مقالة في تفضيل بعض الرسل


مقالة في تفضيل بعض الرسل (النبيين) على بعض مع عدم التفريق بينهم
لقد وردت في كتاب الله فكرة تفضيل بعض النبيين والرسل على بعض وفي الوقت ذاته وردت الدعوة إلى عدم التفريق بينهم، قال تعالى في موضوع التفضيل:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ . البقرة (253)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . الإسراء (55)


أما بخصوص عدم التفريق بينهم، جاء قوله تعالى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . البقرة (136)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. البقرة (285)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. آل عمران (84)
وهدفنا في هذه المقالة هو محاولة تبيان كيفية التفضيل مع عدم التفريق بين النبيين (والرسل)
آدم وعيسى
لقد افترينا الظن في مقالة سابقة لنا أنّ آدم وعيسى عليهما السلام يمثلان النوع الأول من الحياة البشرية وهي التي امتلكت الحكمة، فكانا يستطيعان تنفيذ ما يريدان في الحال ودون الحاجة إلى الوسيلة "السلطان"، وهذا الأمر مثبت في القرآن الكريم في الآية القرآنية التالية:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ    آل عمران 59
دحض الفكر السائد
تحدث العلماء أنّ هذه الآية مثلاً تثبت وجه الشبه بين آدم وعيسى من حيث مادة الخلق وكيفيته، ولكنّ السؤال الذي نطرحه هنا هو: إذا كانت مادة الخلق لآدم ومادة الخلق لعيسى عليه السلام هي التراب، فهل ذلك يختلف عن مادة الخلق لبقية البشر؟ أليست مادة الخلق لجميع البشر هي التراب؟ وإذا كان كذلك فأين وجه الشبه بين آدم وعيسى الذي يجعلهما يختلفان عن غيرهم؟!
وهنا قد يرد البعض بأنّ وجه الشبه هي طريقة الخلق. فنقول متسائلين: وهل طريقة خلق آدم مثل طريقة خلق عيسى؟ فآدم خُلق من دون أب ولا أم ، وعيسى من أم دون أب ، وبقية البشر من أب و أم، وهذه جميعها طرق مختلفة لا تثبت وجه الشبه. ويكفي أنْ نذكر هنا أنّ عيسى قد خلق في رحم امرأة كانت تأكل الطعام، بينما لم ينزل آدم عليه السلام من رحم امرأة وبذلك ينتفي تطابق الحالتين، فما وجه الشبه بين أدم وعيسى إذاً؟
رأينا: نحن نفترض في أطار هذا البحث أنّ الآية القرآنية واضحة جداً في إثبات وجه الشبة بين آدم وعيسى عليهما السلام، ولكن كيف؟
جواب: نقول أولاً أنّ الآية الكريمة تتحدث أصلاً عن عيسى بن مريم وما جاء الحديث عن آدم إلاّ في معرض الحديث عن عيسى، فتدبر - عزيزي القارئ- الآية الكريمة مرة أخرى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ    آل عمران 59
والدليل – لدينا- على ذلك يكمن ضمير الغائب المستخدم في الآية الكريمة عندما قال تعالى في الآية نفسها "خَلَقَهُ" ولم يقل "خلقهم أو خلقهما" مثلا)، فالحديث جار عن شخص واحد وهو عيسى بن مريم، ولذلك جاء الجزء الأول المكمل للآية ليثبت آدمية عيسى،  وهو ما سبق في علم الله أنّ كثيراً من الناس سـ يسيئوا فهمه، فكم من الناس نسبوا الأولوهية لعيسى بن مريم بسب طريقة خلقه؟ فجاء التأكيد من الله سبحانه أولاً وقبل كل شيء أنّ عيسى بن مريم كغيره من البشر خُلق من تراب وإن اختلفت طريقة الخلق ( فقال "خلقه من تراب") وهذا معنى الآدمية، أي أنْ تكون مخلوقاً من تراب. لذا يبقى السؤال قائماً: ما هو الشيء المميز لعيسى وآدم ويجعلهما مختلفان عن بقية الخلق؟
رأينا: أمّا الشيء المميز لآدم وعيسى من جهة وكافة الخلق من جهة أخرى فنظن أنه موجود في الشق الثاني من الآية الكريمة نفسها وهي  قوله تعلى (ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). ولكن ما الذي تعنيه هذه العبارة بالنسبة لهم؟ افتراء من عند أنفسنا: إنّنا نقرأ هذه  العبارة على النحو التالي: إنّ الشيء المميز لآدم وعيسى أنْ الله سبحانه قد اختصهم بالكلمة وهي "كن فيكون"، وهذا يعني –بمنطقنا المفترى- أنهم يستطيعون تحقيق مرادهم بالكلمة، وبذلك فهم قد امتلكوا معرفة العلاقة بين الاسم والمسمى "أي الحكمة"، فهم الوحيدون من دون خلق الله كافة الذين تكلموا اللغة بتعليم مباشر من الله، ففي حين أن كل بشر قد نطق بلغة تعلّمها من قومه إلا آدم وعيس.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
السؤال: من هم قوم آدم أو قوم عيسى بن مريم؟ فهل تعلم آدم لغة قوم؟ وهل تعلم عيسى لغته من أحد؟
فلقد خلق الله آدم وأول ما علمه النطق:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ              البقرة 31
وأنطق الله تعالى عيسى لحظة ولادته فقال تعالى:
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ     آل عمران 46
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
مريم
فلقد كانت تلك نعمة خاصة بعيسى نفسه:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً...     المائدة 110
ويكمل سبحانه وتعالى الآية السابقة ليثبت حصول العلم المصحوب بالحكمة:
... وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ                  المائدة 110
ويثبت سبحانه الحكمة لعيسى عليه السلام في مواطن أخرى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ                    آل عمران 48
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ          الزخرف (63)
ولا ننسى أيضاً أن الله قد قال في كتابه الكريم أن الناس قد خلقوا من ذكر وأنثى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
لذا لابد من طرح التساؤل الكبير التالي: هل آدم وعيسى بن مريم من الناس إذن؟
افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: نحن نتجرأ على البوح بالاعتقاد بأن آدم وعيسى بن مريم لا ينتمون إلى فصيلة الناس، فهم لم يخلقوا من ذكر وأنثى. فمن هم إذاً؟
رأينا: نحن نظن أنهم بشرا:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ص 71-72
لذا نحن نظن أن هذا سببا في أن تأتي المقارنة في كتاب الله بين آدم من جهة وعيسى بن مريم من جهة أخرى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ    آل عمران 59
فنحن لا نجد أن مقارنة قد حصلت بين آدم وشخص آخر سوى المسيح عيسى بن مريم. فلماذا؟
رأينا: إنها اللغة (علم الأسماء) التي تعلماها (آدم وعيسى) مباشرة من الله. وهو ما نسميه في أطار هذا البحث بالحكمة.
وهنا يتبادر السؤال التالي إلى الأذهان: إذا كان آدم وعيسى مثلاً قد امتلكوا الحكمة التي بها يستطيعون تنفيذ ما يريدون، فما الذي يمنعهم أنْ يكونا إذاً إلهين؟
جواب: ألم يأخذ بعض الناس مقدرة عيسى عليه السلام على إحياء الموتى مثلاً كدليل على أولوهيته؟! نقول هنا أنّ هذا بالضبط ما قد أُسيء فهمه. وكذلك ألم يبدأ الشيطان بالوسوسة لآدم من هذا المنظور؟
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ _ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ            الأعراف 20
فآدم عندما تقبل وسوسه الشيطان "لم نجد له عزماً"، أمّا عيسى عليه السلام فلم يتقبل ذلك المنطق بل أصرّ على أنّ معرفته مرتبطة بالمصدر الذي علّمه الحكمة وهو الله سبحانه وتعالى، فجاء قول الله تعالى على لسان عيسى بن مريم:
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ   آل عمران 49
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ          المائدة 110
وكانت النتيجة متفاوتة في الحالتين، فقال الله عند الحديث عن آدم:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)          طه 124-126
أما في حالة عيسى عليه السلام فكانت:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ                آل عمران 55
ونعود هنا لطرح التساؤل نفسه: إذا كان عيسى بن مريم مثلاً يعرف العلاقة الحقيقية بين الاسم والمسمى "أي الحكمة" التي بها يستطيع تنفيذ مراده دون الرجوع إلى الله، فما الذي يمنعه إذاً أنْ يكون إلهاً؟!
رأينا: نقول هنا رداً على أدعياء أولوهية عيسى بن مريم عليه السلام أنّ هذا استنتاج متسرع ذلك لأنّ الله قد أعطى عيسى بن مريم الحكمة غير كاملة، أي أنّه من حيث المبدأ امتلك الحكمة ولكنّه لم يمتلكها كلها، فهو قد أحاط بشيء من علم الله ولكنه لم يحط بعلم الله كله، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:
"... وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"            البقرة (255)
فهو على سبيل المثال قد امتلك الحكمة المسيرة لعلم الطب فيستطيع أن يحيي الموتى بإذن الله، وهو يستطيع أنْ يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون، ولكنّه لم يكن يمتلك الحكمة المسيرة لعلم الهندسة أو علم الفيزياء مثلا، وربما يتساءل القارئ الكريم هنا بالقول: وهل هذا مثبت في القرآن الكريم؟ أي هل هناك دليل من القرآن على أنّ حكمة عيسى عليه السلام لم تكن شاملة لكل شيء؟
جواب: نعم. فعندما طلب مثلاً بنو إسرائيل من عيسى عليه السلام أنْ ينزّل عليهم مائدة من السماء:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ         المائدة 112
فهل استطاع عيسى عليه السلام أنْ ينزّل تلك المائدة دون الرجوع إلى الله؟ وهنا نجد أنّ عيسى بن مريم عليه السلام عاد ليكون في هذا الأمر مثله كمثل الرسل جميعاً يطلب العون من الله بالدعاء، قال تعالى على لسان عيسى بن مريم:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ         المائدة 114
فهذا دليل واضح على أنّ عيسى عليه السلام في هذا الأمر كان أقرب إلى أسلوب موسى عليه السلام الذي قال :
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ    القصص 24
والشاهد في هذا الأمر هو تساؤل بسيط: لماذا كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى دون الرجوع إلى الله بالدعاء، ولكنّه لم يستطيع أنْ يفعل ذلك في تنزيل المائدة من السماء؟
رأينا: كان عيسى بن مريم يملك جانب الحكمة في علم الطب، ولكنه لم يكن يملك الحكمة كلها، فهو بذلك لا يكون إلهاً بل نبي عُلِّم كما عُلِّم آدم من قبل.
دعاء: اللهم إنّي أسألك علماً وحكمةً كعلم عيسى وحكمته
عيسى وموسى
ويتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: لماذا عيسى من دون الرسل جميعاً أعطي القدرة على إحياء الموتى وشفاء الأكمة والأبرص؟ لِمَ لم يكن ذلك لإبراهيم أو لموسى أو حتى لمحمد عليهم صلوات الله جميعاً وسلامه؟
دحض الفكر السائد
تحدّث البعض في هذا المجال بأنّ الناس في تلك الفترة كانوا بارعين في علم الطب، فكان التحدي من جنس الصنعة، ولكنّا نقول هل حقاً كان هو الحال؟ هل كان الطب متقدماً في تلك الفترة لدرجة إحياء الموتى وشفاء الأكمة والأبرص؟ ألا تصلح تلك "المعجزة" (إنْ صح القول) لجميع الأزمنة وكافة العصور؟! فهل لو كان ذلك يجري على أيدي قوم إبراهيم أو موسى ألا تكون بذلك "معجزة" (كما يحب أهل الشريعة أن يسموها)؟ وماذا عن "معجزة" القدرة على الكلام في المهد؟ فهل كان أهل ذلك الزمان يتحدثون بسن أصغر من سابقيهم حتى جاءت معجزة عيسى في الكلام في المهد؟ من يدري!!!
رأينا: نقول إنّ في ذلك تبسيط للمسألة وهروب من الإجابة أو حتى البحث عن الحقيقة، فلا يوجد دليل مادي أو عقائدي يثبت أنّ مجتمع عيسى بن مريم كان بارعاً في علم الطب، بل هي "معجزة" عيسى بحد ذاتها سوءاً كان مجتمعه بارعاً أو غير بارع في ذلك العلم. والسؤال إذاً لماذا أُختص عيسى بذلك دون الرسل كافة؟!
افتراء من عند أنفسنا: نقول وبالله التوفيق أنّ عيسى عليه السلام هو الوحيد من بين الرسل الذي عُلّم كما عُلّم آدم عليه السلام من قبل "معرفة المسميات الحقيقية للأشياء"، وبالتالي فهو قد منح "الحكمة" التي بها ينفذ مراده، قال تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ            آل عمران 48
... وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ...              المائدة 110
وهذا دليل على أنّ عيسى (كباقي الرسل) قد مُنح البينات:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ      إبراهيم (9)
ولكنّه مُنح أكثر من ذلك وهي الحكمة "معرفة العلم وراء تلك البينات":
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ               الزخرف 63
فموسى عليه السلام كان قد جاء بالبينات- العصا- ولكنّه لم يكن يعلم الحكمة وراء ذلك، فمن أجل تحقيق مراده كان لا بد لموسى (وهو الذي لم يُعلّم كما عُلّم عيسى) أنْ يمتلك طريقة مختلفة، والقراءة المتأنية للآيات التي تتحدث عن موسى تبين أنّ موسى عليه السلام كان يعود إلى الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا ما نسميه في إطار هذا البحث "بالفطرة السليمة"، أي الرجوع إلى من يملك الحكمة الكاملة وهو الله سبحانه لتحقق المراد، وبالتالي فإن موسى عليه السلام يستخدم الفطرة "ربط الأشياء بأصلها الإيماني الاعتقادي" ليتحقق له ما يريد, والقراءة المتأنية لسورة القصص مثلاً تبيّن أنّ موسى عليه السلام كان يستخدم الفطرة في كل شيء، فهو لا يستطيع تنفيذ مراده بنفسه, قال تعالى في القرآن على لسان موسى:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ..."       القصص 16
"... قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "    القصص 21
"... قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ"    القصص 22
"... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ"    القصص 24
وبالرغم أنّ موسى عليه السلام كان بيده "العصا" لحظة أنْ كاد فرعون وجنوده أنْ يدركهم عند اليم، فلم يضرب موسى البحر بالعصا مباشرة، بل رجع إلى الله ليقول له اضرب بعصاك البحر، قال تعالى:
" فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)       الشعراء 61-63
وبالرغم من تكرار هذه الحادثة عندما استسقى لقومه، إلا أنّ موسى لم يكن يعرف القوة العجيبة التي أودعها الله سبحانه في تلك العصا، قال تعالى:
"وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً..."          البقرة 60
فكان جل ما يعرفه موسى هو إيمان بأنّ الله سيهديه, ولكنّه لم يكن يعرف أنّ العصا التي كان يملكها قد تفعل له ذلك، والجواب بكل يسر وسهولة أنّ موسى كان يملك البينات- العصا- وهي ما قد يكون المقصود بالآية التي تتحدث عن سلطان موسى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ  غافر (23)
فبالرغم من امتلاكه السلطان، لم يكن يعرف الحكمة منها. وليس أدل على إيمان موسى بالفطرة (مع عدم امتلاكه الحكمة) من قصته مع ذلك الرجل الذي أحب أهل العلم والدراية أن يسمه بـ "الخضر" التي سيرد ذكرها لاحقا. ونخلص إلى نتيجة مفادها أنّ كلاّ من موسى وعيسى قد أعطيا "علما"، ولكن في حين أنّ علم موسى كان مرتبطا بالفطرة كان علم عيسى مرتبطا بالحكمة. قال تعالى:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ البقرة (253)
دعاء: اللهم إني أسألك فطرةً وسلطاناً كفطرة موسى وسلطانه
موسى ونوح وإبراهيم
نحن نعرف أنّ الله تعالى قد أجاب مراد موسى الذي يمتلك الفطرة السليمة بالإيجاب، فغفر له، ونجاه من فرعون وملئه، وهداه إلى طريق مدين، وجاءته إحداهما تدعوه إلى بيت أبيها ليجزيه أجر ما صنع لهما، وأغرق الله فرعون ومن معه، وشرب قوم موسى كل من عين الماء التي خصصت لهم.
والقاري المتأني يلحظ أمراً دقيقاً وهو أنّ إجابة مراد موسى كانت في الحال، وهذا دليل على أنّ الذي لا يملك الحكمة لا بدّ له من الرجوع إلى من يعرف الحكمة ليحقق له مراده، فكان رجوع موسى إلى الله في كل أمر خير دليل على ذلك، ولا يورد القرآن الكريم أي موقف رد الله فيه طلباً لموسى عليه السلام (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان صلاة الاستسقاء).
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحقق الله تعالى مراد نوح عليه السلام في ابنه؟! ولماذا لم يحقق الله تعالى لإبراهيم مراده في والده؟!! ونقول بكلمات أخرى، إذا كان الرجوع إلى من يملك الحكمة (وهو الله سبحانه) يحقق المراد، فلماذا لم يتحقق مراد نوح في ابنه على الرغم من أنّه نبي مثل موسى فقد عاد إلى الله في ذلك كما كان يفعل موسى على الدوام؟! والمنطق نفسه ينطبق في قصة إبراهيم مع أبيه. وقد يتسرع القارئ ليقول أنّ هذا التساؤل ينقض من حيث المبدأ الافتراض السابق برمته.
رأينا: نقول وبالله التوفيق رداً على ذلك ما يلي: أنّ نوحاً ليس كعيسى، فلم يكن يملك الحكمة التي بها يستطيع هداية ابنه دون الرجوع إلى الله، فهو إذاً كموسى لا يملك الحكمة ولكنه يملك  الفطرة السليمة "ربط الأشياء بأصلها الإيماني الاعتقادي"،  فكان إذاً بحاجة أنْ يرجع بالدعاء إلى الله ليحقق له مراده، ولكن يبقى السؤال الحتمي وهو: لماذا لم يُستجاب مراد نوح في ابنه؟
إنّ القارئ المتأني ربما يلحظ أمراً (نظن أنه) غايةً في الدقة والروعة في القرآن الكريم ملخصه أنّ نوحاً عليه السلام عندما عاد إلى الله في ابنه لم يعد إليه كما عاد موسى بالدعاء والرجاء (أي بالفطرة)، بل عاد إليه بالحوار، فالقراءة المتأنية للآية القرآنية تشير أنّ نوحاً لم يدعو الله أنْ ينجّي له ابنه، بل سرد السبب الذي (حسب ظنه) يجب أنْ يتخلص ابنه من الغرق:
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ...     هود 45
فقد أخطى من ظن أنّ ذلك دعاء من نوح لنجاة ابنه من الغرق، لذا جاء الرد الإلهي المناسب للحال، فكان الرد الإلهي المباشر أنّك مخطئ يا نوح في استنتاجك:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ"         هود 46
فالله – لا شك- يرد على السؤال كما يجب أن يكون الرد، فلا يمكن أن يقبل الله رجاء نوح في ابنه إذا كان سؤال نوح نفسه لا يحمل معنى الرجاء، فالرد – لا شك- من جنس الطلب. ونحن نكاد نجزم هنا أنّه لو جاء طلب نوح على صيغة دعاء بأنّه لا حول له ولا قوة، وأنّ الله هو الذي يملك القدرة على هداية ابن نوح، وأنّ نوحاً يطلب ذلك من ربه مباشرة، لكان الجواب الإلهي - في ظننا- إيجابي, ولكن سبق في علم الله الأزلي أنّ نوحاً لن يتوجه إلى الله بالدعاء فكان ابنه من المغرقين. والقارئ مدعو ليعقد هنا مقارنة في هذا السياق بين نداء نوح ربه من جهة كما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ...    هود 45
ونداء أيوب ويونس وزكريا من جهة أخرى:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الأنبياء 83
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الأنبياء 87
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ    الأنبياء 89
ففي حين أن دعوة أيوب وذا النون وزكريا تبعتها الاستجابة الفورية:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ          الأنبياء 84
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ         الأنبياء 88
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ         الأنبياء 90
لم تحصل مثل هذه الاستجابة في حالة نوح عليه السلام، ونحن نرى أنّ مثال نوح هنا هو مثال الملائكة الذين توجهوا إلى الله بالحوار عندما أخبرهم بأنّه مستخلف غيرهم في الأرض "فقالوا" محاورين:
... قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ...   البقرة 30
فجاء الرد الإلهي الفوري:
... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ              البقرة 30
فالملائكة إذاً لم يتوجهوا إلى الله بأن يجعلهم مستخلفين في الأرض، بل توجهوا إليه بالحوار، فكان في سابق علم الله أنّهم لن يكونوا مستخلفين في الأرض. وخلاصة القول أنّ نوحاً لم يدعو لابنه بالنجاة بل حآجّ ربه في نجاة ابنه، ولقد افترضنا أنّه لو توجه نوح إلى ربه بفطرته بالدعاء لربما استجيب طلبه، والدليل على ذلك أنّ نوحاً عندما توجّه إلى ربه بالدعاء لهلاك قومه، نجد أنّ الله قد استجاب دعاءه في الحال. وفي هذا السياق يسرد القرآن الكريم قصة دعاء نوح على قومه، فقد ذكر الأسباب الموجبة لهلاكهم، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)     نوح 5-7
ولكنّ نوحاً لم يتوقف عند ذلك، بل أردف هذه الحجج بالدعاء إلى الله بهلاكهم:
 وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا                     نوح 26
والملحوظ الدقيق هنا يتلخص أنّ نوحاً طلب من الله تعالى أنْ لا يبقى على الأرض من الكافرين أحداً، فهو بذلك قد شمل ابنه بالهلاك في دعاءه، فهو يعلم يقيناً أنّ ابنه كان من الكافرين:
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ هود 36
وعندما حصل الطوفان وشعر أنّ ابنه هالك لا محالة، ربما تحركت لديه عاطفة الأبوة مع يقينه أنّ ابنه هالك كونه من الكافرين, فكان مراده بنجاة ابنه من منطلق الأبوّة وليس من منطلق النبوّة، فما كان لنوح (وهو النبي المرسل) أنْ يدعو لأحد من الكافرين بالنجاة حتى ولو كان ذلك الشخص هو ابنه، وعندما دعا نوح بالهلاك على الكافرين من قومه، استجاب الله دعاء نبوته، فيكون نوح بذلك هو من دعا على ابنه كونه من الكافرين بالهلاك، ولم يدعو له بالنجاة. والقراءة اللغوية للآيات القرآنية التي تتحدث عن نوح وأهله تشير إلى تفسير أكثر غرابة، فلنورد هذه الآيات وأترك للقارئ فرصة الوصول إلى النتيجة بنفسه خشية تضييع الفكرة الرئيسية والولوج في موضوع فرعي يقحمنا في جدل نحن في غنىً عنه هنا:
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)                  هود 45-46
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) "     الأنبياء 76-77
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ      التحريم 10
والتساؤلات التي نثيرها هنا ونترك للقارئ حرية الإجابة عليها تتلخص بما يلي:
  1. لماذا اختار نوح أنْ يخاطب ربه بهذا السبب " فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي
  2. هل نفهم رد رب العالمين بالقول " قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ"  على المجاز أم على الحقيقة؟
  3. ماذا يعني قول رب العالمين "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
  4. ما هي ماهية خيانة زوجة نوح؟
  5. ما علاقة " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" ب "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
  6. ما علاقة " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" و "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ" بخيانة زوجة نوح؟
  7. كيف يمكن ربط ذلك كله بقوله تعالى "وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ"؟ أي كيف يقول رب العالمين أنّ نوحا قد نجا وأهله "فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ" في حين أننا نعلم أن ابنه قد هلك؟
إنْ صحّ طرح هذه الأسئلة فإنّ نوحاً كان يريد التأكد من شك يخالج نفسه وليس الدعاء لابنه بالنجاة، ومصداق ذلك قوله تعالى مخاطباً نوحاً:
"... فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود 46
ولعلنا هنا بحاجة أنْ نلفت انتباه القارئ الكريم إلى قراءة النص التالي كاملاً ليحاول فهم الآية السابقة في سياقها الأوسع:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) التحريم 10-12
فالسؤال المطروح هو: ما دام أنّ آيات القرآن الكريم مترابطة وتعكس وحدة الموضوع (thematisation) فَلِمَ تُذكر مريم بنت عمران مع هؤلاء النسوة على وجه الخصوص؟ فقد يرد البعض بالقول أنّ الله يعطي مثال المرأة المسلمة مقارنة مع مثال المرأة الكافرة، فنقول نعم، ولكن ألا تتم الموازنة بذكر امرأة فرعون وينتهي الأمر؟ فنحن نعرف أنّ القرآن الكريم عندما أعطى مثال امرأة نوح وامرأة لوط وقابلهما بمثال امرأة فرعون كان يتحدث عن نساء متزوجات، ولهذا ربما لم يدمج مثال امرأة فرعون مع مريم بنت عمران في آية واحدة، فتلك امرأة متزوجة وهذه بنت بِكْرْ (لم يمسسها بشر). وقد يقول قائل وما دخل ذلك بالخيانة وبنسب ابن نوح، فنقول إنّنا بحاجة أنْ نمعن النظر ولو للحظات في الخطاب الذي جاء عن ابنة عمران، فيأتي السؤال المباشر لِمَ جاء ذكر هذه المرأة الطاهرة بأنها "الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا"؟ أي لِمَ اختار الله سبحانه للحديث عن عفة ابنت عمران في هذا السياق على وجه الخصوص؟ فلِمَ لَمْ يتحدث عن صلاحها أو تقواها أو عن كثرة سجودها وركوعها أو عن رغبة القوم كفالتها أو مخاطبة الملائكة وبشراهم لها؟ فلقد ذكرت مريم في أكثر من موضع في القرآن ولكن لم يرد الحديث عن طهرها إلاَ في المواقف التي تلتزم الدفاع عنها وتبرئتها:
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا    النساء 156
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا مريم 27            
والسؤال الذي نعود لنطرحه هنا: لماذا جاء ذكر طهارة مريم من الاتهام الجنسي على وجه الخصوص في معرض الحديث عن امرأت نوح وامرأت لوط وامرأة فرعون؟ إنّ الجواب البسيط يكمن في أنّ مريم ابنة عمران على النقيض تماماً مع امرأت نوح وامرأت لوط ليس فقط في الإيمان والكفر وإنما أيضا في الطهر والخيانة، لذا جاء التناقض غاية في الدقة والروعة، ففي حين أنّ امرأت نوح وامرأت لوط ذكرتا على أنهما اقترفتا الخيانة "فَخَانَتَاهُمَا"، جاء ذكر ابنت عمران على أنّها أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا. ولعل البعض يتصدى لهذا المنطق بالقول: وما دخل امرأة فرعون إذاً بالموضوع؟ نقول أنّ هذا المنطق نفسه ربما يحل المسألة برمتها وذلك عندما نحاول أن نفهم لماذا اختارت امرأة فرعون الموت على الحياة وهي زوجة الحاكم الأول وحياتها رغد وطلبها مجاب. والقرآن الكريم لا يذكر في أي موقف أنّ فرعون قد أساء معاملة امرأته، بل على العكس فقد كان طلبها مجاب في الحال، وليس أدل على ذلك من طلبها الإبقاء على حياة موسى وتبنيه وهو:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ       القصص 9
فلِمَ إذاً تفضل الموت على الحياة وهي السيدة الأولى؟ إنّ إمعان النظر في الآية نفسها يجيب على هذا التساؤل بكل وضوح، فلقد علّلت امرأة فرعون رغبتها في الموت على الحياة لسببين لهما علاقة بزوجها وهما النجاة أولا من فرعون نفسه وثانياً النجاة من عمله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي _ مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ     التحريم 11
فالآية القرآنية لا تبين أنّ امرأة فرعون قد طلبت النجاة من عمل فرعون فقط وإلاَ لجاء الخطاب على نحو "ونجني من عمل فرعون" ولكن جاء الخطاب على نحو " وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ" أولاً و "وَعَمَلِهِ" ثانياً، ويأتي السؤال التالي: لِمَ تطلب امرأة فرعون النجاة من زوجها نفسه ومن ثم النجاة من عمله؟
رأينا: نقول أنّ طلبها النجاة من عمل فرعون أمر جلي من ما كان يعمل الرجل على الملأ، وأما النجاة من فرعون نفسه فهو النجاة مما كان يعمل مع زوجته على وجه الخصوص: إنّها العلاقة الزوجية، وهذا يعني بالضرورة أنّ امرأة فرعون قد فضّلت الموت على الحياة لتنهي بذلك العلاقة الزوجية مع فرعون، فهي إذاً ترفض أنْ تستمر علاقتها الجنسية مع شخص كافر وهي امرأة مؤمنة. وفي هذا درس كبير لنا، فهي كإنسانة مؤمنة لا يمكن أنْ تخون زوجها، ولكن في حالة امرأة فرعون فالزوج كما نعلم كافر، فالخيار بالنسبة لها غاية في الصعوبة: فهي لا تستطيع الخيانة كما فعلت امرأت نوح وامرأت لوط، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع الاستمرار في إقامة علاقة زوجية سليمة مع رجل كافر، فكان خيارها السليم الرجوع إلى الله ليخلصها مما هي فيه من الحيرة، فاختارت الموت على الحياة لأنّه بالنسبة لها الحل الأمثل للخلاص من علاقة مع كافر من جهة ولعدم الرغبة في الوقوع في الخيانة من جهة أخرى. وخلاصة القول أنّ ذكر هؤلاء النسوة في مقارنة في نهاية سورة التحريم كان جله المقارنة بين المؤمن والكافر ليس فقط في الإيمان والكفر وإنما في الإخلاص والخيانة، إنها إخلاص المؤمن وخيانة الكافر (وسنتعرض لهذا الموضوع بالتفصيل لاحقاً بحول الله وتوفيقه).
وللعودة للحديث عن نوح "وابنه" نورد أيضاً ملحوظا غاية في الدقة قد يثبت صحة ما نذهب إليه هنا (أي أنّ نوحاً لم يطلب النجاة لابنه أصلاً) هو التوقيت الذي اختاره لمخاطبة ربه في ابنه، فالقراءة حتى الأولية تبيّن أنّ المخاطبة قد تمت بعد انقضاء الأمر كله، فَلَمْ يخاطب نوح ربّه في ابنه قبل حصول الطوفان على الرغم أنّه استغرق وقتاً في بناء السفينة، وهو كذلك لم يخاطب ربه في ابنه لحظة حصول الطوفان، بل كان الخطاب بعد انقضاء الأمر برمته، ولنقرأ الآيات 44-45 من سورة هود معاً لتوضيح الفكرة:
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                  هود 44
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ                            هود 45
فالسؤال الذي نترك إجابته للقارئ هو: لماذا انتظر نوح كل هذه الفترة لينادي ربه بشان ابنه؟ فهل حقاً من يريد النجاة لابنه ينتظر حتى ينقضي الأمر كله ليناجي ربه بشأنه؟! وما كان الله أنْ يستجيب مراد نوح في ابنه وهو الذي طلب من نبيه أنْ لا يخاطبه أصلاً بالظالمين:
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ           هود 37
فــ ابن نوح كان من المغرقين وهم جميعاً كما يذكر الله كانوا ظالمين:
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                  هود 44
فكيف بنوح أنْ يخاطب ربه بالظالمين؟ وكيف لله أنْ يستجيب طلباً يخص أحداً من الظالمين؟ لا بل وتتأكد قصة الظالمين في الآيات التاليات التي نطلب من القارئ أنْ يقدم هو لنا تأويلاً لما جاء فيها، فلقد قال الله في كتابه على لسان نوح:
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
وسؤالنا هو: كيف بنوح يجزم أنّ الكافرين لا يلدوا "إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا" وابنه هو أول الكافرين وأكثرهم فجورا؟! (للتفصيل أنظر مقالاتنا تحت عنوان كم لبث نوح في قومه؟ وسفينة نوح ونظرية تكون القارات)
*** *** ***
أما في شأن إبراهيم مع أبيه، نقول - بادئ ذي بدء - أنّ القرآن الكريم لا يذكر بأي موضع أنّ إبراهيم عليه السلام قد دعا لأبيه بالنجاة، (أي لم يستخدم فطرته ليطلب الهداية لأبيه) بل جُلّ ما حصل أنّ إبراهيم قد وعد أبيه بالاستغفار له، ولمّا حصل فعلاً أنّ توجه إبراهيم بالدعاء إلى الله الذي يملك الحكمة في الهداية قال:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ إبراهيم 35
وهذا دليل واضح أنّ إبراهيم عليه السلام (وهو النبي المرسل) هو في ذلك مثل نوح عليه السلام لم يكن ليدعو لأحد من الكافرين بالنجاة حتى ولو كان ذلك الشخص هو أبيه:
"... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ التوبة 114
فإبراهيم إذاً لم يتوجه قط إلى الله تعالى بالدعاء بهداية والده، فالذين يظنون أنّ الله لم يتقبل دعاء إبراهيم لأبيه يقعون –برأينا- في الخطأ لأنّ إبراهيم (نحن نفتري القوا) لم يتوجه أصلاً إلى الله بالدعاء لأبيه. وهنا قد يرد البعض بالقول: ولكنّ إبراهيم قد طلب الاستغفار لأبيه، ألا يكفي ذلك لإجابة الدعاء؟ فنرد بالقول أنّه يجب التأكيد أنّ طلب الهداية لشخص ما شي، والاستغفار له شيء آخر. فـ الهداية أمر يخص الحياة الدنيا، أما الاستغفار فهو يخص الآخرة، وهو ليس من شأن البشر. ولذا فإنّ طلب إبراهيم من الله أنْ يغفر لأبيه هو –برأينا- من شأن الله وحده لأنّه أمر يخص الآخرة:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ الشعراء 86
وقد يحتج البعض أنّ هذا دعاء من إبراهيم لأبيه لم يتحقق، فنقول أنّه ليس كذلك، لأنّ هذا دعاء لا يتعلق بالحياة الدنيا، بل بما سيكون عليه أمر الآخرة، وهو ما لا يحق لإبراهيم أو غيره أنْ يبتّ به، لأنّ أمر الآخرة يخص الله وحده، ومجمل القول أنّ الاستغفار من أمر الآخرة وتحقيق المراد به أمر منوط بالله وحده، وقد يتساءل البعض عن الدليل في ذلك، أي كيف يختلف الدعاء بالاستغفار عن الدعاء بالهداية مثلاً؟
رأينا: نقول أنّ الدعاء بالاستغفار هو من أمر الآخرة، أما الدعاء بالهداية فهو من أمر الدنيا. ونحن نعتقد جازمين أنّه لو جاء دعاء إبراهيم لأبيه دعاء بالهداية لاستجيب طلبه، أما ما دام دعاءه يخص الاستغفار له في الآخرة فذاك من شأن الله وحده، وهذا أمر لا ينطبق في حالة إبراهيم وحده بل يخص كآفة الرسل، وما أجمل الدقة والتصوير القرآني في ذلك، ففي حين أننا نعرف أنّ دعاء الأنبياء مستجاب، نجد الله يخاطب محمداً عليه الصلاة والسلام بشأن الاستغفار قائلاً:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ     التوبة 80
سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ        المنافقون (6)
وذلك لأنّ الله سبحانه قد فرض أمراً بهذا الشأن ما كان لأحد أنْ يتجاوزه حتى لو كان نبياً مرسلاً حيت قال:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ التوبة 113 
ومن هنا جاءت الدقة القرآنية في الحديث عن حالة إبراهيم عليه السلام:
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ     التوبة (114)
وقد يتساءل البعض قائلاً: إذا كان الأمر كذلك فلِمَ لَمْ يطلب إبراهيم عليه السلام الهداية لأبيه بدلاً من طلب الاستغفار له؟
رأينا: نقول وبالله التوفيق أنّ ذلك كان نابعاً من طبيعة إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم يختلف في أسلوبه (من باب التفضيل بين الرسل) عن موسى وعن عيسى عليهما السلام، فهو من دون الرسل جميعاً قد غلّب المنطق والحجة، فهو أصلاً قد توصّل إلى الهداية بالمنطق السليم (أي المقدمات التي تفضي إلى النتائج السليمة):
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)      الأنعام 75-79
وقد يتساءل البعض عن علاقة ذلك بدعاء إبراهيم لهداية والده، نقول أنّ إبراهيم قد غلّب الحجة ليس فقط في هداية نفسه بل أيضا في دعوته غيره إلى الله:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ   الأنعام 83
فإبراهيم عليه السلام كان بارعاً في إقامة الحجة على خصمه، وليس أدل على ذلك من قصته مع أصنام قومه:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)         الأنبياء 58-63
أو قصته مع النمرود:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ..." البقرة 258
فتمثلت قوة حجة إبراهيم على قومه:
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ       الأنبياء 64
ولكنّ القوم الذين لا يتقبلوا النتائج السليمة للمقدمات الصحيحة ما كان منهم إلاّ:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ الأنبياء 65
وتمثلت قوة حجة إبراهيم على النمرود:
... فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ البقرة 258
وهذا هو منهج إبراهيم عليه السلام في الدعوة: إقامة الحجة التي أتاه إياها ربُه، وهو بالضبط ما فعله حتى في بحثه عن هداية والده، فحتى قبل أنْ يصل هو بنفسه إلى الهداية كان خطابه مع والده على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ  الأنعام 74
وبعد هدايته إلى خالقه وامتلاكه الحجة الصحيحة التي أتاه الله إياها، جاء خطابه لأبيه على النحو التالي:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)       مريم 41-45
ولكن والده لم يتقبل هذه الحجة، فرد قائلاً:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا            مريم 46
عندها أدرك إبراهيم عليه السلام أنّ الذي لم يهتد بهذه الحجة القويّة، لم يعد أمامه فرصة للهداية في الحياة الدنيا، وما تبقى سوى طلب المغفرة له في الآخرة، فجاء رده على رد أبيه:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا      مريم 47
وأبطن غضبه من موقف أبيه حيث اتخذ قراره باعتزاله:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا                               مريم 48
فإبراهيم لم ينسى أنّ من واجبه تجاه والده حتى وإن لم يكن مؤمنا على نحو:
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ        العنكبوت (8)
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لقمان (15)
فخلاصة القول أنّ إبراهيم عليه السلام لم يستخدم فطرته في الدعاء إلى الله لهداية والده، مثله في ذلك كنوح الذي لم يستخدم فطرته لهداية ولده ومن ثم نجاته من الغرق، ونحن نعيد التأكيد أنّه لو تم استغلال الفطرة التي يمتلكها كل منهما لكانت النتيجة إيجابية في الحالتين، فهذا موسى عليه السلام يلجأ إلى فطرته لهداية أخيه هرون عليه السلام:
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) طه 25-32
فكان الرد الإلهي فوري:
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى طه 36
وهو ما لم يحصل في حالة نوح لابنه أو إبراهيم لأبيه، وهو كذلك لم يحصل في حالة يوسف لإخوته ويعقوب لبنيه:
قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ  يوسف 92
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  يوسف 98
دعاء: اللهم إني أسألك حجة كحجة إبراهيم
اللهم آتني حجتك على قومي كما أتيت إبراهيم حجتك على قومه، وأسألك رب أن تؤتيني رشدي كما آتيت إبراهيم رشده، إنك أنت السميع العليم
وهذا ما نفهمه بالضبط من اختلاف الأسلوب عند الرسل في الإمكانات وفي الدعوة، ففي حين كان علم عيسى مميزاً بالحكمة، كان علم موسى مميزاً بالفطرة وكان علم إبراهيم مميزا بالحجة، وهذا ما نفهمه في قوله تعالى:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ..." البقرة 253
ولذا فإننا نتوجه إلى الله مخلصين الدعاء بالقول:
اللهم نسألك حجة كحجة إبراهيم وفطرة كفطرة موسى وحكمة كحكمة عيسى
خلاصة
نعم إننا نفهم تفضيل الرسل بعضهم على بعض على هذا النحو، فلكل منهجه وأسلوبه الذي ميزه الله به، ولكن يبقى كل منهج بالنسبة لنا مميزا لا نستطيع التفريق بينها لانّ كل منها يوصل إلى الغاية المرجوة:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
البقرة (136)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ البقرة (285)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران (84)
وهنا نخلص إلى نتيجة مفادها أنّ من لا يملك الحكمة يستطيع تحقيق مراده باستخدام الفطرة، ولكنّ القرآن الكريم يورد عدة ملاحظات هامة جداً فيما يخص تحقيق المراد بالفطرة لمن لا يملكون الحكمة، نورد ما استطعنا (بحول الله) أنْ نستقصيه:
أولا: أنّ الدعاء "الفطرة" إلى الله يجب أنْ لا يصاحبه تردد ولا تلكؤ، بل يجب أنْ يكون عن يقين بالإجابة، فمحاورة نوح لربه بهداية ولده، ووعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار يدل على أنّه لم يكن دعاء مباشراً.
ثانياً: أنّ الدعاء المستجاب يجب أنْ يكون على الفور لا يحتمل التأخير أو التسويف، وهنا العبرة مستقاة من دعاء موسى عليه السلام، فكلما كان يجد موسى نفسه في موقف يستوجب العودة إلى الله، يعود على الفور دونما تأجيل أو تسويف. فعندما علم أنّه ظلم نفسه بصرعة الذي هو من عدوه قال:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي... القصص 16
وعندما علم بأن القوم يأتمرون به قال:
... قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ القصص 21
وعندما وجد نفسه تائهاً في الأرض لا يعلم إلى أين يتجه قال:
... قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ القصص 22
وعندما وجد نفسه بحاجة إلى المساعدة حتى المادية كالطعام والشراب من عناء السفر قال:
... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ القصص 24
وعندما وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع فرعون من الخلف والبحر من الأمام وظن قومه أنّهم مدركون لا محالة لم يفقد ثقته بربه فقال في الحال:
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ الشعراء 62
وعندما وجد أنّ القوم قد فتنوا بما كان يملك فرعون وقومه من عطاء الله توجه إلى ربه طالباً:
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ يونس 88
وهذا فرق واضح بين مراد موسى عليه السلام من جهة ومراد نوح في ابنه أو إبراهيم في أبيه من جهة أخرى، ففي حين كان دعاء موسى فورياً، كان مراد نوح وإبراهيم بالدعاء مؤجلاً، وهنا نقول أنّ البعض يخطئ في فهمه للدعاء المستجاب، فلا يجوز للشخص أنْ يثق أولاً بقدراته، ثم إذا ما أن يتبين له ضعفه وقلة حيلته عاد إلى الله، فالله لا يقبل أنْ يكون ثانياً. فالفطرة السليمة تقتضي أنْ يكون الله سبحانه أولاً وقبل كل شيء. فبالرغم من قدرة موسى الجسدية (غير العادية) التي تمكنه (بالمفهوم البشري) من جلب رزقه (طعامه) بنفسه، إلا أنّ ثقته بربه كانت أولاً وقبل كل شيء:
"...فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ القصص 24
ونخلص إلى القول أنّه لو كان مراد نوح وإبراهيم فورياً على شكل طلب ورجاء بلا تلكؤ ولا تشكك كما كان الحال في دعاء موسى لكانت الاستجابة فورية بالقبول، ولكن علم الله الأزلي قضى بأنْ لا يتوجه نوح ولا يتوجه إبراهيم بالدعاء للكافرين بالنجاة، قال تعالى عن نوح عندما علم أنّ لله حكمة أعظم مما كان يظن تراجع في الحال قائلا:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ...         هود 47
وهذا بالضبط ما فعل إبراهيم عليه السلام, فقال تعالى عن إبراهيم في هذا المقام:
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ       التوبة 114
ثالثاً: أنّ الدعاء يجب أنْ لا يصاحبه مجادلة أو محاورة، بل تقبل بقضاء الله على الفور، وهذا فرق واضح بين دعاء موسى ومراد نوح عليه السلام, فعندما علم موسى بخطئه في وكزه لعدوه مثلاً عاد فوراً إلى الله بالاستغفار ولم يحاول المجادلة أو البحث عن السبب الذي دفعه إلى ذلك، فلم يذكر مثلاً أنّ قتله لذلك الرجل كان من منطلق أنّه عدو الله، ولم يحاور الله في ذلك، أي لم يحاول حتى إيجاد المبرر لنفسه، وعندما كاد أنْ يصرع رجلا آخر مرة أخرى توجه إليه ذلك الرجل بالقول:
... قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ   القصص 19
فعندها رجع موسى فوراً إلى رشده وأدرك صحة ما كان قد قاله للرجل الذي من شيعته من ذي قبل:
... قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ القصص 18
أما نوح عليه السلام فكان مراده في ابنه مقروناً بالمحاورة والمجادلة والبحث عن الأسباب وهذا بحد ذاته سبباً كافياً لعدم الاستجابة، وهو في ذلك مثل الملائكة عندما أخبرهم الله تعالى بخلافة الأرض من غيرهم فتوجهوا إليه بالمحاورة وإبداء الأسباب، وهنا نقول أنّ الفطرة التي بها يتحقق المراد يجب أنْ لا يشوبها المجادلة أو المحاورة، بل الانصياع الكامل حتى ولو كان السبب الذي تبديه من حيث المبدأ وجيهاً، فالملائكة مثلاً قدّموا سبباً يبدوا للوهلة الأولى أنّه وجيهاً، ونوح رجل يطلب النجاة لابنه، أليس ذلك سبباً وجيهاً كذلك؟ نقول كلا. فقد أثبت الله تعالى أنّ ذلك ليس سبباً وجيها فقال في حالة الملائكة:
... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ   البقرة 30
وقال في حالة نوح:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...       هود 46
ونستنتج أنّ ذلك لم يكن سبباً وجيهاً على الإطلاق، فكم من سبب بدا للوهلة الأولى أنّه نعمة ثم تبيّن بعد ذلك أنّه نقمة، والعكس صحيح مصداقاً لقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ _ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ        البقرة 216
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا النساء (19)
ولا يعرف ذلك إلا من امتلك الحكمة (وسترد لاحقاً عند الحديث عن قصة موسى مع صاحبه الذي ذهب طالباً صحبته وهو ما يرغب أهل الدراية أن يسموه بـ "الخضر"، فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً)
رابعاً: أنّ استخدام الفطرة في الدعاء لتلبية المراد مستجاب مهما كانت استحالته من وجه نظر البشر، فهو يجب أنْ يصدر عن إيمان يبيّن قدرة الله اللامتناهية، إيمان ملخصه:
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ إبراهيم 20
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ    فاطر 17
أليس إحياء الموتى مثلاً أمر أقرب إلى الاستحالة من المنظور البشري؟ ولكن ألاّ يذكر القرآن الكريم أمثلة على إحياء الموتى؟ ألم يطلب إبراهيم عليه السلام من ربه أنْ يريه كيف يحيى الموتى؟
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي..." البقرة 260
ألم يحقق الله تعالى له مراده بأنْ أراه كيف يحيى الطير مثلاً؟
...  قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
وأي شيء أعظم استحالة من حيث المبدأ من أنْ يطلب موسى عليه السلام أنْ يرى ربه, قال تعالى:
"... قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ..."      الأعراف 143
ألم يحقق له ربه مراده فتجلى للجبل تلبية لمراد موسى، ولكنْ لرأفة الله بموسى لعدم قدرته الفيزيائية (الجسدية) على الرؤية المباشرة طلب الله منه أنْ ينظر إلى الجبل:
"... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا..."      الأعراف 143
وهنا ملحوظ دقيق نود الإشارة إليه، فقد يتسرع البعض بالقول أنّ ذلك خاص بالأنبياء، نقول كلا، فالقرآن الكريم يثبت أنّ ذلك قد يتحقق للبشر العاديين. ألم يطلب بنو إسرائيل مثلاً رؤية الله جهرة؟ ألم يقولوا لموسى عليه السلام كما جاء في القرآن الكريم:
" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ...  البقرة 55
وعندها ألم يلبي الله تعالى هذا الطلب بالتجلي لهم؟ وهنا قد يتسرع القارئ بالقول وكيف ذلك؟ ألم تأخذهم الصاعقة؟
رأينا: قد يظن القارئ للآية القرآنية أنّ الله قد عاقب بني إسرائيل على غرابة طلبهم، فأخذتهم الصاعقة، فنقول أنّ هذه قراءة (ربما) غير متأنية للآية القرآنية الكريمة، فنحن نقرأها هنا أنّ الله تعالى قد استجاب لطلب بني إسرائيل فتجلى لهم على الرغم من غرابة هذا الطلب واستحالته من وجه النظر البشرية، وبرهاننا لذلك يأتي على النحو التالي:
أولا: نود أنْ نسأل القارئ سؤالاً بسيطاً جداً، ما الفرق بين طلب موسى عليه السلام رؤية الله وطلب بني إسرائيل رؤية الله تعالى؟ ألم يطلب بنو إسرائيل ما كان نبيهم موسى عليه السلام قد طلبه من قبل؟ فلِم يقع العذاب والعقاب على بني إسرائيل ولم يقع على موسى عليه السلام؟ إنّ هذا التساؤل يوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ ما طلبه بنو إسرائيل لم يزيد قيد أنمله عما كان نبيهم موسى قد طلبه من قبل.
ثانياً: نسأل القارئ الكريم سؤالاً آخر أبسط من سابقه، ما الذي حصل عندما طلب موسى رؤية الله؟ إنّ القراءة المتأنية لتلك الآية القرآنية تؤكد حصول "الصاعقة وهذا مثبت بقوله تعالى:
"... وَخَرَّ موسَى صَعِقًا...      الأعراف 143
أليس هذا بالضبط ما حصل عندما طلب بنو إسرائيل رؤية الله جهرة؟
".. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ...    البقرة 55
ولكن الفرق الوحيد بين حالة موسى وحالة قومه أنّ موسى لم ينظر إلى الله تعالى عندما تجلى، فقد طلب الله منه أنْ ينظر إلى الجبل لحظة التجلي، فجعل الله الجبل دكاً، ولهذا لم تأخذ موسى تلك الصاعقة بالهلاك لأنّه لم يكن ينظر إلى الله مباشرة، وهذا بالضبط ما فعله موسى عليه السلام عندما تجلى الله تعالى لبني إسرائيل, فنتيجةً لما اكتسبه موسى من خبرة سابقة، لم ينظر إلى الله مباشرة لحظة التجلي لبني إسرائيل، فسلم من الهلاك.
ثالثا: إنّ دقة وروعة الآية القرآنية تزيد عندما يقول الله تعالى عن بني إسرائيل:
"... فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ  البقرة 55
فالسؤال البسيط الذي نترك إجابته للقارئ هو: إلى ماذا كان ينظر بنو إسرائيل عندما أخذتهم الصاعقة؟!
رابعا: إذا كان هلاك بني إسرائيل عقاباً لهم على غرابة طلبهم، فلِمَ يبعثهم الله من بعد موتهم ويجري لهم حياةً رغداً؟!
ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ...(57)                       البقرة 56-57
إنّ الفرق الوحيد بين طلب موسى عليه السلام وطلب قومه يكمن – برأينا- في أنّ طلب موسى جاء من باب الرجاء والإيمان بينما جاء طلب بني إسرائيل من باب التحدي والتشكيك، فكان ذلك هو الظلم الذي ارتكبه بنو إسرائيل. وهنا لا بد من الإيضاح بأنّ بني إسرائيل كانوا عالمين صدق رسالة موسى، وكان العامة منهم مؤمنين بربهم، ولكن جاء طلبهم من باب التأكد والتيقن كما جاء طلب إبراهيم من ربه أنْ يريه كيف يحيي الموتى:
... قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... البقرة 260
فجاء الرد الإلهي على ذلك بالإيجاب:
... قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
وكذلك جاء الرد الإلهي على طلب بني إسرائيل:
...  فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ  البقرة 55
ونحن نقرأ الموقف بكليته على النحو التالي: لقد ثارت شائعة رؤية موسى ربه بين بني إسرائيل، فهناك في كل زمان ومكان من يتصيد في الماء العكر، ويحاول الاستفادة من كل صغيرة وكبيرة لتحقيق مآرب نفسه وهواه كالسامري مثلاً، ومراد القول أنّه عندما وصل الخبر (أي طلب موسى رؤية ربه وتجلي ربه للجبل) أصبح من الطبيعي أنّ تستغل تلك الفئة الخبر بتحريفه وتضخيمه وتشويشه في ذهن العامة حتى ينبري الأخيرون للمطالبة بالتوضيح والبرهان العملي لما قد حدث فعلاً. وهذا ما طلبه العامة من بني إسرائيل من نبيهم موسى عليه السلام (أنْ يريهم الله جهرة). فقد نجح أمثال السامري في التلاعب بأذهان العامة بمنطقهم الذي يبدو في ظاهره سويا ولكن باطنه منطق الذي أخرج آدم من الجنة:
... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)     الأعراف 20-21
ولعقد مقارنة توضيحية لما كان من بني إسرائيل مع نبيهم، فذاك عمرو بن هشام مثلاً ( المستحق لـ لقبه أبو جهل عن جدارة واستحقاق) ينبري ليتحدى إيمان الصديق أبي بكر (رضي الله عنه) بعد حادثة الإسراء ظاناً أنّه قد وجد ضالته عندما سمع خبر محمد (صلى الله عليه وسلم) يحدث القوم بحادثة الإسراء، فكيف يمكن لمن أمسى وأصبح بمكة أنْ يقطع –حسب ظنه- هذه المسافة الطويلة جداً في ساعة من الليل؟ ألا يدين لهم محمد إذن – حسب ظن سامري قريش – بالبرهان العملي على صدق ما لا يصدقه العقل؟ ولكنّنا بالصديق الذي بنى إيمانه على الفكر السليم ينظر إلى أبي جهل بازدراء ويكأنه يرد عليه قائلاً: "كيف بي أصدق محمداً يخبرنا بنزول الوحي عليه من فوق سبع سماوات في اليوم والليلة مرات ومرات ولا نصدقه برحلة أرضية إلى بيت المقدس أو حتى إلى السموات العلى"؟! ومراد القول أنّه لو نجح سامري قريش في إيقاع أبي بكر في فخه كما نجح سامري بني إسرائيل مع قومه، لكان مطلب أبي بكر وعامة المسلمين من بعده حينئذ من نبيهم البرهان العملي على ما يقول.
*** *** ***
وهنا قد يرد البعض قائلين: كيف يلبي الله طلبهم ما داموا أنهم متحدين نبيهم للتدليل على صدق رسالته؟ نقول أنّ العامة من بني إسرائيل كانوا مدركين صدق رسالة نبيهم وما كان طلبهم ذاك إلا لوقوعهم في فخ أمثال السامري، والدليل على ما نذهب إليه الدقة القرآنية في الآية نفسها، فـ بنو إسرائيل لم يقولوا لنبيهم أننا لن نؤمن بالله حتى نراه جهرة، بل قالوا "لَن نُّؤْمِنَ لَكَ" (أي موسى)، فجاء ردهم على النحو التالي:
" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ..."  البقرة 55
إذاً، فلب المشكلة ليست بين بني إسرائيل وربهم، بل بينهم وبين نبيهم، فكان العامة من بني إسرائيل يريدون إذاً تأكيد الثقة بينهم وبين نبيهم كما كان موسى عليه السلام يريد تأكيد الثقة بينه وبين ربه بطلبه الرؤية. وهذا بالضبط ما فعله القوم أنفسهم عندما أخرج لهم السامري ذلك العجل:
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88)
وبالرغم من محاولة هارون ثنيهم عن ضلالتهم تلك:
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
إلا أن القوم أصروا على الدليل الذي لا يستطيع تقديمه سوى موسى نفسه، فآثروا البقاء في مكانهم حتى عودة موسى:
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ (91)
وإلى الذين لا تزال الفكرة في ذهنهم غير راسخة نورد الدليل الأقوى الذي نظن أنه يصدق نذهب إليه في افترائنا هذا، فنقول: إنّ باب التحدي (إن نحن فهمناه كذلك) مقبول في الفكر الديني كما يمثله القرآن الكريم، فهاهو ذاك الرجل يمر على القرية الخاوية على عروشها فيتساءل (ربما) بنبرة التشكك والبحث عن الإجابة الشافية للأسئلة المتضاربة في ذهنه:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ َشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 259 
ولكن يجب أنْ ندرك أنّ ذاك الرجل كان يتساءل ويطلب (كما طلب إبراهيم من ربه وكما طلب بنو إسرائيل من نبيهم) ليصبح إيمانه مبني على يقين لا يساوره تشكك كذاك الذي يخطر على قلب حتى الإنسان المؤمن. وهنا قد يتسرع بعض من يقرأ الآية السابقة ويظن أنّ ذاك الرجل لم يكن مؤمنا أصلا وقد قال ذلك من باب التحدي فقط، نقول كلا، لقد كان ذاك الرجل مدركاً قدرة الخالق على إحياء الموتى، ولكنّه كان يملك أيضاً الرغبة أنْ يرى ذلك بأم عينه (كما كان يملكها إبراهيم عليه السلام)، ولنورد دليلين على صحة هذا الإدعاء. أولا: لقد جاءت الآية التي تتحدث عن ذلك الرجل في سياق الحديث عن إبراهيم عليه السلام، فلقد سبقتها آية الذي حاج إبراهيم في ربه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ البقرة 258
وتبعتها الآية التي يطلب فيها إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
فمن سوء الفهم أنْ يؤخذ موقف إبراهيم عليه السلام على الجانب الإيماني بينما يحمل موقف ذلك الرجل على غير ذلك، خصوصاً أنّ الطلب واحد (أنْ يريه كيف يحيي الموتى)، فها هو إبراهيم عليه السلام صاحب الحجة على خصمه يستخدم قدرة الله على إحياء الموتى كدليل على عظمة الله وعجز غيره، يعود بعد فترة وجيزة ليطلب هو نفسه البرهان من ربه على إحياء الموتى. فهل يُحمل ذلك من إبراهيم على الجانب غير الإيماني؟!
ثانياً: إنّ الدليل الأقوى على صحة ما نذهب إليه بأنّ طلب ذلك الرجل يؤخذ على الجانب الإيماني هو القاعدة الإلهية التي لا تنقض والتي جاءت مباشرة قبل هذه الآية (أي في آية الذي حآج إبراهيم في ربه) وهي:
... وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ البقرة 258
فكيف يحمل طلب ذلك الرجل على الجانب غير الإيماني في حين أننا نعلم أنّ الله قد هداه إلى الحقيقة؟
... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 259
نتيجة: نحن نظن أن الرجل لم يكن من الظالمين لأن الله قد هداه، فلو كان من الظالمين لما هداه الله لأن الله (لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وهذا يعني بالضرورة أنْ يحمل طلب ذلك الرجل على الجانب الإيماني وإلا لكان القرآن يناقض بعضه بعضا، نستنتج إذاً أنّ الله قد هداه (كما هدى الصالحين غيره) إلى الحقيقة التي كان يبحث عنها، أي إلى الإيمان المنزوع منه الشك أو الريبة لأّنه كان هو أصلاً يبحث عنه راغباً فيه. وبكلمات أدق، فإننا نزعم الظن أنّه لو جاء تساؤل ذلك الرجل عن غير الإيمان الباحث عن الحقيقة الراغب في الهداية لما تمت إجابة طلبه في الحال حيث يريه الله بأم عينه كيف يحيي الموتى:
... وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ٌ... البقرة 259
فلب القول أنّ طلب الإنسان المؤمن الباحث عن الحقيقة الراغب في الهداية مستجاب لا محالة مهما بلغت درجة غرابته.
ولننظر إلى الدقة والروعة القرآنية في تصوير الطرف الآخر، الجانب المتعنت غير الراغب في الهداية، الذي لا همّ له سوى المكابرة والمجاهرة بالمعصية، فها هو سامري آخر من قريش يأتي محمداً (صلى الله عليه وسلم) يفرك العظم البالي بيده (كما تقول الروايات) ليطلب ما كان الذي مر على القرية الخاوية على عروشها قد طلبه من ذي قبل:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ     يس 78
فماذا كان الرد الإلهي؟ هل أراه الله العظام وهو ينشزها ثم يكسوها لحما؟ كلا، فقد جاء الرد الإلهي فقد بتكذيب إدعاءه دونما برهان عملي يكون من شأنه هدايته،
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ     يس 79
والسبب على عدم تقديم البرهان العملي على إحياء الموتى لمثل هذه الفئة من الناس موجود بشكل لا لبس فيه في خاتمة الآية السابقة للطلب (كما كان موجود في خاتمة الآية السابقة لطلب ذاك الرجل المؤمن) ولكن هذه المرة للإنسان غير المؤمن المجاهر بالمعصية:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ    يس 77
فالرد الإلهي إذاً من جنس الطلب، فما كان الله ليرد طلب من كان يبحث عن الهداية ويرغب فيها، أمّا من كان هدفه المخاصمة وإظهار العداوة فما كان الله ليقدم لهم الآية والبينة التي تكون سبباً لهدايتهم لأنهم هم أنفسهم لا يرغبون فيها ولا يبحثون عنها. وهذا هو بالضبط السبب الذي قدمه الله لنبيه:
إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ  الشعراء 4 
ولكنّ التساؤل البسيط هو: ما جدوى تنزيل مثل تلك الآية على من:
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ   الشعراء 5
وهنا قد يرد البعض قائلاً: ما دام الله يستجيب طلب الإنسان المؤمن ويقدم له الآيات بالبرهان العملي لهدايته ولا يأبه بمفاجرة المخاصم المكابر، فلم قدّم لفرعون وقوم صالح وأقوام كثيرين كذبوا رسلهم بالرغم من وجود الآيات التي أخضعت أعناقهم؟ إنّ هذا التساؤل قد ينقض الافتراض السابق (إي أنّ الله لا يستجيب إلاّ طلب الإنسان المؤمن) برمته.
افتراء من عند أنفسنا: نقول رداً على ذلك أنّ الله حقاً لا يأبه بمفاجرة الكافر ولا يقدم آياته بالبرهان العملي إلا للمؤمن الراغب في الهداية الباحث عنها، وأنّ تقديم الآيات لفرعون أو لقوم صالح وغيرهم حتى على كفرهم نفهمه على النحو التالي:
أولا، إنّ تقديم آيات الله لهؤلاء الأقوام على كفرهم ومجاهرتهم بالمعصية جاء على غير طلب منهم، فلو كان فرعون مثلاً هو من توجه بنفسه طالباً تلك الآيات من الله لما كان الله قد استجاب طلبه، ولما قدّمها الله له لتكون سبباً لهدايته، فالله قد أيد موسى عليه السلام بتلك الآيات قبل قدومه إلى فرعون وقومه:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى     طه 24
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى        النازعات 17
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ الشعراء 15 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)     الفرقان 35-36
وها هم قومه الذين أصابهم الرجز يتوجهون إلى موسى عليه السلام ليطلب هو من ربه أنْ يكشف عنهم السوء:
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ..."       الأعراف 134
وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50)    الزخرف 48-50
فهم على يقين أنّهم إنْ توجهوا هم بأنفسهم إلى الله فلن يكون الرد إيجابياً. إن مراد القول هو أن كشف الرجز عنهم لم يكن بطلب منهم وإنما بطلب من نبيهم، رغبة منه في هدايتهم.
ثانياً، أما الدليل الحاسم على أنّ تقديم الله الآيات لهؤلاء الأقوام على كفرهم يأتي عن غير طلب منهم فقد جاء واضحاً لا لبس فيه بنص القرآن الكريم:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ القصص 59
فالقاعدة الإلهية هي أنّ الله سبحانه يقدم هو آياته للظالمين دونما طلب منهم لسبب واحد: لتكون مقدمة لهلاكهم. فتصبح الصورة إذاً على النحو التالي: لا يقدم الله آياته للمؤمنين إلا بطلب منهم، ويقدمها للظالمين على غير طلب منهم، ولكن النتيجة متفاوتة في الحالتين، ففي حين أنّ الآيات التي يقدمها الله للمؤمن الباحث عنها الراغب فيها تكون سبباً لهدايته، تكون الآيات التي يقدمها الله للظالم المخاصم على غير طلب منه سبباً لهلاكه، وهذا مصداقاً لقوله تعالى:
"... يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ       الأنعام 158
دعاء: اللهم إنّا نسألك آياتك لتكون سبباً في هدايتنا
*** *** ***
وقد يرد البعض قائلا: ولكنّ الله سبحانه يقدم آياته بالبرهان العملي (كإحياء الموتى مثلاً) فقط لفئة قليلة من عباده الصالحين، فهل يمكن أنْ يقدمها للعامة مثلنا من عباده؟ فنرد قائلين: إنّنا نقرأ في القرآن الكريم الدليل على أنّ ذلك ممكنا، أي إمكانية أنْ يرى حتى السواد الأعظم من المؤمنين آيات الله بأم أعينهم، فهاهو نبي الله موسى عليه السلام يطلب هو من بني إسرائيل بأمر من ربه أنْ يذبحوا بقرة:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً..."  البقرة 67
وها هم قومه يترددوا ويجادلوا، ولكنهم لم يجدوا بداً من الإذعان بعدما علموا أنّ الأمر لم يكن هزواً:
"...  قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ"    البقرة 71
والسؤال الذي نبحث فيه هو: ماذا كان من ذبح البقرة؟ أي لماذا أمر الله سبحانه بني إسرائيل من خلال نبيهم موسى عليه السلام أنْ يذبحوا البقرة؟ وأخال أنّ الجميع يعرف الإجابة، فالآية القرآنية التي تلي الآية السابقة تبين السبب:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ  البقرة 72
وتأتي الآية (73) من البقرة لتجيب عن العلاقة بين قتل تلك النفس وذبح تلك البقرة:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  البقرة 73
ولعلي أجزم أنّ القارئ قد أدرك ما نبغي الوصول إليه: ألم يري الله سبحانه العامة من بني إسرائيل كيف يحيي الموتى كما أراها لنبيه إبراهيم عليه السلام ولذاك الرجل الصالح الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها؟
نستنتج إذاً أنّ الأنبياء والصالحين وحتى العامة من المؤمنين مؤهلين أنْ يروا بأم أعينهم آيات الله، ولكنْ قد يرد البعض بالقول أنّ ذلك قد حصل لبني إسرائيل على وجه الخصوص وقد لا يعني بالضرورة أنْ يحصل لباقي الخلق، فنرد قائلين أنها ما دامت تلك آية من آيات الله وقد وجه الله معها القول لبني إسرائيل:
"... وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "  البقرة 73
فقد وجه الله لنا الخطاب ذاته بالقول:
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة 242
ولعل من المفيد أنْ نجلب انتباه القارئ إلى الآية التي تلي هذه الآية مباشرة ليصل بنفسه إلى النقطة التي نسعى لتدليل عليها:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ   البقرة 243
وهناك آيات عديدة في كتاب الله موجهة للمؤمنين عامة تشير إلى حقيقة أنّ الله سيمنحهم فرصة رؤية آياته بأم عينهم:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فصلت 53
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ    النمل 93
فتلك إذاً واحدة من سنن الله في الكون، وهو سبحانه يقول:
"... فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا فاطر 43
(دعاء: أللهم إني أسألك أن تريني آياتك فأكون أول من يعرفها، إنك أنت السميع العليم)
إنّ الاستنتاج الكبير الذي نصل إليه هو أنّ الجنس البشري المؤمن الباحث عن الحقيقة الراغب فيها مؤهل أنْ يتحقق له كل مراده مهما بلغت درجة استحالته من وجهة النظر البشرية. فالله يجلّي آياته للمؤمن إنْ هو بحث عنها لتكون سبباً لهدايته، ويقدم آياته لغير المؤمن إنْ هو غفل عنها لتكون سبباً لهلاكه.
*** *** ***
ولكن قد يرد البعض بالسؤال عن الدجال قائلين: كيف يؤتى الله هذا الرجل آياته ما دام أنّه مكابر كفّار؟
نقول وبالله التوفيق أننا قدّمنا ثلاث طرق يمكن استغلالها ليحقق الإنسان مراده في هذه الحياة الدنيا، وهذه الطرق هي على الترتيب:
- امتلاك الحكمة
- امتلاك السلطان
- امتلاك الفطرة
أما فيما يخص الحكمة، فإنّ من يملكها يعرف العلاقة بين الاسم والمسمى فيستطيع تحقيق ما يريد في الحال ودون الرجوع إلى أحد، وقد بينا كيف كان عيسى ابن مريم يحيي الموتى وكيف كان داود يسيطر على الجبال وكيف كان سليمان يسيطر على الرياح والطير. وكذلك الحال بالنسبة لمن يملك السلطان "أي الوسيلة"، فانه يستطيع استخدامها في الحال ودون الرجوع إلى أحد، أما من يملك الفطرة فهو فقط المؤمن الذي يرجع إلى الله ليحقق له المراد. وقد بيّنا أنّ تحقيق المراد بالفطرة يتطلب توافر شروطا خاصة، وقد أطلنا الشرح بالنسبة لمن يريد استخدام فطرته ليحقق مراده، وسنفرد لكل واحدة من هذه الطرق فصلا من النقاش.
باب الحكمة - الدجال
حديث الدجال  (من سنن الترمذي)
حدثنا ‏ ‏علي بن حجر ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏الوليد بن مسلم ‏ ‏وعبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ‏ ‏دخل حديث أحدهما في حديث الآخر ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ‏ ‏عن ‏ ‏يحيى بن جابر الطائي ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الرحمن بن جبير ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏جبير بن نفير ‏ ‏عن ‏ ‏النواس بن سمعان الكلابي ‏ ‏قال ‏
‏ذكر رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏الدجال ‏ ‏ذات ‏ ‏غداة ‏ ‏فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل قال فانصرفنا من عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ثم رجعنا إليه فعرف ذلك فينا فقال ما شأنكم قال قلنا يا رسول الله ‏ ‏ذكرت ‏ ‏الدجال ‏ ‏الغداة ‏ ‏فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل قال غير ‏ ‏الدجال ‏ ‏أخوف لي عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا ‏ ‏حجيجه ‏ ‏دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ ‏ ‏حجيج ‏ ‏نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب ‏ ‏قطط ‏ ‏عينه ‏ ‏طافئة ‏ ‏شبيه ‏ ‏بعبد العزى بن قطن ‏ ‏فمن رآه منكم فليقرأ فواتح سورة ‏ ‏أصحاب الكهف ‏ ‏قال يخرج ما بين ‏ ‏الشام ‏ ‏والعراق ‏ ‏فعاث ‏ ‏يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا قال قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعين يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قال قلنا يا رسول الله أرأيت اليوم الذي كالسنة ‏ ‏أتكفينا فيه صلاة يوم قال لا ولكن اقدروا له قال قلنا يا رسول الله فما سرعته في الأرض قال كالغيث ‏ ‏استدبرته ‏ ‏الريح فيأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله فينصرف عنهم فتتبعه أموالهم ويصبحون ليس بأيديهم شيء ثم يأتي القوم فيدعوهم فيستجيبون له ويصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ‏ ‏فتروح ‏ ‏عليهم ‏ ‏سارحتهم ‏ ‏كأطول ما كانت ‏ ‏ذرا ‏ ‏وأمده خواصر ‏ ‏وأدره ضروعا قال ثم يأتي الخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فينصرف منها فيتبعه ‏ ‏كيعاسيب ‏ ‏النحل ثم ‏ ‏يدعو ‏ ‏رجلا شابا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه ‏ ‏جزلتين ‏ ‏ثم يدعوه فيقبل ‏ ‏يتهلل ‏ ‏وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ هبط ‏ ‏عيسى ابن مريم ‏ ‏عليه السلام ‏ ‏بشرقي ‏ ‏دمشق ‏ ‏عند المنارة البيضاء بين ‏ ‏مهرودتين ‏ ‏واضعا يديه على أجنحة ملكين إذا ‏ ‏طأطأ ‏ ‏رأسه ‏ ‏قطر ‏ ‏وإذا رفعه ‏ ‏تحدر ‏ ‏منه ‏ ‏جمان ‏ ‏كاللؤلؤ قال ولا يجد ريح نفسه ‏ ‏يعني أحدا إلا مات وريح نفسه منتهى بصره قال فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله قال فيلبث كذلك ما شاء الله قال ثم يوحي الله إليه أن ‏ ‏حوز ‏ ‏عبادي إلى ‏ ‏الطور ‏ ‏فإني قد أنزلت عبادا لي ‏ ‏لا يدان ‏ ‏لأحد بقتالهم قال ويبعث الله ‏ ‏يأجوج ‏ ‏ومأجوج ‏ ‏وهم كما قال الله ‏
لقد اختلفت التفسيرات لمثل هذا الحديث، وظنّ البعض أنّ ذاك أمر خاص بالدجال نفسه، ولكن السؤال البسيط الذي قلما بيّنته التفسيرات هو كيف يستطيع الدجال أنْ يقوم بذلك؟ أي كيف يستطيع إحياء الموتى بنفسه؟ وكيف به يأمر السماء أنْ تمطر فتمطر؟ وكيف به أنْ يأمر الأرض أنْ تنبت فتنبت؟ لقد ظنّ الجميع أنّ ذلك أمر مقدّر من الله ولا يمكن تفسيره على غير ذلك، ولكن إنْ صح مثل هذا الافتراض فالسؤال الكبير هو: لماذا يعطي الله هذه القدرة لإنسان مكتوب على جبينه كافر (كما تقول رواياتهم)؟ وبكلمات أخرى كيف يعطي الله لكافر ما لم يكن حتى لبعض النبيين ليقوم باستخدامه بالدعوة لغير الله؟ وإنْ صح ما يذهب إليه الآخرون بأن أمر الدجال من الله، فكيف يمكن إذاً فهم الآية القرآنية التالية:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ آل عمران 79
ولكن قد يرد البعض بالقول أنّ الدجال ليس نبياً، فنقول إنّ ذلك صحيح، ولكن لنقرأ الآية القرآنية بدقة أكثر فهي لا تتحدث عن النبوة فقط، وإنما تتحدث عن ثلاثة أشياء: الكتاب والحكم والنبوة. أما بالنسبة للكتاب فيكفي أنْ نذكر أنّ الكتاب هو منزّل من الله:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ     آل عمران 3
وهو تعليم من الله مباشرة:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ    آل عمران 48
وكذلك بالنسبة للحكم والنبوة:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ           الأنعام 89
ومما لا شك فيه أنّ الدجال سيكون له حكماً على الأرض ولو لفترة محددة، ولكن هل سيؤتى ذلك الحكم من الله؟
رأينا: كلا، إنّنا ندعي أنّ تفسير مثل هذا الأمر غاية في البساطة إنْ نحن تصورنا النقاش السابق. إنّنا ندعي أنّ الدجال سيتمكن من معرفة بعض العلاقة بين الاسم والمسمى التي تمكنه من تحقيق مراده في الحال، ولكن المشكلة بالنسبة لهذا الرجل أنّه لنْ يستخدمها (كما استخدمها أنبياء الله والصالحين من عباده) في الدعوة إلى الله بل في الدعوة لنفسه. إنّ تلك المعرفة لن تكون منحة من الله لذلك الرجل، بل هي ما يستطيع ذلك الرجل من الوصول إليه بنفسه، لأنّ تلك المعرفة – كما ندعي – هي معرفة من حيث المبدأ متوافرة للجميع، ويمكن لأي شخص (بغض النظر عن عقيدته) الحصول عليها إنْ هو استطاع النفاذ إليها واكتشافها، فهي ليست كما ذكرنا سابقاً معجزات وهي ليست كذلك خرافات، بل هي أمور علمية حقيقية يستطيع من يمتلكها تسخيرها لخدمة أهدافه، فإن امتلكها الصالحون سخروها في الدعوة إلى الله، وإن امتلكها الفاجرون استخدموها في الدعوة إلى أنفسهم والشيطان، فتلك المعرفة إذاً لا يمكن أنْ تكون هبة من الله لشخص ما ليستخدمها في الدعوة لنفسه والشيطان، ولنقرأ مرة أخرى الآية القرآنية التالية لنثبت صحة ما نذهب إليه من رأي بخصوص الدجال:
   مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ    آل عمران (79)
فكيف بنا إذاً ندعي أنّ الله سيمنح ذلك المفاجر "الحكم" ليقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله؟ إنّ تلك المعرفة التي يملكها ذلك الرجل لن تكون إذاً هبة من الله، بل هي ما يستطيع هو من التوصل إليه من المعرفة أو العلم الذي يمكن أنْ يتوافر لأي شخص إنْ هو جهد في الوصول إليه، ولكنّ هذا الرجل على وجه الخصوص سيوجه ذلك العلم في غير الوجهة التي ينبغي أنْ يذهب إليها (كما كان الحال مع من امتلكها من أنبياء الله والصالحين من عباده). وحتى نفهم الصورة بطريقة أسهل، فلنحاول أنْ نتخيل (من باب الافتراض فقط) الموقف التالي الذي لم يحصل: كيف يمكن أنْ يكون الحال لو استخدم ما يرغبون أن يسمونه بـالخضر مثلا ما كان يملك من العلم في الدعوة لنفسه؟! أليست هي بالضبط الصورة المعكوسة للدجال؟!
هذا ما سنتابع الحديث عنه في مقالة قادمة بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع العليم.