ماذا كُتِب في الزبور 2


نستكمل في هذه المقالة الحديث عن معنى الفعل كَتَبْنَا الذي جاء في الآية التي تتحدث عن ما كُتِبَ في الزبور،
لنتناول السؤال الثاني وهو: لماذا جاء الفعل موصولاً بضمير الجمع في قوله تعالى: كَتَبْنَا؟ فمن الذي كتب؟ أو من الذين كتبوا؟
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ      الأنبياء (105)
لقد كان موقفنا في مقالاتنا السابقة يتمثل على الدوام في الدعوة إلى البحث عن المعاني الحقيقية للمفردات والتراكيب اللغوية كما ترد في كتاب الله بدلاً من التحليق في سماء المجازات والاستعارات حسب الهوى والميل، وكان من بين المزاعم التي طرحناها هو أن نقرأ المفرد على أنه مفرد، والجمع على أنه جمع، والمذكر على أنه مذكر، والمؤنث على أنه مؤنث، وأن لا نخلط، وذلك ليقيننا أن كل ما في كتاب الله مقصود لذاته، ولا يمكن تبديله أو تجاوزه، وزعمنا القول أنّ في حمل الأشياء على بعضها البعض مضيعة للمعاني الحقيقية ليحل محلها أفهام مغلوطة لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي هذا السياق فإننا نرى أن تعدِية المفرد ليشمل الجمع أو العكس يحدث فوضى عارمة في معاني كتاب الله، يصعب بعدها التمييز بين الألفاظ بالدقّة المطلوبة، وربما يحدث التناقض الذي لا يمكن لأي شخص أن يزعم وجوده في كتاب مصدره العليم الحكيم. (أنظر مقالتنا: جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم)


إن محرك البحث لدينا هنا هو سؤال واحد ألا وهو: لماذا يستخدم ضمير المفرد تارة وضمير الجمع تارة أخرى في الخطاب القرآني؟ فعند الحديث عن الذات الإلهية (الله) يأتي الخطاب في كتاب الله الكريم تارة بصيغة المفرد "أنا" ومشتقاتها، ومرة أخرى بصيغة الجمع "نحن" ومشتقاتها، وسؤالنا الذي نطرحه هنا هو: لماذا؟ أي، لماذا يتحدث الله سبحانه جلّ وعلى عن نفسه بصيغة المفرد تارة وبصيغة الجمع تارة أخرى؟ لتبسيط الصورة دعنا نعقد المقارنة بين الخطاب الرباني في قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)[1]
حيث جاء الخطاب بصيغة الجمع، مقابل قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
حيث جاء الخطاب بصيغة المفرد.

المعضلة
لقد حمل جلُّ الفكر الإسلامي السائد الخطاب باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن المفرد أنه من باب التعظيم والتقدير، ويكأنهم يقولون أنه عندما يتحدث الله عن نفسه بصيغة "نحن" يكون ذلك تعظيماً لشأنه، فتلك هي نظريتهم "نظرية التعظيم" في استخدام ضمير الجمع عند الحديث عن مفرد.
الرد
بدايةً، يجب أن يفهم من كلامنا هذا أننا نرفض "نظرية التعظيم" التي الصقوها بضمير الجمع جملة وتفصيلاً، وسنحاول في السطور التالية الدفاع عن موقفنا هذا، محاولين تبيان ما ستؤول إليه الأمور إنْ صح ما نزعم وندّعي.
أولاً، دعنا نرد عليهم بنفس منطقهم مثيرين التساؤل التالي: هل تنتفي عظمة الله عندما يتحدث عن نفسه بصيغة المفرد؟ فهل يعظم الله نفسه تارة ولا يعظمها تارة أخرى؟!
ثانياً، هل ينطبق ما يصح على الناس على رب الناس؟ إننا نظن أن البلاء في فهمهم هو أنهم أخذوا صنيع البشر وطبّقوه على خالق البشر، فلقد درج البشر (وخاصة العرب وإن كانت تشاركهم في ذلك أمم كثيرة) على أنّ العظيم منهم (كالملك مثلاً) يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، ويخاطبه الناس بصيغة الجمع، وكان ظنهم أن هذا النوع من الخطاب يمكن أن يطبّق على الإله. فنرد عليهم بالقول أن الله عظيم بغض النظر عن صيغة الخطاب، لا بل فإن عظمة الإله تتجلى أكثر بمخاطبته بصيغة المفرد على عكس ما تظنون، ولكن يبقى هذا زعم نظري يحتاج إلى دليل يستند عليه، وهذا ما سنحاول تبيانه في هذه العجالة.
الدليل
هنا نجد لزاماً الحاجة إلى التمييز أولا (وقبل كل شيء) بين أمرين اثنين وهما:
-        خطاب الإله عن نفسه، و
-        خطاب البشر عن الإله
فالحقيقة الصارخة في القرآن الكريم هي أنه عندما يتحدث الإله عن نفسه فإنه يستخدم صيغتي المفرد والجمع كما في المثالين التاليين:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى                     طه (12)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ                                      الحجر (9)
أما مخاطبة الإنسان ربه فلا ترد في كتاب الله إلاّ بصيغة واحدة وهي صيغة المفرد:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ              الأنبياء (89)
ونحن نتحدى أن يقدم أحد مثالاً واحداً يخاطب فيه الناس ربهم بصيغة الجمع. (وهنا يجب أن لا نخلط هذه الصيغة مع صيغة أخرى لا دخل لها بالخطاب كما في قوله تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
فصيغة الجمع هنا تعود على المتكلم، وهم إبراهيم وولده إسماعيل، وليس على المخاطب، وهو رب إبراهيم وإسماعيل)
فلو استعرضنا جميع الآيات القرآنية التي تتعلق بخطاب الناس مع ربهم (كما في الدعاء مثلاً) لوجدنا أنّ الناس جميعاً يخاطبون الإله بصيغة المفرد فقط، ربما لأن الخطاب بخلاف ذلك يحمل في ثناياه معنى الإشراك، فمن الحق أن يخاطب الناس ربهم الأعلى بصيغة المفرد، (فالإله ليس رباً أرضياً ليعظم بصيغة الجمع عندما يخاطبه الناس).
ولتبسيط الفكرة أكثر فإننا نتساءل: هل يتقبل الفكر الإسلامي أن يخاطب الناس ربهم على النحو التالي:
ربنا وسعتم كل شيء علما
أو ربنا إنكم
أو أنتم وليي
بدلاً من صيغة المفرد كما في قوله تعالى:
... رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ[2]                                                                                                        غافر (7)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ                  آل عمران (9)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ                                       يوسف (101)
كما نفعل مع ملوك وعظماء الأرض؟! الجواب: قطعاً لا يمكن أن نقبل ذلك.

إنّ فحوى القول هو أن نظرية التعظيم تلك يمكن أن تنطبق (إن صح قولهم أصلاً) في حالة الخطاب من الله إلى الناس عندما يتحدث عن نفسه تارة بصيغة الجمع وتارة أخرى بصيغة المفرد، ولكن كيف لهم أن يطبقوها في حالة مخاطبة الناس ربهم التي لا ترد بالقرآن العظيم إلا بصيغة المفرد؟ أليس من الأولى أن يكون التعظيم قادماً من الأدنى إلى الأعلى؟! يا للعجب!
البديل لنظرية التعظيم في الخطاب القرآني
لكن السؤال المشروع الذي نطرحه هنا هو: إذا كان الله لا يقبل منا أن نخاطبه بصيغة الجمع (مثل وسعتم بدل وَسِعْتَ، أو أنتم بدل أَنْتَ، أو إنكم بدل إِنَّكَ) فلماذا يتحدث هو عن نفسه بصيغة المفرد تارة وبصيغة الجمع تارة أخرى كما في الآيات التالية التي ذكرناها سابقا،ً ونعيدها مرة أخرى لتبين الفكرة نفسها:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى                              طه (12)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ                                                الحجر (9)
إن الجواب الذي نقدمه هنا يتمثل بالتوقف عن استخدام المجاز، وبحمل الكلام على معناه الحقيقي فقط، فالإله يعي ما يقول، فعندما يستخدم صيغة المفرد لا شك يقصد غاية تختلف عن تلك التي يعنيها في استخدامه صيغة الجمع، والعكس صحيح، فالمفرد مفرد والجمع جمع، لا أكثر ولا أقل. ولكن كيف؟

لو أمعنا التفكير في الآيات التي يتحدث الله فيها عن نفسه بصيغة المفرد لوجدناها تختلف اختلافاً جذرياً عن الآيات التي يتحدث الله فيها عن نفسه بصيغة الجمع، وسنقدم المثال التالي لتوضيح الفكرة.
فعندما خاطب الله نبيه موسى، جاء الخطاب في كل السياقات القرآنية التي تتحدث عن تلك الواقعة بصيغة المفرد، قال تعالي:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)                    طه
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ                                                                                      القصص (30)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)                                       الأعراف
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)                                                                   النمل
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)             النازعات
فلماذا جاء الخطاب من الله عن نفسه بصيغة المفرد في كل السياقات القرآنية السابقة؟
الجواب: إذا حملنا الكلام على معناه الحقيقي دون زيادة ولا نقصان سيتبيّن لنا أن الجواب بسيط للغاية يتمثل (في رأينا) بأن الله نفسه هو من خاطب موسى دونما واسطة، فلم يشترك مع الإله في ذلك الحدث أحد غيره. هل في هذا شك؟
ولكن - في المقابل- لندقق النظر بتلك الحادثة التي حصلت مع نبي الله إبراهيم عليه السلام:
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
دقق – عزيزي القارئ- النظر بضمائر الخطاب التي يستخدمها الله في هذه الحادثة للحديث عن نفسه، أليست هي ضمائر الجمع (وَنَادَيْنَاهُ، نَجْزِي، وَفَدَيْنَاهُ)؟ لماذا؟
الجواب: هل الله نفسه هو من نادى إبراهيم كما نادى موسى؟ هل الله نفسه من قدّم المكافأة لإبراهيم على صنيعه ذاك؟ أي هل الله نفسه من قدّم الفداء لإبراهيم؟
الجواب: كلا، وألف كلا، لقد أرسل الله لإبراهيم من يناديه، وأرسله بذلك الجزاء ومعه ذلك الفداء.
استراحة قصيرة
وهنا قد يرد علينا صاحبنا المعهود بالاستفسار التالي: لو صدّقنا ما تزعم، تبقى هناك معضلة: كيف بنا أن نفسّر الآية الكريمة التالية التي تتحدث أيضاً عن مناداة الله نبيه موسى في ضوء ما تزعم وتدعي؟
          وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
ألا تتحدث الآية عن مناداة الله نبيه موسى؟ لم إذاً يستخدم ضمير الجمع بدل ضمير المفرد كما ورد في الآية السابقة عند الحديث أيضاً عن مناداة الله نبيه موسى؟ فالقرآن الكريم يقدم لنا صيغتين لمناداة موسى، تارة بصيغة المفرد:
          إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى                                                    النازعات (16) 
          وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ                                        القصص (10)
وتارة بصيغة الجمع:
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا                                       مريم (52)
ونزيد على ذلك القول أنها وردت كذلك بصيغة محيرة (يصعب التمييز فيها):
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ                                                            طه (11)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ   النمل (8)       
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ                                                                                      القصص (30)
إنّ هذا الاستفسار المشروع ينقلنا للحديث عن مناداة الله نبيه موسى لنسأل سؤالاً واحداً ألا وهو: كم مرة تمت مناداة موسى من قبل ربه؟ هل حصلت مرة واحدة؟ هل حصل اللقاء بين موسى وربه مرة واحدة؟ الجواب: كلا، وألف كلا، لقد حصلت أكثر من مرة، فلقد حصلت عندما رأى موسى النار وهو عائد إلى مصر من أرض مدين، وعندها جاء الخطاب القرآني على النحو التالي:
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9)
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11)
وهنا جاء اللفظ على صيغة المبني للمجهول نُودِيَ (كما يحب أهل اللغة وكثير من أهل الدين تسميته، ولكننا نضطر أن نسألهم في هذا المقام شيئاً واحداً فقط وهو: هل الله مجهول لنتعرف على صاحب الصوت الذي نادى موسى؟ لم جاء اللفظ على هذه الشاكلة؟) سبحان الله! من يدري!
ولكن ما يهمنا أكثر هو الاستنتاج البسيط التالي: لم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة التي تمت فيها مناداة الله نبيه موسى، فلا شك أن موسى قد نودي عند الطور:
           وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
وهنا يأتي فعل النداء بصيغة الجمع المعلوم (وليس المجهول)، فمن الذي نادى موسى عند الطور؟
ليبرز هنا تساؤل آخر: هل المناداة عند النار هي نفس المناداة عند الطور؟
رأينا: لقد حصلت مناداة الله موسى أكثر من مرة عند الطور، مرة كانت عند الطور والنار مشتعلة، وأخرى  
      عند الطور ولم يكن هناك نار مشتعلة.

مما لا شك فيه أن الله قد طلب من موسى أن يذهب إلى فرعون ليبلغه رسالة ربه، وكان ذلك عندما كان موسى واقفاً على النار المشتعلة، فجاء الخطاب على النحو التالي:
          وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
ولكن ما الذي حصل بجانب الطور عندما لم تكن هناك نار؟
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ                                                           القصص (46)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ    
                                                                             طه (80)
نعم، لقد حصلت مناداة الله نبيه موسى بجانب الطور مرتين، حدثت في المرة الأولى عندما كان موسى عائداً مع أهله من أرض مصر، وحدثت أخرى عندما كان في ميقات ربه، بعد أن كان الله قد واعده ذلك اللقاء مع سبعين رجلاً من بني إسرائيل، وكانت نتيجة اللقاء الأول أن بعث الله موسى رسولاً إلى فرعون وقومه:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
وكانت نتيجة اللقاء الآخر مختلفة تماماً:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ    
                                                                             طه (80)
ولا ننسى أيضاً ذلك اللقاء الذي تم بين موسى وربه يوم أن ذهب ليلاقيه وحده تاركاً قومه وراءه، وعندها تلقى موسى من ربه الألواح:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)                               الأعراف          

الخلاصة: إن جلّ ما هو مطلوب هو أمعان التفكير في الضمائر التي وردت في كل سياق، فنحن نظن أن اللقاء الأول قد جاء بصيغة المفرد (فاللقاء كان فقط بين موسى وربه)، بينما جاء اللقاء الذي حصل فيه تنزيل المنّ والسلوى بصيغة الجمع (فالملائكة لاشك هي من تولت أمر تنزيل المن والسلوى على بني إسرائيل)، وجاء الخطاب في السياق الذي حصلت فيه الكتابة لموسى في الألواح بضمير المفرد في بدايته (فقد كان الخطاب بين موسى وربه) وانتهى الخطاب نفسه بضمير الجمع عند الكتابة (لأن الملائكة هي من تولت أمر الكتابة في الألواح لموسى).                                   
إننا نرغب القول أن الله إذا تحدث عن عمل عمله بنفسه دونما تدخل أو وساطة من ملائكته فلا يأتي الخطاب إلا بصيغة المفرد، أما إذا كان الفعل قد نُفِّذَ بأمر من الله ولكن بواسطة ملائكته فيأتي الخطاب بصيغة الجمع، وذلك لأنّ الله صادق فيما يقول ويعمل، فلا يمكن أن يعمل الله شيئاً بواسطة خلقه ثم ينسب ذلك لنفسه بالكليّة (كما يفعل أقطاب الإعلام – ولله المثل الأعلى- الذين يسخّرون جيشاً من الناس من وراء الكواليس ليقوموا لهم بالعمل، ولكنهم يطلّون على الناس برؤوسهم ليزعموا أن هذا العمل من بنات أفكارهم وتنفيذهم، فهو من خطرت الفكرة على قلبه، وهو من بذل الجهد لتحقيقها، وهو من منّتجها وأخرجها للناس على تلك الشاكلة، فيأتي خطابه بصيغة المفرد بالرغم أن الفعل قد أشترك فيه الكثيرون). كلا، وألف كلا، ذلك لا يكون من صنيع الواحد الأحد، فالله يستخدم ضمير الجمع متى قام جنوده بتنفيذ الأمر له، ويستخدم ضمير المفرد متى نفّذه هو بنفسه ولم يطلب من ملائكته تنفيذه له.
عودة على بدء
والآن لنطبق هذا المنطق على فعل الكتابة الذي نحن بصدد التعرض له في الآية التي تتحدث عن وراثة الأرض، لنخلص إلى مثل هذا التمييز في فعل الكتابة نفسه، فالله قد يكتب بنفسه، وقد يطلب من ملائكته القيام بذلك، ولنمعن التفكير بالآيتين الكريمتين التاليتين من هذا الجانب:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا                        النساء (81)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ                                                                    يونس (21)
فالله يكتب بنفسه ما يبيّت الناس، ولكنّ رسله (من الملائكة بالطبع) هم من يكتب ما يمكر الناس (وسنناقش لاحقاً لماذا يقوم الله بكتابة ما يبيّت الناس بينما تقوم الملائكة بكتابة ما يمكر الناس، وسنرى ببساطة أنها بسبب مكان وجود المعلومة، ولكن قبل ذلك نطلب من القارئ مراجعة موقفنا بخصوص علم الله في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان هل لعلم الله حدود؟ جدلية القلب والعقل)
التباين في استخدام الضمائر في السياق الواحد
وبهذا الفهم (أي أن المفرد مفرد والجمع جمع) دعنا ندقق النظر في تباين ضمائر المفرد والجمع في السياق الواحد كما يرد في بعض السياقات القرآنية، ذلك التباين الذي قلّما التفت إليه الكثيرون، قال تعالى:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
ولندقق النظر –على وجه التحديد- في التباين الذي حصل في استخدام الضمائر في الآية 15 في قوله تعالى "إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ"، لنطرح السؤال التالي: لماذا بعد استخدام ضمير المفرد في الحوار الذي جرى بين موسى وربه (الآيات 10-14) جاء الحديث الرباني عن نفسه هنا في الآية 15 على وجه التحديد بصيغة الجمع (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)؟
الجواب: لم يكن الله وحده من يستمع إلى خطاب موسى وهارون مع فرعون.
ولكن لو دققنا النظر في قول الحق في مكان آخر من كتابه عن نفس الحادثة لوجدنا الخطاب قد جاء على النحو التالي:
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
فهنا نجد أن الإله يستخدم ضمير المفرد فقط فيقول "إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ"، فلماذا – نحن نتساءل- استخدم الله ضمير المفرد هنا بدل ضمير الجمع كما كان الحال في السياق السابق (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ
الجواب: لو أمعنا التفكير لوجدنا أن الحديث في السياق السابق (حيث استخدم ضمير الجمع) كان عن السمع فقط (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)، بينما جاء الحديث عند استخدام ضمير المفرد في السياق الثاني عن السمع وعن الروية معاً (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ)، إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من هذا التباين هو النتيجة التي مفادها أن الله كان يستمع لما كان يجري بين موسى وأخيه من جهة وفرعون وملئه من جهة أخرى وكان آخرون (الملائكة) يستمعون في ذلك الموقف. أما في السياق الآخر فقد انحصرت الرؤيا في الذات الإلهية، وبكلمات أخرى نقول: في حين أن الملائكة كانت تستمع فقط  (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) كان الإله يسمع ويرى (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ).
(وسنتعرض لاحقاً لمعنى مفردة مَعَكُمْ و مَعَكُمَا التي وردت في السياقين السابقين لنطرح سؤال واحداً مفاده: ما معنى أن يكون الإله معهم أو معهما؟)
ولكن هناك تبايناً أشد لفتاً للانتباه في السياقين السابقين ألا وهو استخدام كلمة رَسُولُ بصيغة المفرد في السياق الأول (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، واستخدام صيغة المثنى رَسُولَا في السياق الثاني (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ). ونحن نتساءل عن سبب ورود المفرد بصيغة المفرد في سياق قرآني وورودها بصيغة المثنى في سياق آخر؟
 الجواب الذي نزعم: إن ذلك يحتاج إلى تدقيق السياق القرآني الذي وردت فيه كل صيغة من هذه الصيغ كاملاً (صيغة المفرد رَسُولُ في سورة الشعراء وصيغة المثنى رَسُولَا في سورة طه) لنخلص إلى الفهم التالي: لقد جاءت مفردة رَسُولُ عندما لم يكن هارون قد أوحي إليه بعد، وجاءت مفردة رَسُولَا بعد أن تم الوحي إلى هارون، وسنحاول الآن الدفاع عن هذا الزعم.
الشعراء
طه
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)


ربما يكفي أن نشير هنا إلى حقيقة بسيطة وهي طلب موسى من ربه في كل صيغة، فقد جاء الطلب في سورة الشعراء على النحو التالي:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13) 
بينما جاء الطلب في سورة طه في سياقه الأوسع على النحو التالي:
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9)
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
هَارُونَ أَخِي (30)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)

أنّ الغاية من اقتباس النص كاملاً من سورة طه هو تبيان حقيقة قرآنية واحده وهي أن الله قد طلب من موسى الذهاب إلى فرعون مرتين في النص نفسه، جاء في المرة الأولى على النحو التالي:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
هَارُونَ أَخِي (30)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)
وجاء الطلب في المرة الثانية في السورة نفسها على النحو التالي:
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)

ولو أمعنا التفكير جيداً لوجدنا أن الفعل "اذْهَبْ" قد ورد بصيغتين وهما أذهب في بداية السياق  في الآية 24 اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24) واذْهَبَا في وسطه في الآية 43: اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فالسؤال الذي لا مفر منه هو: لماذا تكرر هذا الفعل (الأمر بالذهاب) مرتين في نفس الموقف، مرة بصيغة المفرد اذْهَبْ ومرة أخرى بصيغة المثنى اذْهَبَا ؟
إن المدقق في السياقات يجد أن الأمر الرباني الأول بالذهاب قد جاء مباشرة بعد أن كان رد موسى على النحو التالي:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
فجاء الرد المباشر من الله على النحو التالي:
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
وهذا يعني –في نظرنا- أن هارون لم يكن قد أصبح رسولاً من رب العالمين إلى فرعون بعد، فالله كان في تلك اللحظة قد أرسل رسوله (من الملائكة) إلى هارون، ولم يكن خبر بلاغ هارون الرسالة قد تم بعد (أي لم يكن هارون قد أوحي إليه بعد)، وما هو إلا وقت قصير جداً يتم خلاله متابعة الحوار بين موسى وربه حتى تكون الرسالة قد وصلت إلى هارون بأنه رسول آخر إلى فرعون مع أخيه موسى عندها يتكرر الأمر الرباني لموسى ولكن هذه المرة بصيغة المثنى:
          فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ
وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
افتراء من عند أنفسنا: وفي هذه اللحظة نحن نفتري الظن أنه قد جاء خبر من الله إلى موسى بأن هارون قد قبل الوحي، وقبل أن يشترك في المهمة الموكلة إليه معك للذهاب إلى فرعون. فالآن سيذهب موسى إلى هارون وهو يعلم ما قد أوكل الله إليه من مهمة لينفذها مع أخيه موسى.
الخلاصة: عندما لم يكن هارون قد أصبح رسولاً من الله إلى فرعون كوزير لأخيه موسى جاء فعل الأمر بالذهاب بصيغة المفرد (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولكن لما انتهى الخبر إلى هارون بأنه رسولاً آخر من الله إلى فرعون مع أخيه موسى جاء الطلب الإلهي بصيغة المثنى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ). لذا تكرر الأمر الرباني لموسى في ذلك الموقف بالذهاب إلى فرعون مرتين: مرة قبل أن يصبح أخاه هارون وزيراً له ورسولاً معه إلى فرعون وقومه ومرة بعد أن وصلت الرسالة إلى هارون.
ولو راقبنا فعل القول في كامل السياق لوجدنا أن فعل القول قد ورد أيضاً بصيغتين، فقد جاء في بداية السياق بصيغة المفرد قَالَ (ربما لأن الوحي لم يكن قد انهي إبلاغ هارون رسالة ربه بعد)، فموسى كان المقصود بالرد على كلام ربه:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
ولكن عندما أتم الوحي إبلاغ الرسالة إلى هارون وأصبح بذلك رسولاً مع أخيه إلى فرعون وقومه جاء الخطاب في فعل القول بصيغة المثنى:
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)
وهنا فقط اشترك هارون في الأمر، فأصبح القول يخصه كما يخص أخيه موسى. ويمكن أن يؤكد زعمنا هذا ما ورد في الآية 46 الأخيرة في السياق (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) لنقول بأن الوحي في هذه اللحظة قد جاء الأخويين موسى وهارون ولم يكن من نصيب موسى فقط.

ولو دققنا في النصين السابقين أكثر لوجدنا فرقاً جوهرياً آخر وهو ما ورد بعد فعل القول بصيغة المفرد وفعل القول بصيغة الجمع، ونعيدهما هنا لتفقدهما من هذه الزاوية:
صيغة المفرد
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
صيغة المثنى
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)
ونقصد هنا على وجه التحديد قول موسى في الآية 14:
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
وعدم ورود هذه الفكرة في قول موسى وأخيه هارون بعد أن تم الوحي إلى هارون وأصبح رسولاً إلى بني إسرائيل (كأخيه موسى)، وهنا يكون الجواب – في رأينا- غاية في الوضوح والبساطة وهو أنّ لآل فرعون ذنب على موسى فقط ولم يكن لهم ذنب على أخيه هارون. فيستحيل أن يقول موسى وهارون معاً (بصيغة المثنى) أن لآل فرعون ذنباً عليهما الاثنين، فالذنب واقع على كاهل موسى فقط، فهو الذي قتل الرجل الذي من شيعة فرعون عندما استغاثه الذي من شيعته (ولم ينكر موسى تحمّله المسؤولية لفعلته تلك). فهارون لا يشترك مع موسى في تحمل ذاك الذنب، لذا جاء الخطاب عن الذنب بصيغة المفرد (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، ولكن هارون - لا شك- مشترك مع موسى بأمر آخر وهو الخوف من فرط فرعون وطغيانه:
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
فالخوف (من فرط فرعون وطغيانه) لم يكن واقعاً في نفس موسى وحده وإنما في نفس هارون كذلك، فجاء الخطاب عن الخوف بصيغة المثنى وليس بصيغة المفرد (كما كان الخطاب عن الذنب الذي تحمله موسى لوحده).
إن ما يهمنا في هذا الطرح هنا هو أمر واحد: إدراك التباين في استخدام الضمائر في كتاب الله، والآن لنمعن التفكير في تباين استخدام الضمائر في السياق الواحد كما في قوله تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(144)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
دقق –عزيزي القارئ- وتدبر كيف تحوّل الضمير في قوله " وَكَتَبْنَا" إلى صيغة الجمع بعد أن كان الخطاب على صيغة المفرد في قوله اصْطَفَيْتُكَ و آتَيْتُكَ، لماذا؟
الجواب: نعم الله هو نفسه من اصطفى موسى وهو نفسه من آتاه ذاك الشيء الذي طلب منه أن يأخذه (اصْطَفَيْتُكَ، آتَيْتُكَ)، ولكنه – ببساطه- ليس هو نفسه من كتب لموسى في الألواح بدليل قوله "وَكَتَبْنَا"، فلو كان الله هو نفسه من كتب لموسى في الألواح لجاء الخطاب على صيغة "وكتبت"، وهنا قد يحتج البعض بالقول: وهل يمكن أن يكتب الله بنفسه؟
فنرد على من يحتج على مثل زعمنا هذا بالقول أن صيغة المفرد في فعل الكتابة الذي ينفذه الله بذاته قد وردت في القرآن الكريم، وقد قدّمنا الآية سابقاً، ولكننا نعيدها هنا لتثبيت حجتنا:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا               النساء (81)
فما دام أن الله يكتب بنفسه كما في قوله تعالى "وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ"، فلم لم يقل الله أنه قد كتب لموسى في الألواح على نحو (وكتبت له في الألواح من كل شيء)؟
نحن نظن أنه لمّا أوكل الله المهمة (بأمر منه بالطبع) لملائكته لينفذوا هم فعل الكتابة في الألواح التي أخذها موسى وقفل عائداً إلى قومه جاء الفعل مرتبطاً بضمير الجمع "وَكَتَبْنَا".
ولو أمعنا النظر في كل السياقات القرآنية التي جاء فيها الضمير المنسوب للذات الإلهية بضمير الجمع لوجدنا حقيقة صارخة وهي أن الله قد أوكل المهمة إلى ملائكته ليقوموا بتنفيذها، فها هو إبراهيم يتلقى أمر فداء ابنه من الذبح من ربه ولكن عن طريق رسل الله من الملائكة:
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)   الصافات
وها هو محمد يتلقى الوحي من ربه عن طريق ملائكة الله:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ                                      الحجر (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا                                           الإنسان (23)
وها هو الله نفسه قريب منا ولكنّه ليس وحده:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق (16)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)                                                                         الواقعة
والشواهد من كتاب الله على هذا الاستخدام وافرة جداً، المهم في ما نزعم هنا هو عدم الخلط في محاولة فهمنا استخدام الضمائر في كتاب الله، فهي مقصودة لذاتها، فإن جاء الضمير على صيغة المفرد فلا نشك قيد أنملة أن هناك سبب لذلك، وإن جاء على صيغة الجمع فلا نفقد الإيمان بأن هناك حكمة من وراء ذلك، ينبغي علينا أن نبحث عنها، وأن لا نرضى بتجويز الألفاظ لبعضها البعض لا شيء وإنما لقصور أفهامنا عن إدراك الحقائق.
وهنا نطرح على القارئ الكريم السؤال التالي الذي تثيره الآيات الكريمة في قصة موسى مع صاحبه، والسؤال يتمحور حول فعل الإرادة (فَأَرَدْتُ و فَأَرَدْنَا و فَأَرَادَ رَبُّكَ) في تأويل الرجل صاحب موسى لما قام به من أفعال:
فعن تأويل حادثة خرق السفينة فينسب الرجل فعل الإرادة لنفسه فيقول " فَأَرَدْتُ "
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
وعن تأويل قتل الغلام ينسب الرجل فعل الإرادة له ولغيره فيقول بصيغة الجمع " فَأَرَدْنَا "
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
وعن تأويله لبناء الجدار دون أخذ الأجر عليه ينسب الرجل فعل الإرادة إلى رب موسى:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
السؤال: لماذا تغير فعل الإرادة مع كل حادثة؟ هل هذا من قبيل المصادفة؟
(هذا ما سنتعرض له بحول الله وتوفيقه عند الحديث عن قصة موسى مع هذا الرجل في مقالاتنا القادمة بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً)
نتيجة مفتراة: إن النتيجة التي نجهد  في محاولة للوصول إليها فيما يخص الفعل الإلهي بالكتابة الذي ورد في آية وراثة الأرض هي: ما دام أن فعل الكتابة قد وقع لإبرام عقد قانوني يلزم جميع الأطراف ببنوده كان لابد من توافر الكاتب والشهود على ذلك، ولعلنا نظن أن الله قد اختار أن يكون قانونه الكوني المتمثل في وراثة الأرض لعباده الصالحين (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) مسجلة (مكتوبة) كتابةً (وليس فقط قولاً) بحضور الشهود عليها، فتم الحدث بوجود الجمع الذين سيشهدون على ما تمت كتابته، لذا جاء الفعل على صيغة الجمع "كَتَبْنَا".
النتيجة رقم 3: لقد كتب الله سنته الكونية بأن تكون وراثة الأرض لعباده الصالحين كقانون ملزم له
       بحضور الشهود على ذلك ومنهم من قام بفعل الكتابة بأمر من ربهم.

وللحديث بقية
بقلم د. رشيد الجراح




 [1] (وسنتحدث لاحقاً عن السبب في ورود مفردة عَلَيْكَ عند الحديث عن تنزيل القرآن إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، بينما لم ترد مثل هذه المفردة عن الحديث عن تنزيل الذكر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وذلك عند تعرضنا لمفردة الذكر لاحقاً).

 وننبه إلى عدم الخلط هنا في مفردة رَبَّنَا، فضمير الجمع هنا يعود على المتكلم (الناس) وليس على المخاطب (رب الناس).  [2]