فقه الحج - رؤية جديدة 5




فقه الحج - رؤية جديدة – الجزء الخامس

كان مما أنشدت الراحلة الكبيرة أم كلثوم من قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي الأبيات الشعرية الجميلة التالية:

يَا حَبِيبًا زُرْتُ يَوْمًا أَيْكَهُ ............... طَائِرَ ٱلشَّوْقِ أُغَنِّي أَلَمِي

لَكَ إِبْطَاءُ ٱلْمُذِلِّ ٱلْمُنْعِمِ ............... وَتَجَنِّي ٱلْقَادِرِ ٱلْمُحْتَكِمِ

وَحَنِينِي لَكَ يَكْوِي أَضْلُعِي ............... وَٱلثَّوَانِي جَمَرَاتٌ فِي دَمِي

فاستشعر الناس حلاوة الكلمات، وتذوقوا الموسيقى العذبة التي تسري بينها، وتجلت أرواحهم مع الصوت المبهر لهذه المنشدة التاريخية، فارتفعت تصفيقات الحضور مع نهاية هذا المقطع إلى أقصى حد ممكن. لكن يبقى التساؤل المثير هو: هل فعلا فهم المستمعون معاني هذه الأبيات الشعرية الجميلة؟ وهل فعلا فهموا على وجه التحديد معنى مفردة أَيْكَهُ التي ترد في هذا البيت الشعري الجميل:

يَا حَبِيبًا زُرْتُ يَوْمًا أَيْكَهُ ............... طَائِرَ ٱلشَّوْقِ أُغَنِّي أَلَمِي

ليكون السؤال هو: ما هو أيك الحبيب؟ 

رأينا المفترى: لعل من أبسط مسلمات التفكير في مثل هذا السياق هو التالي:

- أن الزيارة تتطلب وجود طرفين وهما الزائر والمزور.

- أن زيارة الحبيب للحبيب تتم في مكان محدد بعينه. فلا يمكن أن تحدث الزيارة إلى لا مكان.

- أن زيارة الحبيب للحبيب تحدث بدافع الشوق والرغبة في اللقاء

- أن زيارة الحبيب للحبيب قد لا تحصل كثيرا، فهي تحدث بين الحين والآخر كلما سنحت الفرصة لذلك

- أن الزيارة لا يمكن أن تحدث إلا بتحديد اللقاء بين الطرفين، ويتضمن ذلك تحديد ميقات الزيارة، أي الزمان والمكان

- الخ

لعل أكثر ما يهمنا من هذه الجوانب في هذا السياق هو ميقات الزيارة، الذي يتطلب تحديد الزمان والمكان، أي أين ومتى يمكن أن تحصل زيارة الحبيب للحبيب؟

رأينا المفترى: إذا كان تحديد زمان زيارة الحبيب للحبيب متفاوت، أي قد يحدث من وقت إلى آخر كلما سنحت الفرصة لذلك، فإن مكان الزيارة غالبا ما يكون ثابتا، أي ربما يكون المكان نفسه في جميع الزيارات. فغالبا ما يكون الاتفاق مسبقا بين الأحبة على مكان اللقاء، ليكون السؤال هو: ماذا يمكن أن نسمي المكان الذي يمكن أن تحدث فيه زيارة الحبيب للحبيب؟

جواب مفترى: نحن نفتري الظن بأن المكان الذي يلاقي فيه الحبيب حبيبه هو (على الأقل حسب مفردات القصيدة نفسها) الأيك، كما جاء على لسان الشاعر:

يَا حَبِيبًا زُرْتُ يَوْمًا أَيْكَهُ ............... طَائِرَ ٱلشَّوْقِ أُغَنِّي أَلَمِي

ولو تفقدنا البيت الشعري نفسه، لوجدنا أن الربط بين الأيك من جهة والطائر من جهة أخرى واضحا، ليكون السؤال هو: لماذا؟ أي ما علاقة الأيك بالطائر؟

رأينا المفترى: لو دققنا في كلام الأعراب (أهل العربية)، لوجدنا بأنهم غالبا ما استخدموا مفردة الأيك لتدل على بيت الطائر، أي العش (بالكلمات الدراجة). ليكون السؤال هو: لماذا نسمي بيت الطائر (العش) أيكا؟

رأينا المفترى: لعل من أبسط خصائص العش للطائر هو أنه عبارة عن بيت بلا سقف، فعش الطائر هو عبارة عن أساس وجدران دون سقف، كما في الشكل التوضيحي التالي:




كما يمكن أن نفتري الظن بأن هذا البيت غالبا ما يكون مصمما لأن يتواجد به عصفوران (الذكر والأنثى)، كما في الشكل التالي:




ولو حاولنا أن نربط ذلك بقصة لقاء الحبيب حبيبه في الأيك، لوجدنا أن أهم ما يريده الأحبة عند اللقاء هو التخفي عن أعين الناظرين من الناس من حولهم، ولكنهم – لا شك عندنا- قد لا يعيرون كثير انتباه لمن يراهم من الأعلى، أي الرب الذي فوقهم، فلو كانوا أصلا مهتمين لمراقبة الإله لهم، لما أقدموا على مثل هذه الفعلة إلا في حدود ما نص عليه الشارع الحكيم في قوله تعالى:

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
فالمواعدة (سرا) لا يجب أن تكون إلا بين المخطوبين، كما يجب أن تكون محكومة بقول المعروف (وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا).

على أي حال، نحن نريد أن نصل إلى النتيجة التي تخصنا هنا عن معنى مفردة الأيك، وعلاقتها بمفردة الأيكة التي ترد في الآيات القرآنية الخاصة بقوم شعيب، الذين كانوا هم أصحاب الأيكة، قال تعالى:

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190)

وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79)

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)

وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ وَعِيدِ (14)

وقد ظننا أن الأيكة هي عبارة عن البيت الذي ليس له سقف، وافترينا الظن بأن هذا البيت الذي لم يكن سقفه مرفوعا هو البيت الحرام بعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد منه:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

وأن السبب الذي جعل إبراهيم يرفع القواعد من البيت فقط، هو ليتم تحديد مكان البيت، لأن الله هو من بوأ لإبراهيم مكانه:

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

فكان على إبراهيم أن يحدد فقط المكان الذي هو فعلا مكان البيت، فقام برفع القواعد منه، فأصبح مزارا للطائفين والقائمين والركع السجود.

وقد افترينا الظن بأن إبراهيم لم يكن ليهتم برفع السقف من البيت أو حتى بناء الجدران للبيت، لأن من الاستحالة بمكان أن يقوم بشر (حتى إبراهيم نفسه) ببناء بيت الله الحرام كما كان على حالته الأولى عندما وضع أول مرة للناس ببكة:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

فكان الهدف حينئذ هو تحديد المكان الذي يذهب إليه الناس في رحلة الحج، وليس بناء البيت نفسه، لأن إبراهيم لا يستطيع ذلك، فذلك البيت هو كعبة:

جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

والكعبة هي – حسب افتراءاتنا السابقة- كلمة تدل على المفرد لأنها تجمع على "كواعب" التي ترد في الآية الكريمة التالي:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)

والكواعب هي – حسب ظننا سابقا- بيوت الجنة. لذا يستحيل على إبراهيم (كبشر) أن يبني البيت كما كان في حالته الأصلية. (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة).

فما أن انتهى إبراهيم من رفع القواعد للبيت حتى جاءه الأمر الإلهي بأن يؤذن في الناس بالحج، قال تعالى:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

والغاية من ذلك هو ما جاء في الآيات التي تلي هذا النداء مباشرة، قال تعالى:

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

وبالفعل بدأت رحلات الحج إلى هذا البيت تتوالى عاما بعد عام. لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان الناس المتواجدين هناك حينئذ قليلو العدد، فإبراهيم هو أول من أسكن من ذريته هناك في الواد غير ذي الزرع عند بيت الله المحرم بهدف إقامة الصلاة هناك، وهو من دعا ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليه:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

وبالفعل، بدأ الناس بالتوافد إلى ذلك المكان فكانوا قليلو العدد في البداية، ثم أخذوا يتكاثرون شيئا فشيئا. ولو تفقدنا هذه الجزئية في كتاب الله، لما وجدناها حاضرة إلا عند الحديث عن مدين (قوم شعيب)، فهم من كانوا قليلو العدد، والله هو من كثرهم، قال تعالى:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) 

ولكن لو دققنا في هذا السياق القرآني جيدا، لوجدنا على الفور أن الأمور لم تسير بالشكل الصحيح على الدوام، وذلك لانقسام الناس بعد ذلك إلى طائفتين: طائفة آمنت وطائفة أخرى لم تؤمن (وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ). انظر تتمة السياق السابق نفسه:

وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) 

ولا شك عندنا أن الغلبة كانت للطائفة التي لم تؤمن بدليل أنهم كانوا قادرين على إخراج شعيب ومن آمن معه إلا أن يعودوا في ملتهم. فهم الذين ظنوا أن من اتبع شعيبا هو الخاسرون (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ):

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

فكانت الغلبة الظاهرة في البداية لهؤلاء الملأ الذين كفروا. ولم يتوقف أذى القوم عند هذا الحد، بل تجاوز كل الحدود عندما أخذوا يصدون عن سبيل الله، كما جاء في السياق القرآني نفسه الخاص بقصة شعيب فيهم:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

فلو تفقدنا هذا السياق القرآني، لوجدنا أن واحدة من الأفعال (غير المحمودة) التي قام بها هؤلاء القوم هي أنهم كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون (وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ).

لنثير بناء على ما جاء في هذا السياق القرآني التساؤلات التالية:

 - كيف كان القوم يقعدون بكل صراط؟

- كيف كانوا يوعدون؟

- وكيف كانوا يصدون؟

- الخ

باب القعود بكل صراط

لو حاولنا التدقيق في هذه الآية القرآنية:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

لربما حقّ لنا أن نتساءل عن كيفية قعود القوم بكل صراط، فهل يمكن أن يقعد قوم (وهم الذين يسكنون في منطقة جغرافية معينة) بكل صراط؟ وما هي هذه الصراط الكثيرة التي كان القوم يقعدون بها؟ وأين توجد؟

رأينا المفترى: عندما خرج موسى من المدينة خائفا يترقب بعد أن فعل فعلته التي فعل بقتله الرجل الذي هو من عدوه، كانت وجهته المباشرة تلقاء مدين، فدعا ربه أن يهديه سواء السبيل:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

فكانت محطته هناك عند ماء مدين:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

فموسى كان يطمع إذن أن يهديه ربه سواء السبيل، أي الطريق الصحيح التي توصله إلى مبتغاه وهي أرض مدين. ولو دققنا في الآية الكريمة التالية، لوجدنا بأن الوصول إلى مكان محدد يمكن أن يتم من أكثر من طريق، فهناك سبل كثيرة وليس سبيلا واحدا.

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

لكن يبقى التساؤل المهم هنا هو: ما الفرق بين السبيل (التي تجمع على سبل) والصراط (التي نظن أنها تجمع على صراط) كما في الجدول التالي؟
 
مفرد
جمع
سبيل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
سبل: ... وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
صراط: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ... (153)
صراط: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن وجود أكثر من سبيل لا يعني بالضرورة أنها جميعا ستوصل إلى النتيجة الصحيحة، فقد تتفرق بنا السبل، ونجد أنفسنا قد ظللنا السبيل، فيمكن إذن أن نضل السبيل:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)


فبالرغم من توافر السبل (جمع سبيل) الكثيرة، إلا أن هناك سبيل واحد إلى ربنا:

ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

فهؤلاء الذين كفروا قد صدّوا عن السبيل (أي سبيل ربنا):

أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

وهذا هو الشيطان وقد صَدّ القوم عن السبيل:

وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37)

وها هم قوم لوط يقطعون السبيل:

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

وهذا فرعون نفسه قد صُّد عن السبيل:

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

نتيجة مفتراة (1): هناك سبل كثيرة

نتيجة مفتراة (2): لكن بالرغم من وجود السبل الكثيرة، هناك سبيل واحدة إلى الله

ولو دققنا في السياق القرآني التالي، لوجدنا أن موسى لازال بعيدا عن أرض مدين عندما دعا ربه أن يهديه سواء السبيل:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

وما أن هداه الله سواء السبيل حتى وجد نفسه على ماء مدين:

وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

فما كان منه إلا أن سقى للمرأتين اللتين كانتا تذودان، ثم تولى بعد ذلك إلى الظل:

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

فكان موسى حينها ابن السبيل الذي هو فقير يحتاج إلى المساعدة العاجلة. والآيات الكريمة التالية تبين لنا (كما نفهمها) أن ابن السبيل هو من انقطعت به الطريق في مكان ما، حيث لا مأوى له ولا نصير، ففرض الله له نصيب من مال المنفقين (الصدقات)، فوجب الإحسان إليه:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)

فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)


ومادام أن ابن السبيل (كما نفهم) هو من وجد نفسه في السبيل (أي الطريق)، بلا مأوى ولا مسكن إلا الطريق نفسها، كان موسى (نحن نتخيل) ابن سبيل في تلك اللحظة التي ورد فيها ماء مدين، فكان فقيرا لما ينزل إليه ربه من خير:

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

السؤال: إذا كان السبيل هي الطريق، وإذا كان هناك سبل كثيرة، وإذا كان هناك سبيل واحدة إلى الله، فما هو الصراط؟

جواب مفترى: لو تفقدنا الآيات القرآنية الخاصة بالصراط، لوجدنا أنها كثيرة في كتاب الله، قال تعالى:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)

إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68)

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ۗ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39)

وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87)

وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)

الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)

قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76)

شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)

قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ (135)

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54)

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73)


وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4)

وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ (66)

مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)

وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)

إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)

وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43)

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)

إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64)

لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20)

أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)


فهذه الآيات تبيّن لنا (كما نفهمها) وجود أكثر من صراط واحد، فلقد كان محمد على صراط مستقيم:

وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43)

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) 


والله ربنا هو نفسه على صراط مستقيم:

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)

وهو من يهدي من يشاء من عباده صراطا مستقيما:

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68)

ونحن جميعا ندعو الله أن يهدينا الصراط المستقيم:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

وهذا هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين:

وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

وليس صراط المغضوب عليهم ولا صراط الضالين:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: مادام أن هناك صراط للذين أنعم الله عليهم، فهناك إذن صراط للمغضوب عليهم وصراط للضالين، وقد كان إبليس هو نفسه من توعّد عباد الله أن يقعد لهم صراطه المستقيم:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

فهؤلاء (من صدهم الشيطان عن الصراط) هم – برأينا- من ستكون نتيجتهم النهائية ما تصوره الآية الكريمة التالية:

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)

نتيجة مفتراة (1): هناك أكثر من صراط

نتيجة مفتراة (2): هناك أكثر من صراط مستقيم

نتيجة مفتراة (3): من بينها جميعا هناك صراط الله المستقيم

نتيجة مفتراة (4): هناك صراط يؤدي إلى الجحيم

السؤال: ما الذي يمكن أن نستنبطه من ذلك؟

رأينا المفترى: عندما تريد التوجه إلى مكان محدد، أو إلى شخص بعينه، ولازلت بعيدا عن ذلك المكان أو ذلك الشخص، فإنك تطلب الهداية إلى سواء السبيل، أي الطريق التي تؤدي بك إلى مبتغاك، كما فعل موسى عندما توجه تلقاء مدين:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

ويمكن أن يتم الوصول إلى المكان من أكثر من جهة، فأنت تسأل الله أن يهديك سواء السبيل، أي الطريق السوية التي لا يتواجد بها العثرات والعراقيل. لكن ما أن تقترب من المكان المطلوب أو الشخص المنشود، فإنك إذن تكون بحاجة إلى من يهديك الصراط، وليس أدل على ذلك – برأينا- مما جاء في الآية الكريمة التالية التي تصور لنا مهمة محمد بالنسبة لنا جميعا:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)

فنحن - لا شك- قد تفرقت بنا السبل عندما لازلنا بعيدين، متفرقين، لا نعرف الطريق الصحيح:

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

فتأتي مهمة محمد بتبيان السبيل الوحيدة التي توصلنا إلى صراط الله المستقيم، قال تعالى:

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

وما أن يدلّنا محمد على سبيل النجاة الوحيدة، حتى تكون هذه السبيل هي فقط التي توصلنا إلى صراط ربنا المستقيم:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)

وما أن نصل من خلال هذه السبيل إلى صراط ربنا حتى نجد من هو قاعد لنا هناك، وهو إبليس:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

وهنا لا نجد ملاذا من النجاة من إبليس إلا الله وحده، لأنه هو وحده من يهدي عباده صراطه المستقيم، فنتوجه إليه بهذا الدعاء الخالد في فاتحة الكتاب:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

فتصبح الصورة (في ذهننا) على النحو التالي: 

عن بعد (محمد)
عن قرب (إبليس)
النجاة (الله)
سبيل (1)           
سبيل (2)
سبيل (3)
سبيل (4)
سبيل (ن)
صراط (1)         
صراط (2)
صراط (3)
صراط (4)
صراط (ن)
الصراط المستقيم

تلخيص: يأتي الرسول القوم فيجدهم وقد تفرقت بهم السبل، فيدلّهم على السبيل الوحيدة التي توصلهم إلى صراط مستقيم. وهنا بالضبط يجد من يصل إلى هناك إبليس وقد قعد لهم صراط الله المستقيم، فتحصل الفتنة، فتكون سبيل النجاة الوحيدة هي التضرع إلى الله وحده أن ينقذك من هذه الفتنة، فإن أنت كنت صادقا في طلبك (أي تشاء الهداية فعلا)، فإن الله لا محالة سيهديك صراطه المستقيم، وإن كنت غير صادق في ذلك، فإنك لا شك ستكون من الذين أصابهم الله بفتنته:

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)


فموسى هو من اختار سبعين رجلا من قومه لميقات ربه، فأصبح هؤلاء على مقربة من الله، وهنا بالضبط حصلت الفتنة الإلهية (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ)، فما كان هناك من نجاة إلا بهداية الرب نفسه، فتكون النجاة على نحو أن الله يهدي من يشاء الهداية ويضل من يشاء الضلالة (تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء). 

عودة على بدء

قال تعالى في سياق الحديث عن قوم شعيب:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

فهم إذن قريبون إلى المكان الذي يتواجد فيه الإله نفسه، مادام أنهم قد وصولوا إلى مرحلة الصراط، وهنا قعد القوم (أي قوم شعيب) للناس بكل صراط، فكانوا يصدون عن سبيل الله، وذلك لأنهم يبغونها عوجا:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

السؤال: أين كان القوم يتواجدون حتى استطاعوا أن يقعدوا بكل صراط؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا (ربما مخطئين) أن القوم كانوا يتواجدون حول الأيكة، فكانوا هم أصحاب الأيكة:

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)

ولما كانت الأيكة هي نفسها البيت الحرام الذي رفع إبراهيم وولده إسماعيل القواعد منه، ولم يرفعا سقفه:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

كان الناس يأتوه للحج من كل فج عميق:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) 

فنستطيع أن نتخيل إذن قدوم الناس إلى البيت من كل حدب وصوب، أي من جميع الاتجاهات (الشمال والجنوب والشرق والغرب). وما أن يقترب الناس من المكان حتى يكونوا قد وصلوا إلى الصراط المؤدي إلى المكان، ولكن لأن الناس كانوا يقدمون إلى البيت من كل اتجاه، كان هناك إذن أكثر من صراط (على مقربة من البيت) تؤدي جميعها في نهاية المطاف إلى صراط الله المستقيم (عند الكعبة نفسها)، فكان القوم (وهم الذين كفروا ويبغونها عوجا) يحاولون صدّ الناس القادمين من كل اتجاه عن الوصول إلى البيت، وذلك لظنهم بأن هذا البيت هو خاص بهم، لا يحق للآخرين الوصول إليه إلا بإذن منهم، وعلى طريقتهم التي يشاءونها. 

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى الغريب والخطير جدا: لأنهم من الأعراب. انتهى.

السؤال: وكيف يكون ذلك؟ وما علاقة الأعراب بالقعود بكل صراط والصدّ عن البيت؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: لو تفقدنا مفردة الصدّ في كتاب الله، لوجدنا أن الصدّ عن مكان محدد بعينه لا يرد إلا عند الحديث عن البيت الحرام:

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34)

ليكون السؤال الآن هو: هل جاء هذا في كتاب الله على سبيل المصادفة؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: كلا وألف كلا. فالصدّ عن المكان لا يكون إلا عن البيت الحرام. ولو حاولنا أن نربط ذلك بالآية التي تتحدث عن قوم شعيب:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

لربما حق لنا بأن نفتري القول (ربما مخطئين) بأن قوم شعيب هم من كانوا يقعدون بكل صراط ليصدوا الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وأنهم كانوا يبغونها عوجا.

السؤال مرة أخرى: ما علاقة هذا بالأعراب؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا سلوك الأعراب وحدهم على مر الزمان. فعندما يتواجد الأعراب (نحن نفتري الظن) في مكان محدد، فإنهم يدّعون على الفور ملكيته، فلا يسمحون لغيرهم الاقتراب منه، إلا إن هو نزل عند شروطهم، والتزم بمنهجهم وطريقتهم، فهم – برأينا- الأمة الوحيدة التي لا تقبل الاختلاف. فمن خالفهم فهو في نظرهم عدو يجب محاربته. ونحن نظن أن تأثير البيئة الجغرافية قد أصبح واضحا جليا في طبيعة تصرفاتهم مع أنفسهم ومع غيرهم، فمادام الأعراب يسكنون في منطقة جغرافية تتسم بالقسوة (الصحراء)، كان صراعهم على الماء مثلا شديدا، فعندما يتواجد الماء في أرض الصحراء يتسابق إليه الأعراب، فيشهرون سيوفهم لحماية منبع الماء وإدعاء ملكيته، وليس أدل على ذلك مما حصل مع ابنتي شعيب، حيث كانتا تذودان حتى يصدر الرعاء:

وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

فعلى الرغم من أن المرأتين كانتا من النساء اللاتي يتوجب تقديم المساعدة لهن، إلا أن أهل المنطقة لم يفعلا ذلك، بدليل أنهم قد قدّموا أنفسهم عليهن، فظلتا تذودان حتى يصدر الرعاء، ولو كان أهل المنطقة (نحن نفتري) من أصحاب النخوة والشهامة (كما يظن الكثيرون) لربما قدموا حاجة المرأتين على حاجتهم، ولا أخال أن هذا يمكن أن يكون سلوكا شائعا إلا في أمة الأعراب. فهم برأينا الأمة الأشد نفاقا، والأجدر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله:

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

وقد كان هذا هو – برأينا- سلوك الأعراب على مر التاريخ. ولو تفقدنا سلوكهم في الوقت الحالي، لما وجدنا أن الصورة قد اختلفت كثيرا، فعندما تم اكتشاف آبار النفط في الصحراء، تسابقت الأعراب على تلك المنابع، فاختلفوا فيما بينهم، فانقسموا إلى قبائل متناحرة فيما بينهم، وأخذت كل قبيلة تدعي ملكية ما سبقوا إليه غيرهم من تلك الثروة، فأشهروا سيوفهم ليمنعوا غيرهم من الاقتراب إليها، فبدل التناحر بينهم على بئر من الماء كما كان في سالف الزمان، أصبح التناحر بينهم الآن على ملكية بئر النفط أو الغاز. ولا أخال أن هذا يختلف كثيرا عن ذاك. (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا والعلماء هم الظالمون)

باب توعدون

لو دققنا مليّا في الآية الكريمة التي تبين لنا سلوك قوم شعيب، لوجدنا القوم يوعدون ويصدون:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

لنطرح التساؤل التالي على الفور: ما معنى مفردة تُوعِدُونَ في هذه الآية الكريمة؟

رأينا المفترى: نحن ننفي جملة وتفصيلا أن تكون مفردة تُوعِدُونَ (بكسر العين) مشتقة من قطع الوعد (أو promising باللسان الأعجمي)، وذلك لأن مفردة الوعد مفتوحة العين (وَعَدَ):

لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)

السؤال: ما الفرق بين وعَد (بفتح العين) ووعِد (بكسر العين)؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه في حين أن وعَد (فتح العين) تعني إعطاء الوعد لعمل شيء مستقبلي، فإن وعِد (بكسر العين)، لها علاقة بالعِدة، كما جاء في قوله تعالى:

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن قوم شعيب كان يعِدون ولم يكونوا يوعَدون كما يمكن أن نفهم من السياقات القرآنية التالية:

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134)

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)


لذا، نحن نفتري القول (ربما مخطئين) بأن القوم كان يوعدون (تُوعِدُونَ) لأنهم كانوا يجهزون أنفسهم بالقوة وبرباط الخيل (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، من أجل إرهاب غيرهم، والغاية هي في نهاية المطاف صدّ الناس عن المسجد الحرام. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في الآية القرآنية نفسها من هذا الجانب:

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

تخيلات مفتراة: لما سكنت الأعراب حول البيت الحرام (الذي كان حينئذ أيكة، أي بيتا بلا سقف كعش الطائر)، كانوا في البداية قليلو العدد (إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً)، لكن ما أن كثّرهم الله (فَكَثَّرَكُمْ)، حتى كانوا من الذين يبغونها عوجا (وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا)، فلم يكونوا ليسمحوا للآخرين الاقتراب من هذا البيت (الأيكة) لظنهم أنه ملكية خاصة بهم، فقعدوا للناس بكل صراط (وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ)، وأخذوا يوعدون - تُوعِدُونَ (أي يعدون ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل) للدفاع عن هذا البيت، فكانوا إذن يصدون غيرهم عن سبيل الله (وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ).

عودة على بدء

كان الله هو من بوأ لإبراهيم مكان البيت:

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

فعمد إلى رفع القواعد منه مع ولده إسماعيل:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

فرفعه على شكل أيكة (بيت بلا سقف)، وما أن فرغ من رفع القواعد من البيت حتى طلب الله منه أن يؤذن في الناس بالحج:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

والغاية أن يشهد هؤلاء القادمون جميعا إلى البيت منافع لهم، ويذكروا اسم الله هناك في أيام معدودات:

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)

فبدأت قوافل الحج تؤم هذا البيت من كل فج عميق، وظلت الأمور فترة من الزمن تسير على ملّة إبراهيم، فكان حجا صحيحا، حتى تكاثرت الأعراب حول البيت، وهنا بدأت المشكلة، خاصة عندها انقسمت الأعراب هناك إلى فئتين: فئة قليلة مؤمنة، وفئة كثيرة لم تؤمن:

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): أصبحت الأغلبية الساحقة من الأعراب من الفئة الأشد كفرا ونفاقا:

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): كان هناك فئة قليلة من الأعراب من المؤمنين:

وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)

ولما كانت الغلبة للكثرة، أخذوا يتربصون بغيرهم الدوائر، فكانوا من الذين يبغونها عوجا، فحرّفوا شريعة الحج التي أقرها إبراهيم، وتضافرت جهودهم في إعداد العدة بالقوة ورباط الخيل لصدّ من آمن عن البيت الحرام:

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

فكانت الفئة التي تصد عن المسجد الحرام هم الذين ليس لهم الحق في ولاية البيت الحرام (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ) لأن ولاية البيت هي لا شك للمتقين (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ). 

فأصبحت صلاة هؤلاء الذين يصدون عن البيت ويعتبرون أنفسهم أصحاب الولاية على البيت ليست أكثر من مُكَاء وَتَصْدِيَةً، لأن الذين كانوا يصدون عن المسجد الحرام لم يكونا أولياءه فعلا (وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ)، ولأن أولياء البيت الحرام هم فعلا من كانوا من المتقين (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ)، وكان أكثرهم من الذين لا يعلمون (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). فأصبحوا هم الأميون (أي من سكنوا أم القرى):

وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)


ولعل من أهم صفات الأميين على الغالب هي عدم العلم بالكتاب إلا من باب الأماني والظن:

أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

باب الأميين

لو تدبرنا مفردة الأميين في كتاب الله، لوجدنا أنها تطلق – برأينا المفترى من عند أنفسنا- على كل من سكن أم القرى. فمحمد هو نبي أمي، لأنه كان من أهل أم القرى:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)


وأهل تلك المنطقة هم الأميّون حسب فهمنا لما جاء في القرآن الكريم في الآية الكريمة التالية:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)

ولا شك عندنا أن الأميين هم الفئة المقابلة (عرقيا وجغرافيا) لأهل الكتاب. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في المقابلة بين الطرفين الواردة في الآيات الكريمة التالية:

فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

نتيجة مفتراة (1): هناك فئة يصفون أنفسهم بأنهم أهل الكتاب

نتيجة مفتراة (2): هناك فئة من الناس يطلق عليهم أهل الكتاب لفظ الأميين 

ولعلنا نحتاج أن نستدرك هنا لتقديم افتراء خطير جدا من عند أنفسنا مفاده أن لا علاقة لمحمد (النبي الأمي) بإبراهيم (وذريته سواء من فرع إسحاق أو من فرع إسماعيل.

الدليل
دعنا ندقق في الآية الكريمة التالي التي جاءت لتبين لنا العلاقة بين محمد من جهة وإبراهيم وجميع ذريته من جهة أخرى، قال تعالى:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)


ففي حين أن إبراهيم قد أسكن من ذريته هناك عند البيت (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، وهو من طلب أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، إلا أنه هو نفسه من دعا الله أن يبعث في هؤلاء رسولا منهم (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ).

نتيجة مفتراة: مادام أن إبراهيم قد دعا الله أن يكون هذا الرسول من أولئك الذين هوت أفئدتهم إلى البيت، فإن محمد هو رسول أمي (من أهل مكة) ولا علاقة له بأهل الكتاب من الناحية العرقية، وجل العلاقة بين الطرفين هي علاقة الإسلام فقط.

لكن دعنا نتوقف هنا عند هذه الجزئية لنثير تساؤلا نظن أنه غريبا بعض الشيء، والسؤال هو: ما سر وجود فئة من أهل الكتاب في جزيرة الأعراب، وخاصة في المناطق القريبة من مكة والمدينة كيهود خيبر وغيرهم من الذين سكنوا حول المدينة؟ فمن أين جاء هؤلاء؟ وكيف وصلوا إلى هناك؟ 

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الذين تواجدوا في تلك المنطقة من أهل الكتاب هم في الأصل من الأعراب الذين اعتنقوا الديانة اليهودية بعد أن مرّ موسى ومن معه من بني إسرائيل من هناك أثناء رحلتهم باتجاه الأرض المقدسة.

الدليل

لو دققنا في الآيات الكريمة التالية، لوجدنا على الفور أنها تتحدث عن أهل الكتاب، لكنها تصور لنا بأن جزءا قليلا من أهل الكتاب هم أميون، قال تعالى:

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

فأهل الكتاب هم في الأصل بنو إسرائيل (خاصة اليهود منهم)، لكن جزء قليل منهم هم أميون (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، ولعل من أهم مواصفات هؤلاء، أي من كان من أهل الكتاب من الأميين، هي نظرتهم للكتاب التي تتلخص بصيغتين رئيسيتين وهما:

1. عدم العلم بالكتاب إلا من باب الأماني (لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)

2. الظن (وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)

ولعل هاتين الصفتين هما الصفتان الملازمتان لمن كان من الأعراب (أهل العربية) الذين هم لا شك أشد كفرا ونفاقا:

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا الافتراء يقودنا إلى تسطير نظرية فكرية تجادل الغرب فيها على مدى قرون من الزمن، تتلخص بتأثير اللغة على أهلها، فاللغة (نحن نؤيد) لها تأثير قوي على عقلية من يتحدث بها، فالإنسان (نحن نرى) أسير لمفردات اللغة التي يتحدث بها، وهو ينظر إلى الطبيعة من حوله، وإلى مجريات الأحداث التي يمر بها، من خلال ما تسطر لغته له من مفاهيم، ربما يصعب عليه أن يفلت من تأثيرها. 

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا المفترى: عندما تجد في لغة ما مجموعة من المفردات لوصف الألوان مثلا، فإنك لا شك ستجد أن أهل تلك اللغة ينظرون إلى الطبيعة من حولهم على هذا الأساس اللغوي الذي تسطره لهم لغتهم، فلو أنت وجدت في أحد اللغات أن هناك مثلا مفردتين اثنتين للألوان كالأبيض والأسود فقط، فإن أهل تلك اللغة سيقيّمون كل ما حولهم بناء على هاتين المفردتين، فكل شيء حولهم هو بالنسبة لهم إما أبيضا أو أسودا، فيصبح البحر بالنسبة لهم إما ابيضا أو أسودا من حيث اللون، وكذلك السماء، وتصبح كل خضرة الطبيعة تنقسم إلى نوعين فقط، فإن غلب عليها اللون الداكن أصبحت سودا اللون، وأن قلت الدكنة أصبحت بيضاء اللون. ولا شك عندنا أن هذا سينعكس بشكل مباشر على طريقة تفكيرهم.

لكن لو وجدت – بالمقابل- أن هناك لغة أخرى تستخدم أربع مفردات لوصف اللون (كالأبيض والأسود والأحمر والأخضر)، فإنهم سينظرون إلى الطبيعة من هذا المنظور، وهكذا. وكلما زادت مفردات اللون زادت القدرة على التفصيل. وهذا المنطق ينطبق على المفردات الأخرى الخاصة بكل ما هو موجود في الطبيعة. ففي لغة الاسكيمو مثلا هناك أكثر من مفردة لوصف البيت المصنوع من الثلج، ولكن ليس هناك مفردة واحدة في العربية مثلا لتصف هذا البيت. وفي حين أن هناك في العربية مفردات كثيرة لوصف الجمل (الكائن الحي الأبرز في بيئة الصحراء)، لا نجد مثل هذا التفصيل في لغة الشعوب التي يندر تواجد هذا الكائن في بيئتها.

وبناء على هذا المنظور، فإننا نستطيع تسطير النتيجة المفتراة الخطيرة جدا جدا التالية فيما يخص لغة الأعراب (أي اللغة العربية): لما كانت بيئة الأعراب (الصحراء) تتسم بالقسوة وندرة الحياة فيها، أصبحت لغة الأعراب (نحن نظن) شحيحة في مفرداتها. فاتسمت مفرداتها بالعمومية، وقلة الدقة المنشودة إلا فيما يخص بيئة الأعراب نفسها. أي المفردات المألوفة لديهم.

مثال

نحن نجد في كتاب الله ذكرا متكررا لشجرة النخيل، الأمر الذي يدعو الكثيرين (خاصة من أهل المناطق الأخرى) إلى طرح التساؤل التالي: أين أنواع الأشجار الأخرى كالتفاح والبرتقال وشجر الموز والمانجا وجوز الهند، وغيرها؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن لغة الأعراب قد استخدمت المفردات على العموم، لذا نحن نتجرأ على القول بأن مفردة النخيل مثلا لا تدل فقط على الشجر الذي يحمل ثمر التمر، وإنما هي الفصيلة بأكملها التي تشبه هذه الشجرة في تركيبها وفي ثمرها، كشجرة الموز والمانجا وجوز الهند وغيرها:

يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)


وهذا المنطق ينطبق على الزيتون والأعناب والرمان.

الدليل

حاول عزيزي القارئ – إن شئت- أن تجري تقابلا بين الآيتين الكريمتين التاليتين:

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91)

وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34)


ألا ترى – عزيزي القارئ- أن هناك جنة واحدة من نخيل وجنة واحدة من عنب في الآية الأولى بينما هناك جنات من نخيل وجنات من أعناب في الآية الثانية؟ هل النخيل إذن صنف واحد أم هو فصية بأكملها؟ وهل العنب نوع واحد أم هو أنواع متعددة؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن النخيل قد يكون جنة واحدة (جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ) وقد يكون جنات (جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ). وكذلك الأعناب، فقد يكون جنة واحدة من عنب (جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ) وقد يكون جنات من أعناب (فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ).

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا يدلنا (كما نفهم السياقات القرآنية السابقة) على أن المفردة تدل على النوع وليس على صنف محدد بعينه، فكل ما يشبه النخيل في شجرته وفي ثمره فهو نخيل، وجميع شجر الأعناب هي من فصيلة العنب، وهكذا. وليس أدل على ذلك – برأينا- مما جاء في الآيات الكريمة التالية:

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)


السؤال: ما علاقة هذا بقصة الأعراب: نحن نفتري الظن بأنه غالبا ما اتسمت عقلية الأعراب بالعموميات، وذلك بتأثير اللغة التي يتحدثون بها، لذا قل أن تجد فيهم من يستطيع أن يدخل في تفاصيل الأمور، والتفكير في أدقها، على عكس العقل الغربي مثلا الذي يجيد الغوص في أدق التفاصيل. فلو تدبرت الأبحاث العلمية في الجامعات الغربية، لوجدت على الفور أن أهم ما يميزها شدة الانتباه إلى دقائق الأمور، ولو ركزت في خطاباتهم وحواراتهم لوجدت أنهم يستطيعون تمييز أدق التفاصيل. لكن – بالمقابل- تجد العربي دائما يتحدث في العموميات، فيكثر الكلام، وغالبا ما يلجأ إلى التكرار، ويكأنه يشعر أن كلامه غير مفهوم عند المستمع، فيعيد صياغته بطرق متعددة، وليس أدل على ذلك من خطابات أهل الدين على المنابر التي تبين بشكل جلي الخلط في استخدام الألفاظ (فالقرآن هو الكتاب والكتاب هو الفرقان والفرقان هو الذكر، والذكر هو الزبور، الخ). وحتى لو ظن بعضهم أنها مفردات مختلفة لا تجده يتقن التمييز بينهما بالرغم من الإرث التاريخ الطويل فيهم. كما تحد أن التكرار الممل الذي لا طائلة منه هو من أهم ميزات الخطاب عندهم. وكثيرا ما يحدث سوء التفاهم بين المتكلم والسامع، ونحن نظن أن هذا يعزى كله إلى قصور لغوي في توصيل المراد. ومن أراد المجادلة، فليدقق في خطابات زعامات الأعراب العشائرية والسياسية ليجد كيف أنها غالبا ما تتسم بالإعاقة اللغوية. 

نتيجة مفتراة (1): العربي لا يحسن صياغة معانيه بلغة صحيحة
نتيجة مفتراة (2): العربي لا يحسن فهم اللغة المصاغة بشكل صحيح كما يجب أن تفهم

نتيجة مهمة جدا: مادام أن العربي – نحن نفتري الظن- لا يجيد الصياغة ولا يجيد الفهم، فأن أهم ما يميزه التعصب بالرأي وعدم تقبل الآخرين

مثال

دعنا نقرأ الآية الكريمة التالية الخاصة بشعائر ومناسك الحج (موضوع حديثنا هنا) لنبين كيف أن هذه الآية الكريمة غاية في الوضوح، وهي تسطر لنا عقائد نظن أن أهل الدين قد غفلوا عنها لقرون طويلة من الزمن بالرغم من وجودها فيهم على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن. والهدف عندنا هو أن نبين أن الأعراب لا يحسنون استخدام اللغة ولا يحسنون فهم مراد القول. وسنحاول التبسيط ما استطعنا إلى ذلك سبيل، ثم ندعو القارئ الكريم أن يحاول طرح ما سنفتريه من قول من عند أنفسنا على مسامع أهل الدراية من حوله، ثم لينظر هو بنفسه كيف ستكون ردة فعلهم التي نتوقع أنها ستتسم في غالب الأحيان بالمكابرة والعناد والرفض حتى وإن كانت الفكرة سهلة بسيطة وربما معقولة، قال تعالى: 

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
بداية، نحن نظن أنه من الاستحالة بمكان فهم هذه الآية الكريمة دون الخوض في جميع مفرداتها، ودون طرح جميع التساؤلات التي قد تخطر على بال بشر عند محاولة تدبرها، لهذا دعنا نبدأ بطرح التساؤلات حولها، ولنبدأ بالتساؤلات الأولية التالية:

- من المطلوب منهم تتمة الحج والعمرة لله؟ 

- كيف يمكن إتمام الحج والعمرة لله (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ

- ما معنى أحصرتم؟ وكيف يمكن أن يحصل ذلك (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ

- لم وجب على من أحصر تقديم ما استيسر من الهدي (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

- لم لا يجب على هؤلاء حلق رؤوسهم حتى يبلغ الهدي محله (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

- وكيف يمكن أن يبلغ الهدي (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

- وأين هو محل الهدي أصلا؟

- ولماذا يطلب ممن كان به أذى من رأسه الفدية؟

- وما هي الفدية أصلا؟

- ولماذا جاءت الفدية على نحو الصيام أو الصدقة أو النسك (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

- من هم الذين يمكن أن يأمِنوا (فَإِذَا أَمِنتُمْ

- كيف يمكن أن يتم التمتع بالحج إلى العمرة (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ

- ولم وجب على من تمتع بالحج والعمرة ما استيسر من الهدي أيضا (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

- ولم وجب على من لم يجد الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ

- ولم يجب ذلك على كل من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

- ولم خُتمت الآية الكريمة بطلب التقوى منا وبتحذيرنا بأن الله شديد العقاب (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)؟ 

- الخ

هل تصدقني عزيزي القارئ إن قلت لك بأنك تستطيع أن تؤدي فريضة الحج في كل عام؟ وهل تصدقني لو قلت لك بأنك تستطيع القيام بذلك وأنت في بيتك حتى ولو لم تستطع أن تصل إلى البيت العتيق؟ وهل يمكن أن تقبل قولنا بأن الأعراب (الذين لم يفهموا مراد القول من هذه الآيات البينات) قد أفسدوا على الأمة كلها الحج منذ قرون طويلة من الزمن؟ 

جواب مفترى: ربما يظن الكثيرون بأن كلامنا هذا لا يعدو أكثر من محض هراء وافتراء كاذب لا أساس له من الصحة، لكن ما رأيك (عزيزي القارئ الكريم) أن تصبر معنا حتى نهاية هذه الرحلة لترى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في نهاية المطاف ولك حق الرجوع إلى الوراء متى شئت؟ فهل تستطيع ذلك؟

سؤال: هات ما عندك. ربما يرد بعض القراء على استحياء.

إذن لنبدأ الرحلة.

أما بعد،

لو تدبرنا الآية الكريمة السابقة، لوجدنا أنها تقسم الحديث بين فئتين من الناس، المطلوب منهم إتمام الحج والعمرة لله (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، وهم:

- الذين أحصروا

- والذين أمنوا (من الأمان)، 

لذا، نحن نطلب من القارئ الكريم أن يقرأ الآية بداية على النحو التالي:

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ...

... فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ...

... فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...


فالجميع مطلوب منهم إذن إتمام الحج والعمرة لله (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، ولكن تكمن المفارقة في أنّ بعض هؤلاء الذين عزموا إتمام الحج والعمرة لله قد أحصروا (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ)، بينما البعض الآخر قد أمِنوا (فَإِذَا أَمِنتُمْ)، أليس كذلك؟

والمدقق في هاتين الحالتين يجد بأن المطلوب من الفئة الأولى (وهم الذين أحصروا) يختلف عن المطلوب من الفئة الأخرى (وهم الذين أمِنوا)، ففي حين أن على الذين حصروا القيام بفعلين محددين هما:

1. ما استيسر من الهدي

2. عدم حلق الرؤوس حتى يبلغ الهدي محله

فإنه يتوجب على الذين أمِنوا (من الأمان) أن يفعل التالي:

1. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

وفي حالة تعذر وجود ما استيسر من الهدي، فعليه بالصيام على النحو التالي:

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ

ويُطلب هذا على وجه التحديد (أي الصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم) من كل من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام:

ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...

السؤال: كيف يمكن أن نفهم هذا كله؟

باب فإن أحصرتم

السؤال: ما معنى (... فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) الواردة في هذه الآية الكريمة نفسها؟

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

رأينا المفترى: نحن نفهم مفردة أُحْصِرْتُمْ على نحو وجود عائق أمام الشخص يتعذر عليه بسبب هذا العائق الضرب في الأرض، مصداقا لقوله تعالى:

لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

ولا شك – عندنا- أن الإحصار يأتي من المحاصرة:

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

فأنت كشخص مكلّف بتلبية النداء بالحج، عليك تلبية هذا النداء:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

والهدف من ذلك هو ما جاء تكمله لهذا في الآيات التالية:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

وهذه الأهداف هي:

- شهادة المنافع

- ذكر الله

- لقضاء التفث

- لإيفاء النذور
- للطواف بالبيت العتيق

وهذه جميعها تقع في باب تعظيم شعائر الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، أليس كذلك؟

لكن يبرز هنا التساؤل التالي: هل يمكن أن يتيسر لكل إنسان القيام بهذه الأفعال في كل عام؟ فهل الباب مفتوح على مصراعيه لكل راغب في ملة إبراهيم الذي بوأ الله له مكان البيت، فقام بنفسه بتطهيره للطائفين والعاكفين الركع السجود؟

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

السؤال مرة أخرى: إذا كان النداء في الناس بالحج مفتوحا، هل يستطيع الجميع تلبية هذه الدعوة الكريمة؟

رأينا المفترى: كلا وألف كلا، فهناك عشرات العوائق التي يمكن أن تمنع الناس من تلبية النداء في الحج فيهم. فكيف يمكن إذن أن نلبي هذه الدعوة الكريمة على مر الأزمان وتحت جميع الظروف وفي ظل جميع المعيقات؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن من الواجب على كل قادر مستطيع عقد النية والتجهز للحج في تلك الأشهر المعلومات، ليكون هو ضمن فئة من فرض فيهن الحج:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)

فالله قد فرض على كل من يستطيع إلى الحج سبيلا أن يبلي النداء بالحج:

... وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

ليكون السؤال الحتمي هو: ما معنى الاستطاعة التي يتحدث عنها النص القرآني؟

رأينا المفترى: غالبا ما ظن أهل الدراية من قبلنا بأن الاستطاعة تشمل القدرة المادية على أداء مناسك الحج، وغالبا ما فهم الناس أن الاستطاعة تنحصر في القدرة المادية على ذلك. فهل فعلا الاستطاعة هي استطاعة مادية؟

رأينا: كلا وألف كلا. فالاستطاعة المادية ليست كل شيء، وهي تكاد تكون – برأينا- آخر ما في الحسبان، وانظر إن شئت في السياقات القرآنية التالية:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)

وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45)


فنحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن أهم مقومات الاستطاعة هي القدرة البدنية على القيام بالفعل، قال تعالى:

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112)

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197)


ولكي تتضح الصورة أكثر دعنا نقدم لك سياقات الاستطاعة كلها في كتاب الله:

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)

وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129)

أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)

قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)

بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40)

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا ۚ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43)

انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)

فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ۚ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) 

فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75)

يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)


فعدم القدرة على السجود يقع في باب عدم الاستطاعة، وموسى لم يستطع صبرا مع الرجل، والشياطين لا تستطيع التنزيل، وهكذا. ونحن نظن أن عدم الاستطاعة هي أهم سمات المستضعفين من الرجال والنساء والولدان:

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)

السؤال: ما علاقة هذا كله بالاستطاعة في الحج؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الحج هو عمل غير مكلف إطلاقا من الناحية المادية. وما يحتاجه الحاج من الناحية المادية لا يقارن باستطاعته الجسدية اللازمة لأداء مناسك وشعائر الحج، لأن شعائر ومناسك الحج تتطلب جهدا بدنيا كبيرا جدا، قد لا يتحمله الكثيرون. لذا نحن نتجرأ على الظن (ربما مخطئين) بأن التكليف بالحج مرفوع عن كل من لا يستطيع الحج من الناحية الجسدية حتى وإن توافرت عنده القدرة المادية على القيام بذلك. لذا نحن نتجرأ على البوح بأن ما نراه اليوم من مشاهد في الحج كقيام العجوز والشيخ وصاحب الإعاقة بأداء مناسك الحج هي من أفعال التكلف الذي نظن أنه لا طائلة منه. كما أننا نرى أن من العبث أن نشاهد بعض الحجيج يؤدي هذه المناسك وهم محمولون على الأكتاف أو في عربات خاصة، فعدم قدرتهم الجسدية على أداء مناسك الحج هي - برأينا – السبب الرئيس في رفع التكليف عنهم.

السؤال: لماذا؟

رأينا: لأن من فرض عليه تتمة الحج والعمرة لله من الناس فإن عليه أن يقوم بذلك راجلا (أي على رجليه).

تبعات هذا الظن

نتيجة مفتراة (1): الحج مفروض على الناس

نتيجة مفتراة (2): الحج مفروض على الرجال من الناس

نتيجة مفتراة (3): الحج فريضة على من يستطيع منهم

نتيجة مفتراة (4): تؤدي مناسك وشعائر الحج كلها بالسعي (أي مشيا على الأرجل)

نتيجة مفتراة (5): يرفع التكليف عن من لا يستطيع من الرجال، كالذين تقدم بهم العمر أو من كان صاحب إعاقة تمنعه من القيام بالشعائر والمناسك على الوجه المطلوب
نتيجة مفتراة (6): لا يجوز القيام بشعائر الحج محمول على الأكتاف أو على راحلة أو مركبة

نتيجة مفتراة (7): تستمر شعائر الحج عشرة أشهر (أي عشر أيام بلياليها)

نتيجة مفتراة (8): تبدأ شعائر الحج سيرا على الأقدام (للرجال) من عند الميقات

نتيجة مفتراة (9): هناك أكثر من ميقات مادام أن الناس تؤم البيت من كل اتجاه

نتيجة مفتراة (10): هناك عند الميقات تبدأ أول مناسك الحج وهو الإحرام

السؤال: ما الواجب على من لا يستطيع القيام بمناسك وشعائر الحج راجلا؟ وما الواجب على كل من أحصر فما استطاع الوصل إلى البيت العتيق؟

رأينا: نحن نظن أنه يجب على هؤلاء القيام بالأعمال التي يكلف بها من فرض الحج في أشهر الحج ولكنه قد أحصر كما جاء في قوله تعالى:

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ...

السؤال: ما معنى ذلك؟

جواب مفترى من عند أنفسنا لا تصدقوه: نحن نفتري الظن بأنه لو قام كل من أحصر، فما استطاع الحج الفعلي، بهذه الأفعال، لتحصل له أجر الحج دون الحاجة للذهاب إلى البيت العتيق، ونحن على العقيدة أن هذا فضل من ربنا لأنه هو الغفور الرحيم.

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا: عندما يعقد المسلم النية على القيام بفريضة الحج، ولكنه منع عن ذلك لأي سبب سواء كان سببا ماديا أو جسديا أو حتى سياسيا، فأصبح من الذين أحصروا لا يستطيعون ضربا في الأرض، فعليه القيام بهذه الشعائر التي سنتحدث عنها على الفور، ونحن نكاد نجزم الظن بأن أجره قد وقع على الله، بالضبط كالذي خرج من بيته مهاجرا ثم أدركه الموت قبل أن يصل إلى مكان هجرته، قال تعالى:

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100)

السؤال: ما الذي يجب عليّ فعله إن أنا أحصرت فلم أستطع أداء فريضة الحج إلى البيت العتيق؟

رأينا المفترى الخطير جدا جدا (فلا تصدقوه): إنها الأضحية. انتهى.

تساؤلات

دعنا نثير التساؤلات التالية:

- ما هي الأضحية؟

- لماذا شرعت الأضحية أصلا؟

- لماذا شرعت الأضحية في نهاية مناسك الحج؟

- لماذا شرعت الأضحية للحاج ولغير الحاج؟

- لماذا نضحي في يوم النحر في بيوتنا حتى وأن لم نكن من الحجيج؟

- كيف يجب أن نضحي؟

- وما هو فقه الأضحية أصلا؟

- الخ

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نكاد نجزم الظن بأن المسلمين قد اعتادوا على تقديم الأضحية في يوم النحر بالرغم أنهم – برأينا- قد لا يعون تماما المقصد الفعلي من هذا النسك العظيم، ليكون السؤال الذي يجب أن يبحث كل مسلم عن إجابة شافية له هو: ما الهدف من الضحية؟ ولماذا نقدم الأضحية في هذا الوقت على وجه التحديد؟

رأينا المفترى والخطير جدا جدا: نحن نفتري الظن أن الغاية من تقديم الأضحية في هذا الوقت من العام على وجه التحديد هو – برأينا- من أجل طهارة البيت. انتهى.

السؤال: أين الدليل على هذا الظن المفترى من عند نفسك؟ يسأل صاحبنا مستغربا

جواب مفترى: هذا ما سنحاول تقديمه في بداية الجزء القادم من هذه المقالة، حيث سنتابع الحديث عن فقه الحج بشكل عام، وعن الغاية من كل منسك من مناسكه وشعيرة من شعائره. فالله وحده أدعوه أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو السميع العليم – آمين.


المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان


بقلم د. رشيد الجراح


17 تشرين أول 2016





هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف15/4/23

    شكرا لك دكتور بحث منطقي

    ردحذف