لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 14؟







انتهى الجزء السابق من مقالتنا هذه عند طرح التساؤلات التالية:
-         من هم ابني آدم؟
-         ما أسماء ابني آدم؟
-         هل يذكر القرآن الكريم أسماء الرجلين كما ذكر أسماء ابني إبراهيم إسماعيل وإسحق؟
-         لماذا اختلف الرجلان حتى قتل أحدهما الآخر؟
-         من هو القاتل ومن هو المقتول منهما؟
-         ما علاقة ذلك بولدي إبراهيم إسماعيل وإسحق؟
-         كيف انعكس ذلك على تاريخ البشرية وتاريخ الشرائع السماوية؟
-         الخ


أما بعد،
ترد قصة ابني آدم الأولى في القرآن الكريم على النحو التالي:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
لمّا كانت القصة معروفة على الإجمال، فربما لن أحتاج في الوقت الراهن أن أدخل في كثير من جزئياتها، وقد تحدثنا عن بعض جوانبها في أكثر من موضع في مقلاتنا السابقة، لكن جلّ ما يهمنا هنا على وجه التحديد هو الآية الأخيرة رقم 32 في هذا السياق القرآني:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
والآن لنحاول التفكر في هذه الآية الكريمة ضمن سياقها القرآني الذي ترد فيه (قصة قتل أحد أبناء آدم أخيه)، والسياق القرآني في سطوره العريضة على النحو التالي:
يختلف الرجلان لسبب ما (تقديم القربان ونتيجة ذلك العمل)، فيتوعد من لم يتقبل الله منه ذاك القربان من تقبل الله القربان ذاته منه بالقتل، فتطوع له نفسه قتل أخيه، فيقدم على قتل أخيه، أليس كذلك؟
المفارقة المهمة في هذا السياق التي نود أن نجلب الانتباه إليها هي السنّة الإلهية التي نجمت عن ذلك الفعل: فهنا يأتي القرار الرباني على نحو أنه بسبب تلك الحادثة (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ) تقضي مشيئته على بني إسرائيل على وجه التحديد  (كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ) على نحو أنه من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً:
          مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ...
والآن حاول - عزيزي القارئ- أن تربط الأحداث مع بعضها البعض بعد طرح التساؤلات التالية:
-         ما علاقة بني إسرائيل بتلك الحادثة؟
-         لِمَ تقضي مشيئة الله على بني إسرائيل فقط بسبب تلك الحادثة "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ
-         كيف إذن كانت مشيئة الله على من سبق بني إسرائيل من الأمم؟
-         وكيف هي مشيئة الله على من جاء بعد بني إسرائيل من الأمم؟
-         لم انتظر الله طويلاً (كل الفترة الفاصلة بين ابني ولد آدم ومجيء بني إسرائيل) لتقضي مشيئته عليهم بسبب تلك الحادثة؟
-         لم ارتبطت تلك الحادثة ببني إسرائيل فقط ولم ترتبط بغيرهم من الأمم؟
-         الخ.
رأينا: إننا نظن أن التناقضات التي تثيرها هذه الأسئلة في الفكر الديني السائد قد جاءت - في رأينا- بسبب سوء فهم متعلق بعبارة واحدة وهي عبارة "بني إسرائيل"، فنحن نظن أن الفكر الديني الإسلامي على وجه التحديد قد أخفق إخفاقاً لا مثيل له في فهم عبارة بني إسرائيل التي ترد كثيراً في السياقات القرآنية، فلقد وقع أهل العلم والدراية في "المطب" نفسه الذي وقع فيه من سبقهم من الأمم. فلا أظن أن فهم علماء المسلمين لتلك العبارة نبعت من عقيدتهم نفسها، ولكنهم – نحن نفتري الظن- قد لحقوا بمن سبقهم من الأمم (كاليهود والنصارى) في تصوراتهم الخاطئة دون تمحيص ولا تدقيق.

من هم بنو إسرائيل؟ تفنيد الفكر السائد
لعل الكثيرون لا يتوقفون عند هذه المفردة طويلاً عندما يقرؤونها في النص القرآني، فهم يظنون (كما ظن من سبقهم من الأمم) أن عبارة "بني إسرائيل" تعود على تلك القومية التي جاءت من نسل يعقوب عليه السلام، والمفارقة العجيبة أن كثيراً من أهل العلم والدراية غالباً ما سوّقوا للعامة ما جاء في تراث الأمم الأخرى زوراً وبهتاناً، افتراء مفاده بأن إسرائيل هو نفسه يعقوب عليه السلام. فأخذ الناس يتحدثون عن بني إسرائيل ويكأنهم يتحدثون عن سلالة إسرائيل (أي يعقوب النبي)، ونحن نرى أن هذه واحدة من الأكاذيب التي تقبلها الناس قروناً طويلة من الزمن، فأعشت الأبصار عن النظر إلى الأمور بطريقة ربما تكون مختلفة عن ما توارثته أمتنا من تحريفات من سبقها من الأمم.
افتراء من عند أنفسنا: يميل الظن عندنا إلى الاعتقاد اليقيني بأن إسرائيل ليس يعقوب وأن يعقوب عليه السلام ليس إسرائيل.
الدليل
جاء في كتاب الله الكريم عن إسرائيل ما يلي:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
ونحن نتحداهم – مرددين التحدي الذي جاء في كتاب الله- أن يأتوا بالتوراة وأن يتلوها من أولها إلى أخرها ليثبتوا لنا افتراءهم بأن إسرائيل هو يعقوب نفسه. فنحن على يقين أن التوراة تتحدث عن الرجلين (يعقوب وإسرائيل) على أنهما شخصان مختلفان تماماً (ونترك لأهل التخصص في مقارنة الأديان مهمة التقصي والبحث). ولكن لماذا؟ وما الدليل لدينا باستحالة أن يكون إسرائيل هو يعقوب نفسه؟
جواب: لا شك أن يعقوب هو نبي كريم، أليس كذلك؟ لذا فإن يعقوب كنبي لا شك يتبع ما يوحى إليه من ربه:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
فالنبي (أي نبي) يستحيل أن يتبع إلا ما يوحي إليه من ربه، ويستحيل أن يسير إلا على خطى من سبقه من رسل الله، أليس كذلك؟ ولمّا كان يعقوب هو ابن اسحق ابن إبراهيم وهم جميعاً بيت النبوة والرسالة، فيستحيل أن يستقيم المعنى أن يكون الرجل يحرّم على نفسه ما يشاء أو أن يحل لنفسه ما يشاء، ألم يقرأ علماؤنا الأجلاء قول يعقوب نفسه لأبنائه لحظة أن حظره الموت:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
فهل يعقل أن يقوم من يطلب من أبناءه إتباع شريعة آباءه إبراهيم وإسحق فهل يعقل أن يحرّم على نفسه ما يشاء، وماذا نقول ليوسف (ابن يعقوب النبي) الذي يقول لصاحبيه في السجن أنه يتبع ملة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب؟
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
فهل كان يوسف أيضاً يحرم على نفسه ما حرم والده يعقوب على نفسه من ذي قبل؟!!!
ألا ترى - عزيزي القارئ- أن الزعم بأن نبياً مثل يعقوب يحرم على نفسه ما يشاء فيه اتهام خطير لنبي كريم مثل يعقوب عليه السلام لا بل ولكل نبي كريم مثل يعقوب؟ فهل يعقل إذاً أن يكون إسرائيل (من يحرم على نفسه ما يشاء) هو نفسه يعقوب (الذي يتبع تعاليم ربه)؟
وهنا ربما ينبري البعض لطرح التساؤل التالي: ماذا سيحصل لو أن النبي الرسول قد حرّم على نفسه ما يريد؟ ما المانع أن يقوم النبي بفعل كهذا؟
جواب: ألم ينزل قرآنا يتلى ينهى محمدا نفسه عن فعل كهذا:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
نتيجة وافتراء: إننا نظن أنه لو قام يعقوب بمثل هذا العمل لجاء الأمر الإلهي له (كما جاء الأمر الإلهي لمحمد نفسه) بالكف عن ذلك (أي تحلة الأيمان) وذلك لسبب بسيط وهو ليس من حق أي نبي أن يحلّ أو يحرّم على نفسه ما يشاء من تلقاء نفسه، فالتحريم والتحليل هو أمر يأتي من الله فقط، وليس على النبي إلا أن يرضى بما أحلّ الله له وليس له إلا أن يرضى بما حرّم الله عليه، وإلاّ لأصبح الدين إتباعا لشهوات الأنبياء ورغباتهم، لذا عندما نقرأ الآية الكريمة التالية:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
لا يجب أن يتبادر إلى الذهن بأن إسرائيل هذا الذي يحرم على نفسه ما يشاء هو نبي كيعقوب عليه السلام. فإسرائيل هذا هو شخص مبتدع، ويعقوب ذاك هو نبي متبع، وشتان بين هذا وذاك:
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)

ثانياً: إننا نظن أن عبارة "بني إسرائيل" هذه تحتاج إلى كثير من التدبّر كما ترد في الكثير من السياقات القرآنية، فليس من الحكمة أن نأخذ الأمر على العموم، فلا نعير انتباهاً لخصوصية الألفاظ كما تستخدم في السياق القرآني نفسه. فعلى سبيل المثال، عندما حاولنا تفقد السياقات القرآنية الخاصة بعبارة "بني إسرائيل" لم نجد مفردة "بني" (ومشتقاتها) على وجه الخصوص تلازم سوى شخصين اثنين في النص القرآني بأكمله، والشخصان هما آدم وإسرائيل:
1.     فهناك "بنو آدم" نسبة لآدم نفسه
2.     وهناك "بنو إسرائيل" نسبة لإسرائيل نفسه
وهذه الملاحظة أثارت لدينا الحافز لطرح التساؤل التالي: لم لإسرائيل على وجه التحديد "بني" وليس ذلك لأحد آخر غيره سوى آدم نفسه؟ فربما لا يختلف الناس أن ينتسبوا جميعاً لآدم، ولكن لم النسبة لإسرائيل هذا؟
إن هذا يدعونا إلى تدبر مفردة "بنو، بني" نفسها، طارحين التساؤل التالي: متى يمكن أن نطلق هذه العبارة على شخص كآدم وإسرائيل؟ ولم لا يمكن أن تطلق على غيرهم؟ لم لم تطلق هذه العبارة على إبراهيم مثلاً؟ أليس إبراهيم (جد إسرائيل على زعمهم) أولى بذلك من يعقوب (إن صح ما يزعمون بالطبع)؟ أليس إسحق (والد يعقوب) – إن صح زعمهم- أولى بذلك؟ ولم يأتي الحديث عن من ينتسب لإبراهيم على نحو "آل إبراهيم"؟ فحتى فرعون نفسه له "آل" (آل فرعون) ولمن ليس هناك بنو فرعون؟ وهناك آل لموسى وهناك آل لهارون وهناك آل لداوود وهناك آل لعمران، ولكن ليس لأي منهم "بني" أو "بنو".

السؤال: إن صح ما قالوا أن إسرائيل هو يعقوب النبي، فهم مدينون لنا بتبرير أن يكون لهذا النبي على وجه التحديد (دون غيره من أنبياء الله ورسله جميعاً) "بني، بنو" (بني إسرائيل) وليس "آل" كغيره من أنبياء الله ورسله؟

مغالطات في الفكر الإسلامي
غالباً ما قسم علماء المسلمين الناس في زمن إبراهيم إلى قسمين اثنين:
1.     أبناء إبراهيم من سلالة إسحق ويعقوب وهم من سمّوهم "بني إسرائيل"
2.     أبناء إبراهيم من سلالة إسماعيل وهم من سموهم "المسلمين"
وكان هذا التقسيم مبني في جوهرة على مصدرين من المعرفة لديهم وهما:
1.     موروثاتهم من الأمم السابقة التي ادّعت لنفسها أنها تنتمي إلى بني إسرائيل وليس ذلك لأحد غيرهم
2.     فهمهم الخاطئ للآية الكريمة التالية:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
فلقد ظن كثير من علماء الإسلام (مدفوعين بأفهامهم الخاطئة لهذه الآية الكريمة وبما سيطر على أذهانهم من تحريفات الأمم التي سبقتهم) أن مفردة "المسلمين" التي نطق بها إبراهيم كما ترد في هذه الآية الكريمة "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" تخصهم أنفسهم دون الآخرين. فمفردة المسلمين – في فهمهم- تعود على من جاء من ذرية إسماعيل لأن من جاء من ذرية إسحق ويعقوب هم – في نظر الغالبية الساحقة من علمائنا الأجلاء- ليسوا أكثر من بني إسرائيل، أليس كذلك؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن هذا الفهم عند علمائنا ليس أكثر من تحريف للعقيدة الصحيحة. وسنحاول في الصفحات التالية تبيان الخطأ الذي وقع فيه علماؤنا الأجلاء ومن ثم محاولة تصحيحه.
سؤال:  ما الدليل على افتراءنا بأن هذا الفهم الذي لدى علماء المسلمين لمنطوق هذه الآية الكريمة هو – في نظرنا- فهم خاطئ؟ ما هو الدليل الذي يمكن أن يثبت زعمنا ويفنّد رأيهم؟

جواب: لنتوقف هنا للحظة عند ملاحظة غاية في الخطورة تثيرها الآية الكريمة التالية:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
سؤال استنكاري: ألم يكن إبراهيم يعلم أن الدين عند الله الإسلام؟ ألم يكن إبراهيم يعلم أنه هو نفسه مسلماً؟
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
ألم يكن إبراهيم يعلم أن الدين هو الإسلام ومن ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
حجتنا: إذا كان إبراهيم –لا شك عندنا- يعلم أن الدين عند الله الإسلام، ويعلم كذلك أنه هو نفسه مسلماً، ويجب أن يكون كذلك لأنه إن لم يكن مسلماً فلن يقبل منه، فكيف إذن يستقيم المعنى – يا علماء الإسلام- أن يقوم إبراهيم بإطلاق صفة "المسلمين" على فرع من ذريته (إسماعيل وذريته) دون الفرع الآخر (إسحق وذريته)؟ فهل يعقل أن يقبل إبراهيم أن يكون إسماعيل مسلماً ولا يكون إسحق ويعقوب مسلمين كذلك؟ والتساؤل الأكبر هو: إذا كان إبراهيم (كما تزعمون - يا علماء الإسلام-) قد أختص فرع إسماعيل بتلك التسمية، فماذا سمى الفرع الآخر من ذريته؟ هل يعقل أن يطلق نبي كريم مثل إبراهيم تسمية على فرع من ذريته ويترك الفرع الآخر دون اسم يعرف به؟
كلا وألف كلا، لم يكن لإبراهيم أن يعلم يقيناً أن الدين عند الله الإسلام ولم يكن لإبراهيم أن يعلم يقيناً أنه من ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، ولم يكن لإبراهيم أن يعلم يقيناً أنه هو نفسه مسلماً، ليقوم بعد ذلك كله بإطلاق تلك التسمية على جزء من ذريته دون الجزء الآخر، أو أن يقبل أن يكون فرع من بيته الشريف مسلماً ولا يكون الفرع الآخر مسلما. إن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل هو – في نظرنا- التحريف الواضح والفاضح للعقيدة السليمة.
النتيجة: إننا نعتقد جازمين أن الضمير في الآية الكريمة التي تتحدث عن التسمية التي أطلقها إبراهيم يعود على جميع أبناءه (إسماعيل وإسحق) وذريتهم من بعدهم. فكل الذين جاءوا من ذرية إبراهيم هم – دون أدنى شك- مسلمون:
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
فالذين جاءوا من ذرية إسحق كانوا على ملة إبراهيم وكانوا مسلمين، فأقرءوا – يرحمكم الله- ما قاله أبناء يعقوب أنفسهم في حضرة أبيهم:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وليس أدل على ذلك من دعاء يوسف (ابن يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم) عندما شعر بدنو الأجل:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

فهل يعقل - يا علماء الإسلام- أن يطلب يوسف نفسه (وهو من فرع إسحق وليس من فرع إسماعيل) أن يموت على ملة أبيه وجده ليلحق بالصالحين "مُسْلِمًا"، ثم تأتون أنتم بعلمكم الغزير لتروجوا للناس بضاعتكم الفاسدة في أنكم أنتم فقط من سمّاهم إبراهيم "المسلمين"، وتدللوا على افترائكم هذا بتحريفاتكم لكلام نبي كريم مثل إبراهيم نفسه؟!!!
النتيجة: إننا نؤمن يقيناً بأن ذرية إبراهيم (وهم إسماعيل وإسحق) كانوا جميعاً مسلمين، وأن إبراهيم هو من أطلق تلك التسمية على جميع أبناءه مادام أنه قد وجّه وجهه منذ اليوم الأول لربه ليكون حنيفاً:
          إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
واختار له ربه أن يكون (بالإضافة لتلك الحنيفية) مسلماً:
          مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) 
ولمّا علم إبراهيم أن الدين عند الله الإسلام:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ولما علم إبراهيم أنه من يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
جاء قراره أن يرضى أن يكون جميع أبناءه وذريته على تلك الملّة:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
سؤال: من أين إذاً جاءت تسمية "بني إسرائيل"؟
رأينا: لو دققنا النظر في التسمية "بني إسرائيل" نفسها لوجدنا بكل يسر وسهولة أنها تسمية لا تخص العقيدة وإنما العرق. لكن – بالمقابل- لو أمعنا التفكر في مفردة "المسلمين" لوجدنا أنها مفردة تخص العقيدة وليس العرق، لذا فمن غير المنطقي إجراء التقابل بين مفردة "المسلمين" من جهة ومفردة "بني إسرائيل" من جهة أخرى ويكأنهم عبارتان متضادتان متقابلتان. ففي حين أن واحدة منهم تظهر طبيعة العرق (بني إسرائيل) تظهر الأخرى طبيعة العقيدة (المسلمين):
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)
نتيجة مهمة جداً: في حين أن مفردة "المسلمين" هي تسمية دين فإن مفردة بني إسرائيل هي تسمية ذرية.
في ضوء هذا الاستنباط البسيط جداً، تظهر الحاجة إلى طرح بعض التساؤلات نذكر منها:
1.     إذا كنا نحن من نسمي أنفسنا "المسلمين" مسلمين في عقيدتنا، فما هو عرقنا؟ أي ما هي السلالة العرقية التي ننتمي إليها؟ فهل نحن "إسماعيلون" مثلاً في عرقنا "مسلمون" في عقيدتنا؟
2.     إذا كان هم من يسمون أنفسهم "بني إسرائيل" اسرائيلون في عرقهم، فما هي عقيدتهم؟ وإياك أن تقل لي بأنهم يهوداً أو نصارى، فاليهودية جاءت بعد موسى والنصرانية جاءت بعد عيسى، ونحن نتكلم عن الأمم التي سبقت عيسى وموسى، وبالذات ذرية إبراهيم (إسحق ويعقوب ويوسف والأسباط)، فماذا كانت عقيدة هؤلاء القوم؟
الافتراء الأكثر خطورة حتى الآن: نحن وهم جميعاً مسلمون في العقيدة ننتمي جميعاً "لبني إسرائيل" في العرق.
نتيجة مفتراة: نحن جميعاً مسلمون في العقيدة إسرائيليون في العرق:
(1) فنحن (كما هم) مسلمون جميعاً في عقيدتنا، فلقد كان إسماعيل مسلماً كما سمّاه والده إبراهيم وكان إسحق ويعقوب ويوسف مسلمين متبعين لملة أبيهم إبراهيم، فلقد جاء قول الحق على لسان أبناء يعقوب مجتمعين:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
وجاء على لسان يوسف منفرداً:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

(2) ونحن (كما هم) من ذرية بني إسرائيل في عرقنا، انحدرنا جميعاً من ذرية إسرائيل نفسه ما دمنا نفهم الآن أن إسرائيل ليس يعقوب كما افترى من سبقنا من أهل الديانات الأخرى، وكما ظن كثير من أهل الدراية والعلم ممن ينتمون إلى ملة الإسلام.

فمن هو إسرائيل إذن؟
السؤال: من هو إسرائيل هذا الذي ننتمي نحن له في العرق كما ينتمون هم له؟
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن إسرائيل هو ابن آدم الذي قتل أخاه
الدليل:
نحن نظن أن البحث عن دليل يثبت مثل هذا الزعم سيعيدنا على الفور إلى الآيات الأولى التي أثارت النقاش في بداية طرح هذه القضية وهي الآيات الكريمة التالية التي تقص علينا نبأ ابني آدم بالحق:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
رأينا: عندما أقدم أحد أبناء آدم على قتل أخيه لم يبقى على وجه الأرض سوى ذلك الرجل، ولمّا كانت البشرية قد ابتدأت بآدم كانت البشرية جميعاً قد انحدرت للمرة الأولى من ذرية رجل واحد وهو آدم، فاستحق آدم أن يصبح هو أبو البشرية جميعا، فأصبح من الممكن أن ننعت البشر جميعاً على أساس أنهم "بنو آدم"، ولما قتل الأخ أخاه ولم يتبقى على وجه الأرض سوى ذلك الرجل، كانت البشرية جميعاً تنحدر للمرة الثانية من ذرية رجل واحد، فاستحق هذا الرجل أن يصبح هو أبو البشرية جميعاً كما كان والده من ذي قبل، فأصبح من الممكن أن ننعت البشرية جميعاً باسم أبيهم الثاني وهو – نحن نفتري القول- إسرائيل، فأصبحوا جميعاً "بنو إسرائيل"، وبهذا الفهم "المشوش" نزعم أنه يمكننا الآن أن نسلّط الضوء على أمور عديدة في النص القرآني نذكر منها:
1.     ارتباط الصراع الذي حصل بين الأخوة في بداية السياق القرآني:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
بعلاقته مع قضاء الله على بني إسرائيل:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
فسنة الله الكونية هذه لا تنحصر – في رأينا- بأمة بعينها دون أمة ولكنها تخص البشرية بأكملها. فـ "بنو إسرائيل" الذين كتب الله عليهم هذه السنة الكونية هم من انحدروا من سلالة القاتل من ابني آدم، وهو إسرائيل نفسه، لذا فهي – في فهمنا- سنة كونية تنطبق على كل البشر ولا تخص أمة عرقية بعينها.

2.     قضية تحريم الطعام التي استنها إسرائيل على نفسه دون توجيه رباني:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
فلا أظن أن هناك زمناً (بما في ذلك زمن يعقوب نفسه) كان فيه كل الطعام حلالا تناوله سوى زمن آدم وولديه، وأخال أن الفترة الوحيدة التي لم يكن قد وقع التحريم على شيء من الطعام بعد هي زمن آدم نفسه (طبعاً باستثناء الشجرة التي كانت في الجنة التي هبط منها)، وأخال كذلك أنها الفترة نفسها التي لم يكن هناك شرائع على وجه الأرض تبين ما هو حلال وما هو حرام[1]، وأخال أن تلك الفترة كانت هي الفترة التي تصارع فيها ابني آدم معاً، ولمّا كان إسرائيل هو الوحيد على وجه المعمورة، ولمّا لم يكن قد نزل بعد من التشريعات ما يحلّ وما يحرّم، كان الرجل (إسرائيل) هو من يتخذ القرار بما يأكل وما يحرم على نفسه، وأعتقد أن الأمر كان مرتبطاً أيضاً بالنكاح، فترابط آيات الطعام مع آيات النكاح لا يمكن أن ينفك عراها في السياق القرآني (انظر مقلاتنا تحت عنوان تحريم لحم الخنزير وما يؤكل وما لا يؤكل)

سؤال: إذا كان إسرائيل هو ولد آدم الذي قتل أخاه وانحدرت البشرية جميعاً منه، فأصبحت البشرية هي من "بني إسرائيل" كما كانوا أصلاً من "بني آدم"، فمن هو ولد آدم المقتول الذي قتله أخوه إسرائيل؟ هل ورد اسمه في كتاب الله؟
افتراء أكثر خطورة من سابقه: نحن نظن أن الأخ المقتول الذي لم يبسط يده لقتل آخيه وآثر أن يقتل على يد أخيه إسرائيل هو نبي الله إدريس عليه السلام. كلام خطير، أليس كذلك؟

الدليل
عند تفقدنا للسياقات القرآنية حول إدريس وجدنا الآيات الكريمة التالية:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
 لو تدبرنا هذه السياقات القرآنية جيداً لوجدنا ما نبغي الوصول إليه:
-         أولاً، تثبت الآيات الكريمة أن إدريس كان نبياً ولم يكن رسولا (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)
-         ثانياً، تثبت الآيات الكريمة أن إدريس كان صديقاً (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)
-         ثالثاً، تثبت الآيات الكريمة أن الله قد رفع إدريس مكاناً عليّا (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)
-         رابعاً، تثبت الآيات الكريمة التلازم بين إسماعيل وإدريس وذي الكفل (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ)
-         خامساً، تثبت الآيات الكريمة أن هؤلاء الأنبياء الثلاث كانوا من الصابرين (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)
ولنحاول أن نسلط الضوء على هذه القضايا علّنا – بحول الله وتوفيقه- نستطيع الخروج باستنباطات ذات علاقة بموضوع النقاش، سائلين الله أن يهدينا إلى الحق فلا نفتري عليه الكذب.
أما بعد،
إدريس كان نبيا
لا يذكر القرآن الكريم أن إدريس كان رسولا على الإطلاق ولكنه كان نبياً فقط، ولقد زعمنا في مقالاتنا السابقة أن النبوة هي ميراث وليست اصطفاءً كالرسالة، فالنبي الذي لا يكون رسولاً هو من ذرية نبي سبقه كيحيى وسليمان وإسحق وهكذا، وإن صح هذا الظن، فنحن بحاجة أن نسأل: كيف أصبح إدريس نبياً ولم يكن رسولا؟
جواب: مادام أن إدريس نبياً فيجب أن يكون – حسب تخريصاتنا السابقة- من ذرية نبي سبقه، ولو راجعنا كتاب الله لوجدنا أن إدريس فقط هو النبي الوحيد الذي جاء سابقاً لنوح، وما تشكلت الأمم (القرون) إلا من بعد نوح:
          وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
ونحن نفتري القول بأن الناس قبل نوح كانوا جميعاً أمة واحدة، وما اختلف الناس إلا من بعد نوح، لأن نوح كان أول نبي مبشر منذر (أي رسولاً):
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
فنوح (في نظرنا) هو أول نبي مبشر منذر (أي رسول – انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة حول الفرق بين النبي الذي جاء مبشراً منذرا والنبي الذي لم يكن مبشراً منذرا)، وهناك فقط بدأ الناس يختلفون فيما نزّل إليهم من ربهم، فتفرقوا إلى أمم:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

فلقد كان نوح هو النقطة التي بدأ فيها التفرق:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
ولقد افترينا القول سابقاً أن البينات لا تأتي إلا مع نبي مبشر منذر (أي رسول)، لذا يكون الاستنباط على النحو التالي: إدريس هو نبي (وليس رسولاً) جاء سابقاً لنوح، ولما كان إدريس نبياً ولم يكن رسولاً لم يأتي برسالة فيها تحريم وتحليل (أي البينات)، ولكنه جاء متبعاً لملة من سبقه كما كان الحال بالنسبة لإسحق ويعقوب مثلاً، لذا فهو – بلا شك- ابن نبي جاء قبله، فمن - يا ترى- يكون ذلك النبي الذي ورث إدريس منه النبوة ولم يصبح من الرسل المصطفين؟
جواب مفترى: لا أظن أن أحداً قد سبق نوح في ذلك سوى آدم، لذا فإننا نظن أن إدريس هو من ذرية آدم مباشرة

إدريس كان صدّيقاً
لو تعرضنا للسياقات القرآنية التي تتحدث عن مفردة "الصِدّيق" لوجدنا الخطاب خاصاً بأربعة فقط وهم مريم ويوسف وإبراهيم وإدريس.
فلقد جاء بخصوص مريم قول الحق:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)
وجاء قول الحق لينصف يوسف بعد حادثته مع امرأة العزيز على أنه صديق:
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
وكان إبراهيم صديقا نبياً
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
كما كان إدريس من ذي قبل صديق نبياً
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
فما معنى أن يكون الشخص صِدّيقا (مذكر) أو صِدّيقة (مؤنث)؟ وبكلمات أكثر دقة، ما هي العلاقة بين هؤلاء الأشخاص الأربعة (مريم، يوسف، إبراهيم، إدريس) التي جعلتهم يشتركوا جميعاً (من بين كل من ذكر في كتاب الله) على أنهم صدّيقون:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)
جواب مفترى: أعتقد أن مفردة الصديق هي صفة تنعت "صاحب العلاقة الجنسية"، ولكن كيف؟
فمما لا شك فيه أن مريم قد أحصنت فرجها:
          وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ولا شك لدينا أن يوسف قد امتنع عن الوقوع في الفاحشة مع امرأة العزيز:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
نتيجة: إن أهم ما يربط العلاقة بين مريم من جهة ويوسف من جهة أخرى هي العفة عن الوقوع في الفاحشة بطريقة غير شرعية، لذا نحن نظن أن الأولى (مريم) استحقت أن تكون صدّيقة وأستحق الآخر (يوسف) أن يكون صدّيقاً لأنهم – في رأينا- آثروا أن لا يقعوا بالفاحشة بطريقة غير شرعية.
ولكن ماذا بخصوص إبراهيم وإدريس؟
لو حاولنا ربط إبراهيم وإدريس من جهة مع مريم ويوسف من جهة أخرى، لربما احتجنا أن نكون أكثر دقة في وصفنا لمن هو صديق. فنحن نظن الآن أن الصدّيق ليس من لا يفعل فعل الجماع (لأن إبراهيم كان متزوجاً أصلاً)، ولكن الصدّيق هو الذي يكف عن فعل الجماع بغير الطريقة الشرعية، فمريم تستغرب أن تحمل مولودها ليس لأنها لا ترغب في الجماع (أو لأنها تنكره)، ولكن لأنها لا ترغب أن تفعله بطريقة غير الطريقة الشرعية، فالمتدبر لرد مريم على كلام رسول ربها إليها يجد أنها لا تحتج على فعل الجماع نفسه، ولكن على طريقته:
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
فهي لا ترغب أن تقترف الفاحشة، لدرجة أنها آثرت الموت على الظن بأنها قد اقترفت الفاحشة:
          فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
وبالمنطق نفسه يمكن أن نفهم تصرف يوسف:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
فيوسف لا ينكر فعل الجماع أو حتى القيام به، ولكنه ينكر أن يقع فيه بغير الطريقة الشرعية حتى أنه آثر السجن على الشهوة:
قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
نتيجة مفتراة: الصِدّيق – في رأينا- هو ذاك الشخص الذي يتعرض لحادثة جنسية يمتنع فيها عن الوقوع في فعل الجماع بغير الطريقة الشرعية.
سؤال: لماذا لا يذكر القرآن أن محمداً أو أن عيسى أو أن موسى كان صديقاً نبياً؟
جواب مفترى: لم يتعرض هؤلاء الأنبياء لفتنة يتم اختبار "صديقيتهم"، فمن تعرض من البشر لفتنة جنسية أعرض فيها عن الوقوع في الفاحشة بغير الطريقة الشرعية فهو يعتبر صديقاً كما حصل مع مريم وكما حصل مع يوسف حيث تم اختبار صديقيتهم.
سؤال: وماذا عن إبراهيم؟ هل تعرض لمثل هذه الحادثة؟
تخيلات لا أكثر، وظن من عندنا دون دليل: نحن نتخيل ما حصل مع إبراهيم على النحو التالي: لقد كان زواج المحارم شائعاً في زمن إبراهيم، وكان الناس لا يرون في ذلك ضيراً، ولكن لمّا كان إبراهيم قد وجد نفسه في هذه البيئة التي لا تحرّم مثل هذا الزواج غير الشرعي (وهو لا زال شاباً في ذروة قدرته ورغبته الجنسية)، كان هو من آثر الكف عنه، فرفضه تماماً، ولم يرض إبراهيم أن يتزوج من قومه حتى اعتزلهم وخرج من ديارهم، ولكن أين الدليل على هذا الافتراء؟
جواب: لنتدبر الآية الكريمة التالية جيداً:
          فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
فإبراهيم يعتزل قومه في كل شيء ليس فقط في المأكل والحديث وإنما في النكاح أيضاً   ( انظر الجزء السابق من هذه المقالة حول معنى مفردة الاعتزال وارتباطها بالنساء، خاصة افتراءنا الذي مفاده أن الاعتزال لا يتم إلا لسبب شرعي كاعتزال النساء بسبب المحيض مثلاً)، فيؤثر عدم الزواج على اقتراف فاحشة الوقوع في زنا المحارم، لذا استحق الرجل أن يكون صديقاً نبياً. ولو دققنا مليّاً في الآية السابقة لوجدنا أن الذرية لم تتحصل لإبراهيم إلا بعد أن اعتزل قومه.

وماذا عن إدريس؟ لماذا كان إدريس صدّيقاً أيضاً؟
رأينا: لا شك عندنا أن الزواج في زمن ابني آدم كان يقع بين الأقارب، فلا يمكن للبشرية أن تستمر ما لم يتزوج الأخ بأخته، فزواج الأخوة كان أمراً لا مفر منه (عندما كان كل من على الأرض قد خرج من بطن حواء)، ولكننا نرى أنه بالرغم أن الزواج كان يقع بين الأخوة إلا أن الحاجة كانت متوافرة لتنظيم العلاقة، فالسؤال الذي نود أن نطرحه هنا هو: كيف كان الزواج يُنظّم في تلك الفترة من تاريخ البشرية؟ هل كان فعلاً كفعل الأنعام والدواب مثلاً؟
الجواب: كلا، فالإنسان بفطرته يأبى أن يسك سلوك البهائم (الأنعام والدواب والطيور، الخ) في العلاقة الجنسية.
سؤال: كيف إذاً يمكن تخيل إقامة العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى في ذلك الزمن؟
جواب مفترى: لو تفحصنا فقه الزواج لوجدنا أنه ليس أكثر من تنظيم للعلاقة الجنسية بين أفراد المجتمع، فكل مجتمع يقوم بتنظيم تلك العلاقة بطريقته الخاصة حتى وإن كان ذلك المجتمع لا يحتكم إلى تعاليم ربانية، فالمجتمعات الإلحادية تنظم تلك العلاقة بقوانين وتشريعات من عند أنفسهم بينما تنظم المجتمعات المتدينة تلك العلاقة بتشريعات يظنون أنها من عند ربهم، فالبشر بطبعهم (بفطرتهم) يميلون إلى تنظيم تلك العلاقة بغض النظر عن درجة تقبلهم للدين، فحتى أشد الناس إلحاداً وكفراً بالتعليمات الربانية لا يرضى (ولا تتقبل فطرته) أن ينتهك تشريعات مجتمعه في تنظيم تلك العلاقة، فلربما لا يوجد حضارة على وجه الأرض لا تنظم تلك العلاقة، فيقوم الناس بسن التشريعات (وإن لم تكن مكتوبة) التي تُحِلّ لهم وتحرّم عليهم ما يتعلق بهذه العلاقة، ولو تدبرنا النص القرآني جيداً بخصوص قضية النكاح لربما وجدنا ملاحظة غاية في الأهمية تخص طريقة التشريع في هذه الجزئية :
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
ونكاد لا نجد صيغة موازية لذلك في النص القرآني بأكمله سوى ما يتعلق بالأطعمة:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
وهنا ندعو القارئ الكريم إلى الالتفات إلى لفظة "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ" في السياقين القرآنيين (سياق الحديث عن النكاح وذاك الخاص بالطعام) حيث وردا بصيغة "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ" وهنا نطرح سؤالين اثنين وهما:
1.     لماذا جاء الفعلين (النكاح والأكل) بنفس الصيغة "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
2.     من الذي أوجد (فرض علينا) فعل التحريم؟
جواب: سنترك السؤال الأول لنخصّه بمقالة منفصلة بحول الله وتوفيقه لاحقاً (وندعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى مقالتنا تحت عنوان تحريم لحم الخنزير وما يؤكل وما لا يؤكل أولاً) لننتقل الآن للحديث عن السؤال الثاني الذي نظن أنه ذات علاقة وثيقة بقضية النقاش هنا وهو: من الذي حرّم علينا؟ من الفاعل الذي اختط علينا (أو لنقل فرض علينا) هذا التحريم؟
جواب: ستنطلق حناجر الجميع بالقول أن الله هو من حرّم علينا ذلك. فذلك في رأيهم تشريع رباني، أليس كذلك؟
رأينا: دعنا نخالفكم الرأي قليلاً من خلال طرح سؤال آخر وهو: لماذا لم ترد قضية التحريم بصيغة أن الله هو من حرم علينا ذلك؟ لماذا ورد التحريم في قضيتي النكاح والأكل بصيغة المبني للمجهول (كما يحب أهل القواعد أن يصفوه)؟ فهل الله مجهول لتأتي الصيغة على نحو "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
ثم، لنطرح القضية بطريقة أخرى، دعنا نرى ما الذي حرمه الله فعلاً علينا:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
دقق – عزيزي القارئ- في النص جيداً، فهذا هو ما حرم الله علينا:
1.     أن لا تشركوا به شيئاً
2.     وبالوالدين إحسانا
3.     ولا تقتلوا أولادكم من إملاق
4.     ولا تقربوا الفواحش
5.     ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق

السؤال: أين النكاح وأين الطعام في كل هذه التحريمات التي وردت بصيغة أن الله هو الذي حرمها علينا (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
فقد يرد البعض على الفور بالقول أن النكاح موجود في قوله تعالى "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"، فالزنا هو فاحشة:
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
فنقول هذا كلام صحيح: الزنا هو فاحشة، ونحن مأمورون حتى بعدم الاقتراب منه، لكن سؤالنا هو: ما الذي يمكن أن يعتبر زنا؟ هل زواج الأخ بأخته زنا؟ هل زواج الرجل بخالته زنا؟ وماذا عن زواج الرجل بابنة عمه؟ ما هو الحد الذي يصبح الأمر عنده زنا؟ لم لا يكون الزواج بابنة العم أو ابنة الخال مثلاً من الزنا؟ صحيح أن الله هو من أمرنا بعدم الاقتراب من الفواحش (ولا شك أن الزنا واحدة منها)، ولكن السؤال المطروح هنا هو: ما هي العلاقة التي يمكن أن تعتبر زنا والعلاقة التي لا تقع في باب الزنا؟ فمن هو الذي حدد أن هذه العلاقة أو تلك تقع في باب الزنا أو عدمه؟

نتيجة: التحريم والتحليل في العلاقة الجنسية هو أمر نسبي يعتمد على درجة صلة القرابة بين الرجل والمرأة، وهو يختلف من مجتمع إلى آخر، فنكاح الأم أو البنت يعتبر من أشدها تحريما حتى تكاد كل أمم الكون تحرمه، ونكاح الأخت ربما يأتي في الدرجة الثانية، ونكاح بنت الأخ أو بنت الأخت ربما يأتي في الدرجة الثالثة، وهكذا، حتى يصبح الأمر بعد ذلك أمراً قابلاً للجدل، فتتقبله بعض المجتمعات وتنفر منه أخرى، ففي حين أننا نحن المسلمين نتقبل فكرة نكاح بنت العم أو بنت الخال، نجد أن بعض المجتمعات الأخرى تدرج ذلك ضمن قائمة المحرمات، وهكذا.

ما علاقة هذا الافتراء الذي هو - لا شك- من عند أنفسنا بإسرائيل وإدريس ابني آدم؟
جواب: يمكن أن ننشئ علاقة مفتراة بين ما نفهمه نحن من فكر الزواج بشكل عام مع قصة ابني آدم بشكل خاص إن نحن طرحنا السؤال على النحو التالي: كيف كان ابني آدم ينظّمون العلاقة الجنسية في مجتمعهم وهم لا زالوا جميعاً إخوة من أب وأم (آدم وحواء)؟
رأينا: لا شك أن ابني آدم قد وضعوا لأنفسهم تشريعات من شأنها أن تقوم بتنظيم تلك العلاقة التي ستنشأ بينهم من جهة وأخواتهم من الإناث من جهة أخرى. ولكن كيف؟
تخيلّات مبنية على افتراءات من سبقونا: يتحدث أهل العلم والدراية أن أبناء آدم كانوا ينظمون العلاقة على النحو التالي: حواء تنجب في كل مرة اثنين (ذكر وأنثى)، فيقوم الذكر من البطنة الأولى (كما تقول كثير من نساء  الأردن في وصف ذلك) بالزواج من الأنثى من البطنة الأخرى، وهكذا. ونحن إذ لا ندري لم كانت حواء تنجب اثنين في كل مرة على وجه التحديد، لكننا سنحاول أن نصدق ظن من سبقونا لنزيد عليه من تخريصاتنا التفصيل التالي: يولد إدريس مع أخته في البطنة الأولى ويولد إسرائيل مع أخته في البطنة الثانية، فعندئذ يكون من الطبيعي (ولا يعتبر زنا في ذلك الوقت) أن يتزوج إدريس من شقيقة إسرائيل وأن يتزوج إسرائيل من شقيقة إدريس، وبغير ذلك يكون الأمر قد وقع في باب التحريم وبالتالي في باب الزنا.
ولما كان إسرائيل قد اعتدى لا يرضى بذاك التشريع، فينافس إدريس على شقيقته، ولما كان إدريس (الأخ الذي لم يعتدي) يدرك أن ذلك يقع في باب الزنا لأنه يخالف التشريعات التي اتفق عليها الأخوان (فقضية التحريم في النكاح وفي الطعام يقع ضمن باب العقود)، يرفض أن يقع في الفاحشة، فيؤثر العفة على اقتراف ما لم يوافق التشريع في ذلك الزمن، لذا يصبح الرجل بعد هذه الاختبار العسير صدّيقاً.
قصة القربان
لماذا قدما ابني آدم قربانا؟ لم تقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر؟ وكيف علم الأخوان أن الله قد تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر؟
هذه أسئلة عديدة تنتظر إجابات شافية مدعومة بالدليل المقنع من كتاب الله، لذا سنترك جلها هنا لنحاول التفصيل فيها في مقلات قادمة بحول الله وتوفيقه، لكن سنعرض فقط لسطورها العريضة التي تهمنا في البحث الذي نجهد أنفسنا فيه هنا وهو قصة إدريس وأخيه إسرائيل.

أما بعد
نحن نفتري القول أن تقديم القربان قد جاء في الأساس لفض خلاف بين الأخوة، فلما لم يستطع أحدهما أن يقنع الآخر بما يراه صحيحاً لجأءا إلى الاختبار (الذي يمكن أن يكون الفيصل بينهما) فكان تقديم القربان:
          وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
لكن لماذا قرّبا قرباناً؟
أولاً، يجدر الإشارة إلى أن الأخوة قربا القربان نفسه، قدمه أحدهما فتقبله الله منه وقدمه الآخر فلم يتقبله الله منه:
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ
ونحن نزعم الظن بأن الله تقبل القربان من إدريس ولكنه لم يتقبله من إسرائيل، فتطوع نفس إسرائيل له قتل أخيه إدريس، فيقتله:
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
ولكن لماذا؟
جواب مفترى: لمّا كان الخلاف بين الأخوة خاصاً بتشريع، لذا نحن نظن أن الله تقبل من الذي التزم بالتشريع الصحيح لكنه لم يتقبل من الذي خالف التشريع الصحيح، ولما كان إدريس هو من التزم بالتشريع الصحيح تقبل الله منه، ولما كان إسرائيل هو من خالف التشريع الصحيح لم يتقبل الله منه.
نتيجة وافتراء من عند أنفسنا: لما رفض إدريس أن ينقض تشريعات (نظن أنها خاصة بالنكاح والوقوع في ما هو محرّم عليه من النكاح حتى تلك اللحظة) حضي الرجل بشرف أن يكون صدّيقاً. ولكن نفس إسرائيل الذي لا شك لم يكن لـ يلتزم بالتشريعات الصحيحة كانت قد طوعت له قتل أخيه فقتله. 
سؤال: لماذا افترضت أن الخلاف بين الأخوة كان قد نشب بخصوص النكاح؟
جواب مفترى: لا أظن أن الرجلين كانا سيختلفان بخصوص قطعة أرض (كما يحدث مع أبناء عمومتي)، أو بخصوص مرعى لمواشيهم (كما كان يحدث مع بعض جيراننا)، أو بخصوص آبار المياه (كما يحصل مع القبائل البدوية في المسلسلات الأردنية)، أو أن الخلاف كان على بئر نفط (كما يحدث بين شمال السودان وجمهورية جنوب السودان العظيمتين)، أو بسبب جزيرة في البحر (كما هو الخلاف بين إيران والأمارات على أبو موسى أو على أبو مصطفى)، أو أنه كان خلافاً أيدلوجياً (كما كان الخلاف بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي أيام الحرب الباردة) أو خلافاً على زعامة فرقة دينية ضد فرقة دينية أخرى (كما يحصل مع من يحمل راية آهل السنة ضد أهل التشيع أو من يلبس عمامة أهل البيت ضد من يظنون أنهم يناصبوهم العداء)، ولا... ولا...، لكني أظن أن ما كان موجوداً على الأرض حينئذ لا زال يكفي شخصين اثنين، فأرض الله واسعة، وخيراتها وفيرة تكفي لأكثر من شخصين، فما هو الأمر الذي كان يمكن أن يسبب الخلاف بين الأخوة في ذلك الزمن؟
جواب: هذا سؤال كبير جداً له تداعياته الهائلة التي سنتعرض لها – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- في مقالة منفصلة حول قصة ابني آدم. لكن يكفي أن نذكّر القارئ الكريم بواحدة من السلوكيات التي أخذناها من موروثاتنا الدينية والتي لا أظن أننا حتى الساعة قد نفذنا إلى الحكمة فيها ألا وهي سنة الذبح عند الزواج.
سؤال: لم نحن منصوحون أن نقيم الوليمة في الزواج؟ لم لم نؤمر بالذبح عند الموت مثلا؟
جواب: سأترك للقارئ الكريم حرية التفكير وربط الأحداث مع بعضها البعض بعد تأمل التساؤلات التالية التي ربما تكون أكثر إثارة وأكثر مدعاة للتدبر والتفكير:
-         لماذا نحن مأمورون بعدم مجامعة النساء (أي الرفث) في الحج؟ وما هي كفارة من يفعل مثل ذلك؟
-         لماذا نحن مأمورون بالإحرام (لبس الإحرام) في الحج؟ وما هي كفارة من يفعل عكس ذلك؟
-         هل كفارة الرفث في الحج مثل كفارة الرفث في نهار رمضان؟
-         أليست الفريضتان (الحج والصوم) من أركان الإسلام؟ فلم تختلف العقوبة (عقوبة الرفث) في كل واحدة منهما؟

إدريس يرفع مكاناً عليا
لماذا أختص إدريس بهذا المكان العلي؟
قال تعالى:
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
إننا نظن أن عكس الرفع إلى الأعلى هو الخلود إلى الأرض: فهناك من يرضى أن يرتفع وهناك من يختار أن يخلد إلى الأرض، ولا يكون هناك من يخلد إلى الأرض إلا من يتبع هواه. فلو حاولنا تدبر ذلك في قصة ابني آدم لوجدنا أنه في حين أن القاتل قد اتبع هواه وأخلد إلى الأرض أختار المقتول أن يرتفع:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فالمقتول يعلم أن القبول لا يكون إلا من المتقين، فيرفض أن يبسط يده ليقتل أخاه، ويؤثر أن لا يبوء بإثمه وأثم أخيه، ولما كانت هذه هي نيته، كانت خاتمته:
          وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
بينما القاتل يعلم (لأنه من الظالمين) ذلك، ولكنه يؤثر أن يبسط يده لقتل أخيه إتباعا لشهواته ونزواته.

إدريس كان من الصابرين
قال تعالى:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
أولاً، لابد من الإشارة أن الصبر يحدث يوم أن تحصل المنازعة التي تخص التشريعات الدينية، فنحن مأمورون أن نطيع الله ونطيع رسوله (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وأن لا تنازع في ذلك (وَلَا تَنَازَعُوا) لأنه بخلاف ذلك سنفشل وتذهب ريحنا لأننا بكل تأكيد سنتفرق (فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، وكل ذلك يحتاج إلى الصبر مصداقاً لقوله تعالى:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
فعندما يحدث الاختبار الحقيقي للصبر، لا نجد أن أحدا قادر على ذلك إلا من ارتضى بشرع الله وتقبّله مهما كلّفه الأمر، وعندها يكون الإنسان من الصابرين، وليس أدل على ذلك من صبر إسماعيل على رؤيا والده:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فلما صبر إسماعيل على تلك "المصيبة" (لنقل تجاوزاً)، استحق أن يكون من الصابرين، فجمع مع إدريس ومع ذي الكفل:
          وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
ولو تدبرنا قول موسى للرجل الذي ذهب إليه طالباً صحبته، لوجدناه يردد تقريباً ما قاله إسماعيل لوالده:
          قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
لكن المفارقة المذهلة هي أنه لما لم يستطع موسى على أن يصبر على صحبة الرجل لا نجد أن الله قد جمع موسى مع هؤلاء الثلاثة وهم إسماعيل وإدريس وذا الكفل.
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أن الصبر لا يكون إلا بعد وقوع الابتلاء:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
فوقوع الابتلاء يكون من أجل أن ينتهي العلم إلى الله بمن هو من المجاهدين وبمن هو من الصابرين، لذا كانت تجربة إبراهيم وولده إسماعيل هي في حقيقة الأمر ابتلاء، فخرج منها إسماعيل منتصراً لأنه أثبت أنه من الصابرين:
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
نعم، لقد كانت تلك التجربة ابتلاء لإبراهيم ولكن إسماعيل هو من خرج منها صابراً.
سؤال: لم لا يكون إبراهيم أيضاً من الصابرين؟
جواب مفترى: إننا نظن أن الصبر يكون من نصيب من يقع عليه الفعل وليس من قام بالفعل، فإبراهيم هو الذي أبتلي ولكن إسماعيل هو من صبر.
افتراء من عند أنفسنا: لو حاولنا ربط العلاقة بين رسل الله الثلاثة المذكورين في آية الصابرين لوجدنا أنهم هم من وقع عليهم البلاء:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
فإسماعيل قد صبر بسب الابتلاء الذي وقع على والده إبراهيم فنجح فيه، وإدريس قد صبر على الابتلاء الذي وقع فيه أخوه إسرائيل الذي خرج منه خاسراً، ولكن ما قصة "ذي الكفل"؟

من هو ذو الكفل؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن "ذا الكفل" هو نبي قد مرّ بتجربة ابتلاء من أقاربه بالضبط كتلك التي حصلت لإسماعيل مع أبيه ولإدريس مع أخيه.
سؤال: من هو أصلاً ذو الكفل؟
جواب: نحن نفتري القول أن ذا الكفل هو والد النبي هارون (الأخ غير الشقيق لموسى) وهو نفسه ذلك الرجل الصالح الذي كفل موسى في صغره.

الدليل
لنعود قليلاً إلى قصة موسى مركزين هذه المرّة على ما جاء في الآية الكريمة التالية:
          وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
السؤال: من هم أهل البيت الذين "تكفّلوا" موسى؟
جواب قديم: لا شك أنها أمه؟
رأينا: كلا، نحن لا نتحدث عن شخص بعينه، ولكن نتحدث عن أهل بيت، فمن هم أهل البيت الذين تكفّلوا موسى؟ فالله قد أرجع موسى إلى أمه:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ                                                                        طه (40)
والله قد ردّ موسى إلى أمه:
          فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
لذا، فإن سؤالنا لا يخص رجوع موسى أو ردّ موسى، ولكنّه يركز على كفالة موسى، فنحن هنا نتحدث عن الكفالة على وجه التحديد، فهل تكفل الأم ولدها؟
رأينا: لا شك عندنا أنّ الكفالة لا تكون لأهل البيت أنفسهم، فهذا زكريا يكفل مريم:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فمادام أنّ زكريا ليس من أهل بيت مريم، فقد حصلت له كفالة "الطفلة"، فمن أراد أن يكفل شخصاً لا يكون من أهل بيته أصلاً، وإلاّ لما اعتبرت تلك كفالة:
ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
فأهل البيت لا يتخاصمون في الكفالة لأن الكفالة لا تبنى على صلة القرابة، فأهل البيت يعرفون درجة قرابتهم من بعضهم البعض، لذا يكون الأكثر قربة للشخص هو صاحب الحق، فيمكن فضّ الخلاف بسهولة، فلا يحصل التنازع على ذلك، ولكن لمّا كانت الكفالة من غير أهل البيت أنفسهم ربما تحدث المخاصمة بين من يريد الكفالة، فالناس في زمن مريم اختصموا في كفالتها لأن كل منهم رأى أحقيته في ذلك، ولو كان هناك صلة قرابة واضحة بين مريم وهؤلاء الناس لادّعى الأقرب صلة بها حقه في ذلك، ولو احتكمنا إلى النص القرآني نفسه، لوجدنا أن أهل البيت لهم الولاية وليست الكفالة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
وليس أدلّ على ذلك مِنْ مَنْ يتولى أخذ حق المقتول من القاتل:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)

لذا نحن نزعم الظنّ أن الكفالة لا تقع إلاّ من شخص لا يكون من أهل البيت أنفسهم، ولندقق النظر في الآية الكريمة التالية:
          إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فلو كانت تلك النعجة من حقه أصلاً لما طلبها كفالةً.
نتيجة مفتراة: لقد ذهبت كفالة موسى إلى شخص ليس من أهل بيته، لذا جاء قول أخته على النحو التالي في موقع آخر من كتاب الله:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)
دقق عزيزي القارئ بالعبارة التي تحتها خط " عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ" جيداً، إنّ أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباط هنا هو أن الذي كفل موسى هو شخص مذكر، فالنص القرآني يتحدث عن "مَنْ يَكْفُلُهُ" وليس "من تكفله". فالكفيل هو رجل بعينه. وهو صاحب ذلك البيت الذي تعيش أم موسى معه الآن، ولكن من هو ذلك الرجل؟ ولماذا تعيش أم موسى معه؟
جواب: هذا سؤال كبير سنتعرض له في خضم حديثنا عن طفولة موسى، لكن يكفي الآن أن نجيب على التساؤل المطروح بطرح سؤال آخر وهو: أين هو والد موسى؟
إن المتدبر للسياقات القرآنية الكثيرة التي تتحدث عن قصة موسى يجد أنها قد خلت جميعها من التطرق لوالد موسى، ففي جميع تلك السياقات القرآنية لا نجد ظهوراً (ولو عارضاً) لوالد موسى. فهناك أم موسى، وهناك أخت موسى، وهناك أخ موسى، فأين إذاً هو والده؟
جواب مفترى: إننا نظن أن والد موسى كان قد مات قبل ولادة موسى، ونجزم الظن أن أم موسى قد تزوجت برجل آخر (وهو من سيكون والد هارون)، ونحن نزعم الظن أن هارون وموسى هم إخوة من الأم وليسوا أخوة من الأب، فموسى هو نصف شقيق لهارون (ابن أمه فقط):
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
(وسنتعرض لتبعات هذا الظن بالتفصيل في مقالة منفصلة بحول الله وتوفيقه حول طفولة موسى)، لكن ما يهمنا طرحه هنا هو أن هارون هو ابن أم موسى وموسى ابن أم هارون، لكنه ليس ابن أبيه. لذا كانت أم موسى – في تخيلاتنا المفتراة- تسكن في بيت ذلك الرجل يوم أن تكفّله زوج أمه، وذلك الرجل الذي تزوج بأم موسى وحرص على كفالة موسى يوم أن وقع الطفل بين يدي فرعون هو - في رأينا- صاحبنا "ذو الكفل".
ولكن أين الدليل أنه فعلاً ذلك الرجل؟
الدليل
سنحاول استنباط الدليل على زعمنا هذا بعد سرد جملة من الافتراءات بناء على قراءتنا لبعض السياقات القرآنية
أولاً، لقد بعث الله إلى بني إسرائيل رسولين اثنين هما موسى وهارون، أليس كذلك؟
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
ولكن المتدبر لبعض السياقات القرآنية يجد أن الله يتحدث عن قرية على وجه التحديد جاءها اثنان من المرسلين، ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فيأتي التعزيز من الله لهم برسول ثالث:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
ولو تابعنا السياق القرآني نفسه لوجدنا الآية الكريمة التالية:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
ولو حاولنا البحث في قصة موسى مجدداً لوجدنا الآية الكريمة التالية:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن هذا التطابق بين الآيتين لم يأتي صدفه: إنه الرجل نفسه الذي كتم إيمانه في بداية الدعوة فجاء محذراً موسى من مؤامرة الملأ، وهو نفسه الذي تحدث بعد أن ظهرت دعوة موسى على الملأ بملء فيه:
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
فلو تدبرنا خطاب هذا الرجل لوجدنا أنه خطاب من النوع الذي لا يستطيع أن يقوم به إلا رجل صاحب رسالة. ونحن نظن أن هذا الرجل هو فعلاً رسول جاءته الرسالة من قبل موسى ولكنه كان يكتمها ويدعو لها سراً، إنه - في رأينا- هو ذو الكفل الذي تكفل موسى، فكتم إيمانه في البداية وحاول أن يرد القوم عن المكر بموسى، ولكنه في نهاية المطاف أظهر إيمانه، فما كان من قومه (آل فرعون) إلا أن أوقعوا عليه ابتلاء حقيقي عندما خيّروه إما بالارتداد إلى ألهتهم أو بالقتل، فاختار الطريق الصحيح وصبر على عذاب قومه فكان من الصابرين، لذا نجد خاتمته على النحو التالي:
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)[2]
فاستحق بذلك – في رأينا- أن يذكر مع من صبر على الأذى من أقرباءه:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ     
ولكن هناك وقفات لا بد منها عند التعرض لحديث الرجل إلى قومه (وهم قوم فرعون)، فلنحاول التفكر بكلام الرجل بطريقة جديدة:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
ويمكن التطرق عند خطاب الرجل في المحطات التالية:
1.     الرجل يخاطب من حوله بصفة أنهم قومه (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ)
2.     الرجل يحذر القوم من يوم الأحزاب (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ)
3.     الرجل يعرض لهم ما حل بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)
4.     الرجل يحذرهم من يوم التناد (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ)
5.     الرجل ينبأهم بما سيحل بهم في يوم التناد بأنهم سيولون في يوم التناد مدبرين (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)
لماذا خاطب الناس من حوله بصفة القوم؟
جواب: لأن كل رسول كان قد بعث إلى قومه، فلهذا الرجل قومه كما كان لموسى قومه، ولو حاولنا عقد مقارنة مع أنبياء آخرين لوجدنا أن للوط مثلاً قوم كما كان لإبراهيم قوم على الرغم أن إبراهيم ولوطا كانا قد بعثا في الفترة الزمنية نفسها.
لماذا حذرهم من يوم الأحزاب؟ ومن هم الأحزاب أصلاً؟
جواب: الأحزاب – حسب النص القرآني- هم ستة فقط:
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
ولو تأملنا جيداً في هذا النص القرآني لوجدنا أن الأحزاب هم كل الأقوام الذين وقع عليهم العذاب الإلهي، ولو حاولنا ربط هذه الحقيقة القرآنية بحديث صاحبنا "ذو الكفل" سابقاً لوجدنا أمراً عجيباً وهو أن الرجل قد حذر القوم من ما حل بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ولكنه لم يذكر قوم فرعون (أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).
سؤال: لماذا ذكر الرجل قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ولم يذكر قوم فرعون على وجه الخصوص (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
رأينا: لأن من يخاطبهم الآن هم أنفسهم (آل فرعون).
سؤال: كيف عرف رجل مثل هذا ما حل بهذه الأقوام السابقة؟
رأينا: لا يمكن أن تتحصل مثل هذه المعرفة إلا لرسول يوحى إليه.
سؤال: كيف وجه الرجل الخطاب إلى القوم؟ أو ما هي صيغة الخطاب؟
الجواب: "إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ"
لو تأملنا هذه الصيغة جيداً وتتبعناها في النص القرآني لوجدنا أنها خطاب مميز للرسل، فهذا نوح يحذر قومه بهذه الصيغة:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
وهكذا جاء خطاب شعيب إلى قومه:
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وبالصيغة نفسها جاء خطاب هود:
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ                                                    الأحقاف (21)
وهو الخطاب نفسه الذي جاءنا به محمد:
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)                   هود
وهكذا كان خطاب صاحبنا الذي كتم إيمانه:
          وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ               غافر (30)
          وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ                                        غافر (32)
سؤال: لماذا سمي هذا الرجل بـ "ذي الكفل"؟
لو تأملنا الاسم جيداً لما وجدناه أسم علم ولكنه صفة لشخص لا يذكر اسمه الحقيقي، "فذو الكفل" تشبه "ذو القرنين"، وهكذا. لذا فهو الرسول الوحيد الذي لم يذكر أسمه صراحة، أليس كذلك؟
سؤال: لماذا لم يذكر اسمه صراحة؟
افتراء من عند أنفسنا: لأنه هو الرسول الوحيد الذي كتم إيمانه ولم يظهر للناس أنه رسول من رب العالمين.
سؤال: لماذا سمي بذي الكفل على وجه التحديد؟
افتراء من عند أنفسنا: لأنه هو من كفل موسى، وهو يختلف في ذلك عن زكريا، ففي حين أن زكريا كان رسولاً يكفل الأيتام إلا أنه كان يظهر للعلن أنه رسول من رب العالمين، ولكن هذا الرجل كان رسولاً يكفل الأيتام إلا أنه لم يظهر نفسه للعلن أنه رسول من رب العالمين. (وسنتحدث عن هذا الكتمان وأثره على إيمان امرأة فرعون التي اختارت أن يبني الله لها بيتاً في الجنة لتنجو من فرعون وعمله في المقالة القادمة عن طفولة موسى بحول الله وتوفيقه)

ثانياً، لماذا حذر هذا الرجل قومه من يوم التناد (يوم يولون مدبرين)؟
جواب: الرجل يعلم أن نهاية القوم ستكون بأن يولون مدبرين ويعلم كذلك أن العذاب واقع بهم لا محالة إن هم أنكروا دعوة الرسل إليهم وأصروا على البقاء على دين أبائهم وأجدادهم، وبالفعل حصل ما حذر الرجل قومه منه:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ
طه (77)
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ                                    الشعراء (52)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)         الدخان
فهذا فرعون يلحق بموسى وقومه بعد أن يهربوا في الصباح الباكر، ويكون الهروب من الغرب باتجاه الشرق:
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
يغرق الله فرعون وجنوده:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
نتيجة: لقد لحق بآل فرعون ما كان الرجل الذي يكتم إيمانه قد حذّرهم منه من ذي قبل، فكيف بالرجل يتنبأ بخاتمة القوم بالضبط كما حصلت لو لم يكن رسولاً يوحى إليه.
لكن هذا النقاش يدعونا إلى إثارة تساؤل آخر وهو: إذا كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقاً في اليم، فما الذي حل بقوم فرعون من بعده؟ وما الذي حل بقوم فرعون الذين قدّم لهم موسى الآيات التسعة؟ هل يعقل أن يكون فرعون وجنوده وكل قومه قد خرجوا مطاردين موسى ليغرقوا جميعاً في اليم؟
جواب: إننا نظن أن الذي أهلكوا غرقاً في اليم هم فرعون وجنوده فقط:
          فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ                        طه (78)
          فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ       القصص (40)
          فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ                                الذاريات (40)
سؤال: إذاً، ماذا حل بقوم فرعون أجمعين؟ ماذا حل بمن لم يكن من جنود فرعون لكنه من قوم فرعون؟ كيف أهلك الله قوم فرعون أجمعين؟ ألم يأتي خبر تدميرهم أجمعين في كتاب الله؟
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
ألم يرث بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها من بعد هلاك فرعون وقومه أجمعين؟
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
سؤال: كيف إذاً تم تدمير قوم فرعون خاصة الذين لم يصيبهم العذاب بالغرق؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد وقع على فرعون وقومه عذابان: الغرق والصيحة، ففرعون وجنوده كانوا قد أهلكوا غرقاً باليم، بينما تم تدمير من بقي من قوم فرعون (خاصة الذين لم يلحقوا بموسى) بالصيحة.
الدليل
يأتي دليلنا من قصة "ذا الكفل" الذي ابتدأناها، فلنعيد قصة الرجل كاملة لنتأمل ما حل بقومه:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
إن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ) ليحذر موسى من المكر الذي يدبره له الملأ من حاشية فرعون هو نفسه الذي جاء ليحث الناس على إتباع الرسالة (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)، ومحذراً القوم في الوقت ذاته من سوء الخاتمة، وهو نفسه الذي تدلّ نهايته على أن القوم قد قتلوه (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)، ولكن الذي يهمنا أكثر هنا هو كيف كان خاتمة القوم (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
فما هي الصيحة؟
عند سؤالنا العامة عن الصيحة التي يأتي ذكرها في كتاب الله، كان جوابهم يتمحور غالباً حول الظن بأن الصيحة هي عذاب وقع من الله على قوم من الأقوام، فالعامة – من أمثالنا- كانوا يظنون على الدوام أن الصيحة عذاب قد وقع على قوم بعينهم، ولكن عندما كنّا نتبع السؤال بالسؤال، حاولنا أن نسألهم عن أولئك القوم الذين أخذتهم الصيحة، وهنا كانت المفارقة العجيبة، كان العامة يعلمون تماماً أن قوم نوح قد أهلكوا بالطوفان، وأن قوم فرعون قد أهلكوا بالغرق، وأن ثمود (قوم صالح) قد أهلكوا بالطاغية، وأن عاد (قوم شعيب) قد أهلكوا بالريح العاتية، وأن الله قد أمطر قوم لوط بحجارة من سجيل بعد أن جعل عاليها سافلها، ولكن العامة لا يعلمون من هم القوم الذين أهلكوا بالصيحة.
وكنا نجد الدهشة بادية عند الكثيرين عندما كنا نخبرهم أن جميع الأقوام التي نزل عليها العذاب قد وقعت عليهم الصيحة مصاحبة لذلك العذاب، لذا نستميح السادة العلماء العذر أن نوجه انتباه القارئ الكريم (بعد أربعة عشر قرناً من الزمن) إلى الحقيقة القرآنية التالية:
(1)  لم ينزل على قوم عذاب من ربهم إلاّ واتبعتهم الصيحة، فالأقوام التي هلكت بعذاب مباشر من ربهم هم قوم نوح وقوم صالح وقوم شعيب وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، وأولئك هم الأحزاب:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ (13)                                                                          ص
فبالرغم أن عذاب الله كان يختلف في كل قوم إلا أن العذاب المشترك الذي نزل بهم جميعاً هي الصيحة، فقوم نوح مثلاً قد هلكوا بالطوفان لكن مع ذلك فقد أخذتهم الصيحة، وهكذا حصل مع قوم لوط وثمود ومدين وأصحاب الأيكة وقوم فرعون. ولو تدبّرنا الآيات القرآنية السابقة نفسها ولكن في سياقها الأوسع لوجدنا أن الصيحة كانت من نصيبهم جميعاً:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)                                                                     ص
ولنستعرض السياقات القرآنية الخاصة بكل قوم من هذه الأقوام:
(1)  قوم نوح تأخذهم الصيحة:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
(2)  قوم لوط تأخذهم الصيحة:
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
أصحاب الحجر تأخذهم الصيحة
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
قوم صالح (ثمود) تأخذهم الصيحة:
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
قوم شعيب تأخذهم الصيحة:
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
قوم فرعون أخذتهم الصيحة بالضبط كما جاء على لسان الرجل الذي يكتم إيمانه "ذو الكفل":
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)

كيف تحصل الصيحة؟
افتراءات من عند أنفسنا
1.     الصيحة تحدث في الصباح الباكر (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ)، فلقد أُمر لوط أن يأخذ أهله ويخرج من المدينة بقطع من الليل لأن العذاب واقع على القوم في الصباح الباكر (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)، وكذلك أمر الله موسى أن يسر بعباد الله في الليل (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)
2.     الصيحة تحدث بعد أن يخلي المؤمنون المكان ويتجهوا من الغرب إلى الشرق. فلقد هرب لوط من المدينة متجهاً نحو الشرق (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)، وكذلك خرج موسى ومن معه من المؤمنين باتجاه الشرق (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ).
3.     الصيحة هي عذاب بالنظر يلحق العذاب الذي حلّ بديار القوم:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
          مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ                      يس (49)

الدليل
يأتي دليلنا على أنّ الصيحة هي عذاب يقع بالنظر في أكثر من موضع نذكر منها:
1.     التلازم بين الصيحة وفعل النظر:
وَمَا يَنْظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ                      يس (49)
2.     قصة عذاب امرأة لوط تؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك بأن العذاب بالصيحة هو عذاب بالنظر، ولكن كيف؟
نحن نحتاج أن نراجع كيف وقع العذاب على المرأة ربما لنفهم ماهية العذاب بالصيحة.

أما بعد،
يؤمر لوط بأن يسر بأهله بقطع من الليل وأن يتبع لوط بنفسه أدبارهم:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
 ويؤمر كذلك بأن لا يلتفت أحد منهم إلا امرأته، أليس كذلك؟
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

سؤالنا: كيف وقع العذاب على المرأة وهي هاربة مع لوط وقد كانت أمامه ولم تكن وراءه (لأنه هو من كان متّبعاً أدبار أهله جميعاً (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
جوابنا: عندما التفتت المرأة (لأنها هي الوحيدة التي نظرت خلفها لترى ما حل بالقوم من وراءهم) وقع عليها العذاب.
سؤال: كيف وقع عليها عذاب من ربها، وهي بصحبة الرجل (لوط) وأهله؟ ألم يعذب الله قوم لوط بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل بعد أن جعل عاليها سافلها؟
          فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ     هود (82)
          فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
ألم يكن لوط وأهله إذاً خارج نطاق المنطقة  (القرية) التي وقع عليها العذاب؟ فكيف إذاً تخطفها العذاب؟
جواب: لم يكن العذاب الرئيس الذي حل بالقوم (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) نفسه سيصيبها لأنها لم تكن حينئذ متواجدة بينهم. لذا كان لابد من أن يصيبها عذاب من نوع آخر، ونحن نظن أن العذاب الذي أصبها قد وقع لحظة أن التفتت لتنظر ما حل بالقوم من بعدهم، إنها الصيحة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ).
نتيجة: لقد تخطفتها الصيحة عندما التفتت وراءها.
سؤال: لماذا أمر الله لوطاً بأن لا يلتفت وأهله وراءهم؟
رأينا: لأنّ عذاب القوم سيكون متبوعاً بالصيحة التي ستتخطف كل من ينظر ليرى ما حل بالقوم.
ويمكننا بالمنطق نفسه أن نفهم كيف وقع العذاب على من بقي من قوم فرعون خاصة الذين لم يكونوا معه لحظة أن غشيهم اليم.
أما بعد،
يُؤمر موسى بأن يسر ببني إسرائيل في الليل، فتبعهم فرعون وجنوده، فيأخذهم العذاب باليم (الغرق)، أليس كذلك؟ لكن مما لا شك فيه عندنا أن العذاب لم يكن فقط من نصيب فرعون وجنوده غرقاً باليم، ولكننا نعتقد جازمين أن العذاب قد وقع أيضاً على من بقي من قوم فرعون في ديارهم ولم يلحقوا بموسى، فلا أخال أن جميع قوم فرعون قد لحقوا بموسى ومن معه، لذا فإننا نعتقد – كما ذكرنا سابقاً- أن الغرق كان فقط من نصيب فرعون وجنوده، ولكن كان هناك عذاب من نوع آخر قد حل بقوم فرعون من بعده، فكيف وقع عليهم عذاب من ربهم وهم لم يخرجوا جميعاً مع فرعون وجنوده إلى اليم؟
جوابنا: لقد أخذتهم الصيحة (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)

وكان هذا – في نظرنا- ما حلّ بكل الأقوام التي وقع عليهم عذاب من ربهم، وهم قوم نوح وقوم صالح (ثمود) وقوم شعيب (مدين) وقوم لوط وأصحاب الأيكة وكذلك قوم فرعون.
نتيجة مفتراة: لم يقع عذاب من الله على قوم إلا وأُتبع ذلك العذاب بالصيحة.
سؤال: لماذا؟
جواب: لا شك أن العذاب عندما كان ينزل على قوم من الأقوام كان يحيق بهم في قريتهم (أي في منطقة جغرافية محددة)، أليس كذلك؟ وهنا يطرح السؤال التالي: ماذا كان مصير من كان من قوم ذلك النبي الذين وقع عليهم العذاب ولم يكن متواجداً في تلك اللحظة في المنطقة التي وقع عليها العذاب كامرأة لوط مثلاً؟ ألم تكن امرأة لوط متواجدة لحظة أن حل العذاب بقومها في غير المكان الذي أصابه العذاب؟
جواب من عندنا: إننا نظن أن الصيحة كانت تحصل ليحيق عذاب الله بالقوم أجمعين حتى وإن لم يكونوا متواجدين في موقع العذاب نفسه، فالعذاب وقع على قرية لوط، لكن ما مصير من كان من قوم لوط (كامرأته) وهي ليست في موطن العذاب؟
جواب: الصيحة
سؤال: وماذا كان سيحل بقوم فرعون الذين لم يكونوا في موطن عذاب القوم (أي لم يكونوا متواجدين مع فرعون في ذلك الوقت ليهلكوا بالغرق)؟
جواب: الصيحة
سؤال: وماذا كان سيحل بمن كان من قوم نوح ولم يكن متواجد في مكان الطوفان؟
جواب: الصيحة.
افتراء من عند أنفسنا: لو تدبرنا الأقوام التي حلّ بها العذاب جميعاً لوجدنا أن الأمر الإلهي قد جاء لنبيه بأن يغادر المنطقة التي سيحل بها العذاب، فلقد ركب نوح ومن آمن معه السفينة، وأُمر شعيب أن يترك المنطقة، وكذلك أمر صالح، وجاء الأمر الإلهي للوط بالرحيل، وأخذ موسى من آمن معه وخرج من منطقة العذاب.
سؤال: لماذا كان يؤمر الرسول بمغادرة مكان العذاب مع من آمن معه؟
جواب: لأن العذاب سيحل بالمنطقة التي يقطنها القوم
سؤال: وماذا لو كان هناك من القوم من هو خارج المنطقة؟
جواب: لن ينجو من العقاب الرباني.
سؤال: ولكن كيف؟
جواب: بالنظر (الصيحة)، فلا شك أن من آمن مع الرسول أمر بأن لا ينظر إلى موطن العذاب كما حصل مع لوط لأن الصيحة ستأخذ كل من ينظر إليها
سؤال: متى كان يحصل العذاب وتتبعه الصيحة؟
جواب: لو تدبرنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن عذاب هذه الأقوام جميعاً لوجدنا أن "موعدهم الصبح" فالعذاب كان يحدث مع بزوغ الفجر (الصبح)، فالله كان يأمر القوم بالرحيل باتجاه الشرق، إي باتجاه بزوغ الشمس، وعندما كانت تحصل الصيحة كانت تحصل من وراءهم (فهم مأمورون بأن لا يلتفتوا وراءهم)، عندها تحدث الصيحة من الجهة المعاكسة للجهة التي ينظر إليها القوم المؤمنون، فالشمس تظهر من الشرق والمؤمنون من العباد متجهين ناظرين إلى الشمس، ولكن الكافرين لا محالة ناظرين إلى ما يخرج عليهم من الغرب (إنها الصيحة)، وبذلك يغيب الباطل ليبقى الحق مشرقاً ولو كره الكافرون.
(وسنتناول هذا الموضوع بالتفصيل في مقالات لاحقة إن أذن الله لنا بشيء من علمه)

عودة على بدء
لقد خرجنا طويلاً عن الموضوع الرئيس وكان ذلك الخروج لهدف إثبات الصحبة بين ثلاثة من رسل الله كما جاء في الآية الكريمة التالي:
          وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وجهدنا لإثبات زعمنا أن هؤلاء الرسل الثلاثة على وجه التحديد هم من نعتهم الله بأنهم من الصابرين، وزعمنا الظن أن السبب في ذلك يتمثل في أنهم الرسل الذين تعرضوا لتجربة القتل من قبل أقربائهم، فإسماعيل كاد أن يقتل على يد والده، وقتل إدريس على يد أخيه إسرائيل وقتل ذو الكفل على يد "ابن عمه"[3] فرعون، ولو تدبرنا الترتيب الذي ورد في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنه ليس بترتيب زماني وذلك لأن إدريس بكل تأكيد كان سابقاً لإسماعيل ولذي الكفل، ولكن الترتيب جاء في نظرنا بناء على موضوع حديث الآية وهو الصبر، فلقد جاء الترتيب حسب شدة الصبر، فلقد كان أصبرهم هو إسماعيل ثم إدريس وثم ذو الكفل، وذلك لأنّ درجة الصبر في رأينا مرتبطة بصلة القرابة مع القاتل، فأشدها أن يقتل الأب أبنه وكان ذلك من نصيب إسماعيل، ثم يأتي قتل الأخ أخيه وكان ذلك من نصيب إدريس وأخيراً أن يقتل الرجل على يد واحد من أقرباءه وكان ذلك من نصيب ذي الكفل.



عودة على بدء على بدء
أما موضوع الحديث الرئيس قبل هذا فقد كان منصباً على إثبات زعمنا أن إدريس هو أخ إسرائيل وهما الاثنان ابني آدم الذين جاء ذكرهم في كتاب الله، لكن يبقى السؤال مفتوحاً للنقاش على النحو التالي: هل هناك أدلة أخرى تثبت ظننا في أن إدريس هو نفسه ابن آدم المقتول؟
جواب: هناك دليل آخر سأحاول أن أقدمه هنا على عجل لأننا سنحاول – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- أن نفرد له مقالة منفصلة وهو موضوع الأسماء، أو اختيار الاسم للأبناء من قبل الآباء، فعندما يرزق أحدنا بمولد جديد يبدأ البحث له عن اسم يظن أنه يناسبه، وربما يبدأ هذه العملية من قبل أن يولد الطفل، فكثير من الناس يختارون اسم لذريتهم حتى قبل أن يرزقون بها، وما يهمنا هنا هو آلية اختيار الاسم، فلماذا يختار كل منا اسم لمولوده يظن أنه يناسبه؟
جواب: قلما يتجادل الناس في أن الأسماء غالباً ما تشتق من الثقافة نفسها، فالعرب خاصة المسلمين منهم تكثر بينهم أسماء مثل محمد وأحمد ومحمود وعبدالله وعبد الكريم، وعبد.. وعبد... الخ. وكما لهذه الثقافة طريقتها في كثير من أسماء أبناءها، هناك لكل ثقافة طريقتها التي تمثل الصبغة الغالبة على أسمائهم، فلو سمعت اسم ينتهي بمقطع مثل آوف، لربما فهمت أنه قادم من أرض روسيا الباردة، ولو سمعت اسماً ينتهي بمقطع مثل VICH، لربما فهمت أنه قادم من أرض الصرب، وكذا هي الحال بالنسبة لأهل الصين أو الهند وغيرها. فلا شك أن الناس يتخذون أسماء لهم ولذريتهم لتعكس في غالب الأمر الثقافة التي ينتمون لها.
ولو حاولنا إسقاط مثل هذا التصور (الذي لا شك هو خاطئ في كثير من جوانبه) على النص القرآني (الذي هو مطلق الحقيقة والثبات) لربما استوقفتنا أسماء كثيرة مثل هاروت وماروت على سبيل المثال، لنطرح عندها السؤال التالي: كيف يمكن أن يساعدنا تصورنا السابق في فهم الثقافة (ولنقل الأمة) التي جاء منها هاروت وماروت، مثلاً؟
جواب: لا أظن أن تسمية هاروت وماروت قد جاءت مصادفة، فلو حاولنا تدبّر القرآن الكريم لوجدنا أسماء مثل جالوت وطالوت، ولا أظن أن الوزن الموسيقي أو التقطيع العروضي الذي يجمع هذه الأسماء الأربعة مجتمعة (جالوت، طالوت، هاروت، ماروت) قد جاء مصادفة، فهاروت وماروت لا شك لهم علاقة كبيرة جداً بالأمة التي جاء فيها جالوت وطالوت (وسندخل في تفاصيل هذه الجزئية لاحقاً في مقالة مستقلة بحول الله وتوفيقه).
والآن لنسأل عن الأسماء إسرائيل وإدريس (إن صدق ظننا أنهم ابني آدم)، فمن أين جاءت أسماءهم هذه؟ أو لنقل "كيف اختار آدم الأب (وربما بتدخل من حواء الأم) هذه الأسماء لولديه"؟
جواب مفترى: لا شك أن آدم لن يخترع أسماء لا علاقة لها بخبرته السابقة، فهو بلا شك سيحاول أن يختار الاسم الذي يظن انه يناسب ولديه، ولا يخرجه عن نطاق الثقافة (ولنقل العقيدة) التي يحملها. لذا نحن نفتري الظن أن هناك في حياة آدم السابقة ما يمكن أن يساعده على اختيار الأسماء لكل مولود له. فها هو يختار –حسب زعمنا بالطبع- لأحد أبناءه أسم إدريس ويختار للآخر اسم إسرائيل، ولكن لماذا؟
لو حاولنا الاستفادة من الوزن العروضي للاسم لربما وجدنا أن اسم إدريس يوازي بالضبط أسم إبليس
          إدريس            ::        إبليس
بينما يقع التوازن في إسرائيل مع جبرائيل وميكائيل
          إسرائيل           ::        جبرائيل، ميكائيل
سؤال: ما الذي تقوله يا رجل؟ أيعقل أن يسمي آدم أحد أولاده اسماً يشبه اسم إبليس الذي كان للتو قد أخرجه وزوجه من الجنة؟ أيعقل أن يأتم آدم بإبليس مرة أخرى؟
جوابنا: كلا، لقد اختار آدم اسماً لولده يواز اسم إدريس في اللفظ لكنه – كما سنرى لاحقاً- يعاكسه تماماً في المعنى. وهذا ما نتعرض له بحول الله وتوفيقه في مقالات منفصلة حول موضوع الأسماء التي علمها الله لآدم يوم أن خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة بعد ذلك. لكن يكفينا البوح هنا بأن آدم سيختار لابنه الاسم الذي يعارض في معناه ما يميز إبليس في رفضه للأمر الإلهي وهو الاستكبار، ففي حين أن الاستكبار قد كان بكل تأكيد جزءاً لا ينفصل عن شخص إبليس، أراد آدم أن يكون التواضع جزءاً لا ينفصل عن شخصية مولوده الجديد، ولنتدبر قول الرجل عندما أقدم أخوه على قتله:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ                                                                          المائدة (29)

عودة على بدء على بدء على بدء
من هم بنو إسرائيل إذاً؟
لما كان إدريس هو المقتول من بين ابني آدم، ولما كان إسرائيل هو القاتل أصبحت البشرية جميعاً تنحدر من سلالة رجل واحد للمرة الثانية، فكما انحدرت البشرية من ذرية آدم الأب أصبحوا يعرفون جميعاً ببني آدم، انحدرت البشرية جميعاً من ذرية ولد آدم القاتل وهو إسرائيل فأصبحوا يعرفون ببني إسرائيل.
نتيجة مفتراة: كل البشرية هم بنو إسرائيل لأنهم انحدروا من ذرية إسرائيل ولد آدم الذي قتل أخاه إدريس
سؤال: ما علاقة "بنو إسرائيل" (قوم موسى) مع بني إسرائيل (البشرية جميعاً)؟
رأينا: اختار إبراهيم – كما ذكرنا- سابقاً لجميع ذريته أسم المسلمون:
وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
عندما اختار إبراهيم التسمية لذريته جميعاً (إسماعيل وإسحق) على أنهم مسلمين في ديانتهم لم يتطرق لموضوع عرقهم لأن إبراهيم – في نظرنا- يعلم أنهم جميعاً من ذرية إسرائيل، فتقبل أبناء إبراهيم تلك التسمية، فنعت إسحق ويعقوب ويوسف أنفسهم على أنهم مسلمون:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
وكان الإسلام هو دين كل رسل الله وأنبياءه:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وذلك لأن الله اختط في اللوح المحفوظ أن الدين عنده هو الإسلام:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ولكن لو دققنا النظر في هذه الآية الكريمة ملياً لربما استطعنا الإجابة على سؤالنا السابق بخصوص تسمية قوم من الناس (أصحاب موسى مثلاً ببني إسرائيل على وجه التحديد بالرغم أن البشرية جميعاً هي بني إسرائيل)، والملاحظة تكمن عند عبارة "اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ"، ولكن كيف؟
لا شك عندنا أن الرسالة من بعد إبراهيم قد انتقلت إلى بيت إسحق (وليس إلى بيت إبراهيم):
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
ولا شك عندنا كذلك أنه في الوقت الذي انقطعت فيه النبوة من بيت إسماعيل استمرت في بيت إسحق وذلك عن طريق يعقوب ويوسف من بعده، وكان ذلك الفرع من البيت هم من ورثوا الكتاب:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ                                            الأعراف (169)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ                  الشورى (14)
ولكن المفارقة العجيبة أن من يرثوا الكتاب فقد ورثوا العلم، وكان ذلك العلم هو سبب الاختلاف الذي وقع بينهم، وكان ذلك الاختلاف (الذي نجم عن العلم بما في الكتاب) هو سبب الفرقة بينهم:
          وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
ولقد كان من أهم أوجه الاختلاف بينهم خاصاً في الدين. لذا فقد اختلفوا في تسمية أنفسهم بالمسلمين، ففي حين تقبلها من استمر على نهج يوسف رفضها من ترك ذلك النهج القويم:
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: اختلف أهل الكتاب في تسمية أنفسهم بالمسلمين، لذا ترك كثير منهم تلك التسمية الخاصة بالعقيدة ورجعوا إلى التسمية الخاصة بالعرق، فآثروا أن يسموا أنفسهم مرة أخرى بالاسم القديم وهو "بنو إسرائيل"، فأصبحوا هم من يعرف من دون شعوب الأرض جميعاً بالتسمية الخاصة بالعرق. ولقد كانت رسالة موسى – في رأينا- موجهة أصلاً إلى بني إسرائيل ليعودوا إلى التسمية الدينية التي اختلفوا فيها قبل أن يأتيهم موسى برسالة من ربهم:
          وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
لكن بالمقابل، لمّا لم تستمر الرسالة في فرع إسماعيل، لم يرث القوم العلم الذي في الكتاب ولم يكن كذلك سبباً في الفرقة بينهم، لذا فقد استمروا في قبول التسمية التي سماها إياهم جدهم إبراهيم، ولم يضطروا للعودة إلى التسمية الخاصة بالعرق. فبقينا نحن ننعت أنفسنا بالتسمية الدينية "المسلمون" ولم نعط كثير انتباه للتسمية الخاصة بالعرق "بني إسرائيل" بالرغم أننا فعلاً من سلالة إسرائيل. فحتى فرعون نفسه يميز بين التسمية الدينية (المسلمون) والتسمية العرقية (بني إسرائيل):
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
لكن هذه التخريصات التي لا شك هي من عند أنفسنا تقودنا إلى طرح التساؤل التالي:
لماذا استمرت الرسالة (وعلم الكتاب) في فرع إسحق لكنه انقطع من فرع إسماعيل؟

هذا لا شك سؤال كبير وكبير جداً وهو ما سنحاول أن نتطرق له – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه.
ونترك القارئ الكريم ليتدبر الآية الكريمة التالية لنطرح بعدها بعض التساؤلات:
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)
تساؤلات:
ألم يكن إدريس سابقاً لنوح وإبراهيم وغيره من الأنبياء؟
لم لا نجد أن القرآن يتحدث عن ذرية إدريس؟
لم جاء ترتيب الذرية على نحو ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم وأخيراً ذرية إسرائيل؟

دعاء: أسأل الله أن أعلم منه ما لا تعلمون، وأسأل الله لي ولعلي نفاذ قوله بمشيئته وقضاءه لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيرنا، أن ربنا هو العليم الحكيم.


وللحديث بقية
10 حزيران 2012

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح







[1] سنتطرق إلى قضية التحريم مرة أخرى عند الحديث عن عيسى بن مريم بحول الله وتوفيقه
[2] سنتعرض بالتفصيل لهذه الجزئية عند الحديث عن طفولة موسى لنفتري القول حينها أن ذا الكفل كان سبباً في إيمان امرأة فرعون، وسنحاول تبيان علاقة القرابة بينهما.
[3] سنتعرض في المقالة الخاصة بطفولة موسى عن صلة القرابة بين ذي الكفل وفرعون