كيف تم خلق عيسى بن مريم1؟ - فترة الحمل و اصطفاء مريم


الافتراء الذي قدّمناه سابقاً هو: عيسى بن مريم كان بشراً ولم يكن إنسيا (من الناس).
(انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان هل فعلاً كذب الشيطان على آدم؟)

النتيجة المفتراة والخطيرة جداً: 
لمّا خلق الله الخلق جميعاً وأودعهم في ظهور أبائهم (آدم) ثم تناقلوا بعدها في ظهور آبائهم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)، لم يكن عيسى بن مريم من بينهم، فعيسى بن مريم لم يكن في ظهر أب له.

 لذا جاء التشابه والمقارنة بين عيسى من جهة وآدم من جهة أخرى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 
فكان عيسى بن مريم (كما كان آدم) بشراً ولم يصبح يوماً من الناس.
 وسنحاول أن نبيّن تبعات ذلك على طريقة حياة عيسى بن مريم العملية، خاصة في الطعام والشراب والحياة والوفاة والزواج وغيرها، سائلين الله أن يؤتينا رشدنا، إنه هو السميع العليم.


أما بعد،
نحن نزعم الظن أن عيسى بن مريم لم يمر بمراحل الخلق التي يمر بها الإنسان (مفرد أناسي)، فهو لم يمر بمرحلة النطفة، فالعلقة، فالمضغة، فالعظام، فاللحم، وهكذا.

 ويصدق ظننا هذا ما جاء في كتاب الله حول خلق الإنسان:
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ النحل 4
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ العلق 2

فهل - يا ترى- مر خلق عيسى بن مريم بهذه المراحل؟ 
هل آتى حين من الدهر على عيسى بن مريم كان فيه نطفة؟ 
وهل أتى حين من الدهر على عيسى بن مريم كان علقه؟
رأينا:
 إننا نزعم الظن بأن خلق عيسى بن مريم قد مر بمرحلتين فقط: 
(1) من تراب 
(2) كن فيكون،

 وهذا بالضبط ما كان عليه خلق آدم الأول:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

لذا فقد جاء خلق آدم من تراب، فأصبح بشراً:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)

ولم تدب الحياة فيه إلا بعد أن تمت النفخة فيه:
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)

وهكذا كان خلق عيسى بن مريم، فعندما جاء رسول رب مريم إليها، جاء يحمل ذلك التراب، وما دبت الحياة فيه حتى نفخ في فرجها:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)

وتمت الآلية بطريقة النفخ:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

سؤال: كيف كانت آلية النفخ في فرج مريم؟
جواب: للإجابة على هذا السؤال لابد من التعرض له بالتفصيل الذي يوضح ماهية النفخ من جهة وماهية الفرج من جهة أخرى، لذا نطرح التساؤلين التاليين أولاً:
- ما هو الفرج؟
- وما هو النفخ؟


الفرج

عند استعراضنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن الفرج، وجدنا الآيات الكريمة التالية:

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ المؤمنون 5
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ النور 30
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور 31
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الأحزاب 35
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ق 6
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ المعارج 29

فما الذي يمكن أن نستنبطه من خلال هذه السياقات القرآنية حول معنى الفرج؟
جواب: لا شك عندنا أن الفرج هو المكان الذي تتم بواسطته عملية الجماع بين الذكر والأنثى، مصداقاً لقوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)

فما هو الشيء الذي يحفظ عن الآخرين (باستثناء الأزواج وما ملكت اليمين)؟
جواب: إنه الفرج،
 ولكن ما معنى الحفظ؟
 أي كيف يحفظ الإنسان فرجه مادام أن الزوج أو ما ملكت اليمين يمكن أن يطّلع عليه؟
فالإنسان عندما يحفظ شيئاً ما، فإنه يبقى دائم المراقبة له، ولا يدع أحداً آخر يقترب منه، فالذي يحافظ على الصلاة يبقى مراقباً لها على الدوام (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، والذي يحفظ فرجه لا يدع الآخرين يقتربون منه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، 

ولكن السؤال الذي يطرح هل كانت مريم حافظة لفرجها؟
الجواب لا، لأن هناك من استطاع الاقتراب منه والنفخ فيه.

كيف إذاً نَصِف مريم بنت عمران؟
جواب: لقد كانت مريم محصنةً لفرجها ولم تكن حافظةً له، 
مصداقاً لقوله تعالى في موقعين من كتابه الكريم:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء 91
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم 12

سؤال: ما الفرق بين حفظ الفرج وإحصان الفرج؟
جواب: ربما يعني حفظ الفرج أن لا تدع الآخرين يقتربون منه إلا بالطريقة المشروعة، فالمرأة التي تكشف فرجها على زوجها، والزوج الذي يكشف فرجه على زوجه أو ما ملكت يمينه، فهو بلا شك حافظ لفرجه حتى لو قام بعملية الجماع، وهذا ما لم تفعله مريم بنت عمران، فهي لم تمس من قبل بشر بالطريقة المشروعة:
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران (47)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا مريم (20)

لذا لا تعتبر مريم بنت عمران حافظة لفرجها. ولكنها كانت – كما ذكرنا سابقاً- محصنة لفرجها. فما معنى أن تكون مريم محصنة لفرجها؟
إننا نعتقد أن المحصنة لفرجها هي صاحبة الفرج الذي لم يطلع عليه أحد سواء كان ذلك بطريقة شرعية أو غير شرعية، فالمرأة المحصنة هي المرأة التي لم يمسها الرجال بعد، وهي التي لازالت محتفظة ببكارتها لم تسمح لأحد بالاقتراب منه بعد، محتفظة به كالشيء الثمين في وقت الحاجة إليه:

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ يوسف 48
فلقد كان القوم الذين مكث فيهم يوسف يحصنون الغلة وهم في أشد العوز إليها بسبب ما سيلحق بهم من قحط في سنينهم المقبلة. 
لذا كان لابد من أن توضع تلك الغلة في مكان معزول لا يستطيع الآخرون الوصول إليه بسهوله،

 وهكذا كان حال من يقاتل في قرى محصنة:
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ الحشر 14
فليس من السهل اختراق تلك القرى مادام أنها محصّنة، والقرى المحصنة لا تكون كذلك ما لم يكن هناك حواجز طبيعية تصد المعتدين عليها. 

ولا شك عندنا أن الحاجة ملحة لاستخدام أداة أو وسيلة يتم من خلالها التحصين:
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ الأنبياء 80

نتيجة: إن هذه التغطية وتلك العوائق (الحواجز) الطبيعية ضرورة ملحة للمرأة لكي تحصن فرجها فلا يستطيع أحد الوصول إليه بسهوله.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء 24
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ النساء 25
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة 5
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور 4
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ النور 23
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ النور - الآية 33

وهكذا كانت مريم ابنت عمران:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء 91
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم 12



نتيجة التفريق بين حفظ الفرج وإحصان الفرج: 
لاحظ أن مريم ابنت عمران – حسب زعمنا- لم تحفظ فرجها ولكنها أحصنت فرجها، فالمرأة التي تحفظ فرجها لا يقربها غير زوجها، ولا تنكشف على غيره، فبالرغم أن زوجها – نحن نفتري الظن- يفضّ بكارتها إلا أنها تبقى حافظة لفرجها، لذا فهي لا تقع في الجماع إلا مع زوجها، ولكن الحال بالنسبة لمريم بنت عمران فقد كانت مختلفة تماماً، فهي لم تحفظ فرجها مادام أن شخصا آخر (بغض النظر عن كينونته) قد اقترب منه (حتى وإن كان رسول من ربها)، لكنها في الوقت ذاته لم تقع في فعل الجماع، فبكارتها لم تفض. 
فالمرأة التي تحفظ فرجها يمكن أن يكون فعل الدخول بها قد تم:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا
ولكن المرأة المحصنة فرجها فهي المرأة التي لم يتم الدخول بها بعد.

نتيجة: مادام أن مريم كانت محصنة لفرجها، فلم يتم الدخول بها.

لكن هذه النتيجة تجلب على الفور التساؤل التالي: 
كيف إذاً تم إيداع عيسى بن مريم في بطنها حتى جاءها المخاض إلى جذع النخلة؟
جواب: لقد تم ذلك بطريقة النفخ (وليس الجماع):
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء 91
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم 12


ما معنى النفخ؟

لو راقبنا فعل النفخ في حالة مريم، لوجدنا أنه قد جاء مرة على صيغة (فَنَفَخْنَا فِيهَا) ليعود الضمير على مريم نفسها ومرة أخرى على صيغة (فَنَفَخْنَا فِيهِ) ليعود الضمير على فرجها. 
لنفهم أن النفخ تم في مريم وفي فرجها. فكيف تم ذلك؟

رأينا: مادام أن الأمر تم بالنفخ (وليس بالدخول)، فنحن نزعم الظن أن ذلك لم يكن ليفض بكارة مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها، فليس هناك نطفة ستوضع في رحمها، وليس هناك علقة ستتكون في بطنها، ولكن النتيجة الحتمية للنفخ هي الحياة مباشرة (كن فيكون).

الدليل


في يوم القيامة سيحصل النفخ بالصور، وستكون النتيجة الحتمية لذلك النفخ أن تدب الحياة في كل المخلوقات:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الأنعام 73
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا الكهف 99
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا طه 102
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ المؤمنون 101
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ النمل 87
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ يس
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ الزمر 68
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ق 20
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ الحاقة 13
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا النبأ 18
وقد حصل النفخ الأول من قبل الإله نفسه، فدبت الحياة في الخلق الأول (آدم)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ الحجر 29
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ السجدة 9
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ص 72

وحصل مرة أخرى من قبل عيسى بن مريم نفسه، فدبت الحياة فيما نفخ فيه:
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 49
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ المائدة 110


ونحن نفتري الظن أن ذلك النفخ هو مصدر الحرارة في الجسم:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا الكهف 96

نتيجة: ما أن تم النفخ في فرج مريم بنت عمران حتى تكوّن عيسى بن مريم مرة واحدة، فكان بشراً حياً (كن فيكون):
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم 12
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء 91

لهذا نحن نقدم الافتراء التالي الذي هو من عند أنفسنا:
مادام أن عيسى بن مريم لم يوضع نطفة في رحم مريم، ومادام أن عيسى بن مريم قد وضع في بطن مريم بطريقة النفخ، لذا نحن نفتري القول أن مريم لم تحمل عيسى بن مريم في بطنها فترة الحمل الطبيعي (تسعة أشهر)

وهذا الافتراء يطرح على الفور تساؤلين مهمين وهما:
- أين الدليل على أن مريم لم تحمل عيسى في بطنها تسعة أشهر (كما تفعل نساء العالمين)
- لماذا لم تحمل مريم في بطنها فترة الحمل الطبيعي؟


فترة حمل مريم بالمسيح: 


كم طول الفترة الزمنية التي حملت مريم المسيح في بطنها؟
دعنا نتدبر القصة كما جاءت في سورة مريم من كتاب الله:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

نحن نعلم أن مكان تواجد مريم الطبيعي هو المحراب، فكان هو المكان الذي كانت تأكل فيه:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

وكان المحراب هو المكان الذي تقيم به شعائر العبادة مع الآخرين:
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

وهنا ننبري لنطرح السؤال التالي:
 لو تدبرنا السياق القرآني الذي يتحدث عن حمل مريم بالمسيح في سورة مريم لوجدنا أنها اتخذت من دون الآخرين حجاباً:
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

فلماذا – نحن نسأل- اتخذت من دونهم حجاباً؟ 
وأين هو زكريا الذي كان يدخل عليها المحراب؟
لاشك أن الحجاب هو مكان خلوة (أو مكان خصوصية مريم) يختلف عن المحراب الذي كان يدخل عليها زكريا وهي قائمة فيه، فالملائكة نادت زكريا نفسه وهو قائم يصلي في المحراب:
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ

نتيجة: المحراب كان مكان عبادتها وطعامها، بينما الحجاب كان مكان خلوتها بنفسها، فحتى زكريا نفسه لا يدخل على مريم إذا ما كانت وراء ذلك الحجاب، وهناك بالضبط جاءها رسول ربها ليهب لها غلاماً زكيا:
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

وما أن تحمل مريم بما نفخ فيها من روح الله حتى تفضل أن تبتعد عن أهلها لتتخذ مكاناً قصياً:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)

أي لقد ابتعدت مريم منذ اللحظة الأولى التي حملت فيه كلمة ربها وروح منه (المسيح) عن ذلك المكان الذي نشأت به، 

والآن لنطرح تساؤلنا على النحو التالي:
لو افترضنا أن مريم (كما النساء الأخريات) قد حملت المسيح في بطنها مدة تسعة أشهر، فهل يعقل أن تكون مريم لقد لبثت بعيداً عن أهلها كل تلك الفترة من الزمن ثم لا نجد (لو إشارة بسيطة) أن قومها يجدون في البحث عنها؟
 فهل يعقل – يا سادة- أن يسكت زكريا على غياب مريم فترة تسعة أشهر كاملة ولا يخرج باحثاً (أو حتى سائلاً) عنها؟!

ثم، ها هي مريم تضع مولودها عند جذع النخلة:
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا

فيطلب منها أن تحمله لتعود به إلى قومها:
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا

ولو راقبنا حركة مريم من وإلى قومها، لربما استطعنا أن نستنبط أن المسافة لم تكن تتجاوز مسيرة يوم أو بعض يوم، ويمكن التدليل على ذلك من الأمر الذي جاءها بأن لا تكلم اليوم إنسيا:
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا

فالخطاب جاء لمريم وهي عند جذع النخلة (مكان المخاض) بأن لا تكلم اليوم إنسياً. 
إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباط هنا هو أن المسافة التي ابتعدت فيها مريم عن قومها لم تكن تتجاوز مسيرة جزء من يوم، وذلك لأنها ستقفل عائدة إلى قومها، تحمل ابنها، وسيحصل الحوار بينها وبين قومها في اليوم نفسه:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
فمريم قد وصلت مكان سكن قومها في نفس اليوم الذي جاءها الخطاب فيه عند جذع النخلة، 

وهنا نتوقف لنطرح السؤال التالي: 
هل يمكن أن تغيب مريم عن الأنظار فترة تسعة أشهر كاملة وهي لم تبتعد عن قومها أكثر من مسيرة جزء من يوم؟ 
هل يعقل أن لا يكون خبر مريم قد وصل قومها وهي التي لم تبتعد عنهم أكثر من مسافة تقطعها من تحمل ابنها وتمشي على قدميها في يوم واحد؟

افتراء من عند أنفسنا: لقد حصلت قصة حمل مريم بالمسيح في ليلتين فقط، 
ولكن كيف؟
- في الليلة الأولى حيث كانت مريم متخذة الحجاب عن قومها جاءها رسول ربها فنفخ فيها فحملت بالمسيح عيسى بن مريم.
- في الصباح الباكر (اليوم الأول) خرجت مريم إلى مكان قصياً من أهلها قبل أن يستطلع زكريا خبر مريم في المحراب:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)[1]

- وما أن وصلت إلى جذع النخلة (فالمسافة بينها وبين قومها لن تزيد عن مسيرة بعض يوم) حتى جاءها المخاض إلى جذع النخلة، وقد حلّ عليها الظلام، فوضعت هناك ابنها المسيح عيسى بن مريم، وقد أصابها الجوع بسبب السفر والمخاض، فطلب منها أن تهز إليها بجذع النخلة لتأكل ولتشرب من الماء المعين في تلك الربوة:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا

- قضت مريم ليلتها في تلك الربوة، وقد حاولنا استنباط هذا الأمر من الآية الكريمة التالية:
 فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

وزعمنا الفهم أن "السري" هو حارس الليل، فالذي كان تحت مريم هو من يحرسها في تلك الليل، ويمكن التدليل على هذا الزعم مما يمكن استنباطه من الآيات الكريمة التالية:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
فنحن نعلم أن الرسول محمد قد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ففعل الانتقال في جنح الظلام هنا هو "أسري". وها هو لوط يؤمر بأن يسر بأهله بقطع من الليل:
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ

لذا نحن نزعم الفهم أن معنى سريا في الآية التي تتحدث عن ما تحت مريم هو "الحارس الليلي":
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
وقد كان ذلك السري هو من يقوم على حراسة مريم في تلك الليلة، لما لحق بها من الخوف، فارتقت هي إلى مكان مرتفع، فكانت الربوة (أي الجنة وارفة الخيرات):
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
وكان ذلك بعد أن أنهت وضع المسيح، فانتقلت بنفسها وبطفلها إلى ذلك المكان المرتفع (الربوة):
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
فكان "السري" متواجد في أسفل الربوة، وهو الذي ناداها ليطمئنها بأن لا تحزن لأن الله قد وكله بمهمة حراستها وابنها في تلك الليلة:
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
(وسنحاول في الجزء القادم من هذه المقالة تحديد هوية هذا السري ومكان تواجده إن أذن الله لنا بشيء من علمه)


نتيجة مفتراة: لقد حصل أن حملت مريم بالمسيح في الليلة الأولى، فخرجت من ديار قومها في الصباح الباكر قبل أن يستطلع خبر حملها، فانتقلت إلى مكان قصي من ديار قومها، فوضعت المسيح في الليلة الثانية، وباتت ليلتها يحرسها وابنها سرياً من تحتها وكل بهذه المهمة من ربها، وحملت طفلها وأتت به قومها في نهار اليوم الثاني.


أما بالنسبة للسؤال الثاني (لماذا لم تحمل مريم في بطنها فترة الحمل الطبيعي؟)
 فإن الإجابة عليه يتطلب منا العودة مباشرة إلى قصة مريم الأولى، وإلى سؤال أكثر أهمية – في نظرنا- من سابقة وهو: 
لماذا مريم على وجه التحديد؟ 
أي لماذا كانت مريم بنت عمران هي المؤهلة فقط من بين نساء العالمين أن تحمل عيسى بن مريم؟ 
فما الذي يميز مريم عن بقية نساء العالمين؟

جواب: نحن نظن أن الإجابة على هذا السؤال ربما تكمن في القراءة الصحيحة للآية الكريمة التالية:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ آل عمران 42

لذا نحن بحاجة للخوض في هذه معاني ومدلولات مفردات هذه الآية الكريمة علنا نخرج – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- باستنباطات تسعفنا في فهم حقيقة عيسى بن مريم وأمه، سائلين الله أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه، ليعلمنا قول الحق فلا نفتري عليه الكذب، إنه نعم المجيب.


أما بعد،
لو تدبرنا الآية الكريمة السابقة جيداً لوجدنا أن مفردة "اصْطَفَاكِ" على وجه التحديد قد وردت في هذه الآية الكريمة مرتين، فجاءت مرة سابقة لمفردة "وَطَهَّرَكِ" وجاءت مرة أخرى تابعة لها.
السؤال: لماذا تم اصطفاء مريم مرتين وليس مرة واحدة؟
يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ


الاصطفاء: ما معنى الاصطفاء في النص القرآني؟

نحن نزعم الظن أن الاصطفاء هو "اختيار ولكن مع التفضيل"، 

لذا لابد أولاً من التفريق بين مفردتين متقاربتين في المعنى وردتا في النص القراني وهما الاصطفاء والاختيار:
وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ الأعراف 155

افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الاختيار لا يعني الأفضلية (أو الخيرية)، فعندما اختار موسى سبعين رجلاً فهذا لا يعني أنهم هم الأفضل من الناحية الإيمانية (الخيرية)، فقد يكونوا هم الأحق، وقد يكونوا هم الأقدر والأجدر بالمهمة، وقد يكون هم الأكفأ، ولكن ذلك لا يعني أنهم هم الأفضل إيمانياً. 

وبهذا المنطق ربما يمكننا أن نفهم قول الحق في الآية الكريمة التالية:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ القصص 68

فعندما اختار الله بني إسرائيل على علم على العالمين لم يكن ذلك الاختيار لأنهم هم الأفضل (أي لخيريتهم):
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)

فلو كان الاختيار يحوي في ثناياه الخيرية (الأفضلية) لما كان هناك حاجة أن نجد في كتاب الله آيات مثل:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة (47)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة (122)


لأن الخيرية (الأفضلية) تصبح جزءاً من الاختيار نفسه، وهذا – نحن نزعم الظن- ما يميز الاختيار عن الاصطفاء الذي سنتعرض لسياقاته بعد قليل. 

لذا نحن نفهم أنه عندما اختار الله بني إسرائيل على العالمين لم يكن ذلك لأفضليتهم على العالمين، وإلا لجاء اللفظ على نحو أن الله قد اصطفاهم على العالمين وليس اختارهم على العالمين. 

فتفضيل الله لبني إسرائيل – نحن نزعم القول- جاء لاحقاً للاختيار وليس سابقاً له. 
وهذا يعني بكلمات بسيطة أن بني إسرائيل قد فعلوا شيئاً (والله على علم به) استحقوا بسببه أن يفضلهم الله على العالمين. 
وهذا الافتراض ينسف جملة وتفصيلاً نظرية أن عرق بني إسرائيل (من خرجوا من أرض مصر مع موسى) لهم الأفضلية على العالمين، وذلك لأن تفضيلهم – نحن نزعم القول- كان بسبب عمل قاموا به (وهذا ما سنتناوله بالتفصيل بحول الله وتوفيقه عند الحديث عن قصة موسى في مقالات منفصلة)، ولو كانت خيريتهم (أفضليتهم) سابقة لاختيارهم لجاء اللفظ على نحو أن الله اصطفاهم على علم على العالمين، ويكفي هنا أن نشير أن بني إسرائيل قد فضلوا على العالمين وفي الوقت ذاته فقد جعل الله الذين اعتدوا منهم في السبت قردة وخنازير)، 

فالتفضيل لا يكون وراثة ولكنه فعل مكتسب، 
ولكن الاصطفاء – بالمقابل- يحمل في ثناياه التفضيل الأزلي (أي الخيرية):
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ البقرة 132
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ البقرة 247
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ آل عمران 33
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ آل عمران 42
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ النمل 59
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فاطر - الآية 32

لذا لا نجد في كتاب الله أن الله يؤكد في مكان آخر من كتابه الكريم أن هؤلاء الذين اصطفاهم هم الأفضل، وذلك لأن فعل الاصطفاء نفسه لا يتم إلا لمن هو في الأساس يملك الخيرية، مصداقاً لقوله تعالى:
لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الزمر 4
فلو أراد الله أن يصطفي ولداً، لكان بلا شك قد اختار الأفضل، ولن يكون ذلك اختياراً وإنما اصطفاءً (لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، والخيرية المتجذّرة في فعل الاصطفاء واضحة تماماً في السياق القرآني التالي
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ الصافات 153
وبمثل هذا الفهم يمكن أن نفسر الآية الكريمة التالية:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13)

فلو توقف النص القرآني عند هذه الآية الكريمة فقط بحق تكليف موسى، لربما فهمنا أن موسى لم يكن الأفضل، ولكن جاء سياق قرآني آخر يبرز الأفضلية في سبب تكليف موسى (كما كان رسل الله كلهم):[2]
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ الأعراف 144

نعود بمثل هذا الفهم إلى الآية الكريمة الخاصة باصطفاء مريم مرتين:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ آل عمران 42
فلقد تم اصطفاء مريم لخيريتها مرتين، لذا تكرر اللفظ مرتين، فكان 
الاصطفاء الأول الذي سبق فعل الطهارة (أو بكلمات أخرى كانت الطهارة نتيجة لفعل الاصطفاء الأول اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) وكان الاصطفاء الثاني الذي كان هو نفسه نتيجة لفعل الطهارة وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ، 

ولكن كيف؟

الاصطفاء الأول: 


نحن نفتري القول أن اصطفاء مريم الأول كان يوم أن تقبلها ربها بسبب دعاء والدتها امرأت عمران:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فعندما نذرت امرأت عمران ما بطنها محرراً لربها، كان الرد الإلهي المباشر هو قبول ذلك المولود (وإن كان أنثى)، فكان ذلك هو الاصطفاء الأول لمريم، فكانت خيرية مريم سبباً في اصطفاءها وكانت طهارتها نتيجة لذلك الاصطفاء.

افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الطهارة التي تحصلت لمريم كانت نتيجة حتمية لذلك الاصطفاء الأول، ولكن كيف؟
جواب: دعنا ندقق النظر في السياق القرآني نفسه الذي وردت فيه قصة اصطفاء مريم على نساء العالمين، فقد جاء قول الحق مكملاً السياق السابق على النحو التالي:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
ولو أمعنا النظر جيداً في هذا النص لوجدنا أن القبول لمريم كان من الله مباشرة، وكانت نتيجة ذلك القبول الإلهي أمران اثنان وهما:
1. أن أنبتها الله نباتاً حسناً (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)
2. كفالة زكريا لها (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)

فما معنى أن ينبتها الله نباتاً حسناً؟
جواب: نحن نفتري الظن أن مريم قد نبتت نبتاً، ولم تكبر كما الحال بالنسبة لبقية البشر، ولكن لماذا؟
رأينا: نحن نظن أنه لكي ينبت الشيء نباتاً، فلابد أن ينزل عليه الماء من السماء:
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
لذا نحن نظن أن الله قد أنزل على مريم ماء مباركاً من السماء، فنبتت مريم كما ينبت الزرع من الأرض. 

ولكن كيف؟

افتراء من عند أنفسنا 1:
  نحن نفتري القول أن مريم لم تكن لترضع من ثدي أمها لأن الله قد أنزل عليها ماء مباركا من السماء. 
فبقيت تشرب من ذلك طيلة فترة رضاعتها، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فلما كانت مريم لا تحتاج أن ترضع من ثدي أمها، 
انتقلت كفالتها منذ ذلك الوقت إلى زكريا.

افتراء من عند أنفسنا2:
نحن نفتري القول أنه ما كانت كفالة مريم ستنتقل إلى زكريا وأمها حيّة ترزق، لذا نحن نزعم القول أن الذين ألقوا أقلامهم ليكفلوا مريم ما كانوا ليتخاصموا في كفالتها إلا لأن أمها كانت قد انتقلت إلى ربها، وأصبحت مريم يتيمة لا تجد من يرعاها من أهل بيتها:
ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
لذا انتقلت كفالة مريم –نحن نزعم القول- إلى الغرباء لأن أولياء مريم كانوا غير موجودين. 
وقد تحدثنا عن معنى الكفالة في مقالات سابقة لنا عندما حاولنا تشخيص من هو ذو الكفل النبي، وخلصنا أن الكفالة لا تكون للقريب (لأن القريب يكون ولياً وليس كفيلاً)،
 ولندقق في استنباط ذلك من آية الدين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

ويمكن استنباط ذلك من آية القصاص:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا

وها هو زكريا نفسه يطلب من ربه الذرية على نحو أنه وليا:
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا

لكن – بالمقابل- تكون الكفالة لشخص غريب (أو على الأقل ليس ممن لهم حق الولاية).
(للتفصيل انظر سلسة مقالتنا تحت عنوان لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟)
نتيجة مفتراة: لما ماتت أم مريم بعد أن وضعت مريم، أنزل الله على مريم ماء طهوراً من السماء يسد عن الرضاعة الطبيعية)، واختصم القوم في كفالتها:
ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
وكانت الخصومة في كفالتها لأن القوم لم يكونوا ممن لهم حق الولاية على مريم، فلو كان من بين القوم من له حق الولاية على مريم لما دبت الخصومة بينهم، ولأصبحت مريم من نصيب الأقرب إليها في النسب (أي الولي)، ولكن لما لم يكن المتخاصمون ممن لهم حق الولاية على مريم دبت الخصومة بينهم أيهم يكفل مريم، فكانوا بحاجة أن يسووا ذلك الخلاف بينهم بطريقة ترضي الجميع، فالكل يرغب في كفالة تلك الطفلة التي لا يمكن أن تكون طفلة عادية كغيرها من الأطفال، فهي من أهل بيت عمران (وهو ما سنتعرض له لاحقاً بحول الله وتوفيقه) وهي من تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، وهي من أنبتها الله نباتاً حسناً حتى قبل أن يكفلها زكريا:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
فإنبات مريم نباتاً حسناً كان سابقاً لكفالة زكريا لها، ونحن نظن أن الشيء عندما يكون حسنا فإنه – بلا شك- يكون خالي مما يشوبه، فلم يكن في جسم مريم حتى اللحظة ما يمكن أن يشوبها، فالله نفسه هو من أنباتها نباتاً حسناً.

فكيف تم حسم الخلاف حول كفالة مريم؟
جواب: بإلقاء الأقلام
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
ولكن كيف تم ذلك؟

رأينا: نحن نظن أن القلم هو الذي يكتب شريطة أن يكون هناك ما يمده:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

نتيجة 1: لقد كان المتخاصمون في كفالة مريم يحملون أقلامهم
نتيجة 2: كانت أقلامهم ممتلئة بالمداد (السائل الذي يترك الأثر عند الكتابة بالقلم)
ونحن نزعم الظن أنه القلم في النص القرآني هو الذي يكتب (أي يسطر متى خرج المداد منه)، فالذي يكتب بالقلم يقوم بفعل التسطير:
ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
والشخص الذي يكتب بالقلم يكون هو الذي يخط باليمين:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
نتيجة 3: القلم يحمل باليمين متى أردت أن تخط به شيئاً
نتيجة 4: لو راقبنا ما حصل في حالة مريم فإننا لا نجد أن المتخاصمين قد سطروا الكتابة بالقلم، فليس هناك في حالة مريم فعل تسطير بالقلم.
نتيجة 5: ولا نجد أنهم قد خطوا ذلك بأيمانهم، فالمتخاصمون لم يخطوا بأيمانهم شيئاً ولكن جل الذي فعلوه هو أنه ألقوا أقلامهم.

تساؤلات: كيف تم إلقاء الأقلام؟ وما الذي حصل عندما ألقوا أقلامهم؟
رأينا: دعنا نتذكر فعل الإلقاء من قصة موسى مع السحرة، ففي حين أن السحرة قد ألقوا حبالهم وعصيهم، قام موسى بإلقاء عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، ربما لهذا نحن نتخيل فعل الإلقاء على نحو أن ترمي بشيء من يدك على الأرض (كما هي الحال بالنسبة لموسى وهو يلقي عصاه أو عندما ألقى الألواح). وبمثل هذه الآلية – نحن نفتري القول- حسم الخلاف بين المتخاصمين على كفالة مريم، فلقد ألقوا الأقلام، فكانت الكفالة من نصيب زكريا، ولكن كيف تم ذلك؟

نحن نتخيل المشهد على النحو التالي: كان المتخاصمون على كفالة مريم من أصحاب الأقلام (أهل العلم من بني إسرائيل)، وكانوا يحملون أقلامهم بأيمانهم، ولما دب الخصام بينهم على كفالة مريم اتفقوا على آلية فض الخلاف على نحو أن يلقوا أقلامهم من أيديهم على الأرض مرة واحدة، ولما كانت الأقلام معبأة بالمداد، كان الاتفاق على أن القلم الذي يترك مداده العلامة هو من يكون لصاحبه حق كفالة مريم، وتركوا الأمر لله أن يحسم أمر الخلاف بينهم وهم على علم بالسنة الإلهية التالية:
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
فالله الذي علم بالقلم هو من جعل مريم من نصيب زكريا صاحب القلم الذي علم، لذا نقرأ الآية الكريمة الخاصة بكفالة مريم بالدقة المطلوبة لنجد بما لا يدع مجالاً للشك أن الله الذي علّم بالقلم هو من كفّل مريم لزكريا:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(وسنتعرض لهذا الأمر بتفصيل أكثر لاحقاً إن أذن الله لنا بشيء من علمه)

إن ما يهمنا في الوقت الراهن هو القول أنه ما أن كانت مريم من نصيب واحد من أولئك المتخاصمين (وهو زكريا)، حتى أخذها ووضعها في المحراب، وهنا كانت المفاجئة الكبرى لزكريا (والجائزة العظيمة لكفالته تلك):
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
افتراء من عند أنفسنا: مريم لم تأكل من طعام البشر طوال كفالة زكريا لها، لأنها ما أن أصبحت بحاجة إلى الطعام (أي أنهت فترة الرضاعة من الماء الطهور) حتى كانت مائدتها في المحراب على الدوام مليئة برزق من عند الله:
... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[3]
لذا نحن نفتري القول أن جسم مريم لم يدخله شراب من شراب أهل الأرض ولم يدخله طعام من طعام أهل الأرض، فالله هو الذي أسقاها ماء طهوراً من السماء (فنبتت نباتاً حسناً كما الشجرة)، والله هو الذي أطعمها رزقا من عنده.

 فكانت النتيجة أن نبت جسم مريم نباتاً حسناً (أي لم تدخله شائبة تعكر طهارته). 
وهنا جاء قول الحق بتطهير مريم بعد الاصطفاء الأول:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

فكيف كانت طهارة مريم؟ وما معنى أن تكون مريم مطهرة؟

رأينا: نحن نظن أن الذي يمسه الطهارة في الأرض يكون متطهراً (جمع: مُطَّهِّرِينَ)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ التوبة 108

وأما الذي تمسه طهارة السماء فيكون مطهراً (جمع: مُطَهَّرُونَ)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة 25
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ آل عمران 15
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ آل عمران 55
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا النساء 57
لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الواقعة 79
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ عبس 14
رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً البينة 2


افتراء من عند أنفسنا: 
لما كان الله قد طهّر مريم كواحدة من نساء العالمين، لم يكن – نحن نفتري القول-ليصيب مريم ما يصيب النساء من المحيض:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
ولما أصبحت مريم مطهرة (لا يصيبها الأذى الذي يمكن أن يصيب النساء جراء المحيض) كانت مريم جاهزة على الدوام لتقوم بأعمال العبادة وأهمها الصلاة:
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
فلو كان المحيض (الأذى) يصيب مريم، لما كان مكانها المحراب، ولما كانت جاهزة على الدوام لأن تقوم بتلك الأعمال كالقنوت والسجود والركوع مع الراكعين، فلا أظن أن المرأة متى حاضت اصطفت للصلاة لتركع مع الراكعين، أليس كذلك؟

أفتراء من عند أنفسنا:
 لقد كانت طهارة مريم الجسدية تلك سبباً أن تكون هي الموهلة (من دون نساء العالمين جميعاً) لأن تحمل بالمسيح عيسى بن مريم، فكان الاصطفاء الثاني لمريم:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ


الاصطفاء الثاني

أما الدليل الآخر الذي سنسوقه لإثبات صحة ما نزعم هنا فيأتي مما حصل مع مريم لحظة أن خرج عيسى من بطنها.
 لذا سنقفز مباشرة إلى تلك الجزئية لننهي بها هذا الجزء من مقالتنا هذه التي تتحدث عن عيسى بن مريم على أن نعود إلى تفاصيل حياة مريم في المحراب في الأجزاء القادمة بحول الله وتوفيقه، لكن الذي يهمنا هنا هو طهارة مريم بنت عمران التي زعمنا أنها نبعت من حقيقة أن مريم لم تشرب من ما يشرب منه أهل الأرض ولم تأكل من ما يأكل منه أهل الأرض، فالله هو الذي أسقاها من السماء ماء طهورا فأنبتها نباتاً حسنا، والله هو من أنزل عليها رزقاً من عنده، فكانت مريم تأكل وتشرب من طعام وشراب أهل السماء، فكانت مطهرة (ولم تكن متطهرة) لأنها لم تكن بسبب تلك النعمة الإلهية تعاني مما تعاني منه نساء العالمين من أذى المحيض، فكانت على الدوام جاهزة لأن بالعبادة في المحراب.

ولكن ما أن وضعت مريم بنت عمران مولودها حتى جاء الخطاب الإلهي لها على النحو التالي:
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا

وهنا لا نتوقف عن طرح السؤال الأكثر إحراجاً لعلمائنا الأجلاء وهو: 
لماذا أمرها الله تعالى أن تهز إليها بجذع النخلة لتساقط عليها رطباً جنياً لتأكل منه في تلك اللحظة؟ 
لم لم يستمر –نحن فقط نسأل- الكرم الإلهي على مريم بإحظار الرزق لها من عند الله؟ 
ألم تكن مريم في تلك اللحظة على وجه الخصوص بأمس الحاجة إلى من يطعمها ويسقيها؟ 
لم كان الرزق نازلاً عليها من السماء يوم أن كانت شابة قوية البنية بكامل صحتها وهي في المحراب؟ 
ولم توقف الرزق عنها لحظة أن وضعت عيسى بن مريم؟

الرأي السائد عند معظم أهل العلم: 
لقد حبرت صفحات في مؤلفات علمائنا الأجلاء وتعالت حناجر خطبائنا الكرام على المنابر محدّثة الناس بالعبر والدروس المستفادة من هذه القصة، والتي تتمثل في مجملها بالحاجة إلى الاعتماد على النفس في جني الرزق، فهم يرددون فهمهم للقصة على نحو أن الله طلب من مريم أن تهز بجذع النخلة ليعلمنا نحن ألأخذ بالأسباب حتى في أشد أوقات الحاجة، أليس هذا هو خطاب علمائنا ومشايخنا الأجلاء؟!

تساؤلات فقط:
 لكن، ألا ترون - يا سادة- أن الله كان قد أطعم مريم وسقاها من عنده طوال حياتها في المحراب؟
 لِمَ لَم يلقننا دروس الاعتماد على النفس التي يتحدث عنها مشايخنا هناك؟ 
هل جاء وقت الاعتماد على النفس في وقت المخاض فقط؟ 
وماذا عن الأوقات السابقة؟ 
ثم ألم يكن بمقدور المنعم –نحن نسأل- أن ينزل على مريم ذلك الرزق في تلك اللحظة؟ 
هل جاء اختبار الاعتماد على النفس هنا فقط؟ 
ثم متى تكون المرأة في أشد الأوقات بحاجة إلى من يطعمها ويسقيها؟ 
أليس هو وقت المخاض؟ 
هل أطعم الله مريم وسقاها برزق من عنده طوال حياتها ثم توقف عن ذلك فقط لحظة المخاض؟!!

رأينا: دعنا – كالعادة- نخالفكم الرأي يا علمائنا الأجلاء لنطرح عليكم رأينا في القضية ثم نترك لكم أنتم المفاضلة بين الحقائق التي جليتموها أنتم للناس والتخاريف التي نسوقها نحن لهم.

أما بعد:
لو تدبرنا السياق القرآني نفسه لوجدنا أن الله يأمر مريم أن تهز إليها بجذع النخلة لتساقط عليها رطباً جنياً، ثم يأمرها أن تأكل هي منه:
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا
فالآية الكريمة توضح - بما لا يدع مجالاً للشك- أن الأمر الإلهي بالأكل والشرب جاء موجهاً لمريم نفسها، ولم يأتي أمر رباني لمريم بأن تطعم مولودها (فَكُلِي وَاشْرَبِي). 
فلو كان الأمر الإلهي جاء لمريم بأن تأكل وتطعم (أو حتى ترضع) مولودها، لجاء الخطاب على صيغة المثني (فكلا وشربا). 
ولكن الأكل والشرب كان خاصاً بمريم فقط، فلماذا؟

رأينا: نحن نفتري الظن أن السبب أن إطعام مريم وسقايتها من رزق من عند الله لم يعد مبرراً بعد أن وضعت المسيح. 
فلقد كان طعام وشراب مريم ينزل عليها من السماء تحضيراً لها من الناحية الفيزيائية لكي تحمل بمولود كالمسيح عيسى بن مريم (كلمة الله وروح منه). 
وما أن وضعت مريم ذلك المولود حتى انتفت الحاجة لأن تأكل من رزق ينزل عليها مباشرة من عند ربها.

عودة على بدء:
إن الجسم الذي كان يحضّر ليتحمل النفخ من روح الله لابد أن يكون مطهراً، والجسم الذي كان يهيئ لكي يحمل مخلوقاً كعيسى بن مريم لابد أن يكون مطهراً. 
ولكن ما أن فرغ ذلك الجسم من القيام بمهمته التي اصطفاه الله له حتى عاد ليأكل من أكل أهل الأرض ويشرب من شرابهم، لذا هنا فقط جاء الأمر الإلهي لمريم بأن تهز إليها من جذع النخلة لتأكل منه، ولتشرب من الماء الذي كان يجري بجانبها:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ المؤمنون 50
ولعل مثل هذا الفهم يفسر لنا قصة المائدة التي طلبها الحواريون من عيسى بن مريم، وهو ما سنتناوله بحول الله وتوفيقه في الجزء القادم من هذه المقالة، لذا نسأل الله تعالى أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لنا الإحاطة بعلم لم يحط به غيرنا، ونسأله تعالى أن يكون ذلك خالصاً لوجه الكريم، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنه نعم المولى ونعم المجيب.


المدّكرون: رشيد سليم الجراح
علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن



_________________________________________


[1] وسنحاول في الأجزاء القادمة من هذه المقالة تحديد "المكان القصي" الذي وصلته مريم في رحلتها تلك على الخريطة بحول الله وتوفيقه.

 
[2] لماذا جاء اللفظ بخصوص موسى على نحو اختيار (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ) واصطفاء (قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)؟ هذا ما سنتعرض له عند الحديث عن موسى في مقالات مستقلة بحول الله وتوفيقه.

[3] ونحن نزعم الفهم أن الرزق هو ما يأكله الإنسان بينما الطعام هو ما يمكن أن يأكل منه الإنسان، وبكلمات أخرى يكن أن نقول أن المتوافر في السوق من الأكل هو طعام، بينما ما تشتريه أنت من ذلك الطعام لتأكله بنفسك يصبح رزقاً، وهذا واضح في قصة أصحاب الكهف، فهم قد بعثوا أحدهم إلى السوق لينظر في أزكى الطعام المتواجد في السوق، ولكن الذي سيجلبه لهم إلى كهفهم ليأكلوا منه سيصبح رزقاً لهم:
وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
ولن يكون كل ما تشتريه من السوق رزقاً إلا إن كنت ستأكله، أي سيدخل إلى جوفك، فما يدخل في جوفك يصبح رزقاً، أما ما يتبقى من الأكل يكون طعاماً وليس رزقاً، وهذا واضح في قصة يوسف مع أصحابه السجن:
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
فلقد كان كل ما يأتيهم إلى داخل السجن من الأكل هو طعام، ولكن الذي يأكله كل واحد منهم يصبح رزقاً له على وجه الخصوص، فما تأكله أنت هو طعام بالنسبة لي ولكنه رزق بالنسبة لك، وما آكله أنا هو رزق بالنسبة لي ولكنه طعام بالنسبة لك، وهكذا.
وهذا الفهم ربما يفسر لم لم يحاول زكريا أن يأكل مما يجد عند مريم من الرزق، ولم لم تعرض مريم على زكريا شيئاً منه بالرغم أنه طعام من عند الله. فتخيل معي – عزيزي القارئ- أنك دخلت على شخص عنده شيء من الطعام وعلمت أنه من عند الله مباشرة (كحالة زكريا ومريم) هل تستطيع أن توقف نفسك عن الرغبة بشيء منه؟
إننا نظن أن زكريا لم يحاول أن يطلب من مريم شيئاً من ذلك ومريم لم تعرض عليه شيء منه لأن ذلك كان رزقاً ولم يكن طعاماً، لقد علم زكريا وعلمت مريم أن هذا طعام خاص بمريم (أي رزق)، لذا لن يكون لغيرها الحق أن يتناول شيئاً منه. ولو كان ما هو متوافر عند مريم طعاماً (وليس رزقاً) لما تردد زكريا من الأكل منه ولما بخلت مريم بشيء منه على زكريا. (وسنحاول أن نبين تبعات ذلك على قصة المائدة التي طلبها الحواريون من عيسى بن مريم لاحقاً بحول الله وتوفيقه)