ؟


لقد درج جلُّ الفكر الإسلامي على الظن بأن الزبور هو كتاب الله الذي أنزله على داوود (انظر أقوال العلماء في هذا الصدد)، وكانت حجتهم في ذلك قول الحق في موضعين من كتابه الكريم أنه قد آتى داوود زَبُورًا:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا                                                                                                         النساء (163)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا                                                                                الإسراء (55)
فهم يعتقدون أن سنة الله في وراثة الأرض (على أنها حق ملازم لعباد الله الصالحين) هي سنة إلهية مكتوبة في زبور داوود، أليس كذلك؟
موقفنا: إننا نظنّ جازمين أن كلامهم ذاك يخلو من الدقة، فتلك السنة الكونية ليست مدوّنة (مكتوبة) في زبور داوود فقط ولكنها مكتوبة في الزبور. وهنا سيرد الكثيرون بغضب: ما الفرق؟ ما الجديد فيما تقول؟
الجواب: إننا نظن أن زبور داوود يختلف عن الزبور الذي كتبت فيه آية وراثة الأرض، فتلك الآية ليست مكتوبة في زبور داوود فقط.

الدليل
إن الدليل لدينا على أن تلك السنة الكونية ليست مكتوبة فقط في زبور داود يتمثل في أننا نرى (وربما نكون مخطئين) أن المفسرين قد خلطوا مفردة الزَّبُورِ التي وردت في آية وراثة الأرض مع مفردة زَبُورًا التي وردت في موطن الحديث عن ما جاء به داوود من ربه. وكان الخلط يتمثل في عدم التميز بين مفردة "الزبور" ومفردة "زبورا"، ولب القول هو أن داوود لم يأتي بـ "الزبور" ولكنه جاء بـ "زبورا"، فالله لم يقل في كتابه الكريم أنه قد آتى داود الزَبُور، ولكنه أكّد أنه قد آتى داوود زَبُورًا، فما الفرق؟

رأينا: إننا نعتقد جازمين أن الفرق يتمثل في أن مفردة الزَّبُورِ قد جاءت معرفة بأداة التعريف لتفيد التخصيص والإفراد، بينما تفيد مفردة زَبُورًا التنكير على  معنى التعدد، فلو جاء النص في كتاب الله على نحو "وآتينا داوود الزبور"، لـ (ربما) سلّمنا بقولهم وظننّا بصحته، ولكن لمّا وجدنا أن صريح اللفظ القرآني قد جاء بصيغة التنكير "وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" وليس التعريف (الزَبُور)، فإننا نظن أن لدينا الحق أن نتساءل عن العلة من وراء ذلك.

الفرق بين الزَّبُورِ (بصيغة التعريف) و زَبُورًا (بصيغة التنكير)
لقد جاء قول الحق عند الحديث عن داوود على النحو التالي:
"وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا"
بينما جاء قوله تعالى عند الحديث عن وراثة الأرض على النحو التالي:
"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُور"
إذاً، لنطرح السؤال نفسه: ما الفرق بين الزَبُور الذي كتب الله فيه وراثة الأرض و زَبُور داوود؟

جواب: إنّ الحقيقة التي ربما يصعب المجادلة فيها هي أن جمع كلمة زبور هي مفردة "زُّبُرِ"، فعند استعراض السياقات القرآنية التي تتحدث عن الزبر نجد الآيات الكريمة التالية:
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ آل عمران (184)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ                                                                                                               فاطر (25)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ                                     القمر (43)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ                                                          القمر (52)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)    النحل 43-44
إن المدقّق في هذه السياقات القرآنية يجد حقيقة صارخة وهي أنّ كثيراً من رسل الله جاءوا أقوامهم بالزُّبُرِ، فليس داوود وحده من جاء قومه بالزبور. لذا، فإننا نفهم أنه عندما قال الله تعالى في خضم الحديث عن داوود "وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" فذاك يعني دون أدنى شك عندنا أن داوود قد جاء قومه بواحد من الزُّبُرِ كما جاء رسل آخرون أقوامهم بزبر من ربهم، إذاً هناك زبر كثيرة جاء بها كثير من الرسل من ربهم إلى أقوامهم مصداقاً لقوله تعالى:
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ                                                                                                                 آل عمران (184)
افتراء من عند أنفسنا: إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من هذا النقاش هنا هو – نحن نظن- أن وراثة الأرض التي كتبها الله لم تكن في زبور واحد، وإلا سيطرح حينئذ السؤال نفسه: ماذا عن زبر الرسل الآخرين؟ هل كتبت فيها تلك السنة الكونية؟ ثم، لِمَ كان زبور داوود من بينها جميعا هو من كتبت فيه تلك السنة الكونية؟
رأينا: كلا، لقد كتبت تلك السنة الكونية أولاً في الزَبُور، وليس ففط في زبور داوود. لذا، غالباً ما وقع الناس فريسة الفهم الخاطئ في أن تلك الكتابة الخاصة بوراثة الأرض قد خطت في زبور داوود.
النتيجة: إننا نعتقد جازمين أنّ كتابة السنة الإلهية في وراثة الأرض لم تكن في زبور داوود وإنما في الزَبُور، فما هو ذلك الزبور الذي كتبت فيه سنة وراثة الأرض؟


ما هو الزَبُور؟
لنعيد بعض الآيات السابقة ونتفقدها من هذا الجانب:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ                                     القمر (43)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ                                                          القمر (52)
لنطرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تثيرها هذه الآيات الكريمة:
- ما هي الزبر التي يمكن أن يكون لـ أولئك الناس براءة فيها؟
- وكيف يمكن أن يكون كل شيء فعلوه في الزبر؟
إن المتفحص لهذه الآيات الكريمة قد يصل إلى حقيقة بسيطة جداً تتمثل – في رأينا- في أنّ الزبر هي المكان (أي السجل) الذي يكتب فيه. فمن يحتاج إلى براءة لابد أن تكون مكتوبة في الزبر:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ                                     القمر (43)
ولا شك أن كل ما يفعل الإنسان يسجل عليه، ولكن أين يتم تسجيل تلك الأعمال؟
الجواب: في الزبر مصداقاً لقوله تعالى:
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ                                                          القمر (52)
ولا شك أن لكل أمة زبورها:
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ                                                                الشعراء (196)
ولكن، لمّا كانت سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتغير:
          سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا                         الأحزاب (62)
          سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا                           الفتح (23)
كان لا بد من أن تشترك تلك الزبر في تلك السنن الكونية المكتوبة فيها جميعاً.

سيرد صاحبنا هنا على الفور بالتساؤل التالي: إنْ صحّ ما تزعم، فما الداعي أن يكون لكل أمة زبورها الخاص بها؟
الجواب: المنهاج والتشريع، مادام أن لكل أمة منهاجاً وتشريعاً، كان لابد من أن يكون لها زبورها الخاص ليجعلها متميزة عن غيرها:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ                                                          المائدة (48)
فيكون ذلك قد كتب أيضاً في زبورها، الأمر الذي يجعلها تتميز عن غيرها من الأمم. فزبور كل أمة مكتوب فيه شيئان اثنان:
- سنن الله الكونية التي تشترك فيها كل الأمم "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"
- التشريع والمنهاج الذي يخص تلك الأمة على وجه التحديد "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"

وربما ينطبق هذا التشخيص - في رأينا- على الأمة الواحدة عندما تنقسم وتتفرق إلى أحزاب متصارعة مختلفة، عندها يقوم كل حزب بكتابة قوانينه و أفكاره التي تجعله مختلفاً عن الآخرين، وهذا بالضبط ما نفهمه حتى الساعة من قول الله تعالى في كتابه الكريم:
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
عندها يتقطع زبور الأمة الواحدة إلى زبر متعددة، لتصبح كل فرقة أو كل حزب مغتر بحزبه، فرح به.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لمّا كانت لكل أمة زبورها، وقد كُتِب لها في ذلك الزبور ما فعلت (أي تشريعها ومنهاجها)، ولما كانت الأمم  تتشارك في سنن الله الكونية المكتوبة في زبور كل واحدة منها (سنة الله)، كان لابد في النهاية من تجميع كل تلك الزبر في زبور واحد يصبح هو الزبور الذي يضم زبر كل الأمم والأحزاب والفرق المختلفة، وذلك الزبور هو السجل المرجع لكل الزبر الفرعية، وهو ما يصبح اسمه "الزبور" الذي – نظن أن الله قد كتب فيه سنته الكونية في أن الأرض يرثها عباده الصالحون. وبتطبيق المنطق نفسه نستطيع القول أنّه لما كانت تلك السنّة الكونية في وراثة الأرض مكتوبة في الزبور الأصل الذي يضم كل الزبر الفرعية، يصبح من البديهي أن تكون تلك السنة (أو ذاك القانون) موجودة في كل الزبر الفرعية، فقد كتب الله في سجل كل أمة (أي زبورها) أن الأرض يرثها عباده الصاحون. وورود هذه الآية في سورة الأنبياء على وجه التحديد له دلالاته التي قد لا تخفى على الكثيرين، وسنرى لاحقاً أن ذلك القانوني الرباني (أو السنة الإلهية) في وراثة الأرض ليس خاصاً بأمة محمد أو أتباع عيسى أو موسى أو أي نبي آخر على وجه التحديد وإنما تشريع يخص كل أنبياء الله ورسله ما داموا أنهم قد جاء أقوامهم بالبيّنات والزبر من ربهم.
النتيجة: وراثة الأرض قانون مكتوب في الزبور، فهو إذاً مكتوب في كل الزبر (أي لكل الأمم)، وبالتالي فهو قانون إلهي ينطبق على كل عباد الله بغض النظر عن الرسول الذي أرسله الله إليهم

استراحة قصيرة
ربما يسلط مثل هذا الفهم –على علاّته- الضوء من جديد على آية كريمة غالباً ما فُسِّرت بطريقة – في نظرنا- خاطئة، والآية الكريمة هي قول الحق الذي جاء في خضم الحديث عن القوم الذين اتّبعوا موسى بعد خروجهم من أرض مصر:
           يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
وما هي إلا لحظات حتى يرفض القوم دخول الأرض:
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
فيأتي العقاب الرباني الفوري لهم على نحو:
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
ويكون سؤالنا الذي نطرحه هنا هو: كيف يستقيم المعنى أن يكون الله قد كتب لهم تلك الأرض المقدسة ليأتي عقابه لهم على نحو أنه يُحرِّم عليهم دخولها؟ ألم يكتبها الله لهم كما ينص على ذلك صريح اللفظ في الآية 21؟ لِمَ يمنعهم إذاً من دخولها في نفس السياق في الآية 26؟ هل تراجع الإله عن وعده؟!
قد يرد البعض بالقول بأن تحريم الأرض عليهم كان لفترة محددة وهي أربعين سنة (انظر تفاسير العلماء الأجلاء)، فنقول كلا لأنّ الأربعين سنة تلك كانت خاصة بالتيه (أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) كما هي خاصة بتحريم دخولها (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)، ولكن حتى لو سلمنا بالمنطق الذي يقدمونه بأن تحريم الأرض عليهم كان أربعين سنة فقط، ألا يوصلنا ذلك إلى سؤال أكثر أثارة ونتيجة أكثر غرابة؟ ألا يوصلنا إلى تناقض يصعب فهمه وهو: إذا كان الله قد حرم عليهم الأرض أربعين سنة فقط، وإذا كان الله قد كتب لهم تلك الأرض المقدسة، فلم إذاً نجادلهم بها وندعي أن لنا أحقّية فيها؟ أليست هي إذاً ملكاً لهم مادام أن الله هو من كتبها لهم؟
وبكلمات أكثر دقة، إذا كنا نعرف أنّ الأرض المقدسة هي فلسطين التاريخية (وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً عند حديثنا عن مفردة الأرض) وإذا كنا نؤمن بكلام ربنا في قرآننا أنّ الله قد كتبها لبني إسرائيل، فلم إذاً نجادلهم بذلك؟ ألم يأتي قول الحق صريحاً في قرآننا "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ؟

إن مثل تلك الإجابات السابقة توقعنا في إشكالات لا يمكن قبولها، لأن السيناريوهات المطروحة تصبح على النحو التالي:
-إما أن نسلم أن الله قد كتب تلك الأرض لبني إسرائيل ولكنه عاد ليحرمها عليهم إلى الأبد، وعندها يمكن استدراجنا إلى المنطق القائل بأن الإله قد تراجع عن قراره، وفي هذا إشكالية لأننا نتّهم الإله بأنه يقدّم شيئاً (لنقل وعداً) ثم ما يلبث أن يتراجع عنه،
- أو أنّ الإله قد كتب فعلاً تلك الأرض لبني إسرائيل ولكنّه حرّمها عليهم أربعين سنة فقط، وفي هذا الفهم إشكالية لنا، لأنّه يصبح من غير المنطقي أن نطالب نحن بني إسرائيل بالتخلي عن تلك الأرض ما دام أن الله نفسه قد كتبها لهم.

الفهم البديل
والآن لنقدم فهمنا البديل لتلك الأفهام، مركزين على الآيات نفسها فلا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولنبدأ بقول الحق:
           يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
نعم، الله قد كتب لـ أولئك القوم تلك الأرض، أليس كذلك؟ ولكن، هل يعني ذلك أن الله لم يكتبها لغيرهم؟
أولاً، لاحظ أن الله لم يقل في كتابه الكريم "يا بني إسرائيل ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، لذا فإننا نرى أن المفارقة الغريبة الأولى في كلام المفسرين السابقين تكمن في فهمهم (وبالتالي استبدالهم) كلمة القوم التي وردت في الآية الكريمة نفسها على أنها تعني" بني إسرائيل" على وجه التحديد، فالله قد كتب الأرض المقدسة لؤلئك النفر (القوم) الذين خرجوا مع موسى من أرض مصر هاربين من فرعون وملئه، أليس كذلك؟ فهل كان كل الخارجين مع موسى من بني إسرائيل فقط؟ وأين هم السحرة – مثلاً- الذين أمنوا بموسى وهربوا معه بعد أن كان فرعون قد جمعهم من كافة المعمورة؟ (للتفصيل حول مفردة قوم كما ترد في السياقات القرآنية فإننا ندعو القارئ الكريم إلى قراءة مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى؟)

أما المفارقة الثانية في تفسيراتهم فتكمن –في رأينا- في عدم فهمهم للحكمة الإلهية من كتابة تلك الأرض لـ أولئك القوم على وجه التحديد، أي: لم يختار الله – إنْ صح كلامهم- قومية معينة ليكتب لها أرضاً بعينها؟ أليس في ذلك اتهاماً مبطناً للإله بتبنيه نظرية تفوق العرق (شعب الله المختار)؟ لم يختار الله شعباً محدداً دون شعوب الأرض الأخرى ليكتب لهم الأرض المقدسة على وجه التحديد؟ إن صحت مثل تلك النظرية (نظرية شعب الله المختار)، فذاك إلههم ولا حاجة لنا به، فليذهبوا هم وإلههم الذي اختارهم وفضلهم عليّنا دون وجه حق إلاّ لأنهم من سلالة جينية معينة.
كلا، وألف كلا، إن الإله الذي نؤمن أنّه ربنا وربهم ورب الناس جميعاً لا شك عادل لا يتخذ قرارا كهذا دون حكمة بالغة لا يختلف عليها كل ذي لب، فنحن نعتقد أن الحكمة في ذلك تتمثل في قول الحق الذي جاء في الآية نفسها التي نحن بصدد تجلية بعض معانيها:
          وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ          الأنبياء (105)
نعم، تلك هي الحكمة في وراثة الأرض (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، ولو ربطنا هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن السنة الكونية في وراثة الأرض بالآية السابقة التي تتحدث عن أولئك القوم الذين خرجوا مع موسى من أرض مصر على وجه التحديد لوجدنا التناسق العظيم الذي لا يمكن أن يسبب إشكالية لأحد:
          يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ                                                                                                           المائدة (21)
نعم، لقد كان أولئك القوم قوما صالحين في تلك الفترة فاستحقوا أن يكونوا هم ورثة تلك الأرض بغض النظر عن العرق (الجنس) الذي كانوا ينتسبون إليه.
وقد يرد البعض على الفور بالقول: لكن ألا ترى أن القوم لم يكونوا صالحين بدليل أنهم رفضوا الأمر الإلهي لهم بدخول الأرض المقدسة، وبدليل أن الله قد عاقبهم على ذلك، فنرد على الفور بالقول بأنّ كلامك ربما يصح لو كان شرط وراثة الأرض الذي ورد في الآية الكريمة هو الإيمان أو الإسلام أو الطاعة للأمر الإلهي، أي لو أن الله قال في كتابه الكريم:
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ المؤمنون
أو
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ المسلمون،
وهكذا. فلو كان الأمر على هذا النحو، لـ (ربما) سلّمنا بصحة قولك، ولكن لو تدبرت معنا الآية أكثر لوجدت –دون أدنى شك- أن شرط وراثة الأرض لم (ولن) يكن الإيمان أو التسليم أو الإذعان لأمر الله، ولكن الشرط الذي أختطه الله في كتابه لوراثة الأرض هو الصلاح (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهناك فرق كبير بين الإيمان و الصلاح، لذا فنحن بحاجة أن نفهم لِمَ جعل الله الصلاح (وليس الإيمان أو الإسلام أو الإذعان أو الطاعة، الخ) شرط وراثة الأرض، وما نطلبه من القارئ الكريم ليس أكثر من التريث قليلاً حتى يتم التعرض لمعنى مفردة "الصَّالِحُونَ" التي جاءت في الآية الكريمة نفسها كشرط لوراثة الأرض:
          أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ
ليتعرف بعدها على الحكمة الإلهية في أن يكون الصلاح على وجه التحديد هو الشرط اللازم توافره لوراثة الأرض.
إنّ ما يهمنا هنا هو الزعم بأن القوم الذين كتب الله لهم تلك الأرض كانوا في تلك الفترة قوماً صالحين عندها استحقوا أن يرثوا تلك الأرض، ولكن لمّا ذهب صلاحهم حرمها الله عليهم، فكانت تلك هي سنة الله على الدوام في وراثة الأرض (الأرض المقدسة): لا يرثها إلا من كان صالحاً.
وقد يرد البعض بالقول: وكيف ذهب صلاحهم وهم أنفسهم من كانوا قبل قليل صالحين كما تزعم؟
الجواب: لنتدبر قليلاً ما حصل للقوم في تلك اللحظة بالذات: موسى يطلب من القوم الذين صاحبوه الخروج من مصر أن يدخلوا الأرض التي كتب الله لهم كما جاء في كتاب الله على لسان موسى:
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
يرفض نفر من القوم (وليس كل القوم) الإذعان لطلب موسى ذاك متذرعين بالحجة التالية:
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
ينبري نفر قليل من القوم ليحثوا قومهم على الإذعان لطلب نبيهم موسى قائلين:
 قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
يرد الغالبية العظمى من القوم بالرفض الصريح:
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
عندها ما يكون من موسى إلا أن يرد عليهم بالقول:
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
والآن، دقق –عزيزي القارئ- مليّاً بما حصل: القوم لم يتركوا الإيمان بدين موسى، ولم ينكروا أن رب موسى هو ربهم، ولكن جل ما فعلوه هو أنهم رفضوا دخول الأرض المقدسة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حدث جدل بينهم، بعضهم يريد دخول الأرض:
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
 والبعض الآخر لا يريد ذلك:
          قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
فيتخذ موسى موقفه الخاص بما حصل:
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
ولو دققنا - عزيزي القارئ- جيداً بطلب موسى من ربه " فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، لنسأل: ألم تحصل الفرقة إذاً بين موسى ومن معه من جهة ومن رفض الأمر الإلهي وأصبح من مجموع الفاسقين؟ ألا يدلك ذلك على صدق قول الحق:
          فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ                المؤمنون (53)
لقد أصبحوا بسبب تلك الفرقة أحزاباً، لأنهم تقطعوا أمرهم زبرا، وسنرى لاحقاً أن ذلك سبباً كافياً لأن ينتفي صلاحهم، وبالتالي انتفاء أحقيتهم بوراثة الأرض حتى يعودوا قوماً صالحين من جديد (أي لا يختلفوا ولا يتقطعوا أمرهم بينهم زبرا).
ولا ننسى أن ننتبه إلا ما قاله موسى في نهاية المطاف، فلقد نعت القوم بالفسق:
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه أن الفسق هو عكس الصلاح تماماً.

دليل آخر: سورة الإسراء
وهنا ننتقل مباشرة إلى سورة الإسراء لنطرح حولها سؤالاً واحداً ربما يفيدنا في تحديد هوية الأمة التي يكون لها أحقية وراثة الأرض، والسؤال هو: من هي الأمة المقصودة في الخطاب في بداية تلك السورة العظيمة؟  وسنقدم الآيات الكريمة التي نظن أنها ذات صلة بالموضوع أولاً، ثم نطرح سؤالاً واحداً بعد ذلك:
          سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ
آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
هذه هي الآيات العشرة الأولى من سورة الإسراء، وجل ما نطلبه هنا هو أن يحدد القارئ بنفسه الأمة الموجّه لها الخطاب في كل آية من هذه الآيات العشرة.
فمن الذي ردد الله الكرّه لهم عليهم؟ ومن الذي أمددهم الله بأموال وبنين وجلهم أكثر نفيرا؟ ومن الذين سيسوءوا وجوهم؟ ومن الذين سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة؟ ومن الذين سيتبرون ما علوا تتبيرا؟ ومن الذين عسى الله أن يرحمهم؟ ومن الذين إن عادوا عاد الله عليهم؟ الخ.
إنني أطلب من كل من يقرأ هذه السطور أن يراجع بنفسه تفاسير العلماء لهذه الآيات الكريمة ويقارن بينها، ليرى بأم عينه، وليكتشف بنفسه مقدار التخبط الذي وقعوا وأوقعوا الناس فيه عندما حاولوا تجيير خير هذه الآيات لهم والشر الذي تتحدث عنه إلى غيرهم.

رأينا: إننا نظن أن من الاستحالة بمكان تحديد أمة معينة على أنها المقصودة بذلك الخطاب، فما دام أن تلك الآيات تتحدث أيضاً عن وراثة الأرض المقدسة، لذا فإن الأمة المقصودة في الخطاب التي سترث تلك الأرض هي الأمة الصالحة بغض النظر عن صحة عقيدتها، فعباد الله جميعاً (مسلمون ويهود ونصارى و...) لهم الحق في وراثة تلك الأرض حتى لو كانت عقيدتهم منحرفة ماداموا صالحين، فإن كنت أنت الأصلح تصبح وراثة الأرض من حقك، وبالمقابل فإن لم تكن على درجة كافيه من الصلاح (حتى لو كانت عقيدتك صحيحة)، فلا حق لك في وراثة تلك الأرض.
النتيجة: وراثة تلك الأرض (الأرض المقدسة) هي ميزان صلاح عباد الله (مسلمين كانوا أو يهوداً أو نصارى، الخ) لأن الله قد كتب في الزبور (الكتاب المرجع) أن تلك الأرض لن يرثها إلا عباده الصالحون.

وللحديث بقية

بقلم د. رشيد الجراح